مقتطفات جلد 1

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

مقتطفات - جلد 1

عیدروس ابن رویش

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید


مسابقته بالشّجاعة


قال اللّه تعالى مجده في كتابه الكريم مخبراً بما وصف به أصحاب محمّد "صلى الله عليه وآله" بقوله: "محمّدٌ رَسُولُ اللّه وَالذين مَعَهُ أشدّاءُ عَلَى الكفَّار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ" |الفتح: 29| والشدّة على الكفّار هي حليتهم الّتي حلاّهم اللّه بها، وإنّا إذا نجول خلال معاني هذه الآية، ونجول ببصرنا تجاه أخبار الصّحابة، في أساطير اُمناء التّاريخ وأهل السّير، وجدنا أن أولى من اتّصف بهذه الصّفة عليّ "عليه السلام"دون غيره ممّن تُدّعى له الشدّة على الكفّار، ويؤيّد فيما قلناه قوله تعالى فيما روينا عن الرّضا والباقر "عليهما السلام": "لِيُنْذِرْ بَأساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ" |الكهف: 2|قالا: البأس الشّديد: علي بن أبي طالب، وهو لدن رسول اللّه "صلى الله عليه وآله" يقاتل معه عدوّه.

وقد روي أيضاً أنّ قوله تعالى: "والصّابِرُون في البَأساءِ والضرّاءِ وَحيْنَ البَأسِ" |البقرة: 177| نزل فيه "عليه السلام".

قال الحيص بيص:

وأنزع من شرك الرّجال مبرّأ++

بطين من الأحكام جمّ النّوافل

سديد مضاء البأس يغني بلاؤه++

إذا زحموه بالقنا والقبائل

وممّا يدل على صحّة ما قلناه أنه "عليه السلام"كان واللّه الأوحديّ من بين الصّحابة الّذي هدّد به الرّسول الكفّار وأنذرهم به، كما روى ذلك الإمام أحمد بن حنبل في كتابه فضائل الصحابة، عن شدّاد بن الهاد، قال: لما قدم على رسول اللّه وفد من اليمن ليسرح، فقال رسول اللّه "صلى الله عليه وآله": اللهمّ لتقيمنّ الصّلاة أو لأبعثنّ إليكم رجلاً يقتل المقاتلة ويسبي الذرّيّة، قال: ثم قال رسول اللّه "صلى الله عليه وآله": اللهمّ أنا أو هذا، وانتثل

___________________________________

انتثل أي: أخرج. بيد عليّ.

وقد تكرّر قوله ذلك فيه "عليه السلام"في عدّة مواطن تجاه الكفّار والمشركين.

وفي تاريخ النسوي: قال عبدالرحمن بن عوف: قال النبيّ لأهل الطّائف: والذي نفسي بيده، لتقيمنّ الصّلاة، ولتؤتنّ الزكاة، أو لأبعثنّ إليكم رجلاً منّي أو كنفسي، فليضربنّ أعناق مقاتليكم أو ليسبينّ ذراريكم، قال: فرأى النّاس أنـّه عنى أبا بكر وعمر، فأخذ بيد عليّ، فقال: هذا.

أقول: لقد اتّفقت تلكم الأحاديث مع قوله تعالى: "وَمَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينهِ فَسَوْفَ يَأتي اللّه بِقَوْم يُحبّهم وَيُحِبُّونَهْ أذِلَّة عَلى المؤمِنينَ أعِزَّة عَلى الكافرين" |المائدة: 154| ولهذا لم يكن أحد غيره، إذا رأته قريش في الحرب تواصت خوفاً منه، ولا أحد سواه إذا تهجّم على العدوّ وخاض فيهم حتّى شقَّهم، قالوا فيه: بأنّ ملك الموت بجانبه.

كما رواه الزمخشري في كتابه الفائق أنّ عليّاً حمل على المشركين فما زالوا يبقطون إلى الجبال منهزمين، وكانت قريش إذا رأوه في الحرب تواصت خوفاً منه، وقد نظر اليه رجل وقد شقّ "عليه السلام"العسكر، فقال: علمت بأنّ ملك الموت في الجانب الذي فيه عليّ، ففي ذلك قال النّاشي:

همام ملك الموت++

إذا بادر في كدّ

لذاك الموت يقضى حـا++

جـةً في صورة العبد

ولا يبرح حتّى يـو++

لـج المرهف في الغمد

ولا يقتل إلاّ كلّ++

ليث باسل نجد

ولا يتبع من ولّى++

من الحرّ إلى العبد

وقد سمّاه رسول اللّه كرّاراً غير فرّار في حديث خيبر. قال الصاحب:

قد كان كرّاراً فسمّى غيره++

في الوقت فرّاراً فهل من معدل

وقال غيره:

نفسي فداء عليّ من إمام هدى++

مجاهداً في سبيل اللّه كرّارا

وفي صحيح الترمذي|5: 592 ط. دار الفكر|، وتاريخ الخطيب |8: 433 ط. دار الكتب العلمية|، وفضائل السمعاني: أنـّه "صلى الله عليه وآله" قال يوم الحديبيّة لسهيل بن عمير: يا معشر قريش، لتنتهنّ أو ليبعثنّ اللّه عليكم من يضرب رقابكم على الدّين.

ولذلك قال الرّضا "عليه السلام"في تفسيره تلك الآية: إنّ عليّاً منهم.

ونقول: بلى واللّه وألف بلى، فكيف لا يكون منهم؟ وقد كان أليقهم بتلك الصّفة، باعتراف المؤالف والمخالف، وبإقرار كلّ صديق وزنديق. قال عمر بن الخطّاب ـ كما في شرح نهج البلاغة ـ: لولا سيف عليّ لما قام عمود في الإسلام.

