صور من عدله على مدى حكومته
و من أجل نتعرف أكثر على عدل الامام علي عليه السلام و لترسم هذه الحقيقة بأجلى صورها نشير إلى موارد توضح صورة تلك العدالة:
منها: صادر كل الأموال الموهوبة بغير حق في عهد عثمان
عندما تسلم علي عليه السلام زمام حكومة المسلمين بعد عثمان صادر كل الأموال الموهوبة بغير حق إلى طبقة الأشراف، و قد بين سياسته للناس عبر خطبته التي يقول فيها "فيما رده على المسلمين من قطائع": 'و الله و لو وجدته قد تزوج به النساء و ملك به الاماء لرددته، فإن في العدل سعة، و من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق'. ___________________________________نهج البلاغة، ص 57، الخطبة. 15.
روى ابن أبي الحديد المعتزلي في ذيل هذه الخطبة، عن ابن عباس: أن عليا عليه السلام خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة، فقال: 'ألا إن كل قطيعة ___________________________________القطائع: ما يقطعه الامام بعض الرعية من أرض بيت المال ذات الخراج و يسقط عنه خراجه و يجعل عليه ضريبة يسيرة عوضا عن الخراج، و قد كان عثمان أقطع كثيرا من بني امية و غيرهم من أوليائه و أصحابه قطائع من أرض الخراج على هذه الصورة. شرح ابن أبي الحديد، ج 1، ص. 269. أقطعها عثمان و كل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شي ء، و لو وجدته قد تزوج به النساء، و فرق في البلدان لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة، و من ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق' ___________________________________تفسير هذا الكلام: أن الوالي اذا ضاقت عليه تدبيرات اموره في العدل فهي في الجور أضيق عليه لأن الجائر في مظنة أن يمنع و يصدعن جوره، شرح ابن أبي الحديد، ج 1، ص. 270. إلى أن قال: قال الكلبي: ثم أمر عليه السلام بكل سلاح وجد لعثمان في داره، مما تقوى به على المسلمين فقبض، و أمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة فقبضت، و أمر بقبض سيفه و درعه، و أمر ألا يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمين، و بالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره و في غير داره، و أمر أن ترتجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث اصيبت أو اصيب أصحابها.
فبلغ ذلك عمرو بن العاص، و كان بأيلة من أرض الشام، أتاها حيث وثب الناس على عثمان فنزلها، فكتب إلى معاوية: ما كنت صانعا فاصنع، إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما يقشر عن العصا لحاها. ___________________________________شرح ابن أبي الحديد، ج 1، ص. 269.
و منها: إطفاؤه السراج لأن زيته من بيت المال
قال الكشفي الحنفي في المناقب المرتضوية: كان أمير المؤمنين عليه السلام قد دخل ليلة في بيت المال يكتب قسمة الأموال، فورد عليه طلحة و الزبير، فأطفأ عليه السلام السراج الذي بين يديه، و أمر بإحضار سراج آخر من بيته، فسألاه عن ذلك؟
فقال عليه السلام: 'كان زيته من بيت المال، لا ينبغي أن نصاحبكم في ضوئه'. ___________________________________المناقب المرتضوية للكشفي الحنفي، ص. 365
خطابه الى عماله، و عتابه لهم بما بدر منهم
في هذا المجال خطابات كثيرة نشير إلى نبذة منها رعاية للإختصار:
منها: من كتاب له إلى مصقلة بن هبيرة
في "نهج البلاغة" من كتاب له عليه السلام إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني، و هو عامله على أردشير خره: ___________________________________أردشير خرة: كورة من كور فارس، و الظاهر أنه ما يسمى في عصرنا "فيروز آباد". 'بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك و أغضبت إمامك، إنك تقسم في ء المسلمين الذي حازته رماحهم و خيولهم، و اريقت عليه دماؤهم فيمن اعتامك ___________________________________اعتامك: اختارك من بين الناس، أصله من العيمة بالكسر، و هي خيار المال. من أعراب قومك، فو الذي فلق الحبة و برأ النسمة لئن كان ذلك حقا لتجدن بك علي هوانا و لتخفن عندي ميزانا، فلا تستهن بحق ربك، و لا تصلح دنياك بمحق دينك، فتكون من الأخسرين أعمالا، ألا و إن حق من قبلك ___________________________________القبل بكسر ففتح: ظرف بمعنى عند. و قبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفي ء سواء، يردون عندي عليه، ويصدرون عنه'. ___________________________________نهج البلاغة، الكتاب. 43.
