بحوث فی الملل والنحل جلد 6

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

بحوث فی الملل والنحل - جلد 6

جعفر سبحانی تبریزی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید







1- السقيفة وخلافة أبي بكر:



توفّي رسول اللّه وكان أبوبكر خارج المدينة فقام عمر بن الخطاب فقال: إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أنّ رسول اللّه قد توفّي، وانّ رسول الله ما مات، ولكن ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل أنّه قد مات فواللّه ليرجعنّ رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عمّا رجع موسى وليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مات فما زال عمر يتكلّم حتّى أزبد شدقاه. فقال العباس: إنّ رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يأسن كما يأسن البشر. وانّ رسول اللّه قد مات فادفنوا صاحبكم أيميت أحدكم إماتة ويُميته إماتتين؟ هو أكرم على اللّه من ذلك فان كان كما تقولون فليس على اللّه بعزيز أن يبحث عنه التراب فيخرجه إن شاء اللّه .


وما زال الجدال مستمرّاً بين عمر والعباس وشاركهم سائر المسلمين إلى أن نزل أبوبكر من السُنح فسمع مقالة عمر فدخل البيت فكشف عن وجه النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقبّله وقال: بأبي أنت واُمّي طبت حيّاً وميّتاً والّذي نفسي بيده لا يذيقك اللّه الموتتين أبداً(1). ثم خرج فقال: على رِسْلِك يا عمر. فجلس عمر. فحمداللّه أبوبكر وأثنى عليه ثم قال: ألا من كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات، ومن كان يعبد اللّه فانّ اللّه حىّ لا يَمُوت وقال: (إنّكَ مَيِّتٌ وإنَّهُمْ مَيِّتُونَ)وقال: (وما مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبلِهِ الرُّسُلُ أفَاِنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً و سَيَجْزِى اللّهُ الشّاكرِينَ) فتشنّج الناس. فقال عمر: واللّه ما هو إلاّ أن


1 . أين الوهابيون من موقف الخليفة هذا، حيث أخذ يخاطب النبي وهو ميّت، ويقبّله ويتبرّك به، ويقول بأبيه واُمّه له .



سمعت أبابكر تلاها فدهشت حتّى وقعت إلى الأرض، وعرفت أنّ رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قد مات(1) .


نقاش مع الخليفة:



هناك تساؤلات تطرح نفسها ولعلّه كان عند الخليفة أجوبة لها أو أنّ القارئ، يتفطّن للاجابة عنها وهي:


1- انّ موت النبي الأكرم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لم يكن فُجائيّاً بل كان بعد مرض ألمّ به عدّة أيام فكانت القرائن والشواهد تدل على أنّه قد دنى فراقه للاُمّة وقد صرّح بذلك في غير واحد من أصحابه، آخرها طلبه للقلم والدواة وكتابة الصحيفة والوصية للاُمّة حتّى لا تضلّ الاُمّة من بعده وقد حال الخليفة الثاني بين النبي واُمنيته وقال ما قال(2) .


وعندئذ فكيف أذعن بأنّ النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ما مات وإنّما غاب كغيبة موسى وقد أصرّ على ذلك حتّى ازبد شدقاه ولم يكن بين الصحابة من يدافع عن تلك العقيدة. سوى نفسه .


فهل كان الخليفة موقناً بذلك جدّاً أو أنّه كان له في تبنّي هذه الفكرة (لساناً لا قلباً) هدفاً سياسيّاً يخبّىء فيه مصالحه أو مصالح الاُمّة؟


2- هل كانت الغيبة سنّة رائجة بين جميع الأنبياء أو كانت من مختصّات بعض الأنبياء كالكليم ونحوه. ولو صحّ الثاني كما هو الحق فما هو الوجه في الحاقه بالنادر؟


1 . السيرة النبوية: ابن هشام 655، الطبقات الكبرى 2 / 268 ـ 269 .


2 . البخاري: الصحيح، كتاب العلم 1 / 22 و ح 2 / 14 .



3- نرى أنّ عم النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ العباس، واجهه بما واجه به أبوبكر وهو أنّ النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أكرم من أن يُميته سبحانه موتتين. مع أنّه لم يقتنع بكلامه بل اقتنع بما ذكره أبوبكر .


4- انّه مصرّاً على الغيبة مادام ابو بكر غائباً عن المدينة، فلمّا نزل من السُنح وأدلى بمقاله سرعان ما تراجع عن موقفه، وأىّ سرّ كان في هذا الرجوع السريع عن فكرة كان يستميت في الدفاع عنها؟


5- كيف يقتنع القارئ بأنّ الخليفة لم يكن ذاكراً قوله سبحانه (إنَّك ميّت وإنّهم ميّتون) وقوله سبحانه: (وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل)وغيرهما؟


هذه الأسئلة لم نجد لها أجوبة شافية ومن المحتمل جداً أن يكون وراء الكواليس شيئاً ما. وأن تكون اطروحة الغيبة مناورة سياسية، الغاية منها منع المسلمين من اتّخاذ أىّ موقف في المسائل المصيرية للاُمّة حتّى يجيء أبوبكر من السُنح ويجتمعا على رأي واحد. ولأجل ذلك تنازل عن موقفه بعد ما جاء أبوبكر من خارج البلد. فاتّخذا موقفاً واحداً، تجاه المسائل المصيرية .