وقال معاوية يوم صفّين: اُريد منكم واللّه أن تشجّروه بالرّماح، فتريحوا العباد والبلاد منه. فقال مروان: واللّه لقد ثقلنا عليك يا معاوية، إذ كنت تأمرنا بقتل حيّة الوادي، والأسد العادي، ونهض معاوية مغضباً، فأنشأ الوليد بن عقبة:

يقول لنا معاوية بن حرب++

أما فيكم لواتركم طلوب

يشدّ على أبي حسن عليّ++

بأسمر لا تهجّنه الكعوب

فقلت له أتلعب يا ابن هند++

فإنّك بيننا رجل غريب

أتأمرنا بحيّة بطن واد++

يتاح لنا به أسد مهيب

كأنّ الخلق لما عاينوه++

خلال النّقع ليس لهم قلوب

فقال عمرو بن العاص: واللّه ما يعيّر أحد بفراره من علي بن أبي طالب، ولمّا نعي بقتل أمير المؤمنين "عليه السلام"دخل عمرو بن العاص على معاوية مبشّراً، فقال: إنّ الأسد المفترس ذراعيه بالعراق لاقى شعوبه.

فقال معاوية:

قل للأرانب تربع حيث ماسلكت++

وللظّباء بلا خوف ولا حذر

وقال أبو العلاء السّروي:

تخاله أسداً يحمي العرين إذا++

يوم الهياج بأبطال الوغى رجفا

يضلّه النّصر والرّعب اللذان هما++

كانا له عادة إذ سار أو وقفا

شواهد فرضت في الخلق طاعته++

برغم كلّ حسود مال وانحرفا

ومن أعجب ما يتعجّب به كلّ ذي عقل سليم، من الجنّة والنّاس أجمعين أن يقال: كان الفرّار أشجع الصّحابه على الاطلاق حتى من الكرّار، وهل يقاس من لم يصب محجمةً من دم في الجاهليّة او الإسلام، بقتال الشّجعان والاقران، وهجّاج الكتائب وعجّاج الميدان؟ هيهات وهيهات، لم يثبت مثل ذلك لكرد من الفرس، مثل: رستم، واسفنديار، وبهمن، أو لفرسان العرب، مثل: عنتر العبسي، وعامر بن الطفيل. أو لمبارز من التّرك، مثل: افراسياب، وشبهه.

فهو "عليه السلام"الفارس الذي يفرّق العسكر، كفرق الشّعر، ويطويهم كطيّ السّجل. الحرب دأبه، والجدّ آدابه. والنصر طبعه، والعدوّ غنمه، جريّ خطّار، وجسور هصّار، ما لسيفه إلاّ الرّقاب، وانـّه لو حضر لكفى الحذر، ويقال له: غالب كلّ غالب، علي بن أبي طالب.

الذي روّى سيفه في يوم بدر بدماء خمسة وثلاثين مبارزاً من المشركين، دون الجرحى منهم، وهم: الوليد بن عقبة، والعاص بن سعيد بن العاص، ومطعم ابن عدي بن نوفل، وحنظلة بن أبي سفيان، ونوفل بن خويلد، وزمعة بن الأسود، والحارث بن زمعة، والنّضر بن الحارث بن عبدالدّار، وعمير بن عثمان بن كعب عمّ طلحة، وعثمان ومالك أخو طلحة، ومسعود بن أبي اُميّة بن المغيرة، وقيس بن الفاكه بن المغيرة، وأبو القيس بن الوليد بن المغيرة، وعمرو بن مخزوم، والمنذر بن أبي رفاعة، ومنبّه بن الحجّاج السّهمي، والعاص بن منبّه، وعلقمة بن كلدة، وأبو العاص بن قيس بن عدي، ومعاوية بن المغيرة، والحاجب بن السائب بن عويمر، وأوس بن المغيرة بن لوذان، وزيد بن مليص، وعاصم بن أبي عوف، وسعيد بن وهب، ومعاوية بن عامر بن عبدالقيس، وعبداللّه بن جميل بن زهير، والسّائب بن سعيد بن مالك، وأبو الحكم بن الأخنس، وهشام بن أبي اُميّة.

ويقال: إنـّه "عليه السلام"قتل في بدر بضعة وأربعين رجلاً، لا خمسة وثلاثين.

وقتل "عليه السلام"في يوم اُحد كبش الكتيبة: طلحة بن أبي طلحة، وإبنه أبا سعيد، وإخوته خالداً ومخلّداً وكلّدة والمحالس، وعبدالرحمن بن حميد بن زهرة، والحكم بن الأخنس بن شريق الثقفي، والوليد بن اُرطاة، واُميّة بن أبي حذيفة، واُرطاة بن شرحبيل، وهشام بن اُميّة، ومسافع، وعمرو بن عبداللّه الجمحي، وبشر ابن مالك المغافري، وصوّاب مولى عبدالدّار، وأبا حذيفة بن المغيرة، وقاسط بن شريح العبدي، والمغيرة بن المغيرة، سوى من قتلهم بعدما هزمهم.

وقتل "عليه السلام" في يوم الاحزاب: عمرو بن عبد ودٍّ وولده، ونوفل بن عبداللّه بن المغيرة، ومنبّه بن عثمان العبدري، وهبيرة بن أبي هبيرة المخزومي، وهاجت الرّياح، وانهزم الكفّار.

وقتل "عليه السلام" يوم حنين أربعين رجلاً وفارسهم أبو جرول، وأنـّه قدّه نصفين بضربة في الخوذة والعمامة، والجوشن والبدن إلى القربوس، وقد اختلفوا في اسمه.

ووقف "عليه السلام" يوم حنين في وسط أربعة وعشرين ألف ضارب سيف، إلى أن ظهر المدد من السّماء.

وفي غزوة السّلسلة قتل السّبعة الأشدّاء، وكان أشدّهم آخرهم وهو سعيد ابن مالك العجلي. وفي بني النضير قتل أحد عشر منهم غروراً. وفي بني قريظة ضرب أعناق رؤساء اليهود مثل: حيّ بن أخطب، وكعب بن الاشرف. وفي غزوة بني المصطلق، قتل مالكاً وإبنه.

وروى الزمخشري في كتابه الفائق: كانت لعليّ ضربتان إذا تطاول قدّ، واذا تقاصر قطّ، وقالوا: كانت ضرباته أبكاراً، إذا اعتلى قدّ، وإذا اعترض قطّ، وإذا أتى حصناً هدّ، كانت ضرباته مبتكرات لا عوناً، يقال ضربة بكر، أي: قاطعة لا تثنى. والعون: التي وقعت مختلسة فأخوجت الى المعاودة، ويقال: انـّه كان يوقعها على شدّة في الشّدّة لم يسبقه الى مثلها بطل، زعمت الفرس أنّ اُصول الضّرب ستّة، وكلّها مأخوذة عنه، وهي: علويّة. وسفلية، وغلبة، ومالة، وجالة، وجرّ هام.

وفي يوم الفتح قتل "عليه السلام" فاتك العرب أسد بن غويلم. وفي غزوة وادي الرّمل قتل مبارزيهم، وبخيبر قتل مرحباً وذا الخمار وعنكبوتاً. وبالطائف هزم خيل خثعم، وقتل شهاب بن عيسى، ونافع بن غيلان. وقتل مهلعاً وجناحاً وقت الهجرة.

وقتاله لأحداث مكّة عند خروج النبيّ "صلى الله عليه وآله" من داره إلى المسجد، ومبيته على فراشه ليلة الهجرة، وله المقام المشهود في الجمل حتّى قطع يد الجمل، ثمّ قطع رجليه حتّى سقط، وله ليلة الهرير ثلاثمئة تكبيرة أسقط بكلّ تكبيرة عدوّاً. وفي رواية: خمسمئة وثلاث وعشرون، فيما رواه الأعثم. وفي رواية: سبعمئة. ولم يكن لدرعه ظهر ولا لمركوبه كرّ وفرّ.

وفيما كتب أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف: لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها، ولو أمكنت الفرصة من رقابها لسارعت اليها.

وروى أبو السّعادات في فضائل العشرة أنّ عليّاً "عليه السلام" كان يحارب رجلاً من المشركين، فقال المشرك: يا بن أبي طالب هبني سيفك، فرماه إليه، فقال المشرك: عجباً يا بن أبي طالب في مثل هذا الوقت تدفع اليّ سيفك؟ فقال "عليه السلام": يا هذا إنّك مددت يد المسألة إليّ، وليس من الكرم أن يردّ السّائل. فرمى الكافر نفسه إلى الأرض، وقال: هذه سيرة أهل الدّين، فباس قدمه وأسلم.

وروى محمّد بن أبي السّرى التميمي، عن أحمد بن الفرج، عن النّهدي، عن وبرة، عن ابن عبّاس، قال: لمّا خرج النبيّ "صلى الله عليه وآله" إلى بني المصطلق نزل بقرب واد وعر، فلمّا كان آخر الليل هبط عليه جبرئيل، يخبره أنّ كفّاراً من الجن قد استبطنوا الوادي يريدون كيده، فدعا "صلى الله عليه وآله" عليّاً وقال: إذهب إلى هذا الوادي.

فلمّا ذهب عليّ "عليه السلام" وقارب شفيره، أمر أصحابه أن يقفوا بقرب الشّفير، ولا يحدثوا شيئاً حتّى يأذن لهم، ثمّ تقدّم فوقف على شفير الوادي، وتعوّذ باللّه من أعدائه، وسمّاه بأحسن أسمائه، ثمّ أمر أصحابه أن يقربوا منه، ثمّ أمر بالهبوط إلى الوادي، فاعترضتهم ريح عاصف كاد القوم يقعون على وجوههم لشدّتها، فصاح: أنا علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب، وصيّ رسول اللّه وابن عمّه، اُثبتوا إن شئتم، وظهر أشخاص مثل الزطّ يخيّل إلينا أنّ في أيديهم شعل النار، وقد اطمأنّوا بجنبات الوادي.

فتوغّل أمير المؤمنين بطن الوادي، وهو يتلو القرآن، ويومئ بسيفه يميناً وشمالاً، فما لبث الأشخاص حتّى صارت كالدّخان الأسود، وكبّر أمير المؤمنين ثمّ صعد، فقال: كفى اللّه كيدهم وكفى المسلمين شرّهم، وسيسبقني بقيّتهم إلى النبيّ فيؤمنوا به، فلمّا وافى النبيّ، قال له: لقد سبقك يا عليّ إليّ من أخافه اللّه بك فأسلم.

وقال أبو الحسن البياضي:

من قاتل الجنّ غير حيدرة++

وصاح فيهم بصوته الجَهْور

فصوته علا عزيفهم++

إذ قال هات الحسام يا قنبر

فانهزموا ثمّ مُزّقت شيعاً++

منه العفاريت خيفةً تُذعر

وقال أبو الحسن الأسود:

من قاتل الجن الطّغاة فأسلموا++

في البئر كرهاً يا اُولي الألباب

من هزّ خيبر هزّةً فتساقطت++

أبراجها لمّا دحى بالباب

وروى محمّد بن إسحاق، عن يحيي بن عبداللّه بن الحارث، عن أبيه، عن ابن عبّاس. وروى أبو عمرو عثمان بن أحمد، عن محمّد بن هارون بإسناده عن ابن عبّاس في خبر طويل: أنـّه أصاب الناس عطش شديد في الحديبيّة، فقال النبيّ: هل من رجل يمضي مع السّقاة إلى بئر ذات العلم فيأتينا بالماء، وأضمن له الجنّة؟ فذهب جماعة فيهم سلمة بن الأكوع، فلمّا دنوا من الشّجرة والبئر سمعوا حسّاً وحركةً وقرع طبول، ورأوا نيراناً تتّقد بغير حطب فرجعوا خائفين. ثمّ قال "صلى الله عليه وآله": هل من رجل يمضي مع السّقاة فيأتينا بالماء أضمن له على اللّه الجنّة؟ فمضى رجل من بني سليم وهو يرتجز:

أمن عزيف ظاهر نحو السّلم++

ينكل من وجّهه خير الاُمم

من قبل أن يبلغ آبار العلم++

فيستقي واللّيل مبسوط الظّلم

ويأمن الذّمّ وتوبيخ الكلم++

فلمّا وصلوا الى الموضع رجعوا وجلين. فقال النبيّ "صلى الله عليه وآله": هل من رجل يمضي مع السّقاة إلى البئر ذات العلم فيأتينا بالماء أضمن له على اللّه الجنّة؟ فلم يقم أحد. واشتدّ بالنّاس العطش وهم صيام، ثمّ قال "صلى الله عليه وآله" لعليّ "عليه السلام": سر مع هؤلاء السّقاة حتّى ترد بئر ذات العلم وتستقي وتعود إن شاء اللّه، فخرج عليّ "عليه السلام" قائلاً:

أعوذ بالرحمن أن أميلا++

من عزف جنٍّ أظهروا تأويلا

وأوقدت نيرانها تهويلا++

وقرعت مع عزفها طبولا

قال السّقاة: فداخلنا الرّعب، فالتفت عليّ إلينا وقال: اتّبعوا أثري ولا يفزعنّكم ما ترون وتسمعون، فليس بضائركم إن شاء اللّه.

ثمّ مضى، فلمّا دخلنا الشّجر، فإذا بنيران تضطرم بغير حطب، وأصوات هائلة ورؤوس مقطّعة لها ضجّة، فقال عليّ: اتّبعوني ولا خوف عليكم، ولا يلتفت أحد منكم يميناً ولا شمالاً.

فلمّا جاوزنا الشّجرة ووردنا الماء أدلى البراء بن عازب دلوه في البئر، فاستقى دلواً أو دلوين، ثم انقطع الدّلو فوقع في القليب، والقليب ضيّق مظلم بعيد القعر، فسمعنا من أسفل القليب قهقهةً وضحكاً شديداً.

فقال عليّ: من يرجع إلى عسكرنا ويأتينا بدلو ورشاء؟ فقال أصحابه: لن نستطيع ذلك، فاتّزر "عليه السلام" بمئزر ونزل في القليب، وما تزداد القهقهة إلاّ علوّاً، وجعل "عليه السلام" ينحدر في مراقي القليب إذ زلّت رجله فسقط فيه، فسمعنا وجبةً شديدةً واضطراباً وغطيطاً كغطيط المخنوق، ثمّ نادى "عليه السلام": اللّه أكبر اللّه أكبر، أنا عبداللّه وأخو رسول اللّه، هلمّوا قربكم، فاقعمها وأصعدها على عاتقه شيئاً فشيئاً. ومضى بين أيدينا فلم نر شيئاً. فسمعنا صوتاً يقول:

أيّ فتى ليل أخي روعات++

وأيّ سبّاق إلى الغايات

للّه درّ الغرر السّادات++

من هاشم الهامات والقامات

مثل رسول اللّه ذي الآيات++

أو كعليّ كاشف الكربات

كذا يكون المرء في الحاجات++

فارتجز أمير المؤمنين عليه السلام:

اللّيل هول يرهب المهيبا++

ويذهل المشجّع اللّبيبا

فإنّني أهول منه ذيباً++

ولست أخشى الرّوع والخطوبا

إذا هززت الصّارم القضيبا++

أبصرت منه عجباً عجيبا

وانتهى خبر ذلك إلى النبيّ "صلى الله عليه وآله" فقال له: ماذا رأيت في طريقك يا علي؟ فأخبره الخبر كلّه، فقال "صلى الله عليه وآله": إنّ الذي رأيته مثل ضربه اللّه لي ولمن حضر معي في وجهي هذا، قال عليّ: إشرحه لي يا رسول اللّه.

فقال "صلى الله عليه وآله": أمّا الرّؤوس التي رأيتم لها ضجّة ولألسنتها لجلجة، فذلك مثل قوم معي يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ولا يقبل اللّه منهم صرفاً ولا عدلاً، ولا يقيم لهم يوم القيامة وزناً، وأمّا النّيران بغير حطب، ففتنة تكون في اُمّتي بعدي، القائم فيها والقاعد سواء، لا يقبل اللّه لهم عملاً، ولا يقيم لهم يوم القيامة وزناً، وأمّا الهاتف الذي هتف بك، فذاك سلقعة. وهو سملقة بن غراف الذي قتل عدوّ اللّه مسعراً شيطان الأصنام، الذي كان يكلّم قريشاً منها ويشرع في هجاي:

قال العبدي:

من قاتل الجنّ في القليب ترى++

من قلع الباب ثمّ أدحاها

من كان في الحرب فارساً بطلاً++

أشدّهم ساعداً و أقواها

قال السروجي:

والبئر لمّا عندها محمّد++

حلّ وللبئر لهيب قد سعر

وأدلى الوارد منها دلوه++

فعاد مقطوعاً إلى حيث انحدر

واُظهرت نار فولىّ هارباً++

عنها وفي أعقابه رمي الحجر

فعندها وافى وصيّ أحمد++

صلّى عليه من عفا ومن غفر

ومرّ فيها نازلاً حتّى إذا++

صار إلى النصّف به الحبل انبتر

فطال فيها لبثه ثمّ ارتقى++

لسانه القرآن يقرأ والسّور

فاغترف الناس وأسقى وسقى++

والماء فيه من دم الجان عكر

وله أيضاً:

فقلت أمّا عليّ آيةً خلقت++

واللّه أظهرها للنّاس في رجل

مخيفةً بعليّ ثمّ ألحقها++

بذي الفقار وفيه قبضة الأجل

ما سلّه ورحاء الحرب دائرة++

إلاّ وأغمده في هامة البطل

ما صاح في الجيش صوتاً ثمّ أتبعه++

أنا عليّ تولّى الجيش من جفل

وقال الزاهي:

هذا الذي أردى الوليد وعتبةً++

والعامريّ وذا الخمار ومرحبا

هذا الذي هشمت يداه فوارساً++

قسراً ولم يك خائفاً مترقّبا

في كلّ منبت شعرة من جسمه++

أسد يمدّ إلى الفريسة مخلبا

وقال دعبل:

سنان محمّد في كلّ حرب++

إذا نهلت صدور السّمهري

وأوّل من يجيب إلى براز++

إذا زاغ الكميّ عن الكمي

مشاهد لم تفلّ سيوف تيم++

بهنّ ولا سيوف بني عدي

وقال ابن حمّاد:

ذاك الفتى النّجد الذي إذا بدا++

بمعرك ألقت له فتيانه

ليث لو الليث الجريّ خاله++

أطار من هيبته جنانه

ذاك الشّجاع إذا بدا بمعرك++

تفرّقت من خوفه شجعانه

تبكي الطّلا إن ضحكت أسيافه++

ويرتوي إن عطشت سنانه

صقر ولكن صيده صيد الوغى++

ليث ولكن فرسه فرسانه

ترى سباع البيد تقفو إثره++

لأنـّها يوم الوغى ضيفانه

يقرن أرواح الكماة بالرّدى++

كذاك خاضت دونه أقرانه

وكم كميّ قد سقاه في الوغى++

وليس تخبو للقرى نيرانه

ومن قول ابن حمّاد:

مجلّي الكرب يوم الحرب++

في بدر وفي اُحد

إذ الهيجاء هاج لها++

بقلب غير مرتعد

ترى الأبطال باطلةً++

لخوف الفارس الأسد

فأنفسهم مودّعة++

لها بتنفّس الصّعد

وقد خنقوا لخيفته++

فلست تحسّ من أحد

فلا صوت بغير البيض++

فوق البيض والزّرد

سقى عمرواً منيّته++

وعمرواً قاد في الصّفد

أمير النّحل مولى الخلق++

غير الواحد الصّمد

فلن تلد النّسا شبهاً++

له كلاّ ولم تلد

شبيه المصطفى في الفضل++

لم ينقص ولم يزد

وقالت جرهمة الأنصارية:

صهر النّبيّ فذاك اللّه أكرمه++

اذا اصطفاه وذاك الصّبر مدّخر

لا يسلم القرن منه إن ألمّ به++

ولا يهاب وإن أعداؤه كثروا

من رام صولته وافت منيّته++

لا يدفع الثكل عن أقرانه الحذر

راجع المناقب لابن شهرآشوب |2: 81 ـ 93 ط. ايران|.

مسابقته بالزهد والقناعة


وأمّا الخوض في الرّوايات عن زهد الزّاهدين، وقناعة القانعين، فلربّما لم تقرع اُذن بسماع زهد فاق زهده "عليه السلام". ولم ترنّ قناعة فاقت قناعته في مسامع السّامعين، ولا سيّما بعد أن اجتمع علماء الاُمّة على أنـّه من فقراء المهاجرين.

ولا شكّ لدى ذي مسكة من العلم بالكتاب والتّنزيل أنـّه "عليه السلام" كان في طليعة من قال فيهم اللّه عزّ وجلّ: "لِلفقَراءِ المُهَاجِريْنَ الذِينَ اُخْرِجُوا من دِيارِهِم وأمْوَالِهِمْ يَبْتَغون فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ اُولئكَ هُمُ الصَّادِقُون" |الحشر: 8|.

وقد نزل فيه أيضاً فيما رواه ابن شهرآشوب في مناقبه |1: 364 ط النجف و 2: 94 ط ايران| عن سفيان بن عيينة، عن الزّهريّ، عن ابن عبّاس أنـّه قال في قوله تعالى: "فأمّا مَنْ طَغَى، وآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيا" |النازعات: 37 ـ 38|: هو علقمة ابن الحارث بن عبد الدار. "وَأمّا مَنْ خَافَ مَقامَ ربِّه وَنَهىَ النفْسَ عَنِ الهَوَى، فإنّ الجَنّةَ هِيَ الماوى" |النازعات: 39 ـ 40| هو علي بن أبي طالب، خاف فانتهى عن المعصية، ونهى عن الهوى نفسه، فإنّ الجنّة هي المأوى، خاصّاً لعليّ، وعامّاً لمن كان على منها.

ولذلك قال ابن عُيينة، كما في قوت القلوب لأبي طالب المكّي: أزهد الصّحابة عليّ بن أبي طالب. وقال عمر بن عبدالعزيز: ما علمنا أحداً كان في هذه الاُمّة أزهد من عليّ بن أبي طالب بعد النبيّ "صلى الله عليه وآله".

وعن قتادة، عن الحسن، عن ابن عبّاس في قوله تعالى: "إنَّ للمُتَّقِيْنَ مَفَازاً" |النبأ: 31| قال: عليّ بن أبي طالب هو سيّد من اتّقاه عن ارتكاب الفواحش.

وحسبنا دليلاً على ما ثبت من زهده، وعدم احتفاله بالدّنيا ولابالرّئاسة فيها، عكوفه على غسل وتجهيز سيّد المرسلين، والنّاس في هرج ومرج في سقيفة بني ساعدة من أجل الخلافة، من بين قائل منّا أمير ومنكم أمير، إلى أن تقمّصها أبو بكر، ونبيّ الرحمة والعظمة مسجّى قد اكتنفه ذوو قرباه من بين باك ومتحيّر ذاهل وصارع.

وكما هو من المعلوم أيضاً لدى من تصفّح كتب التواريخ أنـّه: لمّا توفّي أبو بكر كان عليه لبيت مال المسلمين نيّف وأربعون ألف درهم. ومات عمر وعليه نيّف وثمانون ألف درهم، ومات عثمان وعليه مالا يحصى كثرةً. وليس ما ترك عليّ حين توفي سوى سبعمئة درهم فضلاً عن عطائه.

قد ذكر ابن شهر آشوب في مناقبه |2: 52 ط النجف| أنـّه: أورد الشافعيّ عن أبي حنيفة بإسناده عن ابن أبي ليلى: أنّ في عهد عمر اُتي بمال كثير من فارس والسّوس والأهواز، فقال عمر: يا بني هاشم لو أقرضتموني حقّكم من هذه الغنائم، لاُعوّض مرّة اُخرى، فقال عليّ: يجوز، فقال العبّاس: أخاف فوت حقّنا، فكان كما قال، ومات عمر وما ردّ عليهم حقّهم، وفات.

وروى أبو نعيم في حليته، أنـّه قال سالم بن الجعد: رأيت الغنم تبعر في بيت المال في زمن أمير المؤمنين علي.

فيها أيضاً عن الشعبي أنـّه قال: كان أمير المؤمنين ينضح بيت المال، ثمّ يصلّي فيه.

وروى أبو عبداللّه بن حموية البصريّ بإسناد عن سالم الجحدريّ، قال: شهدت عليّ بن أبي طالب اُتي بمال عند المساء، فقال "عليه السلام": اقتسموا هذا المال، فقالوا: قد أمسينا يا أمير المؤمنين فأخّره إلى غد، فقال لهم: أتضمنون لي أن أعيش إلى غد؟ فقالوا: ماذا بأيدينا؟ فقال: لاتأخّروه حتّى تقسّموه.

وروي أنـّه "عليه السلام" كان يأتي عليه وقت لا يكون عنده قيمة ثلاثة دراهم يشتري بها إزاراً وما يحتاج إليه، ثمّ يقسّم كلّ ما في بيت المال على الناس، ثمّ يصلّي فيه ويقول: الحمد للّه الذي أخرجني منه كما دخلته.

وروى أبو جعفر الطّوسي أنّ أمير المؤمنين "عليه السلام" قيل له: أعط هذه الأموال لمن يخاف عليه من الناس أن يفرّ إلى معاوية، فقال "عليه السلام": أتأمروني أن أطلب النّصر بالجور؟ لا واللّه لا أفعل ما طلعت شمس وما لاح في السّماء نجم، واللّه لو كان مالهم لي لواسيت بينهم، وكيف وإنّما هي أموالهم.

قال الباقر "عليه السلام" في خبر: ولقد ولّي خمس سنين وما وضع آجرة على آجرة، ولا لبنة على لبنة، ولا أقطع قطيعاً ولا أورث بيضاً ولا حمراً.

وفي خصال الكمال، عن أبي الحسن البلخي أنـّه "عليه السلام" اجتاز بسوق الكوفة، فتعلّق به كرسيّ فتخرّق قميصه، وأخذه بيده ثمّ جاء به الى الخيّاطين، فقال: خيّطوا لي ذا بارك اللّه فيكم.

وعن الأشعث العبدي، قال: رأيت عليّاً في الفرات يوم جمعة، ثمّ ابتاع قميصاً كرابيس بثلاثة دراهم، فصلّى بالنّاس الجمعة، وما خيط جربانه بعد.

وفي فضائل أحمد بن حنبل: أنـّه رؤي على عليّ "عليه السلام" إزار غليظ اشتراه بخمسة دراهم، ورؤي عليه إزار مرقوع، فقيل له في ذلك، فقال "عليه السلام": يقتدي به المؤمنون، ويخشع له القلب، وتذلّ به النّفس، ويقصد به المبالغ.

وفي رواية: هذا أبعد لي من الكبر، وأجدر أن يقتدي به المسلم.

وفيه قال أمير المؤمنين: ما كان لنا إلاّ أهاب كبش أبيت مع فاطمة بالّليل، ويعلف عليها الناضح.

وفي مسند أبي يعلى الموصلي، عن الشّعبي، عن الحارث، عن عليّ، قال: ما كان ليلة أهدت لي فاطمة بشيء ينام عليه الاّ جلد كبش، واشترى "عليه السلام" ثوباً فأعجبه فتصدّق به.

وروى الغزاليّ في الإحياء: كان عليّ بن أبي طالب يمتنع من بيت المال حتّى يبيع سيفه ولا يكون له إلاّ قميص واحد، في وقت الغسل لا يجد غيره.

وفي فضائل الإمام أحمد، قال زيد بن محجن: قال علي "عليه السلام": من يشتري سيفي هذا، فو اللّه لو كان عندي ثمن إزار ما بعته.

وعن الأصبغ بن نباتة، وأبي مسعدة، والباقر "عليه السلام": أنـّه أتى البزّازين، فقال لرجل: بعني ثوبين، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين عندي حاجتك، فلمّا عرفه مضى عنه، فوقف على غلام فأخذ ثوبين، أحدهما بثلاثة دراهم، والآخر بدرهمين، ثمّ قال "عليه السلام": يا قنبر خذ الذي بثلاثة، قال قنبر: أنت أولى به، تصعد المنبر وتخطب النّاس.

فقال "عليه السلام": أنت شابّ ولك شره الشّباب، وأنا أستحيي من ربّي أن أتفضّل عليك، سمعت رسول اللّه يقول: ألبسوهم ممّا تلبسون، وأطعموهم ممّا تأكلون، فلمّا لبس القميص مدّ كمّ القميص فأمر بقطعه واتّخاذه قلانس للفقراء، ثمّ قال الغلام له: هلمّ أكفّه. فقال: دعه كما هو، فإنّ الأمر أسرع من ذلك، فجاء أبو الغلام فقال: يا أمير المؤمنين أنّ ابني لم يعرفك، وهذان درهمان ربحهما، فقال "عليه السلام": ما كنت لأفعل، قد ما كست وما كسني واتّفقنا على رضا. رواه أحمد في فضائل الصّحابة.

