ما قيل في زهده
1ـ قال ابن أبي الحديد في وصف أمير المؤمنين عليه السلام: و أما الزهد في الدنيا، فهو سيد الزهاد، و بدل الأبدال، و إليه تشد الرحال، و عنده تنفض الأحلاس، ما شبع من طعام قط، و كان أخشن الناس مأكلا و ملبسا.
قال عبد الله بن أبي رافع: دخلت عليه يوم عيد، فقدم جرابا مختوما، فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا، فقدم فأكل، فقلت: يا أمير المؤمنين، فكيف تختمه؟قال: 'خفت هذين الولدين أن يلتاه بسمن أو زيت'. و كان ثوبه مرقوعا بجلد تارة، و ليف اخرى، و نعلاه من ليف، و كان يلبس الكرباس ___________________________________الكرباس ـ بالكسرـ ثوب من القطن الأبيض، معرب. الغليظ، فإذا وجد كمه طويلا قطعه بشفرة، و لم يخطه، فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمة له.
و كان يأتدم إذا ائتدم بخل أو بملح، فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الأرض، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل، و لا يأكل اللحم إلا قليلا. و يقول: 'لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان'، و كان مع ذلك أشد الناس قوة، و أعظمهم أيدا، لا ينقض الجوع قوته، و لا يخون ___________________________________و في نسخة يخور: يعني يضعف. الإقلال منته. ___________________________________المنة: القوة.
و هو الذي طلق الدنيا و كانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الإسلام إلا من الشام، فكان يفرقها و يمزقها، ثم يقول:
هذا جناي و خياره فيه ++
إذ كل جان يده إلى فيه ___________________________________شرح ابن أبي الحديد، ج 1، ص 26.
2ـ و في تاريخ دمشق، باسناده عن حسن بن صالح، قال: تذاكروا الزهاد عند عمر بن عبد العزيز، فقال قائلون: فلان، و قال قائلون: فلان، فقال عمر بن عبد العزيز: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب عليه السلام. ___________________________________ترجمة الامام علي من تاريخ دمشق، ج 2، ص 202، ح 1254.
3ـ و قال العقاد: و صدق في تقواه و إيمانه كما صدق في عمل يمينه و مقالة لسانه، فلم يعرف أحد من الخلفاء أزهد منه في لذة دنيا أو سبب دولة، و كان و هو أمير المؤمنين يأكل الشعير، و تطحنه أمرأته بيديها، و كان يختم على الجراب الذي فيه دقيق الشعير، فيقول: 'لا أحب أن يدخل بطني ما لا أعلم'.
قال عمر بن عبد العزيز: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب عليه السلام.
و قال سفيان: إن عليا لم يبن آجرة على آجرة، و لا لبنة على لبنة، و لا قصبة على قصبة، قد أبى أن ينزل القصر الأبيض بالكوفة إيثارا للخصاص التي يسكنها الفقراء، و ربما باع سيفه ليشتري بثمنه الكساء و الطعام. ___________________________________عبقرية الإمام، ص 29.
نماذج من زهده في أيام خلافته
نشير هنا إلى نبذة مما ظهر من زهده في أيام خلافته على البلاد الإسلامية إلا الشام، عسى أن يكون ذلك أسوة و مقتدى لحكام البلاد الإسلامية في عصرنا هذا:
1ـ في الغارات: عن عبد الله بن الحسن، عن الحسن عليه السلام، قال: 'أعتق علي عليه السلام ألف أهل بيت بما مجلت ___________________________________مجلت يداه: ثخن جلدها و منه حديث فاطمة عليها السلام: أنها شكت إلى علي عليه السلام مجل يديها من الطحن. يداه و عرق جبينه عليه السلام'. ___________________________________الغارات، ج 1، ص 91.
2ـ و فيه أيضا، عن جعفر بن محمد عليهما السلام، قال: 'أعتق علي عليه السلام ألف مملوك مما عملت يداه، و إن كان عندكم إنما حلواه التمر و اللبن، و ثيابه الكرابيس، و تزوج عليه السلام ليلى، ___________________________________و هي ليلي بنت مسعود النهشلية، إحدى نسائه عليها السلام، و هي أم محمد الأصغر الشهيد مع أخيه الحسين عليه السلام في كربلاء و أم عبيد الله قتيل المذار. فجعل له حجلة، ___________________________________الحجلة: ساتر كالقبة يزين بالثياب و الستور للعروس. فهتكها، و قال عليه السلام: حسب أهل علي ما هم فيه'. ___________________________________المصدر السابق.
3ـ و في شرح ابن أبي الحديد، عن عنبسة العابد، عن عبد الله بن الحسين بن الحسن قال: أعتق علي عليه السلام في حياة رسول الله ألف مملوك مما مجلت يداه و عرق جبينه، و لقد ولي الخلافة و أتته الأموال، فما كان حلواه إلا التمر، و لا ثيابه إلا الكرابيس. ___________________________________شرح ابن أبي الحديد، ج 2، ص 202.
4ـ و في فرائد السمطين: عن سويد بن غفلة، قال: دخلت على علي بن أبي طالب عليه السلام القصر "قصر الإمارة بالكوفة" فوجدته جالسا "و" بين يديه صحفة فيها لبن حازر، ___________________________________الحارز: الحامض. أجد ريحه من شدة حموضته، و في يديه رغيف، أرى قشار الشعير في وجهه، و هو يكسره بيده أحيانا، فإذا أعيى عليه كسره بركبتيه، و طرحه في اللبن، فقال: 'ادن فأصب من طعامنا هذا' فقلت: إني صائم. فقال: 'سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: من منعه الصيام من طعام يشتهيه، كان حقا على الله أن يطعمه من طعام الجنة، و يسقيه من شرابها'. قال: فقلت لجاريته ـ و هي قائمة |بقرب | منه ـ و يحك يا فضة ألا تتقين الله في هذا الشيخ؟ألا تنخلون له طعاما مما أرى فيه من النخالة؟فقالت: لقد تقدم إلينا أن لا ننخل له طعاما. قال: فقال لي علي عليه السلام: 'ما قلت لها؟' فأخبرته. فقال: 'بأبي و امي، من لم ينخل له طعام، و لم يشبع من خبز البر ثلاثة أيام حتى قبضه الله تعالى'. ___________________________________فرائد السمطين، ج 1، ص 352، ح 278 و يريد في عبارته الأخيرة رسول الله صلى الله عليه و آله.
و روى نحوه سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص. ___________________________________تذكرة الخواص، ص 107.
5ـ و روى ابن الجوزي أيضا، عن سويد بن غفلة، قال: دخلت على علي عليه السلام يوما، و ليس في داره سوى حصير رث و هو جالس عليه، فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت ملك المسلمين و الحاكم عليهم و على بيت المال، و تأتيك الوفود، و ليس في بيتك سوى هذا الحصير شي ء؟فقال عليه السلام: 'يا سويد، إن اللبيب لا يتأثث في دار النقلة، و أمامنا دار المقامة قد نقلنا إليها متاعنا، و نحن منقلبون إليها عن قريب'. قال: فأبكاني و الله كلامه. ___________________________________المصدر السابق، ص. 110
6ـ و روى ابن الجوزي أيضا، عن الأحنف بن قيس، قال: دخلت على معاوية، فقدم إلي من الحلو و الحامض ما كثر تعجبي منه، ثم قال: قدموا ذاك اللون، فقدموا لونا ما أدري ما هو. فقلت: ما هذا؟فقال: مصارين ___________________________________المصارين: الأمعاء. البط، محشوة بالمخ و دهن الفستق قد ذر عليه السكر. قال: فبكيت. فقال: ما يبكيك؟
فقلت: لله در ابن أبي طالب، لقد جاد من نفسه بما لم تسمح به أنت و لا غيرك. فقال معاوية: و كيف؟قلت: دخلت عليه ليلة عند إفطاره، فقال لي: 'قم فتعش مع الحسن و الحسين'. ثم قام إلى الصلاة، فلما فرغ، دعا بجراب مختوم بخاتمه، فأخرج منه شعيرا مطحونا، ثم ختمه. فقلت: يا أمير المؤمنين، لم أعهدك بخيلا، فكيف ختمت على هذا الشعير؟فقال عليه السلام: 'لم أختمه بخلا، و لكن خفت أن يبسه ___________________________________بس السويق: خلطه بسمن أو زيت. الحسن و الحسين بسمن أو إهالة'. ___________________________________الإهالة بالكسر: الشحم المذاب أو الزيت و كل ما ائتدم به. فقلت: أحرام هو؟. قال: 'لا، و لكن على أئمة الحق أن يتأسوا بأضعف رعيتهم حالا في الأكل و اللباس، و لا يتميزوا عليهم بشي ء لا يقدرون عليه، ليراهم الفقير فيرضى عن الله تعالى بما هو فيه، و يراهم الغني فيزداد شكرا و تواضعا'. ___________________________________تذكرة الخواص، ص 106.
7ـ و في اسد الغابة عن محمد بن كعب القرظي، قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: 'لقد رأيتني و إني لأربط الحجر على بطني من الجوع، و إن صدقتي لتبلغ اليوم أربعة آلاف دينار'. ___________________________________اسد الغابة في معرفة الصحابة، ج 4، ص 23.
8ـ و في تذكرة الخواص: عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، قال: سمعت عبد الملك بن عمر يقول: حدثني رجل من ثقيف، قال: استعملني علي عليه السلام على عكبرا، و قال لي: 'إذا كان الظهر فأتني'. قال: فأتيته فلم أجد أحدا يحجبني عنه، و وجدته جالسا وحده و بين يديه قدح من خشب، و كوز من ماء، فدعا بجراب مختوم، فقلت: لقد إئتمنني حيث يخرج إلي جوهرا، و لا أعلم ما قيمته، فكسر الخاتم فإذا فيه سويق، فأخرج منه و صب في القدح ماء و ذره عليه، ثم شرب و سقاني، فلم أصبر، و قلت: يا أمير المؤمنين، قد وسع الله عليك، و الطعام بالعراق كثير. فقال: 'و الله ما ختمت عليه بخلا، و إنما أبتاع قدر كفايتي، و أخاف أن يفنى فيوضع فيه من غيره، و إنما أفعل هذا لئلا يدخل بطني غير طيب'. ___________________________________تذكرة الخواص، ص 107.
9ـ و في نهج البلاغة و غيره عن عبد الله بن العباس قال: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار ___________________________________ذوقار: موضع قريب من البصرة، و هو اليوم أحد محافظات العراق. و هو يخصف ___________________________________يخصف نعله أي يخرزها. نعله، فقال لي: 'ما قيمة هذه النعل؟'. فقلت: لا قيمة لها.
فقال عليه السلام: 'و الله لهي أحب إلي من إمرتكم، إلا أن اقيم حقا، أو أدفع باطلا'. ___________________________________نهج البلاغة، الخطبة، 33، و روي نحوه في تذكرة الخواص، ص 110.
10ـ و في فرائد السمطين: بسنده عن معاوية، عن رجل من بني كاهل، قال: رأيت عليا عليه السلام و عليه تبان، ___________________________________التبان ـ بالضم و التشديد ـ سراويل صغيرة مقدار شبر تستر العورة. و قال: 'نعم الثوب، ما أستره للعورة، و أكفه للأذى!'. ___________________________________فرائد السمطين، ج 1، ص 353، ح 279.