دراسة تحلیلیة فی السیرة النبویة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

دراسة تحلیلیة فی السیرة النبویة - نسخه متنی

عباس زریاب الخوئی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

وهو صخر بن حرب بن امية،
وكان يعد من المانويين،
احداشراف قريش وعظمائها، كانت له منزلة رفيعة بسبب
انتسابه الاسري، وقد تحولت له زعامة قريش
وقيادتها بعد مقتل
ابي جهل في معركة بدر، وكان قائدا لقريش في جميع
حروبها
مع المسلمين، وقد تزوجت ابنته ام حبيبة من رسول
اللّه(ص)
بعدوفاة زوجها عبيداللّه بن جحش، وكان ابو سفيان من
اعداءالرسول(ص) حين كان في مكة وبعد الهجرة الى
المدينة،وكثيرا ما كان يشترك مع الجماعات المعادية
للرسول(ص)، بل كان عنصرا مهما فيها، ويبدو انه كان
عدوا
عاقلا اذ لم يشترك في ايذاء الرسول وتعذيب
المسلمين.

لقد
اسلم ابو سفيان في فتح مكة، وقال الرسول(ص): «من دخل
بيت ابي سفيان فهوآمن».

وقد اعط ي مع ابنائه اسهما
مهمة
من الغنائم التي حصل عليها المسلمون بعد فتح مكة،
ويدل هذا
على ان عداءه لرسول اللّه(ص) لم يكن شديدا بالدرجة
التي تثير
غضب الرسول كثيرا.

ابو لهب:
وهو من الد اعداء الرسول(ص)، وكانت لابي لهب
مكانة خاصة،
فهو من بني هاشم وعم الرسول الاكرم(ص)، ولم يعرف
السر
في هذا العداء المستفحل الذي كان يظهره ابولهب ازاء
الرسول(ص) ودعوته المباركة.

لقد بلغ عداء ابي لهب واذيته لرسول اللّه(ص) الى
الحد
الذي نزلت معه سورة من القرآن الكريم في ذمه
وتقريعه، وذكر
فيهااسمه صراحة، في وقت لم يذكر فيه القرآن الكريم
اسماءالاشخاص الا قليلا.

كان ينبغي لابي لهب ان يقف
موقف المدافع والمحامي عن رسول اللّه(ص) كباقي
اعمامه،
طبقاللاعراف العائلية والقبلية، او على اقل تقدير
لا يصل به
العداءالى تلك الدرجة المناقضة للاعراف العربية
حتى مع
عدم قبوله الاسلام.

كان منزل الرسول(ص) بين منزل
ابي
لهب ومنزل عقبة بن ابي المعيط، العدو الاخر لرسول
اللّه(ص)،وكان الاثنان يرميان الاوساخ والقذارات
في بيت
النبي(ص) .

«211»روى
البلاذري رواية«212» يعتقد انها تكشف عن
السبب الحقيقي وراء معارضة ابي لهب لرسول
اللّه(ص)قال:
«كان ابو لهب احد الذين يؤذون رسول اللّه(ص)،
ووقع بينه
وبين ابي طالب كلام فصرعه ابو لهب، وقعد على
صدره،وجعل
يضرب وجهه، فلما رآه رسول اللّه(ص) لم يتمالك
ان اخذ
بضبعي ابي لهب، فضرب به الارض، وقعد ابو طالب على
صدره،
فجعل يضرب وجهه، فقال ابو لهب للنبي(ص):هو عمك وانا
عمك، فلم فعلت هذا في؟ واللّه لا يحبك قلبي ابدا».

كيفية الدعوة:
ما هي الطريقة التي كان يتبعها الرسول(ص) في الدعوة
الى الاسلام والتبشير بالدين الجديد؟ تقول
الروايات:
ان دعوته(ص) كانت سرية في بداية الامر، وخلال تلك
الفترة آمن بعض ابناء قومه، وقد مرت الاشارة الى
ذكر عدد
من اسمائهم، وكان اكثر هؤلاء من شباب قريش او
الضعفاءوالمستضعفين، او اولئك الذي لا سند لهم في
قريش،
وقدامتدت فترة الدعوة السرية طبقا للرواية التي
اوردها ابن
سعدثلاث«213»
سنوات.

وفي رواية اخرى عن سعيد بن زيد
بن نفيل يقول: «استخفينا بالاسلام سنة لا نصلي الا
في بيت
مغلق او شعب خال، ينظر بعضنا لبعض».

وليس ثمة تناقض بين الروايتين، اذ يمكن ان يكون
سعيد
بن زيد قد آمن قبل سنة من اعلان الدعوة الاسلامية،
ويبدو
ان الدار المغلقة التي تحدثت عنها رواية سعيد بن
زيد هي
دارالارقم بن ابي الارقم التي كانت بمثابة مركز
الرسول(ص)الاعلامي في عرفنا الحالي، فبعد ان آمن
الارقم
وكان سابع رجل في الاسلام كما ينقل هو وضع داره في
خدمة الرسول(ص) واصحابه، وفي تصرفهم، وفي هذه
الدار
اسلم كثير من القوم حتى اصبح يؤرخ لها الدار،
فيقال: اسلم
فلان في دار الارقم، بينما اسلم فلان الاخر بعد
خروج الرسول(ص) من هذه الدار.

وتقع هذه الدار على جبل الصفا، وقد دعيت دار
الاسلام،وبعد
اسلام عمر بن الخطاب في هذه الدار تجرا
المسلمون فخرجوا
منها مكبرين متجهين نحو الكعبة للطواف.

وقد
اوقف الارقم
داره على ولده، فلم تزل هكذا حتى زعم
الخليفة العباسي ابو
جعفر المنصور انه اشتراها من ورثتها«214».

فاصدع بما تؤمر:
لا يمكن لحالة السرية والتخفي ان تستمر الى الابد،
فلقد
جاءالاسلام للناس كافة، فلا بد من اظهاره والجهر
بالدعوة اليه
ان عاجلا او آجلا، لكن الرسول(ص) كان يتردد في
اعلان الدعوة
في البداية كما يستشف من الايات القرآنية،
لضيق صدره وعدم
ارتياحه لافعال قومه وما قابلوه به من
اذية واستهزاء وصدود
حتى نزل قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمرواعرض عن
المشركين
انا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع اللّه
الها آخر فسوف
يعلمون) «الحجر: 94 96».

وانذر عشيرتك الاقربين:
قلنا ان اكثر المؤمنين الاوائل كانوا من الشباب
والضعفاء،
وكان الرسول(ص) لم يظهر دعوته بعد لاشراف قريش
وللاسرالتي تملك زمام الحل والعقد في مكة، وكان لا
بد لهذا
الامران يحصل ان عاجلا او آجلا حتى نزلت الاية
الشريفة:
(وانذرعشيرتك الاقربين) «الشعراء: 214» والايات التي
تليها.

وكان ذلك طبقا لما جاء في طبقات ابن سعد تكليفا
باهضا
لرسول اللّه(ص).

يقول ابن سعد لما انزلت الاية: (وانذر عشيرتك
الاقربين)غضبت قريش، واظهروا لرسول اللّه(ص) الحسد
والبغي،واشخص به منهم رجال«215» فان الرسول(ص)
كان على علم بعصبية اشراف مكة وشدة تمسكهم
بالتقاليدوالاعراف المبنية على الشرك وعبادة
الاصنام، اضافة
الى ذلك كانت هناك العصبيات الاسرية والقبلية،
وكذلك
التفاخر بالجاه والمقام والثروة والقوة التي كانت
من المعايير
المهمة في المجتمع الجاهلي، كل ذلك كان يمنع من ان
تسمع الاسرذات الثروة والقوة والجاه، امثال بني
مخزوم وبني
سهم وبني امية، الى رجل من بني هاشم وتطيعه.