وروى الغزّاليّ في الإحياء: أنـّه "عليه السلام" كان له سويق في إناء مختوم يشرب منه، فقيل له في ذلك: أتفعل هذا بالعراق مع كثرة طعامه؟ فقال "عليه السلام": أما إنّي لا أختمه بخلاً به، ولكنّي أكره أن يجعل فيه ما ليس منه، وأكره أن يدخل بطني غير طيّب.

وعن معاوية بن عمّار، عن الصادق "عليه السلام" أنـّه قال: كان علي "عليه السلام" لا يأكل ممّا هنأ، حتّى يؤتى به من ثمّ ـ يعني الحجازـ.

وعن الأصبغ بن نباتة، قال: قال علي "عليه السلام": دخلت بلادكم بأشمالي هذه، ورحلتي وراحلتي ها هي، فان أنا خرجت من بلادكم بغير ما دخلت فإنّني من الخائنين.

وفي رواية: يا أهل البصرة، ما تنقمون منّي، إنّ هذا من غزل أهلي، وأشار إلى قميصه.

ورآه سويد بن غفلة وهو يأكل رغيفاً يكسّر بركبتيه ويلقيه في لبن حاذر يجد ريحه من حموضته، فقلت لجاريته: ويحكِ يا فضّة، أما تتّقون اللّه في الشّيخ فتنخلون له طعاماً؟ لما أرى فيه من النخّال، فقال أمير المؤمنين: بأبي واُمّي، من لم ينخل له طعام ولم يشبع من خبز البرّ حتّى قبضه اللّه؟

وقال "عليه السلام" لعقبة بن علقمة: يا أبا الجنوب، أدركت رسول اللّه "عليه السلام" يأكل أيبس من هذا، ويلبس أخشن من هذا، فإن أنا لم آخذ به خفت أن لا اُلحق به.

وترصّد عمرو بن حريث غداءه "عليه السلام" ، فأتت فضّة بجراب مختوم، فأخرج منه خبزاً متغيّراً خشناً، فقال عمرو: يا فضّة لو نخلت هذا الدّقيق وطيّبته، قالت: كنت أفعل فنهاني، وكنت أضع في جرابه طعاماً طيّباً فختم جرابه.

ثمّ أنّ أمير المؤمنين أخذه وطرحه في قصعة وصبّ عليه الماء، ثمّ ذرّ عليه الملح وحسر عن ذراعه، فلمّا فرغ قال: يا عمرو لقد حانت هذه، ومدّ يده إلى محاسنه، وخسرت هذه إن أدخلها النّار من أجل الطّعام.

ورآه عديّ بن حاتم وبين يديه شنّة فيها قراح ماء وكسرات من خبز شعير وملح، فقال: عديّ: إنّي لاَ أرى لك يا أمير المؤمنين لتظلّ نهارك طاوياً ومجاهداً، وبالليل ساهراً مكابداً، ثمّ هذا فطورك؟ فقال "عليه السلام": علّل النّفس بالقنوع، وإلاّ طلبت منك فوق ما يكفيها.

وروى ابن بطّة في الإبانة، عن جندب أنّ عليّاً قدّم إليه لحم غثّ، فقيل له: نجعل لك فيه سمناً؟ فقال "عليه السلام": إنّا لا نأكل إدامين جميعاً.

وروى العرني: أنـّه وضع خوان من فالوذج بين يديه، فوجأ باصبعه حتّى بلغ أسفله، ثمّ سلّها ولم يأخذ منه شيئاً، وتلمّظ بأصبعه وقال: طيّب طيّب وما هو بحرام، ولكن أكره أن اُعوّد نفسي بما لم اُعوّدها.

وفي رواية عن الصادق "عليه السلام": أنـّه مدّ يده اليه ثمّ قبضها، فقيل له في ذلك، فقال: ذكرت رسول اللّه أنـّه لم يأكله قطّ، فكرهت أن آكله.

وفي خبر آخر عن الصادق: أنـّه قالوا له: تحرّمه؟ قال: لا، ولكن أخشى أن تتوق إليه نفسي. ثمّ تلا: "أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدّنيا".

وقال الشّريف المرتضى:

وإذا الاُمور تشابهت وتبهّمت++

فجلاؤها وشفاؤها أحكامه

وإذا التفتّ إلى التّقيّ صادفته++

من كلّ برّ وافراً أقسامه

فالّليل فيه قيامه متهجّداً++

يتلو الكتاب وفي النّهار صيامه

يعفي الثّلاث تعفّفاً وتكرّماً++

حتّى يصادف زاده ومقامه

فمضى بريئاً لم تشنه ذنوبه++

يوماً ولا ظفرت به آثامه

وقال الحيص بيص:

صدوق عن الزّاد الشّهيّ فؤاده++

رغيب إلى زاد التّقى والفضائل

جريء إلى قول الصّواب لسانه++

إذا ما الفتاوي أفحمت بالمسائل

اُعيدت له الشّمس الأصيل جلالةً++

وقد حال ثوب الصّبح في أرض بابل

وعن ابن عبّاس، ومجاهد، وقتادة في قوله تعالى: "يا أيّها الذين آمنوا لا تُحَرّمُوْا طَيّبَاتِ ما أحلّ اللّه لكم" الآية |المائدة: 87| قالوا: نزلت في عليّ، وأبي ذرٍّ، وسلمان، والمقداد، وعثمان بن مظعون، وسالم، إنّهم اتّفقوا على أن يصوموا النّهار ويقوموا اللّيل، ولا يناموا على الفراش، ولا يأكلوا اللّحم، ولا يقربوا النّساء والطّيب، ويلبسوا المسوح، ويرفضوا الدّنيا، ويسيحوا في الأرض، وهمّ بعضهم ان يجبّ مذاكيره، فخطب النبيّ "صلى الله عليه وآله" ، وقال: ما بال أقوام حرّموا النّساء والطيب والنوم وشهوات الدّنيا، أما إنّي لستُ آمركم أن تكونوا قسّيسين ورهباناً، فإنّه ليس في ديني ترك اللّحم والنّساء ولا اتّخاذ الصّوامع، وإنّ سياحة اُمّتي ورهبانيّتهم الجهاد. الى آخر الخبر.