مأساة السقيفة:



كان علي بن أبي طالب وجمهور المهاجرين منهمكين في تجهيز النبي فوقف الخليفتان على اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة للتداول في مسألة الخلافة. فقال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلى اخواننا هؤلاء من الأنصار ما هم عليه فدخلا ومعهما بعض المهاجرين كأبي عبيدة بن الجراح وكان خطيب الأنصار ونقيبهم سعد بن عبادة يخطب ويحث الأنصار على الأخذ بمقاليد الخلافة بحجّة أنّهم آووا النبي الأكرم عندما أخرجه قومه. وضحّوا في سبيل دعوته بكل غال ورخيص .



فلمّا أتمّ كلامه ابتدأ أبوبكر بالبحث والكلام فاستند إلى أنّ اللائق بالخلافة هو قوم النبي وقبيلته بحجّة أنّهم أوسط العرب داراً وأحسنهم احساباً ولم يكتف بذلك حتّى أخذ بيد عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح ورشحهما للبيعة .


ترى أنّ الطائفتين اتّخذوا في حل مشكلة الخلافة قواعداً كانت سائدة في عصر الجاهلية فالأنصارترى نفسها أحق بالخلافة لحمايتها النبي الأكرم وتقديم المأوى له، وأمّا هؤلاء الحاضرون من المهاجرين فاحتجّوا بمثل ما احتجّت به الأنصار وهو أنّ قريش أوسط داراً وأحسن نسباً .


ولم يكن هناك من يذكّر ويوقفهم على أنّ الإسلام عصف بهذه الأساليب من الاحتجاجات وحطّم أحكام الجاهلية(1)


فلو كان هناك مشورة اسلامية كان عليهم أن يتفحّصوا عن أعلم القوم بالكتاب والسنّة وأكثرهم دراية بهما. وأسوسهم وأخشنهم في ذات الله وأسبقهم إلى الايمان والإسلام. كما هو الوارد عن الكتاب والسنّة قال سبحانه: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الاَْرضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ ونَهَوْاْ عَنِ المُنكَرِ وللهِ عَاقِبةُ الاُمُورِ)(2).


وقال النبي الأكرم لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه خصال ثلاث:


1- ورع يحجزه عن معاصي اللّه .


2- وحلم يملك به غضبه .


3- وحسن الولاية على من يلي حتّى يكون كالأب الرحيم(3) .


1 . لاحظ: في الوقوف على احتجاج الطائفتين، السيرة النبوية لابن هشام 2 / 659، والطبقات الكبرى لابن سعد 2 / 269 وتاريخ الطبري 2 / 442 ـ 446 .


2 . الحج / 41 .


3 . الكافي للكليني 1 / 407 .



وقال الامام علي: «أيّها الناس إنّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر اللّه فإن شغب شاغب استعتب فإن أبي قوتل»(1) .


وقال ـ صلوات اللّه عليه ـ أيضاً عندما قال قائل كلام «إنّك على هذا الأمر يابن أبي طالب لحريص، فقلت: بل أنتم واللّه لأحرص وأبعد، وأنا أخصّ وأقرب، وانّما طلبت حقاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي(2) .


وقال الامام السبط الطاهر الحسين بن علي ـ عليهما السلام ـ فما الامام إلاّ الحاكم بالكتاب، الدائن بدين الحق، القائم بالقسط، الحابس نفسه على ذات اللّه(3) .


وأين هذه الملاكات والضوابط ممّا جاء في احتجاجات المهاجرين والأنصار وكأنّهم لم يسمعوا قول اللّه سبحانه: (أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُون)(4) .


ما سمعت من الكلمات، كانت احتجاجاتهم وشعاراتهم في نادي السقيفة وأمّا ما قاموا به من الأعمال المخزية أو ما صدر منهم من الضرب والسباب، فحدّث عنه ولا حرج. وبذلك تقف على أنّه لم تكن هنا أي مشورة، ولا تلاقح فكري وانّما كان أشبه بملعب يتسابق فيه الجميع لأخذ كرة الخلافة بأىّ طريق حص وإن كنت في شك منها فاستمع لما نتلوه عليك من المصادر الموثقة .


هذا الحباب بن المنذر الصحابي البدري الأنصاري قد انتضى سيفه على أبي بكر وكان داعياً إلى قيادة الأنصار وقال: «واللّه لا يرد عليَّ أحد ما أقول إلاّ


1 . نهج البلاغة، قسم الخطب برقم 173 .


2 . نهج البلاغة، قسم الخطب برقم 172 .


3 . روضة الواعظين 206 .


