في سبب هذه التكنية
1- في صحيح البخاري، بالاسناد عن عبدالعزيز بن أبي حازم، عن أبيه: أنّ رجلاً جاء إلى سهل بن سعد، فقال: هذا فلان، لأمير المدينة، يدعو علياً عند المنبر. قال: فيقول ماذا؟ قال: يقول له أبو تراب. فضحك، قال: و اللَّه ما سمّاه إلّا النبيّ صلى الله عليه و آله، و ما كان له اسم أحبّ إليه منه... الحديث. [ صحيح البخاري، ج 5، ص 88، ح 199. ]
2- و روى ابن المغازلي الشافعي، بسنده عن عمار بن ياسر، قال: كنت أنا و عليّ بن أبي طالب عليه السلام رفيقين في غزوة العشيرة، فلمّا نزلها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و أقام بها، إذ هناك ناس من بني مُدلج يعملون في عين لهم في نخيل، فقال عليّ: ''يا أبا اليقظان، هل لك في أن نأتي هؤلاء فننظر كيف يعملون؟''. قال: قلت: إن شئت.
قال: فجئناهم فنظرنا إلى عملهم ساعة، ثمَّ غشينا النوم، فانطلقت أنا و عليّ عليه السلام حتّى اضطجعنا في صور من النخل و في دقعائها [ صور النخل: صغاره، و الدقعاء: التراب، و الأرض لانبات فيها. ]، فواللَّه ما أهَبَّنا إلّا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يحرّكنا برجله، و قد تترّبنا من تلك الدقعاء الّتي نمنا فيها، فيومئذٍ قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام: ''مالك، يا أبا تراب؟'' لما يرى عليه من التراب، ثمّ قال: ''ألا اُحدّثكم بأشقى النّاس رجلين؟''. قلنا: بلى، يا رسول اللَّه.
قال: ''أُحيمر ثمود الّذي عقر الناقة، و الّذي يضربك يا عليّ على هذه'' و وضع يده على قرنه ''حتّى تبتلّ منه هذه'' و أخذ بلحيته. [ المناقب لابن المغازلي، ص 8، ح 5؛ مسند أحمد، ص 263؛ فرائد السمطين، ج 1، ص 316/384. ]
3- و روي الطبراني وغيره، عن ابن عبّاس، قال: لمّا آخى النبيّ صلى الله عليه و آله بين
أصحابه من المهاجرين و الأنصار، فلم يؤاخِ بين عليّ بن أبي طالب عليه السلام و بين أحد منهم، خرج عليّ عليه السلام مغضباً حتّى أتى جدولاً فتوسّد ذراعه، فسفت عليه الرّيح، فطلبه النبيّ صلى الله عليه و آله حتّى وجده، فوكزه برجله، فقال له: ''قم، فما صلحت أن تكون إلّا أبا تراب، أغضبت عليَّ حين آخيتُ بين المهاجرين و الأنصار، و لم اُؤاخ بينك و بين أحد منهم؟! أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه ليس بعدي نبيّ؟! ألا من أحبّك حُفَّ بالأمن و الإيمان، و من أبغضك أماته اللَّه ميتةً جاهليةً، و حوسب بعمله في الإسلام''. [ المعجم الكبير للطبراني، ج 11، ص 62، ح 11092؛ مناقب الخوارزمي، ص 7. ]
4- و روي الجويني و ابن عساكر الشافعي، بإسنادهما عن حفص بن جميع: قال حدّثني سمّاك بن حرب، قال: قلت لجابر: إنّ هؤلاء القوم يَدعونني إلى شتم عليّ!!
قال: و ما عسيت أن تشتمه به؟
قال: اُكنّيه بأبي تراب.