قال ابن رزيك:

هو الزّاهد الموفى على كلّ زاهد++

فما قطع الأيّام بالشّهوات

بإيثاره بالقوت يطوي على الطّوى++

إذا أمّه المسكين في الأزمات

تقرّب للرّحمن إذ كان راكعاً++

بخاتمه في جملة القربات

وفي تاريخ الطّبري، والبلاذري: أنـّه دخل ابن عبّاس على أمير المؤمنين "عليه السلام" ، وقال له: إنّ الحاجّ قد اجتمعوا ليسمعوا منك، وهو يخصف النّعل، فقال: أما واللّه إنّها لأحبّ إليّ من إمرتكم هذه، إلاّ أن اُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً.

وكان يقول "عليه السلام": يادنيا يادنيا، أبي تعرّضت؟ أم إليّ تشوّقت؟ لا حان حينك، هيهات غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك. وله "عليه السلام":

طلّق الدّنيا ثلاثاً++

واتّخذ زوجاً سواها

إنّها زوجة سوء++

لا تبالي من أتاها

وقال ابن رزيك:

ذاك الذي طلّق الدنيا لعمري عن++

زهد وقد سفرت عن وجههاالحسن

وأوضح المشكلات الخافيات وقد++

دقّت عن الفكرواعتاضت على الفطن

وروى البلاذري في أنساب الأشراف: أنّ أمير المؤمنين "عليه السلام" مرّ على قذر بمزبلة، وقال: هذا ما بخل به الباخلون.

ويروى أنّ أمير المؤمنين "عليه السلام" كان في بعض حيطان فدك، وفي يده مسحاة، فهجمت عليه امرأة من أجمل النّساء، فقالت: يا بن أبي طالب، إن تزوّجتني اُغنيك عن هذه المسحاة، وأدلّك على خزائن الأرض، ويكن لك الملك ما بقيت، فقال لها: فمن أنت حتّى أخطبك من أهلك؟ قالت: أنا الدّنيا. فقال "عليه السلام": إرجعي فاطلبي زوجاً غيري، فلست من شأني. وأقبل على مسحاته وأنشأ يقول:

لقد خاب من غرّته دنيا دنيّة++

وما هي إنْ غرّت قروناً بباطل

أتتنا على زيّ العروس بثينة++

وزينتها في مثل تلك الشّمائل

فقلت لها غرّي سواي فإنّني++

عزوف عن الدنيا ولست بجاهل

وما أنا والدّنيا وانّ محمّداً++

رهين بقفر بين تلك الجنادل

وهبها أتتني بالكنوز ودرّها++

وأموال قارون وملك القبائل

أليس جميعاً للفناء مصيرنا++

ويطلب من خزّانها بالطّوائل

فغرّي سواي إنّني غير راغب++

لما فيك من عزٍّ وملك ونائل

وقد قنعت نفسي بما قد رزقته++

فشأنك يادنيا وأهل الغوائل

فإنّي أخاف اللّه يوم لقائه++

وأخشى عذاباً دائماً غير زائل

وقال معاوية لضرار بن ضمرة: صف لي عليّاً، قال: كان واللّه صوّاماً بالنّهار، قوّاماً باللّيل، يحبّ من اللباس أخشنه، ومن الطعام أجشبه، وكان يجلس فينا ويبتدي إذا سكتنا، ويجيب إذا سألنا، يقسّم بالسويّة، ويعدل في الرّعيّة، لا يخاف الضّعيف من جوره، ولا يطمع القويّ في ميله، واللّه لقد رأيته ليلةً من اللّيالي وقد أسبل الظّلام سدوله، وغارت نجومه، وهو يتململ في المحراب تململ السّليم، ويبكي بكاء الحزين، ولقد رأيته مسيلاً للدّموع على خدّه، قابضاً على لحيته، يخاطب دنياه، فيقول: يا دنيا أبي تشوّقت ولي تعرّضت، لا حان حينك، فقد أبنتك ثلاثا لا رجعة لي فيك، فعيشك قصير، وخطرك يسير، آه من قلّة الزّاد، وبعد السّفر، ووحشة الطّريق.

وفي الابانة لابن بطّة، والأمالي لأبي بكر بن عياش، عن أبي داود، عن السّبيعي، عن عمران بن حصين، قال: كنت عند النبيّ "صلى الله عليه وآله" وعليّ إلى جنبه، إذ قرأ النبيّ هذه الآية: "أمّنْ يُجِيب المُضْطَرّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السّوْءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْض" |النمل: 62| قال: فارتعد عليّ، فضرب النبيّ على كتفيه، وقال: مالك يا علي؟ قال: قرأت يا رسول اللّه هذه الآية، فخشيت أن اُبتلى بها، فأصابني ما رأيت. فقال رسول اللّه "صلى الله عليه وآله": لا يحبّكَ إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق إلى يوم القيامة:

قال الحميري:

وإنّك قد ذكرت لدى مليك++

يذلّ لعزّه المتجبّرونا

فخرّ لوجهه صعقاً وأبدى++

لربّ النّاس رهبة راهبينا

وقال لقد ذكرت لدى إلهي++

فأبدي ذلّة المتواضعينا

وقال حسّان بن ثابت:

جزى اللّه خيراً والجزاء بكفّه++

أبا حسن عنّا ومن كأبي حسن

سبقت قريشاً بالذي أنت أهله++

فصدرك مشروح وقلبك ممتحن

راجع: مناقب ابن شهرآشوب |2: 93 ـ 103 ط ايران|.

/ 122