4 . الأنبياء / 105 .



حطّمت أنفه بالسف، أنا جُذيلها المحكّك (أصل الشجرة) وعُذيقها المرجَّب (النخلة المشتملة بالتمر) أنا أبو شبل في عرينة الأسد، يعزى إلىّ الأسد»(1) .


وهو بكلامه هذا يتهدّد كل من يحاول اخراج القيادة من الأنصار واقرارها لغيرهم .


وها هو آخر (وهو سعد بن عبادة) يخالف مبايعة أبي بكر وينادي: «أنا أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل، وأخضب منكم سناني ورمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي واُقاتلكم مع من معي من أهلي وعشيرتي»(2) .


وها هو ثالث يتذمّر من تلك البيعة ويشب نار الحرب بقوله: «إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ الدم»(3) .


وهذا هو سعد بن عبادة أمير الخزرج الّذي طلب أن تكون الخلافة في الأنصار يداس بالأقدام، وينزى عليه وينادى عليه بغضب: «اقتلوا سعداً قتله اللّه إنّه منافق أو صاحب فتنة» وقد قام عمر على رأسه ويقول: «لقد هممت أن أطأك حتّى تندر عضوك أو تندر عيونك»(4) .


فإذا بقيس بن سعد يأخذ بلحية عمر ويقول: «واللّه لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة! أو لخفضت منه شعرة ما رجعت وفي فيك جارحة»(5) .


وهذا نفس عمر بن الخطاب يصف تلك المشاجرة بقوله: «كثر اللغط


1 . شرح ابن أبي الحديد 2 / 16 .


2 . الغدير 7 / 76 .


3 . الامامة والسياسة 1 / 11، تاريخ الطبري 3 / 210 .


4 . مسند أحمد 1 / 56، تاريخ الطبري 3 / 210، وغيرهما .


5 . تاريخ الطبري 3 / 210، السيرة الحلبية 3 / 387 .



وارتفعت الأصوات حتّى تخوّفت الاختلاف، فقلت: ابسط يديك يا أبابكر، فبسط يده، فبايعته، ثم بايعه المهاجرون، ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت: قتل اللّه سعد بن عبادة»(1) .


إنّ الشورى الإسلامية حسب ما توحي كلمتها السامية، لا تنعقد إلاّ بدارسة الموضوع دراسة موضوعية واقعية، وأن تكون هناك حرّية في الرأي والنظر، ونزاهة في الكلام، ويقوم مندوب كل جماعة بإدلاء رأيه بدليل وبرهان، وربّما تتطلّب دراسة مثل ذلك الموضوع الحيوي عقد مجالس متعدّدة حتّى يصل من خلالها المسلمون إلى الأمثل فالأمثل في موضوع القيادة، وأمّا المجلس الّذي تسل فيه السيوف على المخالف، ويداس المقابل بالأقدام، فهذا أشبه بميدان الحرب والقتال لا المفاهمة والمشاورة، بل أشبه...


هذا حال السقيفة وأمّا ما جرى بعد السقيفة فحدّث عنه ولا حرج، فقد خرج الخليفة من السقيفة مع من بايعوه فلم يلاقوا أحداً في الطريق إلاّ وضعوا يده على يد الخليفة بيعة له .


ثمّ إنّ علياً وجماعة معه كانوا متخلّفين عن البيعة، ولمّا كان تخلّفه ومن معه من أصحابه اخلالا بالبيعة، بعث أبوبكر عمر بن الخطاب إلى بيت علي وفاطمة، ليتهدّدوا اللائذين به، الممتنعين عن مبايعته، وقال له: إن أبوا فقاتلهم، وأتى عمر إلى بيت فاطمة وهو يقول: واللّه لنحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة، فقالت فاطمة لمّا سمعت ذلك صائحة منادية: «يا أبت يا رسول اللّه ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة»(2) .


1 . السيرة النبوية لابن هشام 2 / 660 .


2 . تاريخ الطبري 3 / 210، الامامة و السياسة لابن قتيبة 1 / 13 .



ثمّ بعد هنّ وهنات اُخرج الامام من بيته، وقادوه إلى البيعة كما يقاد البعير المخشوش، وسيق سوقاً عنيفاً، وقالوا له: بايع، فيقول: «إن أنا لم أفعل فمه؟»


فيقال: واللّه الّذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك، فقال علي: «إذن تقتلون عبداللّه وأخا رسول اللّه»(1).


ولم يكن الضغط منحصراً في علي، بل لمّا سمع الزبير ما جرى في السقيفّة سلّ سيفه وقال: لا أغمده حتّى يبايع علي، فيقول عمر: عليكم الكلب، فيؤخذ سيفه من يده، ويضرب به الحجر فيكسر(2) .


هذه صورة اجمالية وضعناها أمام القارئ ليقف على مدى صحّة الشورى الّتي بنيت عليها خلافة الخليفة الأوّل، ثمّ هو عقد الخلافة بنفسه لعمر من دون أي مشاورة للمسلمين(3) كما فوّض الثاني أمر الخلافة إلى ستّة وقد استبدّ في تعيينهم من دون مشورة، وليس هذا شيئاً ينكر أو يشك فيه(4) .


وقد بلغت فضاحة الأمر في السقيفة إلى حدّ يصفه عمر بقوله: كانت بيعة أبي بكر فلتة كفلتة الجاهلية وقى اللّه المسلمين شرّها. أو قال: كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمّت، وأنّها قد كانت كذلك إلاّ أنّ اللّه قد وقى شرّها، فمن بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين، فانّه لا بيعة له(5) .


1 . الامامة والسياسة 1 / 13 .


2 . تاريخ الطبري 3 / 199، الامامة والسياسة 1 / 11 .


3 . سيأتي مصدره .


4 . سيأتي مصدره .


5 . السيرة النبوية 2 / 658، تاريخ الطبري 2 / 446 .



الخلفاء وتناسي الشورى:



قد درسنا كيفية انعقاد الامامة لأوّل الخلفاء هلمّ معي ندرس خلافة غيره، فسوف ترى أنّه لم يكن هناك أىّ مشورة ولا أىّ استفتاء شعبي، ولا أىّ ديمقراطية كما يدّعيها بعض الكتّاب المعاصرين .


روى المؤرّخون: انّه دعا أبوبكر عثمان بن عفان، فقال: اكتب عهدي، فكتب عثمان وأملى عليه: بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبوبكر بن أبي قحافة آخر عهده بالدنيا، نازحاً عنها، وأوّل عهده بالآخرة داخلا فيها، إنّي أستخلف عليكم عمر بن الخطاب...(1) .


والإنسان عندما يقرأ هذه الصفحة من التاريخ، يقف على قيمة ما ذكره الامام، عندما رفعوا السيف على رأسه ليبايع أبابكر، فقال: «احلب يا عمر حلباً لك شطره، اُشدد له اليوم أمره، ليردّه عليك غداً، ألا واللّه لا أقبل قولك ولا اُبايع»(2) فواللّه، لقد تحقّق قول الامام حيث ردّ عليه الأمر من بعد، كما عرفت .


وهذا عمر بن الخطّاب، فبعدما جرح ودنا أجله قال: سأستخلف النفر الذين توفّي رسول اللّه وهو عنهم راض، فأرسل إليهم فجمعهم وهم: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفّان، وطلحة، والزبير بن العوّام، وسعد بن أبي وقّاص، وعبدالرحمان ابن عوف، وكان طلحة غائباً .


فقال: يا معشر المهاجرين الأوّلين، إنّي نظرت في أمر الناس فلم أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم فتشاوروا ثلاثة أيّام، فإن جاءكم طلحة إلى ذلك وإلاّ فأعزم عليكم أن لا تتفرّقوا من اليوم الثالث حتى


1 . الامامة والسياسية لابن قتيبة 18، الكامل في التاريخ 2 / 425 .


2 . الامامة والسياسة 23، الكامل 3 / 35 .



تستخلفوا أحدكم.


ثم قال لصهيب: «صلّ بالناس ثلاثة أيّام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسف...وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما... فان رضى ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا، فحكّموا عبداللّه بن عمر فإن لم يرضوا بحكم عبداللّه بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمان بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس»(1) .


«فلما دفن عمر جمعهم أبو طلحة ووقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار، حاملي سيوفهم ثم تكلّم القوم وتنازعوا فأوّل ما عمل طلحة أنّه أشهدهم على نفسه أنّه قد وهب حقّه من الشورى لعثمان، وذلك لعلمه أنّ الناس لا يعدلون به عليّاً وعثماناً، وانّ الخلافة لا تخلص له وهما موجودان فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي ـ عليه السلام ـ بهبة أمر لا انتفاع له به ولا تمكّن له منه.


ولمّا رأى الزبير أنّ علياً قد ضعف، وانخذل بهبة طلحة حقه لعثمان دخلته حميّة النسب فوهب حقه من الشورى لعلي. لأنّه ابن عمّته، وهي صفية بنت عبدالمطلب وأبو طالب خاله .


وقال سعد بن أبي وقاص: أنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمي عبدالرحمان وذلك لأنّهما من بني زهرة ولعلمه أنّ الأمر لا يتم له .


فلما لم يبق إلاّ الثلاثة: علي وعثمان وعبدالرحمان ولكل واحد صوتان وبما أنّ عمر بن الخطاب قال في وصيته لأبي طلحة الأنصاري: بأنّه إذا تساوت الآراء فرجّح الفئة الّتي فيها عبدالرحمان بن عوف. ومن المعلوم أنّ عبدالرحمان ما كان يميل إلى علي ويترك نفسه أو صهره عثمان، ولأجل ذلك قام بلعبة اُخرى يريد بها


1 . تاريخ الطبري 3 / 294 .



حرمان علي.


فقال عبدالرحمان لعلي وعثمان: أيّكما يخرج نفسه من الخلافة ويكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين؟ فلم يتكلّم منهما أحد، فقال عبدالرحمان: اشهدكم انّني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدكما، فامسكا فبدأ بعلي ـ عليه السلام ـ وقال له: اُبايُعك على كتاب اللّه وسنّة الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وسيرة الشيخين: أبي بكر وعمر، فقال: بل على كتاب اللّه وسنّة الرسول واجتهاد رأيي، فعدل عنه إلى عثمان فعرض عليه ذلك، فقال: نعم فعاد إلى علي ـ عليه السلام ـ فأعاد قوله، وفعل ذلك عبدالرحمان ثلاثاً، فلمّا راى أنّ علياً غير راجع عمّا قاله وأنّ عثمان يَنْعم له بالاجابة صفّق على يد عثمان، وقال: السلام عليك يا أميرالمؤمنين، فيقال: إنّ عليّاً ـ عليه السلام ـ قال له: واللّه ما فعلتها إلاّ لأنّك رجوت منه ما رجاه صاحبكما من صاحبه دقَّ اللّه بينكما عطر «منشم» .


قيل: ففسد ذلك بين عثمان وعبدالرحمان فلم يكلّم أحدهما صاحبه حتّى مات عبدالرحمان(1) .


شورى سداسية أو لعبة سياسية؟:



إذا ألقيت نظرة على كيفية تشكيل الشورى وأعضائها أدركت أنّها كانت لعبة سياسية وكان الهدف منها تسليم الخلافة إلى عثمان ولكن بصبغة شرعية وقانونية. إذ لم تكن الظروف تسمح بتنصيبه أو الايصاء به صريحاً. فدقَّ الخليفة باب الشورى


1 . الطبري: التاريخ 3، الجزري: الكامل 3 وشرح ابن أبي الحديد 1 / 188، و«منشم» اسم امرأة عطّارة بمكة وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادا القتال تطيّبوا بطيبها وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فكان يقال أشأم من عطر منشم، لاحظ الصحاح للجوهري .



حتّى يسّد به أفواه المعترضين بالقدر الميسور. وكانت الغاية واضحة لدى المطّلعين على خبايا الاُمور. منهم أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ حيث قال لعمّه العباس: عُدل بالأمر عنّي يا عم قال: وما عيبك، قال: قرن بي عثمان، وقال عمر: كونوا مع الأكثر فان رضى رجلان رجلا، ورجلان رجلا، فكونوا مع عبدالرحمان بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه (عبدالرحمان بن عوف) وعبدالرحمان صهر عثمان لا يختلفان (1) .


وقال ابن عباس: الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان(2) .


وقد نال الخليفة بغيته من خلال الاُمور التالية:


1- إنّ الشخصيات المشاركة في الشورى فرضت من جانب الخليفة وقد احتكر ذلك الحق لنفسه وسلبه عن الاُمة، ولو كان الانتخاب بيد الاُمة ربّما كان المصير على خلاف ما أراده .فأدخل في الشورى رجالا يسيرون على الخط الّذي رسمه الخليفة في نفسه .


وبرّر الخليفة حصر أعضاء الشورى فيهم بأنّ النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مات وهو راض عنهم وهو تبرير تافه، فانّ النبي مات وهو راض عن غير هؤلاء أيضاً ولقد أثنى على عدّة من أصحابه كأبي ذر الغفاري وعمّار بن ياسر وجابر بن عبداللّه الأنصاري، وأبي أيوب مضيّفه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وغيرهم بيد أنّ هؤلاء لمّا كانوا لا يحققون مطامع الخليفة أعرض عنهم وأدلى بأسماء هؤلاء الذين يتجاوبون مع ما يريد .


2- انتخب رجالا لعضوية الشورى كانوا مختلفي النزعة والهوى ولكن


1 . شرح النهج 1 / 191 .


2 . شرح النهج 1 / 189 .



الجامع بين أغلبهم هو الانحراف عن علي ـ عليه السلام ـ واضمار العداء له. فعند ذلك أصبح اقصاء علىّ أمراً محتوماً إن لم نقل انّ تعيين عثمان أضحى أمراً مفروضاً وذلك لأنّ طلحة بن عبيداللّه كان معروفاً بعدائه لعلي وانحرافه عنه. فلأجل ذلك وهب حقّه لعثمان تضعيفاً لجانب علي .


إنّ سعد بن أبي وقاص كان ابن عم عبدالرحمان بن عوف وكلاهما من بني زهرة فلا يميل إلى علي وفي الشورى واحد من عشيرته .


وعبدالرحمان بن عوف كان صهر عثمان. لأنّ اُمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت زوجته وهي اُخت عثمان من اُمّه .