و منها: من كتاب له إلى عثمان بن حنيف و هو عامله على البصرة
قد كان علي عليه السلام يراقب أعمال ولاته مراقبة شديدة حتى إنه لما بلغه أن و اليه على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري قد أجاب دعوة جماعة من أهل البصرة إلى وليمة فيها ألوان الطعام فتناول منها شيئا، و في البصرة فقراء محتاجون منعوا من حضورها، أرسل إليه كتابا يوبخه فيه: 'أما بعد ـ يابن حنيف ـ فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة، فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، و تنقل إليك الجفان، و ما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم ___________________________________عائلهم: محتاجهم. مجفو و غنيهم مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، ___________________________________الفظه: اطرحه. و ما أيقنت بطيب وجهه فنل منه، ألا و إن لكل مأموم إماما يقتدي به و يستضي ء بنور علمه، ألا و إن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ___________________________________الطمر بالكسر: الثوب الخلق البالي. و من طعمه ___________________________________طعمه بضم الطاء: ما يطعمه و يفطر عليه. بقرصيه، ألا و إنكم لا تقدرون على ذلك، و لكن أعينوني بورع و اجتهاد، و عفة و سداد، فو الله ما كنزت من دنياكم تبرا، ___________________________________التبر: بالكسر فالسكون، فتات الذهب و الفضة قبل أن يصاغ. و لا ادخرت من غنائمها وفرا، ___________________________________الوفر: المال. و لا أعددت لبالي ثوبي طمرا |و لا حزت من أرضها شبرا، و لا أخذت منه إلا كقوت أتان دبرة، ___________________________________الاتان الدبرة، هي التي عقر ظهرها فقل أكلها. و لهي في عيني أوهى و أهون من عفصة مقرة ___________________________________مقرة: مرة.|. ___________________________________نهج البلاغة، الكتاب 45، و بين المعقوفين من شرح ابن أبي الحديد، ج 16، ص. 205.
و روي في شرح الإحقاق عن "ذخيرة الملوك للهمداني، ص 102" أن عليا عليه السلام ـ بعد إرسال الكتاب إلى عثمان بن حنيف ـ عزله عن الحكومة. ___________________________________الاحقاق، ج 8، ص. 549.
و منها: توبيخه عليه السلام أبا رافع لإعارته بنته عليه السلام عقد لؤلؤ من بيت المال
روى ابن الأثير في التاريخ: كان أبو رافع ___________________________________أبو رافع مولى رسول الله عليه السلام و اسمه إبراهيم، أو أسلم، أو هرمز، أو ثابت، كان عبدا للعباس بن عبد المطلب، فوهبه للنبي صلى الله عليه و آله، فلما بشر النبي صلى الله عليه و آله باسلام العباس، عتقه النبي، و كان من المخلصين له و صار من شيعة أمير المؤمنين و خواصه، و كان صاحب خزائن بيت المال في عهده عليه السلام. مولى رسول الله صلى الله عليه و آله خازنا لعلي عليه السلام على بيت المال، فدخل علي يوما و قد زينت ابنته، فرأى عليها لؤلؤة كان عرفها لبيت المال، فقال: 'من أين لها هذه؟لأقطعن يدها!' فلما رأى أبو رافع جده في ذلك، قال: أنا و الله يا أمير المؤمنين زينتها بها، فقال علي عليه السلام: 'لقد تزوجت بفاطمة، و ما لي فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل، و نعلف عليه ناضحنا بالنهار، و ما لي خادم غيرها'. ___________________________________الكامل في التاريخ، ج 2، ص. 441.
و روى الطبري في التاريخ بسنده عن عباس بن الفضل، عن أبيه، عن جده ابن أبي رافع، نحوه. ___________________________________تاريخ الطبري، ج 4، ص. 119.