هذه الآية تدلّ بصراحة على فضله عليه السلام في السخاء الذي هو من أشرف مكارم الأخلاق، و أنّ اللَّه قد قبل ذلك منه بأحسن القبول و أنزل آية فيه، و وصفه فيها بأنه من الآمنين يوم القيامة بحيث لا يعتريه شي ءٌ من الخوف و الحزن عند أهوال ذلك اليوم، و هذه من صفات الأولياء و الأصفياء، فبذلك و أمثاله استحق التفضيل على سائر الصحابة، و لو فرض اتصاف الصحابة ببعضها فلا شك في اختصاصه عليه السلام باستجماعها.
و أنشأ الحميري في ذلك:
و أنفق ماله ليلاً و صبحاً
و صدق ماله لمّا أتاه
الفقير بخاتم المتختّمينا
و إسراراً و جهر الجاهرينا
الفقير بخاتم المتختّمينا
الفقير بخاتم المتختّمينا
[ المناقب لابن شهر آشوب، ج 2، ص 71. ]
آية الإيثار
لم يكن أحدٌ أكمل و أعلا في الإنفاق و الإيثار من علي و فاطمه و الحسن و الحسين عليهم السلام بعد الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، و لعل ما يجلب النظر هو نزول أكثر من آية في شأنهم، منها: ''و يُؤثِرونَ عَلى أَنفُسِهم و لَو كَانَ بِهِم خَصاصة''. [ الحشر، 9. ]
عن أبي هريرة: أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فشكا اليه الجوع، فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى بيوت أزواجه فقلن: ما عندنا إلّا الماء! فقال: ''من لهذا الليلة؟'' فقال علي عليه السلام: ''أنا يا رسول اللَّه''، و أتى فاطمة فأعلمها، فقالت: ''ما عندنا إلّا قوت الصبية، لكنّا نؤثر به ضيفنا''، فقال علي عليه السلام: ''يا بنت محمد، نَوِّمي الصبية، و أطفئي للضيف السراج''، ففعلت و عشّى الضيف، فلمّا أصبح أنزل اللَّه عليهم هذه الآية ''و يُؤثِرُونَ عَلى أَنفسهم'' الآية. [ شواهد التنزيل، ج 2، ص 246، ح 270. ]
و عن ابن عباس، في قوله تعالى: ''و يُؤثِرُونَ على أنفسهم'' الآية، قال: نزلت في علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام. [ نفس المصدر. ]
امّا الأحاديث فهي
حديث الثقلين
إنّ من جملة الأحاديث المعتبرة التي رويت عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله في فضل علي عليه السلام و عترته الطاهرة هو حديث الثقلين الذي حدّث به النبيّ صلى الله عليه و آله في آخر سنة من سني عمره الشريف في مواضع عدّة، اجتمع فيها خلق كثير من الناس، و في مناسبات هامة تكتظّ بالناس عادة، فقد قاله في عرفة، و في مسجد الخيف بمنى، و في غدير خمّ، و في أواخر أيّام عمره المبارك، و في مرضه الّذي توفّي فيه، في كلّ هذه الموارد كان النبيّ صلى الله عليه و آله يلفت أنظار أصحابه و يوجّه اهتمامهم نحو جوهرتين ثمينتين هما: القرآن، و عترته المعصومين عليهم السلام. و حتّى في آخر لحظات حياته المباركة حيث أو شك على مفارقة الدّنيا، و حيث يكون الناس عادة أكثر اهتماماً بما يقوله قائدهم و زعيمهم، و يصغون بكلّ أعماقهم لكلماته، فإنّه قال: ''إنّي أو شك أن اُدعى فأُجيب، و إنّي تارك فيكم الثّقلين: كتاب اللَّه، و عترتي، كتاب اللَّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي، إنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض، فانظروني
بما تخلفوني فيهما''. [ المناقب لابن المغازلي، ص 235، ح 281. ]
لقد روي هذا الحديث مع تفاوت في لفظه عن النّبي صلى الله عليه و آله متواتراً من طرق الفريقين، و قد أخرجه أرباب الصحاح و السنن و المسانيد. [ راجع: سنن الترمذي، ج 5، ص 3786/662، مصابيح السنة، ج 4، ص 4800/185؛ مسند أحمد، ج 3، ص 14؛ سنن الدارمي، ج 2، ص 432؛ فضائل الصحابة، ج 2، ص 1035/603؛ الخصائص للنسائي، ص21؛ السيرة الحلبية، ج 3، ص 336؛ تفسير الرازي، ج 8، ص163؛ تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص112؛ تفسير ابن كثير، ج 4، ص 122؛ العقد الفريد، ج 4، ص 126؛ تاريخ ابن عساكر، ج 2، ص 536/36؛ مجمع الزوائد، ج 9، ص 163 و 164؛ الجامع الصغير، ج 1، ص 1608/244؛ الصواعق المحرقة، باب 11، فصل 1، ص 149؛ خصائص السيوطي، ج 2، ص 466؛ ذخائر العقبى، ص 16 و غيرها من المصادر. ]
ففي هذا الحديث جعل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله التمسّك بأهل البيت عليهم السلام و الالتزام بأقوالهم و اعتبارها حجّة في أُصول الدّين و فروعه، عدل الكتاب، فكما أنّ القرآن الكريم حجّة على الجميع و يجب التمسك به، فإنّ النبيّ صلى الله عليه و آله جعل العترة الطاهرة عِدل القرآن ليعلم الناس أنّ التمسك بأقوالهم و أفعالهم واجب عليهم.
ففي صحيح مسلم، في حديث الغدير، عن زيد بن أرقم، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: ''أيّها الناس، إنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأُجيب، و أنا تارك فيكم ثقلين: أوّلهما كتاب اللَّه فيه الهدى و النور فخذوا بكتاب اللَّه و استمسكوا به، فحثّ على كتاب اللَّه و رغّب فيه، ثمّ قال: و أهل بيتي، اُذكّركم اللَّه في أهل بيتي، اُذكّركم اللَّه في أهل بيتي، أُذكّركم اللَّه في أهل بيتي''. [ صحيح مسلم، ج 7، ص 122. ]
و روى الحاكم النيشابوري عن زيد بن أرقم عن النبيّ صلى الله عليه و آله نحوه. [ مستدرك الحاكم، ج 3، ص 109. ] و واضح
أنّ التمسّك بالكتاب هو الأخذ بما فيه، و التمسّك بالعترة هو الأخذ بأقوالهم و سنّتهم، فأقوالهم و سنّتهم حجة شرعية إلهية، فعلى الأُمة الإسلامية التمسك بالعترة الطاهرة في الأعمال و الأقوال، و لا أظنّ أنّ أحداً يجرؤ على القول بأنّ قول أئمة المذاهب الأربعة مقدّم على قول الأئمة الطاهرين الذين هم سفن نجاة الأمّة و باب حطّتها و أعلام هدايتها و باب علم النبيّ صلى الله عليه و آله، و لذلك قال النبيّ صلى الله عليه و آله في شأن الكتاب العزيز و العترة الطاهرة: ''فلا تُقَدِّموهما فتهلكوا، و لا تعلّموهما فإنّهما أعلم منكم''. [ تفسر الدّر المنثور، ج 2، ص 60. ]
حديث سدّ الأبواب
عندما هاجر الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله إلى المدينة، شرع في بناء المسجد فيها، و قد كانت هناك مجموعة من المهاجرين الّذين لا يمتلكون وسائل السكنى يعرفون بأصحاب الصُفّة، و قد اتخذوا من مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مقرّاً، و داراً لهم، و لمّا كان المسجد يُشكِّل قاعدة الإسلام و المسلمين و ركيزتهم، فقد أمرهم الرّسول الأعظم صلى الله عليه و آله أن يتركوه، و بعد ذلك اتخذ المهاجرون و الأنصار بيوتاً قرب مسجد رسول اللَّه، و جعلوا أبوابها تفتح إلى داخل المسجد، بحيث يستطيعون الذهاب و الإياب من هذه الأبواب، و أن يدخلوا المسجد للعبادة، و قد كان بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و بيت عليّ عليه السلام قرب المسجد أيضاً، و يفتح بابهما إلى المسجد أيضاً، حتّى نزل جبرئيل عليه السلام على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و أبلغه بسدّ كلّ الأبواب الّتي تفتح إلى المسجد، و أن يمنع الدخول و الخروج منها إلّا باب الرّسول صلى الله عليه و آله و باب عليّ عليه السلام.
و من الطبيعي أنّ جماعة من الصّحابة قد سألوا عن السبب، و آخرون اعترضوا على الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله و تساءلوا ما الفرق بين علي عليه السلام و بين الآخرين؟.
و قد أجابهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله - بعد أن حمد اللَّه و أثنى عليه-: ''بأنّ هذا إنّما تمّ بأمر من اللَّه تعالى، و إنّني لم أسدّ باباً و لم أفتح باباً إلّا بأمره عزّوجلّ''.
و من خصوصيات هذه الحادثة أنّه ليس لأحد حقّ المرور من المسجد جُنباً إلّا رسول اللَّه و عليّ و فاطمة و أولادهم المعصومين "صلوات اللَّه عليهم"، و هذه من خصوصيّاتهم، و فيما يلي نذكر بعض الأحاديث الواردة في هذا الخصوص:
1- روى الترمذي عن ابن عباس، قال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أمر بسدّ الأبواب إلّا باب علي عليه السلام. [ سنن الترمذي، ج 5، ص 3732/641. ]
2- و أخرج الهيثمي بسنده عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: ''أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بيدي فقال: إنّ موسى سأل ربَّه أن يطهّر مسجده بهارون، وإنّي سألتُ ربّي أن يُطهّر مسجدي بك و بذريّتك، ثمَّ أرسل إلى أبي بكر أن سدّ بابك، فاسترجع ثمَّ قال: سمعاً و طاعة، فسدّ بابه، ثم أرسل إلى عمر، ثمَّ أرسل إلى العبّاس بمثل ذلك، ثمَّ قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ما أنا سددتُ أبوابكم و فتحت باب علي، و لكنّ اللَّه فتح باب علي و سدّ أبوابكم''. [ مجمع الزوائد، ج 9، ص 114. ]
3- و في تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي، بسنده عن عوف الأعرابي، عن ميمون الكردي، قالا: كنّا عند ابن عبّاس، فقال رجل: ليته حدّثنا عن علي عليه السلام، فسمعه ابن عبّاس، فقال: ''أما لأحدّثنّك عنه حقّاً، أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أمر بالأبواب الشارعة في المسجد فسدّت، و ترك باب عليّ عليه السلام، فقال: إنّهم وجدوا من ذلك، فأرسل إليهم أنّه بلغني أنّكم وجدتم من سدّي أبوابكم و تركي باب عليّ، و إنّي و اللَّه ما سددتُ من قِبلَ نفسي، و لا تركتُ من قِبلَ نفسي، إن أنا إلّا عبدٌ، و إنّي و اللَّه
اُمرتُ بشي ء ففعلت، إن اتّبع إلّا ما يوحى إليّ''. [ ترجمة الإمام عليّ من تاريخ دمشق، ج 1، ص 253، ح 323. ]
4- و في المناقب لابن المغازلي الشافعي، بسنده عن البراء بن عازب، قال: كان لنفر من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أبواب شارعة في المسجد، و إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: ''سدّوا الأبواب غير باب علي'' قال: فتكلّم في ذلك اُناس، قال: فقام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فحمد اللَّه و أثنى عليه، ثمّ قال: ''أمّا بعد، فإنّي اُمرتُ بسدّ هذه الأبواب غير باب علي، فقال فيه قائلكم، و إنّي و اللَّه ما سددت شيئاً، و لا فتحته، و لكنّي اُمرتُ بشي ء فاتّبعتُه''. [ المناقب لابن المغازلي، ص 257، ح 305، و انظر نحوه في ترجمة الامام علي من تاريخ دمشق، ج 1، ص 257، ح 329. ]
5- و روى أحمد في المسند بسنده عن زيد بن أرقم، نحو مافي المناقب. [ مسند أحمد، ج 4، ص 369. ]
6- و في المناقب للخوارزمي بإسناده عن أبي ذرّ، قال: لمّا كان أوّل يوم في البيعة لعثمان ليقضي اللّة أمراً كان مفعولاً ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حيَّ عن بيّنة، فاجتمع المهاجرون و الأنصار في المسجد، و نظرت إلى عبدالرحمن بن عوف و قد اعتجر بريطة، [ الرَّيطة: كلّ ثوب لين رقيق، و اعتجر بها: لفّها على رأسه. ] و قد اختلفوا و كثرت المناجزة، إذ جاء أبوالحسن عليه السلام- فحمد اللَّه و أثنى عليه ثمّ ناشدهم بمفاخره و مناقبه إلى أن قال:- ''هل تعلمون أنّ أحداً كان يدخل المسجد جُنباً غيري؟'' قالوا: اللّهمّ لا، قال: ''فأنشدكم هل تعلمون أنّ أبواب المسجد سدّها و ترك بابي بأمر اللَّه؟'' قالوا: اللّهمّ نعم. [ المناقب لأخطب خوارزم، ص 213. ]
7- و في مستدرك الحاكم، عن أبي هريرة، قال: قال عمر بن الخطاب: لقد أُعطي علي بن أبي طالب ثلاث خصال، لئن تكون لي خصلة منها أحبّ إليَّ من أن اُعطى حُمر النعم. قيل: و ما هنّ، يا أميرالمؤمنين؟.
قال عمر: تزوّجه فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وسكناه المسجد مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يحلّ له فيه ما يحلّ له، و الراية يوم خيبر. [ مستدرك الحاكم، ج 3، ص 125. ]
و لقد روي حديث سدّ الأبواب إلّا باب عليّ عليه السلام كثير من علماء أهل السنّة في كتبهم بطرق مختلفة فراجعها. [ سنن الترمذي، ج 5، ص 3727/639؛ المستدرك على الصحيحين، ج 3، ص 134؛ تاريخ بغداد، ج 7، ص 205؛ مجمع الزوائد، ج 9، ص 284؛ خصائص السنائي، ص 4؛ حلية الأولياء، ج 4، ص 153؛ فضائل الصحابة لأحمد، ج 2، ص 985/581. ]
الهدف الحاصل من واقعة سدّ الأبواب
لاشكّ أن هذه الفضيلة كانت من الفضائل الفريدة لأميرالمؤمنين عليه السلام، تميّز بها عن ساير الصحابة، و لعلّ السماح له عليه السلام بالعبور من مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله و هو في حال الجنابة، الأمر الذي يعتبر من خصوصيات النبيّ، لم يكن نتيجة القرب العائلي من الرّسول صلى الله عليه و آله لأن حمزة سيّد الشهداء و عمّ الرّسول أقرب منه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، لكنّه لم يكن من المعصومين عليهم السلام، فالظاهر من الرّوايات أنّ الإمام عليه السلام قد اكتسب هذه الفضيلة للياقته لها و لقوّة نفسه و سمّو روحه، فهو قرين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في مثل هذه الفضائل، بل و يتمثّل فيه كلّ خصوصيّات الرّسول إلّا النبوّة.
و من هنا يتّضح لنا بشكل جليّ أنّ الهدف من سدّ الأبواب هو أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أراد أن يُفهم الآخرين بسموّ مقام أميرالمؤمنين عليه السلام و اقترانه معه في سائر الفضائل والمناقب التي اختصه اللَّه تعالى بها دون مَن عداه من الأصحاب، و من هنا كانت مثار إعجابهم، فقال عمر كما تقدم: ''و سُكناه المسجد مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يحلّ له فيه ما يحلّ له''.