على هذا كانت تشهد القرائن على أنّ الخليفة كان يضمر حرمان علي من الخلافة. ولم يكن في الشورى منافس لعلي سوى عثمان، فطبع الحال كان يوحي بأنّ عثمان هو الّذي سيأخذ بمقاليد الحكم. إذ لم يكن لسائر الأعضاء الأربعة مكانة اجتماعية مثل علي وعثمان بل لم يكن لهم إربة في الخلافة وإنّما أطمعهم فيها الخليفة للتوصّل إلى مأربه .


3- انّه لما كان من المحتمل أن تتساوى الأصوات بين علي وعثمان جعل الرجحان والتقديم للفئة الّتي فيها عبدالرحمان بن عوف فكأنّه جعل صوته صوتين. وأمّا عبدالرحمان بن عوف (وهو ذلك الرجل الثري الذي ترك كمية هائلة من الذهب والفضة وقد كُسرت بالفؤوس عند تقسيمها) فهل يترك عثمان ويميل إلى علي وانّ الطيور على أشكالها تقع .


وبالتالي لم يفسد الخليفة على علي في هذه الواقعة فحسب بل أفسده على علي بعد رحيل عثمان حيث إنّ ادخال هؤلاء في الشورى أطمعهم في الخلافة وجعلهم يعتقدون في أنفسهم بانّهم مؤهلّين لها وأنّهم أعدال علي وأقرانه. ولأجل ذلك قاموا في وجه الامام علي يدّعون الخلافة لأنفسهم تحت غطاء أخذ الثأر لعثمان .



إنّ الامام أميرالمؤمنين ـ عليه السلام ـ قد أفصح بما يكنّه ضميره حول وصية الشورى، فقال في بعض خطبه:


«فياللّه والشورى، متى اعتراض الريب فيّ مع الأوّل حتّى صرت اُقرن إلى هذه النظائر، لكنّي أسففت إذ أسفّوا. وطرت إذ طاروا. فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره مع هن وهن»(1) .


هذا كلام علي في أواخر أيامه .فقد اعترض هو ايضاً في أيام الشورى وكذلك فعل أصحابه فروى الطبري أنّ عبدالرحمان قال: أيّها الناس أشيروا علىّ في هذين الرجلين؟ فقال عمّار بن ياسر: إنّ أردت أن لا يختلف الناس فبايع علياً. فقال المقداد: صدق عمّار، وإن بايعت علياً سمعنا وأطعنا، فقال عبداللّه بن أبي سرح: إن اردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان، وقال عبداللّه بن أبي ربيعة المخزومي: صدق، إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا، فشتم عمّار بن أبي سرح وقال له: متى كنت تنصح الإسلام؟!


فتكلّم بنو هاشم وبنو اُميّة وقام عمّار وقال: أيّها الناس إنّ اللّه أكرمكم بنبيّه وأعزّكم بدينه فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم. فقال رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يابن سمية وما أنت وتأمير قريش لأنفسها. فقال سعد: يا عبدالرحمان أفرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس فحينئذ عرض عبدالرحمان على علي ـ عليه السلام ـ العمل بسيرة الشيخين .


فقال: بل أجتهد برأيي فبايع عثمان بعد أن عرض عليه فقال: نعم، فقال علي ـ عليه السلام ـ ليس هذا بأوّل يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل واللّه المستعان على ما


1 . نهج البلاغة، قسم الخطب / الخطبة 3 .



تصفون واللّه ما ولّيته الأمر إلاّ ليردّه إليك واللّه كل يوم في شأن(1) .


وبهذا تبين أنّ الشورى كانت نظرية بدون تطبيق وكانت اسماً بلا مسمى.


إجابة عن سؤال:



إذا لم تكن الشورى مبدأ للحكم في الإسلام فماذا يعني الامام علي من قوله في رسالته إلى معاوية حيث يقول: إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ، إنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك للّه رضاً(2) .


نقول: إنّ ابن أبي الحديد أوّل من احتجّ بهذه الخطبة، على أنّ نظام الحكومة بعد وفاة النبىّ هو نظام الشورى، وتبعه البعض غفلة عن حقيقة المراد، وذلك لأنّ ملاحظة اسلوب الكلام، وما صدَّر به الامام رسالته، أعني قوله: «انّه بايعني الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان» تدل بوضوح على أنّ الامام كان في مقام الاحتجاج بمسلَّم الخصم ـ أعني معاوية ـ، على قاعدة «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم»، فإنّه خرج عن طاعة الامام مع اعتناقه إمامة من تقدّم، فالامام يحتجّ عليه بأنّه بايعني الذين بايعوا الثلاثة فما وجه البغي علىّ والطاعة لهم، ولو لم يكن في مقام الجدل وافحام الخصم، لما كان لذكر خلافة الخلفاء في صدر الرسالة وجه، مع أنّ للامام كلمات في تخطئة الشورى الّتي تمّت بها، أو بادّعائها خلافة الخلفاء، ومن تصفّح نهج البلاغة يقف عليها .


1 . شرح النهج: لابن أبي الحديد 1 / 193 ـ 194 .


2 . الامامة والسياسة 23، ونهج البلاغة قسم الرسائل، برقم 45 .



والعجب أنّ أحداً من المهاجرين والأنصار لم يستند في مأساة السقيفة، إلى نظام الشورى بل استند كل من اللفيفين باُمور لا تمت إلى هذا الأصل، فادّعى أبوبكر أنّ المهاجرين من أقوام النبىّ وعشيرته، واحتجّ الأنصار بأنّهم هم الذين آووا الرسول، وضحّوا بأنفسهم ونفايسهم لحراسته وحفظه، فانظر ماذاترى قاتل اللّه الأنانية، وحيّا اللّه الحقيقة وحماتها.





الفصل الثامن



نصوص الخلافة والركون إلى الأمر الواقع







دلّت نصوص الخلافة الماضية، بوضوح على أنّ الامام علياً كان هو الخليفة الشرعي والقائم بالأمر بعد الرسول وانّه كان من واجب للمسلمين الرجوع إليه فيما يمت إلى حياتهم السياسية والاجتماعية والدينية، غير أنّ رجالا بعد النبىّ تناسوا النصّ بعد تلبية النبىّ نداء ربّه، وانثالوا على أبي بكر، وبعده على عمر وعثمان، إلى أن عاد الحق إلى نصابه، ودار الأمر على مداره. وهناك سؤال يطرحه كل من يؤمن بتواتر النصوص ووضوح دلالتها، لما يشاهد المعارضة بينها وبين الأمر الواقع في السقيفة وما بعدها، وانثيال كثير من المهاجرين والأنصار إلى غير علي، فيقع في الحيرة والتعجّب، فيقول: لو كانت النصوص النبويّة على هذا المستوى، فلماذا أعرض عنها المسلمون؟ ولماذا لم يطلب الامام حقّه الشرعي؟ ولماذا رضي بالأمر الواقع، ولم ينبس فيه ببنت شفة؟ وهذا هو الّذي نجيب عنه في المقام، فنقول:


إنّ المهم هو بيان السرّ الّذي دفع الامام إلى ترك المطالبة بحقّه بالقدرة والعنف، وأمّا إعراض المهاجرين والأنصار، أو في الحقيقة ـ إعراض الرؤوس منهم عن النص، وانثيال غيرهم إليهم، فليس هذا أمراً عجبا، فقد أعرضوا عن كثير من النصوص، واجتهدوا تجهاها كما تقدّم البحث عن موارده ـ . وإليك تشريح ما هو المهم:



إنّ الامام لم يسكت طول حياته عن بيان حقّه وارشاد الناس إليه، بل أظهر عدم رضاه بالأمر الواقع وأنّه تعبير آخر عن غصب حقّه، يقف عليه كل من قرأ مأساة السقيفة في كتب التاريخ، فلا يفوتنّك قراءة طبقات ابن سعد، وتاريخ الطبري، والسيرة النبوّية لابن هشام، ولا العقد الفريد، ولا الامامة والسياسة لابن قتيبة، فكلّها مفعمة بشكوى الامام وعدم قبوله بالأمر الواقع، غير انّ التكليف حسب القدرة، ـ وبعدها ـ في ظلّ المصالح العامّة، فلم يكن للامام قدرة على المطالبة بحقّه، وعلى فرض وجودها كانت المصلحة تكمن يومذاك في ادلاء الأمر إلى متقمّصيها وعدم المطالبة بها بالقهر والقوّة، وإليك ما يدل على ذينك الأمرين من خلال دراسة التاريخ .


1- هذا ابن قتيبة يسرد تاريخ السقيفة، وما فيه من مآسي، يقول: إنّ علياً كرّم اللّه وجهه اُتي به إلى أبي بكر وهو يقول: «أنا عبداللّه وأخو رسول اللّه» فقيل له: بايع، فقال: «أنا أحقّ بهذا الأمر منكم، وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبىّ، وتأخذوه من أهل البيت غصبا! ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمّا كان محمد فيكم فسلّموا إليكم الإمارة، فإذن أحتجُّ عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار. نحن أولى برسول اللّه حيّاً وميتاً، فأنصفوا إن كنتم تؤمنون، وإلاّ فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون. فقال له عمر: إنّك لست متروكاً حتّى تبايع، فقال له علي: «احلب حلباً لك شطره، وشُدَّ له اليوم، يردده عليك غداً ـ ثمّ قال: ـ واللّه يا عمر لا أقبل قولك ولا اُبايعه» فقال أبوبكر: فإن لم تبايع فلا اُكرهك، فقال أبو عبيدة بن الجرّاح لعلي كرم اللّه وجهه: ياابن عم إنّك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالاُمور ولا أرى أبابكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالا واستطلاعا، فسلِّم لأبي بكر فإنّك إن تعش ويطل لك بقاء،



فأنت لهذا الأمر خليق وحقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك. فقال علي كرم اللّه وجهه: «اللّه اللّه يا معشر المهاجرين لا تُخرجوا سلطان محمّد في العرب من داره، وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم، وتدفعون أهله عن مقامه في الناس، وحقّه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به لأنّا أهل البيت، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم، ما كان فينا القارىء لكتاب اللّه، الفقيه في دين اللّه، العالم بسنن رسول اللّه، المتطّلع لأمر الرعيّة، الدافع عنهم الاُمور السيّئة، القاسم بينهم بالسويّة، واللّه إنّه لفينا فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل اللّه فتزدادوا من الحقّ بعدا»(1) .