قال: "فواللَّه ما كانت لعليّ عليه السلام كنية أحبّ إليه من أبي تراب" [ ما بين القوسين قد سقط من فرائد السمطين و موجود في تاريخ دمشق. ]، إنّ النبيّ آخى بين النّاس و لم يؤاخِ بينه و بين أحد، فخرج مغضباً حتّى أتى كثيباً من رمل، فنام عليه، فأتاه النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: ''قم يا أبا تراب'' و جعل ينفض التراب عن ظهره و بردته، و يقول: ''قم يا أبا تراب، أغضبت أن آخيتُ بين النّاس و لم اُؤاخ بينك و بين أحد؟''. قال: ''نعم''. قال: ''أنت أخي، و أنا أخوك''. [ فرائد السمطين، ج 1، ص 117؛ ترجمة الإمام عليّ من تاريخ دمشق، ج 1، ص 23، ح 33. ]
ابوه أبوطالب
قال ابن الصباغ المالكي: و اسم أبي طالب عبد مناف، و كنيته أبوطالب، و يلقب شيخ البطحاء، و كان ولد أبوطالب طالباً و لا عقب له، و عقيلاً و جعفراً، و علياًعليه السلام، و كل واحد أسنّ من الآخر بعشر سنين. و أمّ هاني، و اسمها فاختة، و اُمّهم جميعاً فاطمه بنت أسد. [ الفصول المهمة، ص 30. ]
و تُوفّي أبوطالب قبل الهجرة بثلاث سنين، و بعد خروجهم من الشعب، و عمره بضع و ثمانون سنة، فعظمت المصيبة على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بوفاته و وفاة خديجة. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ''ما نالت قريش منّي شيئاً أكرهه حتى مات أبوطالب'' و ذلك أن قريشاً وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته حتى إن بعضهم نثر التراب على رأسه، و بعضهم طرح عليه رحم الشاة و هو يصلي، و كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يخرج ذلك على العود و يقول: أيّ جوار هذا يا بني عبد مناف! ثمّ يلقيه بالطريق. [ الكامل في التاريخ، ج 1، ص 507؛ تاريخ الطبري، ج 2، ص 80؛ السيرة النبويّة لإبن هشام، ج 2، ص 57؛ البداية و النهاية، ج 3، ص 120؛ السيرة الحلبية، ج 1، ص 184. ]
و كان للنبيّ صلى الله عليه و آله تعلّق شديد بأبي طالب، فقد عاش في كنفه "43" عاماً منذ الثامنة من عمره حينما توفي عبدالمطلّب، و قد نشأ في حجر أبي طالب و كبر في بيته.
و كان أبوطالب موحّداً مؤمناً باللَّه و معتقداً بالإسلام أرسخ الاعتقاد، و يدلّ على إيمانه أشعاره التي قالها في مدح الرسول صلى الله عليه و آله و إثبات عقيدة التوحيد و الدفاع عن مبادى ء الإسلام، فضلاً عن ذبّه و كفاحة من أجل إعلاء كلمة الاسلام و حماية رسوله صلى الله عليه و آله و قد بقي على حاله هذه حتّى وافاه الأجل، و إنّما أخفى إيمانه ليتمكّن أن يكون له شأن و اتصال مع كفّار مكّه، و ليطلع على مكائدهم و مؤامراتهم، فكان يعيش حالة التقيّة، و كان مَثله كأصحاب الكهف في قومهم و كمؤمن آل فرعون، و هو ممّن آتاهم اللَّه أجرهم مرّتين: لإيمانه و تقيّته.
و ممّا يدل على إسلامه و إيمانه جملة اُمور نذكر بعضاً منها:
منها أشعاره
و من تلك الأشعار على نحو الاختصار قوله:
نصرت الرسول رسول المليك
أذُبُّ و أحمي رسولَ الإله
حماية حامٍ عليه شفيق
ببيضٍ تلألأ كلمع البروق
حماية حامٍ عليه شفيق
حماية حامٍ عليه شفيق
ما الفرق بين الكلام المنثور و المنظوم إذا تضمّنا الاقرار بالاسلام؟ و شعره هذا يتضمّن الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه و آله.
و من أشعاره في نصرة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لمّا أخافته قريش، و فيها دليل على إقراره برسالة الاسلام:
و اللَّه لن يصلوا إليك بجمعهم
و عرضت ديناً قد علمت بأنّه
من خير أديان البرية دينا
حتى اُوَسَّدَ في التراب دفنيا
من خير أديان البرية دينا
من خير أديان البرية دينا
و ممّا أنشده أبوطالب، و كان كثيراً ما يخاف على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله البَيَات إذا عُرِف مضجعه، فكان يُقيمه ليلاً من منامه، و يُضجع ابنه علياً مكانه، فقال له عليّ ليلةً: إنّي مقتول، فقال أبوطالب:
اصبرن يابُنيّ فالصبر أحجى
كلّ حيٍّ مصيره لشعوب
كلّ حيٍّ مصيره لشعوب
كلّ حيٍّ مصيره لشعوب
قدّر اللَّه و البلاء شديد
لفداءِ الحبيب و ابن الحبيبِ
لفداءِ الحبيب و ابن الحبيبِ
لفداءِ الحبيب و ابن الحبيبِ
أتامرنى بالصبر في نصر أحمد
سأسعى لوجه اللَّه في نصر أحمد
نبيّ الهدى المحمود طفلاً و يافعا
و و اللَّه ما قلت الذي قلت جازعا
نبيّ الهدى المحمود طفلاً و يافعا
نبيّ الهدى المحمود طفلاً و يافعا
و من شعره المشهور:
أنت النبيّ محمدٌ
لمسوّدين أكارم
طابوا و طاب المولدُ
قرمٌ أعزّ مسوّدُ
طابوا و طاب المولدُ
طابوا و طاب المولدُ
و من أشعاره الدالة على إقراره بالدين الخاتم قوله:
يا شاهد اللَّه عليَّ فاشهد
يا شاهد اللَّه عليَّ فاشهد
أني على دين النبي أحمد
أني على دين النبي أحمد
من ضلّ في الدين فاني مهتد
من ضلّ في الدين فاني مهتد
[ مستدرك ديوان أبي طالب، ص 89؛ شرح ابن أبي الحديد، ج 14، ص 78. ]
و منها إقراره بالشهادتين عند الموت
قال ابن أبي الحديد: و الخبر مشهور أن أباطالب عند الموت قال كلاماً خفياً، فأصغى إليه أخوه العباس، ثمّ رفع رأسه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: يابن أخي، و اللَّه لقد قالها عمّك، و لكنه ضعف عن أن يبلغك صوته. [ شرح ابن أبي الحديد، ج 14، ص 71. ]
و روى ابن هشام و الحلبي: أنّه لمّا تقارب من أبي طالب الموت، نظر العباس إليه يحرّك شفتيه، قال: فأصغى إليه باُذنه قال: فقال: يابن أخي، و اللَّه لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها، قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ''لم أسمع''. [ السيرة النبوية لابن هشام، ج 2، ص 59؛ السيرة الحلبيّة، ج 2، ص 46. ]
فعدم سماعه صلى الله عليه و آله كان لضعف صوته عن أن يبلغ النبي صلى الله عليه و آله كما في الخبر المتقدّم عن ابن أبي الحديد.
و روي عن علي عليه السلام أنّه قال: ''ما مات أبوطالب حتى أعطى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من نفسه الرضا''. [ شرح ابن أبي الحديد، ج 14، ص 71. ]
و منها أنّه غسّله اميرالمؤمنين بأمر النبي
روى الحلبي عن البيهقي: أنّ علياً عليه السلام غسّل أبا طالب بأمر النبي صلى الله عليه و آله له بذلك. [ السيرة الحلبية، ج 2، ص 47. ]
و عنه أيضاً: عن عليّ عليه السلام: لمّا أخبرتُ النبي صلى الله عليه و آله بموت أبي طالب بكى و قال: اذهب فغسّله و كفّنه و واره، غفر اللَّه له و رحمه. [ نفس المصدر. ]
و لا ريب أنّه لا يجوز للمسلم أن يتولّى غسل الكافر، و لا يجوز للنبي صلى الله عليه و آله أن يأمر بغسل كافر، و لا أن يرقّ لكافر، و إنما كان ذلك دليلاً على أن أباطالب مات مسلماً رحمه اللَّه و أسكنه فسيح جنانه.
و خلاصة القول في عدم إظهار أبي طالب لايمانه و المجاهرة به، أنّه لو أظهر أيمانه لم يتهيّأ له من نُصرة النبي صلى الله عليه و آله ماتهيّأ له، و كان كواحدٍ من المسلمين الّذين اتّبعوه، و لم يتمكّن من أداء دوره في نصرته و القيام دونه حينئذٍ، و إنّما تمكّن أبوطالب من المحاماة عنه بالثبات في الظاهر على دين قريش و إن أبطن الإسلام، فكان مثله كمثل مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه، رضي اللَّه عنه و أرضاه.
امّه فاطمة بنت أسد
قال ابن عبدالبر المالكي: و اُم علي بن أبي طالب، فاطمة بنت أسد بن هاشم ابن عبد مناف، و هي أول هاشمية ولدت لهاشمي. توفّيت مسلمة قبل الهجرة، و قيل: إنها هاجرت. [ الاستيعاب بهامش الاصابة لابن حجر، ج 3، ص 26. ]
قال ابن الجوزي الحنفي: أنّ فاطمة أسلمت و هاجرت إلى المدينة، و توفّيت بها سنة أربع من الهجرة، و شهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جنازتها، و صلّى عليها و دعا لها، و دفع لها قميصه فألبسها إيّاه عند تكفينها. [ تذكرة الخواص لابن الجوزي، ص 20. ]
و عنه أيضاً عن ابن عبّاس قال: و فيها نزلت ''يَأيّهَا النَّبيُّ إذا جَاءَكَ المُؤمِنَاتُ يُبَايعنَكَ'' [ الممتحنة، 12. ] الآية، قال: و هي أوّل امرأة هاجرت من مكّة إلى المدينة ماشيةً حافيةً، و هي أوّل امرأة بايعت محمّداً رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بمكّة بعد خديجة. [ تذكرة الخواص، ص 20. ]
قال ابن الصبّاغ المالكي: أُمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، تجتمع
هي و أبوطالب في هاشم، أسلمت و هاجرت مع النبيّ صلى الله عليه و آله، و كانت من السابقات إلى الإيمان بمنزلة الاُمّ من النبيّ صلى الله عليه و آله، فلمّا ماتت كفّنها النبيّ صلى الله عليه و آله بقميصه، و أمر اُسامة بن زيد و أبا أيّوب الأنصاري و عمر بن الخطّاب و غلاماً أسود فحفروا قبرها، فلمّا بلغوا لحدها حفره رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بيديه و أخرج ترابه، فلمّا اضطجع فيه، قال:
''اللَّه الّذي يحيي و يميت و هو حيٌّ لا يموت، اللّهمَّ اغفر لاُمّي فاطمة بنت أسد و لقّنها حجّتها، و وسّع عليها مدخلها بحقّ نبيّك محمّد و الأنبياء الّذين من قبلي، فإنّك أرحم الراحمين''.
فقيل: يا رسول اللَّه، رأيناك وضعت شيئاً لم تكن وضعته [ كذا، و الظاهر: صنعت شيئاً لم تكن صنعته ... . ] بأحد قبلها؟
فقال: ''ألبستها قميصي لتلبس من ثياب الجنّة، و اضطجعت في قبرها ليخفّف عنها من ضغطة القبر، إنّها كانت من أحسن خلق اللَّه صنعاً إليَّ بعد أبي طالب''. [ الفصول المهمة، ص 31. ]
زواجه من فاطمة
يدور بحثنا هنا حول زواج فاطمة عليهاالسلام من علي بن أبي طالب عليه السلام و بعض فضائل فاطمة عليهاالسلام اختصاراً:
عمرها الشريف
اختلفت العامّة و الخاصّة في تاريخ ولادتها و وفاتها، و في عمرها الشريف.
و المشهور بين علماء الخاصّة أنّ ولادتها كانت في جمادى الآخرة يوم العشرين منه، سنة خمس و أربعين من مولد النبيّ صلى الله عليه و آله- يعني سنة خمس من المبعث- فأقامت فاطمة مع أبيها بمكّة ثمانية سنين، و هاجرت إلى المدينة مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، و عاشت في المدينة عشر سنين، و بعد أبيها أربعين أو خمسة و سبعين أو تسعين يوماً، و يكون عمرها الشريف ثمان عشرة سنة و أياماً. [ راجع: تذكرة الخواص، ص 321. ]
قال ابن الصبّاغ المالكي، عن الشيخ كمال الدين بن طلحة: ولدت فاطمة بنت رسول اللَّه عليهاالسلام قبل النبوّة و البعث بخمس سنين، و قريش تبني البيت، و تزوجّها