اذ
يبدو ان
بني هاشم رغم ما كانوا عليه من شرف النسب، كانوا
يفتقدون
الى الثراءالذي كان لدى بطون قريش الاخرى، وكان
زعيمهم
ابو طالب يعيش وضعا اقتصاديا خانقا، ويتضح هذا
المعنى من
الايات الشريفة التي انزلت بعد ظهور معارضة قريش
واشرافهاللدعوة الاسلامية، وسنشير الى ذلك في
اثناء البحث.

(وماارسلنا في قرية من نذير الا قال مترفوها انا بما
ارسلتم
به كافرون وقالوا نحن اكثر اموالا واولادا وما
نحن
بمعذبين)«سبا: 34 35».

بناء على ما يظهر من الروايات المختلفة فان
الرسول(ص)
كان قد دعا اشراف قريش وحدثهم عن رسالته، ويقال
انه
لم يتعرض(ص) الى رد عنيف، رغم ان احدا منهم لم
يقبل دعوته، هذا باستثناء ابي لهب الذي خاطب بني
هاشم
قائلا: «يابني عبد المطلب، هذه واللّه لسوءة، خذوا
على يديه
قبل ان ياخذ على يده غيركم، فان اسلمتموه حينئذ
ذللتم، وان
منعتموه قتلتم».

فقال ابو طالب: «واللّه لنمنعنه
ما بقينا».

بداية معارضة قريش:
يقول ابن اسحاق: لما بادى رسول اللّه(ص) قومه
بالاسلام،وصدع به كما امره اللّه، لم يبعد عنه قومه
ولم يردوا
عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك اعظموه
وناكروه
واجمعواعلى خلافه وعداوته الا من عصم اللّه تعالى
منهم
بالاسلام،وهم قليل مستخفون«216».

وجاء في رواية الزهري: دعا رسول اللّه(ص) الى
الاسلام
سراوجهرا، فاستجاب له من شاء من احداث الرجال
وضعفاءالناس حتى كثر من آمن به، وكفار قريش غير
منكرين
لمايقول، فكان اذا مر عليهم في مجالسهم يشيرون اليه
ان
غلام بني عبد المطلب ليكلم من السماء، فكان ذلك
حتى عاب
اللّهآلهتهم التي يعبدونها دونه، وذكر هلاك آبائهم
الذين ماتوا
على الكفر، فشنفوا لرسول اللّه(ص) عند ذلك وعادوه«217».

السبب الحقيقي لمعارضة قريش:
لا سبيل لانكار ما للمعتقدات الدينية وتقديس
الاباءوالمحافظة
على آثارهم من جذور عميقة في نفوس البشر،فليس من
السهل محاربتها او القضاء عليها، بل قد يؤدي
ذلك عادة الى
العداوة والبغضاء والاستفزاز، ولكن استقراء
اوضاع المجتمع
العربي في الجاهلية بصورة عامة، وقريش او
مجتمع مكة بصورة
خاصة، لا يكشف عن مشاعر دينية قوية ومتطرفة لدى
عرب
الجاهلية، وقد نقلنا مثلا على ذلك عن
(الاصنام للكلبي) حيث
كثيرا ما كان يتعرض آلهة العرب واصنامهم
الى الاهانة والشتم
من قبل عبادهم عندما لا يجدون فيهم ما
يلبي حاجاتهم
ويحقق طموحاتهم، اذ لا يمكن ان يشتد تمسك امة ما
بالعامل
الديني في وقت ينشا فيه ابناؤها على السطو
والاغارة والنهب
والسلب، خصوصا ان اكثر العرب كانوا لا يؤمنون
بيوم الحساب
والبعث، وهناك العديد من الايات الشريفة
التي تحدثت عن
رفض اهل مكة الايمان بيوم الحساب واستهزائهم
بالنشور
والبعث بعد الموت، وكانوا يكررون القول المعروف:
كيف يحيي
العظام وهي رميم؟!.

وبناء على هذا فان ادعاء قريش بان اسباب
محاربتهاللرسول(ص) انما تكمن في سبه لابائهم
واجدادهم
وتسفيهه لالهتهم، لا يمكن ان يكون ادعاء صحيحا، بل
لا بد من
وجوداسباب حقيقية لا علاقة لها بالدين والمعتقدات،
كان لها
الدورالاكبر في دفع قريش لذلك الموقف العدائي
من الرسول(ص) ورسالته، ويبدو ان الخوف على موقع
مكة التجاري من التصدع، والحرص على ما حصلت عليه
هذه المدينة من شهرة وحرمة، حيث تم اعلانها مدينة
امن
وحرماآمنا يمارس فيه تجار قريش واهل الثروة نشاطهم
بكل
حرية واطمئنان.

يبدو ان التخوف من ضياع هذه
المكاسب كان
اهم سبب دفع اشراف قريش لذلك الموقف العدائي
المتصلب من الدعوة الاسلامية، رغم انهم كانوا
يتذرعون
بحجج اخرى في مقدمتها الحفاظ على سنة الاباء،
والدفاع عن
تراثهم وامجادهم، والدليل على ذلك الاية القرآنية
الشريفة
(57) من سورة القصص: (وقالوا ان نتبع الهدى معك نتخطف
من ارضنااولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى اليه ثمرات
كل شي ء
رزقا من لدنا ولكن اكثرهم لا يعلمون).

اذا كان اهل مكة طبقا للقرآن الكريم يخافون ان
دخلوا
في الاسلام ان يخرجوا من ارضهم، وقد فسر
المفسرون(نتخطف من ارضنا) ان العرب سيهجمون على
مكة ويخرجوا منها اهلها اذا ما اسلموا ودخلوا في
الدين
الجديد،ويمكن ان يكون للاية معنى آخر يتلخص في ان
مكة
ستفقدمكانتها الخاصة وتزول امتيازاتها في حالة
اسلام قريش
واهل الجزيرة العربية، لهذا اجابهم القرآن الكريم
بقوله: (اولم
نمكن لهم حرما آمنا يجبى اليه ثمرات كل شي ء) وان
هذا
الوضع سيستمر ويدوم.

وتاتي الاية التالية من سورة القصص لتوضح اسباب
انهيارالمدن وتدهورها اذ تقول: (وكم اهلكنا من قرية
بطرت
معيشتهافتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم الا قليلا
وكنا
نحن الوارثين) ثم يردف القرآن الكريم قائلا: (وما
كان ربك
مهلك القرى حتى يبعث في امها رسولا يتلوا عليهم
آياتنا وما
كنامهلكي القرى الا واهلها ظالمون) ويضيف: (وما
اوتيتم
من شي ء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند
اللّه خير وابقى
افلاتعقلون) «القصص: 58 60».

لقد صرحت الايات القرآنية الكريمة السابقة بان
قريش
كانت تخشى على مكانتها من ان تتدهور، وتخاف على
مركز
مدينتها(مكة) التجاري والديني ان يتزلزل فيما اذا
تابعت الرسول(ص) وآمنت بدعوته.

