علي يأمر عماله بالزهد
إن عليا عليه السلام لم يكتف بكونه زاهدا في نفسه، بل كان يأمر عماله بالزهد و ترك الدنيا و زينتها، و يريد من عماله في الأمصار أن يكونوا مثله أو متشبهين به على الأقل، و يتابع أوضاعهم و سيرتهم، فيبلغه عن عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري أنه دعي إلى مأدبة فذهب إليها، فيكتب إليه: 'بلغني أن بعض فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، و تنقل إليك الجفان، و ما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو، و غنيهم مدعو'. ___________________________________نهج البلاغة، الكتاب 45.
و معنى هذا الكلام أنه كان على ابن حنيف أن لا يجب دعوة أحد من وجوه البصرة، فإن من يدعو الوالي إلى مأدبته لا يدعو معه إلا الأغنياء، و لا يدعو أحدا من الفقراء، و كيف يفعلون ذلك و ثياب الفقراء بالية، و هيئاتهم رثة ينفرون منها و من رؤيتها، و إذا أرادوا أن يعطفوا على فقير منهم أرسلوا إليه شيئا من الزاد أو المال إلى بيته، و لم تسمح لهم أنفسهم أن يجالسوهم على مائدتهم.
ثم يريد من ابن حنيف أن يقتدي به في زهده، فيقول له: 'ألا و إن لكل ماموم إماما يقتدي به و يستضي ء بنور علمه، ألا و إن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، و من طعمه بقرصيه'. ___________________________________نهج البلاغة، الكتاب 45.
ثم يرى أن ذلك غير ممكن فيقول له: 'ألا و إنكم لا تقدرون على ذلك، و لكن أعينوني بورع و اجتهاد، و عفة و سداد'. ___________________________________نفس المصدر.
ثم يحلف بالله مؤكدا فيقول: 'فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا، و لا ادخرت من غنائمها و فرا، و لا أعددت لبالي ثوبي طمرا'. ___________________________________نفس المصدر.
ثم يسوقه الألم و الحزن من أمر فدك إلى ذكرها هنا، فيذكر أنه مع كونه قادرا على التنعم بملاذ الدنيا فهو يتركها زهدا فيها، مواساة للفقراء، فيقول: 'و لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، و لباب هذا القمح، و نسائج هذا القز، و لكن هيهات أن يغلبني هواي و أن يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، و لعل بالحجاز و اليمامة من لا طمع له في القرص، و لا عهد له بالشبع'. ___________________________________نفس المصدر.
ليس الزهد عند علي ترك الدنيا طرا
بعض العوام لا يعرفون حقيقة الزهد في الإسلام، فيظنون أن الزهد ترك الدنيا بالمرة، و اختيار العزلة و الانزواء دائما، و هذا أمر لا يقره الإسلام، بل الزهد في درجة عالية من تهذيب النفس و قصر الأمل، قال النبي صلى الله عليه و آله 'ليس الزهد في الدنيا لبس الخشن، و أكل الجشب، و لكن الزهد في الدنيا قصر الأمل'. ___________________________________قصار الجمل، ص 284.
و إلى هذا المعنى يرجع قول أمير المؤمنين عليه السلام: 'الزهد كله بين كلمتين من القرآن، قال الله سبحانه: لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم فمن لم يأس على الماضي، و لم يفرح بالآتي، فقد استكمل الزهد بطرفيه'. ___________________________________نهج البلاغة، قصار الحكم 439.
و لو رأى أمير المؤمنين عليه السلام بعض أصحابه يترك الدنيا و يلبس العباء و يترك الملاء يذمه و يرشده إلى حقيقة الحال، كما نرى ذلك في قصة عاصم بن زياد و أخيه الربيع، و التي سنشير إليها فيما يلي: