فمن آدم أبي البشر، العلم، فإنّ اللَّه تعالى خصّه بأنّه علّمه الأسماء كلّها ثمّ أبان فضله بذلك، و نوّه بعلمه حيث عرض على الملائكة أسماء المسمّيات، و طلب منهم إنباءه بأسمائها فعجزوا، و طلب من آدم إنباءهم، فأنبأهم عليه السلام بها، فهذه فضيلة من أشرف فضائل آدم الّتي شرف بها بين الملأ الأعلى. و شبّهه بنوح عليه السلام في فهمه، لأنّه أمره اللَّه تعالى بصنعة الفلك، و فيها من دقائق الإحكام و الإتقان ما لا تحصره الأقلام، و لا تدركه الأفهام، و كانت لم تعرف و لا أهتدى إليها فكر قبل ذلك، و كان فيها من الإتقان و البيوت الّتي جعلها له و لمن معه و الأنعام و الوحوش و السباع، و اختلافها طولاً و عرضاً كجؤجؤ طائر، و قد جعل اللَّه الحمل فيها من آياته، حيث قال: 'و آيةٌ لهم أنّا حَمَلنا ذُرِّيَتَهُمْ في الفُلْك المَشحُون' [ يس، 41. ] و عدّ الامتنان بها في الذّكر في عدّة من الآيات، فالمراد فهمه لما ألهمه من صنعتها،و لذلك جعل صنعتها مقيدة بأعيننا في قوله: 'وَ اصنَعِ الفُلْكَ بأعيُنِنا' [ هود، 37. ] و يحتمل أن يكون المراد فهمه العام في صنعة الفلك و غيره ممّا فهّمه عن اللَّه تعالى و أمره. و يمكن أن يقال كذلك في تشبيهه بنوحٍ في حكمه، كما في الحديث الثاني. و شبّهه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالخليل في حلمه، و هو من أشرف الصفات،و لذلك قيل: ما نعت اللَّه الأنبياء بأقلّ ما نعتهم بالحلم، و ذلك لعزّة وجوده، و لقد نعت اللَّه إبراهيم عليه السلام بقوله: 'إنَّ إبراهيمَ لأوّاهٌ حَلِيمٌ' [ يس، 41. ] و قوله: 'إنَّ إبراهِيمَ لَحَلِيمٌ أوّاهٌ مُنِيبٌ' [ هود، 37. ] و من حلمه عليه السلام الّذي تخفّ عنه رواسي الجبال، امتثاله لأمر اللَّه تعالى بذبح ولده عليه السلام و إضجاعه و كتفه له، و إمرار المدية [ المدية:السكيّن. ] على حلقه، لو لا منع اللَّه لها أن تقطع، فلهذا وصفةها للَّه و وصف ولده بالحلم. و شبّهه صلى الله عليه و آله بيحيى بن زكريّا عليه السلام في زهده، إذ يحيى عليه السلام هو عَلَمُ الزَّهادة في أبناءِ آدم مَن تأخّر منهم و من تقدّم، و قد ملئت الكتب بالكثير من صفات زهده. و شبّهه صلى الله عليه و آله بكليم اللَّه في بطشه، و كان موسى عليه السلام شديد البطش، و يكفيك أنَّه عليه السلام و كز القبطي فقضى عليه، و أراد البطش بالآخر، و هو في بلد فرعون، و كان بنو إسرائيل أرقّاء في يد فرعون، و كان القبط أهل الصولة و الشوكة و الدولة. و شبّهه صلى الله عليه و آله في الحديث الآخر بيوسف في جماله، و يوسف في جماله شمس لا يزيدها الوصف إلّا خفاءً، فهي أظهر من أن تظهر.
المراد من التشبيه
لعلّ الهدف من أحاديث تشبيهه عليه السلام بالأنبياء "صلوات اللَّه عليهم" هو: 1-أنّ عليّاً 7 يمتلك كلّ صفات الأنبياء المُثلى، بل إنّه جمع من كلّ نبيّ صفة الكمال الّتي خصّه اللَّه تعالى بها، و لا شك أنّ من يجمع صفات الأنبياء عليهم السلام الكماليّة لابدّ أن يكون أتمّ و أكمل و أفضل منهم بعد الرّسول صلى الله عليه و آله، لأنّ ثمّة علاقة بين أوصاف الأنبياء و بين أفضليتهم على البشر. 2- مراد الرّسول من هذا التشبيه تعيين الخليفة و الإمام من بعده، و أنّه عليه السلام يملك الأهلية لولاية المسلمين بما يحمله من صفات الفضيلة. إذ من يمتلك صفات الأنبياء المُثلى فهو أكمل و أتمّ و أفضل من غيره بعد نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله، و هو أليق بمقام الخلافة و الوصايه بعده صلى الله عليه و آله.
حديث علي مع القرآن
من الفضائل المختصّة بعليّ بن أبي طالب عليه السلام قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'عليّ مع القرآن و القرآن مع عليّ، لن يفترقا حتّى يَرِدا عليَّ الحوض'. [ مستدرك الحاكم، ج 3، ص 124؛ كنزالعمال، ج 11، ص 603. ] كان عليّ عليه السلام منذ بداية نزول الوحي إلى جنب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، و لم يفارقه في حالة إلّا موارد نادرة طلب فيها إذنه صلى الله عليه و آله مثل ليلة المبيت، و غزوة تبوك، و البعث إلى اليمن، و كان ما زال حامياً و ناصراً لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، و حتّى لحظة وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، حيث كان رأسه صلى الله عليه و آله في حجره عليه السلام، و لهذا اختصّ عليّ عليه السلام بمعرفة كلّ ما نزل من الوحي على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، و كان طبيعياً أنّه يعلم خصوصيّات الوحي من ساعات النزول و دقائقه إلى لحظات آخر عمره المبارك صلى الله عليه و آله، و من أنّه نزل في الليل أو النهار، فى السهل أو الجبل، في الحضر أو السفر، و على من و لمن نزل، و يعلم ناسخه و منسوخه، عامّه و خاصّه، ظاهره و متشابهه، و هو يعلم إعرابه وترتيب نزوله... خصوصاً أنّه صلى الله عليه و آله وصّاه بجمع القرآن حتّى لا يضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة. و أيضاً فقد أملاه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على عليّ عليه السلام و هو يكتبه، و دعا اللَّه تعالى له عليه السلام أن يعلّمه فهمه و حفظه، واستجاب اللَّه دعاءه صلى الله عليه و آله فصار عليه السلام حافظاً للقرآن، و عالماً بمفاهيمه، كيف و قد علّمه صلى الله عليه و آله ألف باب من العلم ينفتح له من كلّ باب ألف باب. و أدلّ دليل و شاهد على ذلك حديث الثقلين قوله صلى الله عليه و آله: 'إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللَّه، و عترتي' فإنّ عليّاً و أهل بيته عليهم السلام جعلوا في هذا الحديث أعدال القرآن، و مع كل هذا فهل يصلح أحد للإمامة و الخلافة و إقامة أحكام القرآن و الوحي بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و تفسيره غير علي عليه السلام؟
حديث علي مع الحق
إنّ أحد الأحاديث المتواترة من طريق الفريقين هو قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ، و لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض يوم القيامة'. [ تاريخ بغداد، ج 14، ص 321؛ مستدرك الحاكم، ج 3، ص 24؛ كنزالعمال، ج 11، ص 603؛ فرائد السمطين، ج 1، ص 176، ح 139. ] روى ابن عساكر الشافعي بسنده عن أبي ثابت مولى أبي ذر، قال: دخلت على اُمّ سلمة فرأيتها تبكي و تذكر علياً، و قالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول:'عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ، و لن يفترقا حتّى يردا على الحوض يوم القيامة'. [ ترجمة الامام عليّ من تاريخ دمشق، ج 3، ص 199، ح 1162. ] و عنه أيضاً، عن أبي ليلى الغفاري، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: 'ستكون من بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب، فإنّه أوّل من يراني، و أوّل من يصافحني يوم القيامة، و هو معي في السماء الأعلى، و هو الفاروق بين الحقّ و الباطل'. [ نفس المصدر، ج 3، ص 112، ح 1164. ] و روى الترمذي بسنده عن عليّ عليه السلام- في حديث- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'رحم اللَّه علياً، اللهمّ أدر الحقّ معه حيث دار'. [ سنن الترمذي، ج 5، ص 633، ح 3714؛ المستدرك، ج 3، ص 124. ] و في فرائد السمطين بسنده عن شهر بن حوشب، قال: كنت عند أُمّ سلمة إذ استأذن رجلٌ فقالت له: من أنت؟ قال: أنا أبوثابت مولى علي بن أبي طالب عليه السلام، فقالت أُمّ سلمة: مرحباً بك- يا أباثابت- ادخل، فدخل فرحّبت به، ثمّ قالت: يا أباثابت، أين طار قلبك حيث طارت القلوب مطائرها؟ فقال: مع عليّ عليه السلام. قالت: وفّقت و الذي نفسي بيده، لقد سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: 'عليّ مع الحقّ و القرآن، و الحقّ و القرآن مع عليّ، و لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض'. [ فرائد السمطين، ج 1، ص 176، ح 160. ] و في تفسير الرازي: أما إنّ علي بن أبي طالب كان يجهر بالتسمية، فقد ثبت بالتواتر، و من اقتدى في دينه بعليّ بن أبي طالب فقد اهتدى، و الدليل عليه قوله صلى الله عليه و آله: 'اللّهم أدر الحقّ مع عليّ حيث دار'. [ التفسير الكبير، ج 1، ص 205. ] فاتّضح من هذه المسانيد أنّه لا شكّ في صدور الحديث، و إنّما الكلام في وجه صدوره، و لماذا تكلّم النبيّ صلى الله عليه و آله بهذه الكلمات في حقّه عليه السلام؟ لا شك أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله كان يرى بنور الوحي أن الفرقة و الخلاف ستقع بين المسلمين في المستقبل القريب، و سيتبع كلّ رجل جماعة خاصّة ستقف بوجه عليّ عليه السلام، و سيسلّون السيوف بوجهه، و يظهرون أنفسهم من خلال الدجل و التضليل أنّهم يمثلّون الحقّ و أنّ عليّاً على باطل، فأراد النبيّ صلى الله عليه و آله أن يحذّر المسلمين من مغبّة هذه الأحداث، فأطلق عبارات مختلفة، منها: "علىّ مع الحقّ، و الحقّ مع عليّ" و ذلك لئلاّ يقف أصحابه و بقيّة المسلمين في مواجهة عليّ عليه السلام- أي الحقّ- و لتكون الحجّة قد تمّت عليهم بذلك، و لئلاّ يسيروا في طريق الضلال بعد هذا البيان و هم يظنّون أنّهم يسلكون سبيل الحقّ، و لئلا يظنّوا فيما بعد أنّ الحرب ضدّ عليّ عليه السلام جهاد في سبيل اللَّه، و ليعلموا أنّ عليّاً عليه السلام أحقّ النّاس بالخلافة، و ليست الخلافة إلّا له، و كلّ من يتّبع غير سبيل عليّ عليه السلام فقد ضلّ و اتّبع الباطل. و يدلّ على ذلك ما أخرجه الجويني بسنده عن علقمة و الأسود قالا: أتينا أبا أيّوب الأنصاري، فقلنا له: يا أباأيّوب، إنّ اللَّه تعالى أكرمك بنبيّه صلى الله عليه و آله فيالك من فضيلة من اللَّه فضلّك بها، أخبرنا بمخرجك مع عليّ تقاتل أهل 'لا إله إلّا اللَّه'؟!. فقال أبوأيّوب: فإنّي اُقسم لكم باللَّه، لقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله معي في هذا البيت الّذي أنتما فيه معي، و ما في البيت غير رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و عليٌّ جالس عن يمينه، و أنا جالس عن يساره، و أنس قائم بين يديه،إذ حُرّك الباب، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'يا أنس، افتح لعمّار الطيّب المطيّب' ففتح أنس الباب، و دخل عمّار، فسلّم على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فرحّب به، ثمّ قال لعمّار: 'إنّه سيكون في أُمّتي من بعدي هنات حتّى يختلف السيف فيما بينهم، و حتّى يقتل بعضهم بعضاً، و حتّى يبرأ بعضهم من بعض، فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع الّذي عن يميني- يعني عليّ بن أبي طالب عليه السلام- و خلّ عن النّاس. يا عمّار، إنّ عليّاً لا يردّك عن هدى، و لا يدلّك على ردى. يا عمّار، طاعة عليّ طاعتي، و طاعتي طاعة اللَّه عزّوجلّ'. [ فرائد السمطين، ج 1، ص 178، ح 141. ] هذا و قد ثبت بالاسانيد الصحيحة أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال لعمار بن ياسررضى الله عنه: يا عمار، تقتلك الفئة الباغية، [ صحيح البخاري، كتاب الصلاة، ج 1، ص 194؛ صحيح مسلم، كتاب الفتن، ج 4، ص 70/2235 و 72و73 ؛ مسند أحمد، ج 2، ص 161 و 164. ] و هو يدلّ بوضوح على أنّ الفئة التي قاتلت علياً عليه السلام كانت باغية، و أنّ علياً عليه السلام كان مع الحقّ و الحقّ معه حيثما حلّ.