الانذار:
كانت الايات القرآنية المكية، التي تركز غالبا على
دعوة
قريش للدخول في الدين الجديد تقرن دعوتها هذه
بالانذار
والوعيد،وكانت تدعو رسول اللّه(ص) ب (النذير) او ال
(منذر)
واحيانا(البشير)، وهناك آيات اطلقت عليه التسميتين
في آن
واحد،مثال ذلك الاية (188) من سورة الاعراف: (ان انا
الا
نذيروبشير لقوم يؤمنون)، وفي الاية الثانية من سورة
هود:
(الاتعبدوا الا اللّه انني لكن منه نذير وبشير) اما
الاية الثانية
من سورة يونس فتقول: (اكان للناس عجبا ان اوحينا
الى
رجل منهم ان انذر الناس وبشر الذين آمنوا).

والان لنعرف ما هو الانذار، وما هو الشي ء الذي
يحذر
القرآن الكريم منه ويتوعد اهل قريش به؟ الذي يبدو
من
استقراءالايات الشريفة، التي ورد فيها هذا الانذار
والوعيد
بصوره وكيفياته المتنوعة، ان المقصود هو يوم
الحساب
واقتراب الساعة وحين يحشر الناس يوم القيامة فيصب
اللّه
عليهم عذاب الاخرة الذي ما فتى يحذرهم منه،
والحقيقة ان
افضل شي ءيمكنه ردع كفار قريش عن عبادة الاصنام
والشرك
باللّه والقتل والغزو والفسق انما هو تحذيرهم من
العذاب، ومن
العواقب الوخيمة التي تنتظرهم عما قريب، وبالعكس
تبشير
المؤمنين والصالحين بالثواب الجزيل والاجر
العظيم بعد
الموت.

والافما هو السبيل لارشاد هؤلاء الى طريق
الخير
وردعهم عن سبل الشر«218»؟
لم تعرف مكة، بل والعرب جميعا، في قيمهم الاخلاقية
شيئا(حسن) مطلقا وآخر (قبيح) مطلقا، فلا معنى،
والحالة
هذه،لان يقال لاهل مكة يجب اجتناب الظلم او الكذب
او الغزو
اوما شابه ذلك، لانها اعمال قبيحة في ذاتها«219».

علما
ان معاني الخير والشر فطرية مغروسة في ذات
الانسان،
فالكذب والسرقة وقتل النفس والتعدي على حقوق
الاخرين
كلهامسائل ترفضها الفطرة السليمة وتدينها، اما
لماذا يجب
الامتناع عن هذه الافعال السيئة مع امتلاك القدرة
على فعلها،
وعدم الخوف من العقوبة والقصاص؟ الم يكن امتلاك
القدرة
البدنية والاستطاعة المالية دليلا على الشرف وعلو
الدرجة؟ الم
تكن مفاخر العرب جميعا قد تحققت في ظل السيف؟ الم
يذهب دم المقتول، الذي ليس له عشيرة تمنعه، هدرا،
وهل
يلام القاتل او يعاقب في مثل هذه الحالة؟ بعد ان
كان بناء
الحياة الاجتماعية قائما على اسباب القوة الشخصية
والقبلية،
وفي ظل هذه القوة يمكن القيام باي عمل حتى لو كان
من
الاعمال التي لا تقبلها الفطرة ولا يقرها
الوجدان، اذا ليس
هناك من رادع يمكن ان يردع الظالمين من اهل مكة
والعرب
في شبه الجزيرة العربية سوى اخبارهم وانذارهم بان
هناك قوة
عليافوق قوتهم ستعيد للضعيف والمظلوم حقه.

وبناء على هذا فان ابراز القوة العظمى والقدرة
الكبرى
امام الظالمين والمتجاوزين سيسلبهم الجراة
ويردعهم عن
التجاوزوالتعدي على حقوق الاخرين، وتتجلى تلك
القدرة
الالهية من خلال تعذيب المعاندين والمسيئين
وتكريم
الصالحين وتبشيرهم باحسن الثواب وافضل الجزاء يوم
القيامة
وعند قيام الساعة بعد الموت.

ومن هنا فقد بدا الدين
الجديد
دعوته في مكة بتهديد الظالمين بعذاب جهنم وتبشير
الصالحين المخلصين بالجنة وحسن الثواب، وقد جاءت
الايات
المكية مشحونة بالوعد والوعيد من جانب وبالبشرى
والجنة
ونعيمهامن جانب آخر، ولهذا كان كفار مكة يسخرون
كثيرا من
التذكيربالبعث والنشور وما يجد الانسان بعد الموت
من الجنة
او النار،وكانوا يهزاون بذلك كما تشير آيات مكية
عديدة
ويكررون القول: كيف يحيي العظام وهي رميم؟! (وقالوا
ءاذا كنا
عظاماورفاتا ءانا لمبعوثون خلقا جديدا) «الاسراء:
49».

فيجيبهم الوحي القرآني بقوله: (قل كونوا حجارة او
حديدا او
خلقامما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي
فطركم اول مرة فسينغضون اليك رؤوسهم ويقولون متى
هو
قل عسى ان يكون قريبا) «الاسراء: 50 51».

ونظير هذه الاسئلة والاجوبة كثير في القرآن
الكريم،
حيث تنبى كثرة التهديد والوعيد بقيام الساعة عن
الحاح الكفار
في السؤال عن موعد هذا اليوم ومتى ستحل تلك الساعة
التي يحذرون منها.

وتجدر الاشارة هنا الى ان اخبار القرآن الكريم عن
قرب الساعة
ودنو الاجل لا يعني القرب والبعد الزماني الذي
يتبادرللاذهان،
فعمر الانسان لا يعني شيئا بالنسبة الى عظمة
الخلق وعمر
العالم المادي.

واذا ما تحدث القرآن عن قرب
الساعة واقتراب
اليوم الموعود، فان المراد القرب والبعد
المقارنان بالزمان ككل
وبعمر العالم اجمع، والساعة هذه، اي الموعدالذي
تنتهي عنده
الدنيا، قريبة جدا في نظر الصانع جل شانه،وان كانت
تبدو
بعيدة جدا، بل غير قابلة للتصور، بالنسبة
الى الانسان الترابي
الذي يعيش على هذا الكوكب البسيط المحدود.

وبناء على هذا فان التهديد بقرب الساعة وانشقاق
القمر
وانتشارالنجوم واندكاك الارض، لا يقصد بها المعنى
النسبي
الذي هوقريب جدا اذا ما قيس بعمر العالم، وبعيد جدا
بالنسبة
الى الاعمار العادية المحدودة.

الاستهزاء:
لقد قابلت قريش تهديدات الرسول(ص) وتحذيراته
اياهابالاستهزاء والاستخفاف، وهذا ما اشارت اليه
بعض
الايات القرآنية الكريمة: (واذا رآك الذين كفروا
ان يتخذونك
الاهزوا) «الانبياء: 36» (واذا راوك ان يتخذونك الا
هزوا
اهذاالذي بعث اللّه رسولا) «الفرقان: 41» (ذلكم بانكم
اتخذتم آيات اللّه هزوا) «الجاثية: 35».

رد فعل قريش:
لقد ضاقت قريش ذرعا بالدعوة الاسلامية ولم
تستطع احتمالها،
لخوفها من زوال مركزها وضياع ما حصلت عليه مدينتها
(مكة)
من موقع تجاري وديني خاصين، او لانهاشعرت باستفزاز
صارخ
لمشاعرها الدينية، او بسبب الحسدوالخصومات
القبلية
والتعصب العشائري، وقد ازدادوا خوفاواضطرابا
عندما لاحظوا
تزايد اعداد الضعفاء والمستضعفين الذين اخذوا
يعتنقون الدين
الجديد.

فعكفوا يبحثون عن طريقة للحل، ولم يكن من
السهل
الحاق الاذى والاضطهادبشخص ذي عشيرة قوية ضمن
النظام
القبلي الذي كان سائداآنذاك، وكان مثل هذا العمل
يتطلب
مشورة وعونا من اشراف القوم واهل الراي فيهم، والا
فسيهب
قوم ذلك الرجل لنصرته والاقتصاص من خصمه، وقد يؤدي
الامر الى نزاع دموي لايعلم احد مداه.

وتبدو المسالة في مكة اكثر تعقيدا، حيث تتجاور بطون
قريش المختلفة هناك، ويحتك بعضها ببعض يوميا، فلا
مجال
لهرب شخص او اختفائه اذا ما ارتكب جرما معينا،
فالخائف
عندمايفر يلجا الى قبيلة نائية تسكن في الصحراء
بعيدا عن
موطنه الاصلي، وفي مثل هذه الحالة تطول المدة حتى
تتهيا
القبيلة التي كان قد اعتدى عليها وتصل الى ملجئه
وملاذه عند
القبيلة المجيرة، وهذا ما كانت تفتقد اليه مكة
المكتظة ببطون
قريش المختلفة والتي تتجاور في مساكنها.

فاي نزاع
يمكن ان
يؤدي الى اشتعال النار في المدينة باكملها ويورث
خصومة
دائمة،ومثل هذا الوضع كانت تعيشه يثرب هي الاخرى،
اضافة
الى ذلك كانت الاحلاف، كحلف المطلبين وحلف
الفضول،
تنقل النزاع من دائرة القبيلتين المتنازعتين الى
دائرة اوسع،
هي دائرة الاحلاف او القبائل العديدة المتحالفة
فيما بينها
التي تشهر كل منها سيفها للدفاع عن الجماعة
المتحالفة معها
ضدالجماعة الاخرى داخل الحلف الاخر، وحين
اعلن الرسول(ص) دعوته وافصح عن انتقاده وذمه
لاشراف
قريش واسلافها وما جروا عليه من سنن الضلال والغي،
وهاجم(ص)اصنامهم وتقاليدهم الجاهلية، وسفه احلامهم
وآلهتهم واعتقاداتهم، وقفت قريش قلقة على مصيرها،
تحاول
جاهدة دفع الخطر عن نفسها، ولكنها لم تستطع
للاسباب
السابقة الانفراد برسول اللّه(ص) والحاق الاذى به،
فذهبت
مضطرة الى بني هاشم تعرض الامر عليهم وتطالبهم
باقناع الرسول(ص) بالكف عن سب آبائهم ومهاجمة
عقائدهم
والافسيستعينوا بهم اي ببني هاشم على ايذائه وطرده
او
حتى قتله والخلاص منه، وكانت زعامة بني هاشم
منعقدة
آنذاك لابي طالب، وقد لمع في بني هاشم ثلاث شخصيات
مرموقة،وهم فيما عدا الرسول(ص) ابو طالب وابو لهب
وحمزة،وكان ابو طالب اكثرهم وقارا وهيبة لكبر سنه،
غير انه
كان فقيرالحال في حين كان ابو لهب على قدر كبير من
الثراء،
بشهادة القرآن الكريم: (ما اغنى عنه ماله وما كسب)
«المسد:
2»، وكان بعرف المقاييس الجاهلية من اجلة القوم
واشرافهم.

اما
زوجته ام جميل فكانت من عائلة بني امية ذات القوة
والنفوذ،
وامتازحمزة بشجاعة خاصة جعلت الجميع يهابونه
ويقدرونه،
رغم انه كان بعيدا على ما يبدو عن الشؤون السياسية
والاجتماعية لمدينته، حيث كان يقضي اكثر اوقاته
بالصيد ولم
يعر في البداية اهتماما خاصا لابن اخيه ورسالته.

لقد ناصب ابو لهب رسول اللّه(ص) العداء منذ البداية،
واعلن حربه على الدعوة الاسلامية منذ اللحظات
الاولى، وبناء
على هذا كان ابو طالب هو الرجل الوحيد من بني هاشم
الذي
كان بامكانه توفير الحماية لرسول اللّه(ص)، او
تركه بيد
المعارضين والتخلي عنه.

لقد اختار ابو طالب الموقف الاول، ووقف بكل شهامة
الى جانب
ابن اخيه، الامر الذي جعل اشراف قريش يرجعون
اليه في امر
محمد(ص) ويجلسون معه للتحدث بهذا الشان،
حيث قائلين:
«يا ابا طالب، ان ابن اخيك قد سب آلهتنا، وعاب
ديننا،وسفه
احلامنا، وضلل آباءنا، فاما ان تكفه عنا، واما ان
تخلي بيننا وبينه،
فانك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه».

فقال
لهم
ابو طالب قولا رقيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا
عنه،ومضى
رسول اللّه(ص) على ما هو عليه يظهر دين اللّه
ويدعواليه.

ثم شرى الامر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال
وتضاغنوا،واكثرت قريش ذكر رسول اللّه(ص) بينها
وتذامروا
فيه، وحض بعضهم بعضا عليه، ثم انهم مشوا الى ابي
طالب مرة
اخرى،فقالوا: «يا ابا طالب، ان لك سنا وشرفا ومنزلة
فينا، وانا
قداستنهيناك من ابن اخيك فلم تنهه عنا، وانا واللّه
لا نصبر
على هذا من شتم آبائنا وتسفيه احلامنا وعيب آلهتنا
حتى تكفه
عنا،او ننازله واياك في ذلك حتى يهلك احد
الفريقين»،
ثم انصرفوا عنه.

فعظم على ابي طالب فراق قومه
وعداوتهم
له،ولم يطب نفسا باسلام رسول اللّه(ص) لهم ولا
خذلانه.

وقد ت«220»كرر
هذا الجدل وتلك المناظرات مرات ومرات،
يذكرها الطبري في تاريخه في الموضع السابق،
الى الحد الذي
طلب معه ابو طالب الى ابن اخيه ان يلاحظ حاله وما
هو عليه
من الحرج، قائلا له: «يا ابن اخي، ان قومك قدجاءوني
فقالوا لي
كذا وكذا، فابق علي وعلى نفسك، ولاتحملني من الامر
ما لا
اطيق».

فظن رسول اللّه(ص) انه بدالعمه فيه بداء،
وانه خاذله
ومسلمه، وانه قد ضعف عن نصرته والقيام معه.

فقال
رسول
اللّه(ص): «يا عماه، واللّه لو وضعواالشمس في يميني
والقمر
في يساري على ان اترك هذا الامرحتى يظهره اللّه او
اهلك فيه
ما تركته».

ثم استعبر رسول اللّه(ص) فبكى، ثم قام،
فلما ذهب
ناداه ابو طالب، فقال: «اقبل يا ابن اخي».

فاقبل
عليه رسول
اللّه(ص) فقال: «اذهب يا ابن اخي فقل ما احببت،
فواللّه لا
اسلمك لشي ء ابدا».

ثم ان قريشا لما عرفت ان ابا طالب ابى خذلان
رسول اللّه(ص)
واسلامه، واجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم
مشوااليه
بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: «يا ابا
طالب، هذاعمارة
بن الوليد انهر فتى في قريش واشعره واجمله،
فخذه فلك عقله
ونصرته، واتخذه ولدا فهو لك، واسلم لنا ابن اخيك،
هذا الذي
قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه
احلامهم، فنقتله، فانما رجل كرجل».

فقال: «واللّه لبئس ما تسومونني، اتعطوني ابنكم
اغذوه
لكم،واعطيكم ابني تقتلونه؟! هذا واللّه ما لا يكون
ابدا».

فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: «واللّه يا
اباطالب، لقد انصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما
تكرهه،فما اراك تريد ان تقبل منهم شيئا».

فقال ابو طالب للمطعم: «واللّه ما انصفوني، ولكنك
قد
اجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي، فاصنع ما بدا
لك».

فحقب الامر عند ذلك، وحميت الحرب، وتنابذ القوم،
وبادى ءبعضهم بعضا، ثم ان قريشا تذامروا على من في
القبائل
من اصحاب رسول اللّه(ص) الذين اسلموا معه، فوثبت كل
قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم
ويفتنونهم عن
دينهم،ومنع اللّه رسوله(ص) منهم بعمه ابي طالب، فقد
قام ابو
طالب حين راى قريشا تصنع ما تصنع في بني هاشم،
فدعاهم
الى الزود عن رسول اللّه(ص) والقيام دونه،
فاجتمعوا اليه
وقاموامعه، واجابوه الى ما دعاهم اليه من الدفاع عن
رسول
اللّه(ص)الا ما كان من ابي لهب، فلما راى ابو طالب من
قومه ما
سره من وقوفهم معه وحدبهم عليه، جعل يمدحهم ويذكر
فضل رسول اللّه(ص) فيهم ومكانه منهم ليشد لهم
رايهم«221»
.

رواية عروة بن الزبير:
هناك رواية لعروة بن الزبير الذي يعتقد انه اقدم
مدون
لسيرة الرسول(ص)، ينقلها الطبري في تاريخه«222»،
قال
عروة في رسالة بعثها الى عبد الملك بن مروان حول
سيرة الرسول(ص): «اما بعد، فانه (يعني رسول اللّه(ص»
لما
دعاقومه، لما بعثه اللّه له من الهدى والنور الذي
انزل عليه،
لم يبعدوا منه اول ما دعاهم وكادوا يسمعون له، حتى
ذكرطواغيتهم، وقدم ناس من الطائف من قريش لهم اموال
انكرواذلك عليه، واشتدوا عليه، وكرهوا ما قال،
واغروا به
من اطاعهم، فانصفق عنه عامة الناس فتركوه الى من
حفظه
اللّهمنهم وهم قليل، فمكث بذلك ما قدر اللّه ان
يمكث،
ثم ائتمرت رؤوسهم بان يفتنوا من تبعه عن دين اللّه
من
ابنائهم واخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة
الزلزال على من
اتبع رسول اللّه(ص) من اهل الاسلام، فافتتن من
افتتن، وعصم
اللّهمنهم من شاء، فلما فعل ذلك بالمسلمين امرهم
رسول اللّه(ص) ان يخرجوا الى ارض الحبشة».

وسياتي الحديث عن بقية الرواية في قصة الهجرة الى
الحبشة،غير ان الذي نراه مهما هنا هو ذلك المقطع من
الرواية
الذي يقول: «حتى ذكر طواغيتهم، وقدم ناس من الطائف
من
قريش لهم اموال، انكروا ذلك عليه، واشتدوا عليه،
وكرهوا ما
قال،واغروا به من اطاعهم، فانصفق عنه عامة الناس».

تشير
هذه الرواية الى ان اثرياء قريش وتجارها الذين لم
تذكر
الرواية اسماءهم كانوا يوظفون اموالهم
ويستثمرونها في اعمال
تجارية في الطائف، ويعتقد ان هؤلاء التجار كانوا
اثرى اهل مكة.

والمقطع الاخر من الرواية الذي يؤكد عدم ارتياح
هؤلاءلدعوة
الرسول(ص)، وخوفهم من تفرق الناس عنهم،
وذهاب مكانتهم،
وتزلزل موقعهم، بتحول عامة الناس الى الرسول(ص)
وانجذابها
الى حديثه وحسن خطابه، وفيما لوانتشرت هذه الدعوة
واشتد
عودها وقويت شوكة الدين الجديد فلن يكون بمقدورهم
بعد
هذا استغلال المستضعفين.

ويؤيد هذا المقطع من رواية
عروة
الكلام الذي سقناه في الاستدلال بالايات القرآنية
الشريفة
وبموجب ذلك قال الكفار(ان نتبع الهدى معك نتخطف من
ارضنا).

قريش تناظر وتطلب الدلائل والمعجزات:
تصور الايات (90 96) من سورة الاسراء قصة حوار
قريش وعنادها ومناظراتها مع رسول اللّه(ص): (وقالوا
لن نؤمن
لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا او تكون لك جنة
من
نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا او تسقط
السماء
كمازعمت علينا كسفا او تاتي باللّه والملائكة
قبيلا او يكون
لك بيت من زخرف او ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك
حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت
الا
بشرارسولا وما منع الناس ان يؤمنوا اذ جاءهم الهدى
الا ان
قالواابعث اللّه بشرا رسولا قل لو كان في الارض
ملائكة
يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا
رسولا قل
كفى باللّهشهيدا بيني وبينكم انه كان بعباده خبيرا
بصيرا).

وقد كان جوابا منطقيا... (هل كنت الا بشرا رسولا) ولو
(كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم
من
السماءملكا رسولا) اي ينبغي ان يكون الرسل من جنس من
ارسلوااليهمالمرسل اليهم، ولو ان اللّه ارسل
للكافرين ملائكة
لقالوالا نؤمن لهؤلاء الملائكة حتى يرسل لنا اللّه
بشرا مثلنا.

وعلى اية حال فان جواب الرسول عن حقيقة ان
الانبياءوالرسل
يرجعون الى عقول الناس ووجدانهم في تمييز
العالم من
الجاهل والمسي ء من المحسن، والا لن يكون هناك
اي معنى
للاختبار والامتحان اذا كانت الامور كلها تجري
بالايات والمعجزات.

ان طبيعة الانسان تقتضي انذاره وتحذيره، فان
استجاب
لهذاالتحذير وانتصر على هواه ونزعاته الذاتية،
فسيكون قد
اثبت انسانيته وكتب له الفوز والنجاح في هذا
الامتحان،
والافالعلامات والمعجزات لا تتوافق مع الامتحان
والابتلاء.

وعلى كل حال، فكما ان عقل الانسان وضميره
بمثابة
الرسول والمبعوث الالهي الذي اودعه اللّه داخل
النفس
الانسانية،كذلك الانبياء والرسل ما هم الا بمثابة
وجدان اخلاقي
على مستوى المجتمع والامة، فان غلب العقل الفردي
وهزم
امام الهوى والنزعات النفسية، فسيكون من وظيفة
العقل الاجتماعي، الذي هو الرسول، تنبيهه وايقاظه
من
غفلته،وذلك بارشاده الى الصواب، وتحذيره من الركون
الى
هوى النفس ووساوسها الشيطانية، ولو استجاب قوم
عاد
وثمودوصالح ولوط الذين ذكرهم القرآن الكريم لدعوة
انبياء
اللّهورسله لما هلكوا، فارسال الرياح وتسخير
العواصف
وانزال المطر ورميهم بالحجارة واخذهم بالطوفان
والسيول
وتدميرمنازلهم، كل ذلك لا يراد به المعاني الحرفية
التي
تحمل عادة على انها آفات وكوارث دنيوية، بل المراد
بها والحاق
المفاسدوالمهالك بالمجتمع نتيجة عدم استجابة
هؤلاء الاقوام
لنداءالعقل والوجدان الذي هتف به انبياء اللّه
ورسله، وقد
وردت في القرآن الكريم امثلة كثيرة على ذلك، كما
ان هناك
آلاف الادلة التاريخية التي تثبت هذا المعنى.

ذيل رواية عروة بن الزبير:
كتب عروة في رسالته الى الخليفة الاموي عبد الملك
بن مروان يقول: «ائتمرت رؤوسهم بان يفتنوا من تبعه
عن
دين اللّهمن ابنائهم واخوانهم وقبائلهم.. فلما فعل
ذلك
بالمسلمين امرهم رسول اللّه(ص) ان يخرجوا الى ارض
الحبشة،
وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي، لا يظلم
احد
بارضه،وكان يثني عليه مع ذلك صلاح، وكانت ارض
الحبشة
متجرالقريش يتجرون فيها، يجدون فيها رفاغا من
الرزق وامنا
ومتجراحسنا، فامرهم بها رسول اللّه(ص)، فذهب اليها
عامتهم
لماقهروا بمكة وخاف عليهم الفتن، فمكث هو فلم يبرح،
فمكث بذلك سنوات يشتدون على من اسلم منهم، ثم فشا
الاسلام فيها، ودخل فيها رجال من اشرافهم».

الهجرة الى الحبشة واسبابها:
يتضح من رواية عروة بن الزبير، التي تتجلى فيها
آثار
الاصالة،ان كفار قريش كانوا قد عقدوا العزم على ان
يثنوا
المسلمين عن اسلامهم ويردوهم الى دين آبائهم باي
شكل
من الاشكال، وقد سلكوا السلوك نفسه الذي سلكه ابو
جهل.

قال ابن هشام في سيرته«223»: «كان ابو جهل الفاسق الذي
يغري بهم في رجال قريش، اذا سمع بالرجل قد اسلم،وله
شرف
ومنعة، انبه واخزاه، وقال: تركت دين ابيك وهو
خيرمنك،
لنسفهن حلمك، ولنفيلن رايك، ولنضعن شرفك، وان كان
تاجرا قال: واللّه لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك،
وان كان
ضعيفا ضربه واغرى به»، وبذلك اضطر الرسول(ص) الى ان
يامر بعضا من اتباعه بالهجرة الى الحبشة لينجوا من
اذى قريش، ويكونوا في مامن من ذلك.

يطرح مونتغمري وات في كتابه (محمد في مكة) آراء
ل(كايتاني) وآخرين غيره حول هجرة المسلمين الى
الحبشة،احد هذه الاراء ما ينقله (وات) عن (كايتاني)
من ان:
السبب الاول لعدم قبول الهجرتين ان ابن اسحاق، كما
يقول
ابن هشام والطبري، لا يقول صراحة بوجود هجرتين.

فهو يقول:
وكان اول من خرج من المسلمين.

ثم يذكر قائمة صغيرة
ويردف قائلا: ثم خرج جعفر بن ابي طالب وتتابع
المسلمون.

لانلاحظ ذكر اي جماعة عادت لتهاجر من جديد مرة
ثانية،ونلاحظ من ناحية ثانية ان القوائم لا تتبع
نظام الرحيل
الى الحبشة، بل تتبع تنظيما يقوم على المكانة، حيث
نجد
ذكرالاسم حسب سجل الخلافة الذي اخذت منه، نقرا فيها
ان اول من وصل الى الحبشة هو (ابو سبرة) وان (عمر بن
سعيدبن العاص) هاجر بعد سنتين من هجرة اخيه خالد.

تدل
هذه الامثلة كما تدل كلمة «تتابع» انه لم يكن هناك
جماعتان كبيرتان بل جماعات صغيرة.

ويضيف وات انه بعد ان اصبحت الهجرة احد
الامتيازات المهمة
للحصول على اعطيات اكثر، فقد كثر من ادعاها،
يقول:«عدل
الخليفة عمر في السنة 15 للهجرة النظام الذي
كان المسلمون
يتقاضون بموجبه اعطيات سنوية من بيت المال تقديرا
لخدماتهم في القتال او في الادارة، وهذه
الاعطيات تختلف
باختلاف تاريخ اعتناق الاسلام، ذلك لان
المسلمين الاوائل
كانوا يتقاضون اكبر الاعطيات، وقد اصبحوا
حسب النظام
الجديد في ارفع الطبقات بعد زوجات
الرسول واقربائه... وكل
من برهن على قيامه بهجرة او هجرتين ينال شرفا
رفيعا يؤهله
لاحتلال ارفع درجات النبل في الاسلام.

ويضيف وات قائلا: قرر محمد في السنة السابعة للهجرة
ان يقوي مركزه بالاعتماد على تاييد الجماعة
الصغيرة في
الحبشة،فارسل اليهم رسولا يعدهم بالاستقبال الحار
ويصحبهم في طريق العودة، فعادوا او عاد قسم منهم
فاستقبلوا
استقبالاحافلا، ونالوا جزءا من في ء خيبر التي
استولى عليها
محمدلتوه».

ويتابع قائلا: ولربما اطلق لفظ الهجرة على مغامرة
الحبشة
في هذا الوقت على يد محمد نفسه اعترافا بموقف جعفر
الكريم وصحبه، واصبح يحق لهم بسبب هجرتهم الى
الحبشة
ان يعاملوا كمهاجرين، وان يكونوا اندادا للذين
اعطوا
هذااللقب«224».

غير انني لا اعتقد بصحة ذلك، لان سورة النحل وهي
سورة مكية تقول: (والذين هاجروا في اللّه من بعد ما
ظلموا
لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولاجر الاخرة اكبر لو
كانوا يعلمون)
«النحل:41».

ومعلوم ان الهجرة المشار اليها ليس
الهجرة الى
المدينة،وانما الهجرة الى الحبشة لان الاية مكية،
(وقد اشير
الى هذاالمعنى ايضا في تفسير الطبري، وبناء على هذا
فان
السفر الى الحبشة قد اطلق عليه في مكة (الهجرة) وقد
ذكر
هذا المعنى ايضا في القرآن الكريم).

اما بشان الهجرتين الى الحبشة، فيجب القول ان هذا
صحيح خلافا لما يرى (كايتاني).

يقول (كايتاني) و(وات): «ان هذا المعنى لم يذكر صراحة
في سيرة ابن هشام»، بمعنى ان محمد بن اسحاق لم
يذكره،لكنهما كانا لا يملكان طبعة القرويين (سيرة
محمد
بن اسحاق).

وقد لخص ابن هشام السيرة المذكورة
وحررها
طبقالرواية زياد بن عبداللّه البهائي، اما نسخة
القرويين فكانت
طبقالرواية يونس بن بكير عن محمد بن اسحاق، كما ان
رواية الطبري لسيرة محمد بن اسحاق كانت بطريق (ابن
حميدوسلمة).

جاء في سيرة محمد بن اسحاق برواية يونس
(نسخة القرويين) عند ذكره لاسماء من هاجر الى
الحبشة:
«وكان ممن هاجر من مكة الى ارض الحبشة قبل هجرة
جعفرواصحابه..».

ويتضح من العبارة السابقة ان هناك
مجموعتين مستقلتين هاجرتا الى الحبشة، كانت
الثانية بقيادة
جعفر بن ابي طالب.

وجاء في سيرة ابن هشام بعد
استعراضه
لاسماءالمهاجرين العشرة الاوائل قوله: «فكان هؤلاء
العشرة
اول من خرج من المسلمين الى ارض الحبشة فيما
بلغني»
ويضيف ابن هشام قائلا: «وكان عليهم عثمان بن مظعون
فيما
ذكر لي بعض اهل العلم».

ومن هنا يتضح ان هناك مجموعتين منفصلتين هاجرتا الى
ارض الحبشة، كانت الاولى بقيادة عثمان بن مظعون،
بينما
اسندت قيادة المجموعة الثانية الى جعفر بن ابي
طالب اخي
اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب(ع).

وفضلا عن هذا، كان هناك من عاد من ارض الحبشة الى
مكة بعد ان سمع الاخبار الكاذبة عن ايمان كفار
قريش، ثم ما
لبث ان رجع الى الحبشة حين اكتشف عدم صدق تلك
الاخبار،وقد اطلق على هذه العودة الهجرة الثانية.

لكن
التحقيق في الروايات يظهر ان المقصود بالهجرة
الثانية انما هو
هجرة مجموعة ثانية بقيادة جعفر بن ابي طالب وقد
انضمت
اليهاتلك الجماعة العائدة، والدليل على هذا ما
رواه
ابن سعد«225»
عن ام خالد بنت خالد بن سعيد بن
العاص،قالت: «كان ابي خامسا في الاسلام، قلت: فمن
تقدمه؟
قالت:ابن ابي طالب، وابن ابي قحافة، وزيد بن حارثة،
وسعد
بن ابي وقاص، واسلم ابي قبل الهجرة الاولى الى ارض
الحبشة،وهاجر في المرة الثانية، واقام فيها بضع
عشرة سنة».

وعند مراجعة سيرة ابن هشام لا نجد اسم خالد بن سعيد
بين اسماء المهاجرين العشرة الاوائل في الهجرة
الاولى بينما
ورداسمه في قائمة اصحاب الهجرة الثانية«226».

وورد اسم عثمان بن عفان مرتين: مرة مع المهاجرين
في الهجرة الاولى، ومرة مع المهاجرين في الهجرة
الثانية.

وقد صرح ابن سعد في طبقاته«227» عند ذكره
الهجرة الاولى، والهجرة الثانية قائلا: «لما قدم
اصحاب
النبي(ص) مكة من الهجرة الاولى اشتد عليهم قومهم،
وسطت
بهم عشائرهم،ولقوا منهم اذى شديدا، فاذن لهم رسول
اللّه(ص) في الخروج الى ارض الحبشة مرة ثانية،
فكانت
خرجتهم الاخرة اعظمهامشقة»، ثم يقول: «قال عثمان بن
عفان: يا رسول اللّه، هجرتناالاولى وهذه الاخرة الى
النجاشي،
ولست معنا؟ فقال رسول اللّه(ص): انتم مهاجرون الى
اللّه والي،
لكم هاتان الهجرتان جميعا.

قال عثمان: فحسبنا يا
رسول اللّه».

وقد سبقت الاشارة الى ان ابن هشام ذكر الهجرة الى
الحبشة كما ذكر الاحداث الاخرى بتلخيصه لسيرة ابن
اسحاق،
ولم يستطع اعطاء صورة كاملة عن الهجرة الى الحبشة
واسماءالمهاجرين في الهجرتين، كما ان نسخة
القرويين ناقصة
ايضافهي لا تحتوي على تفاصيل الهجرتين، ولكننا
نعلم من
مصادراخرى ان ابن اسحاق ذكر الهجرتين بشكل صريح،
فمن المحتمل جدا ان يكون المهاجرون في الهجرة
الاولى
هم العشرة الواردة اسماؤهم في قائمة ابن هشام،
وكانوا
طبقالروايته بقيادة عثمان بن مظعون.

اما القائمة
الثانية
الطويلة التي وردت في سيرة ابن هشام، فانها متضمنة
اسماء
المهاجرين في الهجرة الثانية الى ارض الحبشة، وقد
كان
عثمان بن مظعون، الذي قاد المهاجرين في الهجرة
الاولى،
حاضرا ايضافي الهجرة الثانية التي كانت بقيادة
جعفر بن ابي
طالب.

اما المصدر الاخر الذي ينقل عن سيرة ابن اسحاق
فهوطبقات
ابن سعد، وبناء عليه فان ابن اسحاق اشار بشكل صريح
الى
الهجرة الاولى والثانية.

يقول ابن سعد في
ترجمة عبداللّه بن
مسعود«228»:
«هاجر عبداللّه بن مسعود الى ارض الحبشة
الهجرتين جميعا في رواية ابي معشر ومحمدبن عمر، ولم
يذكره محمد بن اسحاق في الهجرة الاولى،وذكره في
الهجرة
الثانية».

وهكذا فانه لم يرد في سيرة ابن هشام اسم (المقداد بن
عمر)او
(المقداد بن الاسود) في قائمة العشرة ممن هاجروا
الى ارض
الحبشة، بينما ورد في القائمة الثانية الطويلة.

وجاء في طبقات
ابن سعد«229»:
«هاجر المقداد الى ارض الحبشة الهجرة
الثانية في رواية محمد بن اسحاق ومحمد بن عمر، ولم
يذكره
موسى بن عقبة ولا ابو معشر».

وما ذلك الادليل على ان
نسخة
سيرة محمد بن اسحاق كانت قد ذكرت(الهجرة الاولى)
و(الهجرة الثانية) صراحة غير ان ابن هشام اسقطها في
تلخيصه، او انه لم يصرح بها في روايته.

على اية حال فان (الهجرة الاولى) و(الهجرة الثانية)
كانتا
قدذكرتا منذ القدم حتى في رواية محمد بن اسحاق.

يقول ابن سعد في ترجمته لعثمان بن مظعون«230»:«قالوا:
وهاجر عثمان بن مظعون الى ارض الحبشة
الهجرتين جميعا
في رواية محمد بن اسحاق ومحمد بن عمر».

ولا
تعني كلمة
(قالوا) التي وردت في الرواية ان ابن سعد سمع
رواية محمد بن
اسحاق او نقلها عن الاخرين، بل تعني ان القول قطعي
ومحقق.

فمن المسلم به ان ابن سعد كان قد سمع سيرة محمد بن
اسحاق وكانت تحت يده.

فقد روى ابن سعدسيرة محمد بن
اسحاق عن طريق ابراهيم بن سعد بن ابراهيم الزهري.

وبناء على هذا، فان كلام مونتغمري وات«231»
الذي يقول:
«ونشعر من قراءة سيرة ابن اسحاق انه وجد،
لبعض الوقت،
قائمتان باسماء المهاجرين للحبشة، وانه هو نفسه
لم يكن واثقا
من صحة القائمتين».

وقد راينا نحن عن طريق
رواية محمد
بن سعد كاتب الواقدي ان ابن اسحاق كان قد
صرح بالحقيقة،
لكن ابن هشام حذف ذلك ولخصه، وكذلك الطبري فانه
بعد ان
ذكر اسماء المهاجرين العشرة الاول (اول من خرج من
المسلمين) عن طريق محمد بن اسحاق قال: قال محمد بن
اسحاق: ثم خرج جعفر بن ابي طالب وتتابع المسلمون..»
ومن
هنا يتضح ان الطبري قام هو الاخر باختصاركلام ابن
اسحاق،
والا لم يقل: «قال».

واساسا لا مبرر لقوله:«ثم خرج
جعفر بن
ابي طالب» بعد ذكره لاسماء المهاجرين العشرة
الاوائل.

وقال بعد ذلك: «ثم عد اي ابن اسحاق بعد ذلك تمام
اثنين وثمانين رجلا بالعشرة الذين ذكرت اسماءهم».

ويمثل
هؤلاءال (82) رجلا مجموع المهاجرين في الهجرة
الثانية،
وكان من ضمنهم العشرة الاوائل اصحاب الهجرة
الاولى التي
كانت بقيادة عثمان بن مظعون، فانهم كانوا قد عادوا
الى مكة
بعد ان سمعوا خبر اسلام اهل مكة الكاذب، ثم رجعوا
مع من
هاجرالى الحبشة، وكان جعفر بن ابي طالب هو قائد
المهاجرين هذه المرة.

وجاء في طبعة (نسخة القرويين) البند (281) ما نصه:
«فلمااشتد البلاء وعظمت الفتنة، تواثبوا على اصحاب
رسول اللّه(ص) وكانت الفتنة الاخيرة التي اخرجت من
كان
هاجر من المسلمين بعد الذين كانوا خرجوا قبلهم الى
ارض
الحبشة..»ولم يوضع البند (281) في موضعه الواقعي في
طبعة نسخة القرويين، فقد كان عنوانه (حديث الهجرة
الاولى
الى الحبشة)في حين ان الموضوع مرتبط بالهجرة
الثانية.

الهجرة الى الحبشة:
وردت اشارة في رواية عروة بن الزبير التي نقلناها
فيما
سبق الى ان الحبشة كانت واحدة من البلدان التي
تعاملت
معهاقريش في التجارة، وقصدها القرشيون لهذا الغرض.

اذا
كان المهاجرون على معرفة باوضاع الحبشة، ولهذا
كانت انسب
من غيرها لان تنتخب مكانا للهجرة، ولم تكن مدينة
يثرب
حينذاك قد بلغت الاوضاع فيها تلك الدرجة من
الاطمئنان
التي كانت قد بلغتها بعد عدة سنوات حين قصدها
الرسول(ص)والمسلمون عند الهجرة، ولم يكن
باستطاعتهم
ان ينعموابالامن هناك.

وكانت الطائف مدينة تربطها
علاقات
وثيقة جدامع اثرياء قريش، كما ان آلهتها قد تعرضت
للهجوم
والاستهزاءمن قبل الرسول(ص).

اضف الى ذلك ان الهجرة
الى
بلادالامبراطورية الفارسية او الرومانية لم تكن
مناسبة باي
وجه من الوجوه.

فكانت الحبشة فضلا عما ذكرنا اقرب
من غيرها
الى مكة عن طريق البحر من جانب، ومن جانب آخر يحتمل
ان لا يكون ملك الحبشة واهلها على قدر كبير من
التعصب الديني، ولهذا كله كانت انسب للهجرة من اي
مكان
آخر.

وقدجاء في سيرة ابن اسحاق ان الرسول(ص) قال: «لو
خرجتم الى ارض الحبشة، فان فيها ملكا لا يظلم احد
عنده،
وهي ارض صدق».

سبب الهجرة:
اعتقد ان اسباب الهجرة هي
نفسها الاسباب التي
ذكرتهاالروايات، والتي تتلخص في سعي الرسول(ص) الى
تجنيب اصحابه الاذى والاستهزاء والملاحقة من قبل
قريش ولو
لفترة معينة، ريثما يتكاثر عددهم ويصبح الوضع
اكثر امنا
وسلاماللقيام بالنشاطات الاسلامية المطلوبة في
الدعوة
والتبليغ للرسالة الجديدة.

وذهب (مونتغمري وات) الى الاعتقاد بان سبب
الهجرة الحقيقي هو محاولة الرسول(ص) رفع الاختلاف
الذي
حصل بين مجموعتين من المسلمين، يتزعم احداهما
عثمان
بن مظعون، بينما يتزعم الثانية ابو بكر، فامر رسول
اللّه(ص)المجموعة الاولى بالهجرة الى الحبشة.

ان سببا كهذا الذي يراه (وات) يحتاج الى مزيد من
الادلة، اذانه
من المحال ان ينشا مثل هذا النزاع الذي يقسم
المسلمين الى
مجموعتين في ظل زعامة الرسول(ص) التي ليس لهامنازع،
ولو فرضنا حصول مثل هذا الانقسام بين تلك
الجماعة الصغيرة
التي تعرضت لشتى صنوف التعذيب من التنكيل والحاق
الاذى
والتهم والملاحقة من قبل كفار قريش، فسيكون من
السهل
معالجة ذلك ب آية قرآنية تحذر من الانقسام وتدين
الجهة
المخالفة للرسول(ص)، وليس ثمة آية في القرآن
الكريم
تتحدث حول هذا الموضوع.

وربما اراد الرسول(ص) من الهجرة الى الحبشة امورا
اخرى غير
الابتعاد عن اذى كفار قريش، كايجاد قاعدة
للنفوذالاسلامي
هناك واستخدامها ضد الاعداء كما يرى
بعض المستشرقين
والعمل على تهديد تجارة قريش الحيوية والمهمة جدا
مع
الحبشة، وتحويل مخاوف قريش وهواجسهاالتي تتحدث
عنها
الاية الشريفة: (نتخطف من ارضنا) الى واقع عملي.

اما السؤال عن الاسباب التي دعت الى هجرة جماعة
من المسلمين وبقاء جماعة اخرى، فلا نملك له جوابا
ناجعا،سوى ان ذلك من المسائل المرتبطة بظروف
المسلمين واوضاعهم الخاصة، وهذا ما لا تتحدث عنه
الروايات
ولم تات على ذكره، على ان المسلمين لا يمكنهم
الهجرة
جميعا وترك الرسول(ص) وحده، وليس بمقدورهم مخالفة
رغبته في بقاءمجموعة منهم معه، رغم جهلنا بالاسباب
التي
اوجدت عنده مثل هذه الرغبة.

واذا ما تابعنا المهاجرين الى الحبشة لتقصي
اخبارهم
والاطلاع على سبل معايشهم والطرق التي كانوا
يؤمنون
بواسطتها نفقات حياتهم اليومية خلال تلك المدة
الطويلة التي
قضوها هناك،فاننا نجد في رواية عروة اشارة الى ذلك
اثناء
الحديث عن تجارة قريش مع الحبشة، بحيث يمكن القول
ان
تمرس القرشيين بالتجارة واضطلاعهم بها، جعلهم
قادرين
على تامين حياتهم حتى في المهجر من خلال المتاجرة
والكسب.

وربماكان المهاجرون الذين قضوا فترة اطول
في
المهجر اكثر نجاحافي تجارتهم من اولئك الذين عادوا
قبلهم.

هناك رواية اوردها البلاذري«232» تقول: «ان ابا
طالب كان
يمول جعفر بن ابي طالب بالمال اللازم حتى
وفاته».

وحتى مع
صدق هذه الرواية فانه كان لا بد لجعفر من مصدريدر
عليه ما
يؤمن نفقاته خلال الفترة التي قضاها هناك بعد
وفاة ابيه.

ويحتمل ان يكون ملك الحبشة هو الممول والمسؤول
عن حياة
المهاجرين طيلة وجودهم في مملكته وتحت
حكمه باعتبارهم
في حكم اللاجئين السياسيين.

/ 13