فأىّ بيان أروع من هذا البيان، وأىّ بلاغ أصرح منه، فقد فنَّد خلافة المتقمّص ببيان فقده مؤهّلاتها وهي الاُمور التالية: «1- ما كان فينا القارىء لكتاب اللّه، 2- الفقيه في دين اللّه، 3- العالم بسنن رسول اللّه، 4- المتطلّع لأمر الرعيّة، 5- الدافع عنهم الاُمور السيّئة، 6- القاسم بينهم بالسويّة» ومعنى ذلك انّ المتقمّص ومؤيديه فاقدون لهذه الصلاحيات .


2- لمّا انتهت إلى أميرالمؤمنين انباء السقيفة قال ـ عليه السلام ـ : «ما قالت الأنصار؟» قالوا: قالت منّا أمير ومنكم أمير، فقال: «فهلاّ احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه وصّى بأن يُحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم؟» قالوا: وما في هذا من الحجّة عليهم؟! فقال ـ عليه السلام ـ : «لو كانت الامامة فيهم، لم تكن الوصيّة بهم ـ ثم قال: ـ فماذا قالت قريش؟» قالوا: احتجّت بأنّها شجرة الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، فقال ـ عليه السلام ـ : «احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرّة»(2).


1 . الامامة والسياسة 1 / 11 ـ 12 .


2 . نهج البلاغة، الخطبة 67 .



وروى الرضي في المقام شعراً للإمام:


فإن كنت بالشورى ملكت اُمورهم * فكيف بهذا والمشيرون غيّب


وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب(1)


3- الامام لم يكتف بهذه الجمل في بادئ الأمر، بل استمرّ على بيان الحق باساليب مختلفة منها إحتجاجه بحديث الغدير في يوم الشورى سنة 23، قال عمر بن واثلة: كنت على الباب يوم الشورى مع علي ـ عليه السلام ـ في البيت، فسمعته يقول: «لأحتنّ عليكم بما لا يستطيع عربيّكم ولا أعجميّكم تغيير ذلك - ثمّ قال: ـ أنشدكم اللّه، أفيكم من وحّد اللّه قبلي؟» قالوا: لا... ـ إلى أن قال: ـ «فأنشدكم باللّه، هل فيكم أحد قال له رسول اللّه: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، ليبلّغ الشاهد الغائب غيري؟» قالوا: اللّهمّ لا(2) .


4- كما ناشد يوم الرحبة سنة 35، روى الأصبغ قال: نشد علي الناس في الرحبة: «من سمع النبي يوم غدير خم ما قال، إلاّ قام ولا يقوم إلاّ من سمع رسول اللّه» يقول: فقام بضعة عشر رجلا، فيهم أبو أيّوب الأنصاري، وسهل بن حنيف، وخزيمة بن ثابت، وعبداللّه بن ثابت الأنصاري... فقالوا: نشهد أنّا سمعنا رسول اللّه يقول: «ألا من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وابغض من أبغضه، وأعن من أعانه»(3) .


ولم تكن المناشدة، منحصرة بهذين الموردين، بل ناشد الامام في غير واحد من المواقف الاُخرى كما ناشدت زوجته الصدّيقة الطاهرة بحديث الغدير، وبعده


1 . نهج البلاغة (قسم الحكم) برقم 190 .


2 . الصواعق لابن حجر 75، المناقب للخوارزمي 135 برقم 152 طبع النشر الاسلامي .


3 . اُسد الغابة 3 / 307 و 5 / 205.



الحسنان السبطان، وعبداللّه بن جعفر وعمّار بن ياسر، حتّى ناشد به عدوّه عمرو بن العاص عند احتجاجه على معاوية(1) .


وهذه شواهد باهرة على عدم سكوته ولا رضاه، بالأمر الواقع بل استمرّ على هذا إلى اُخريات حياته، ويتّح هذا بالرجوع إلى خطبته المعروفة الشقشقية الّتي ألقاها في آخر خلافته .


وأمّا عدم القيام بأخذ الحقّ بالقوة، فلأجل أنّ القيام فرع القدرة، ولم يكن يومذاك أىّ منعة وقدرة للإمام، ويكفي في ذلك كلامه في خطبته الأخيرة: «فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه»(2) .


ولو افترضنا وجود القدرة، لكن مصالح الإسلام كانت تكمن في المسالمة وادلاء الأمر إليهم، يشير إليه الامام تارة بالكناية واُخرى بالتصريح، أمّا الأوّل فيقول: «أيّها الناس شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرِّجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فأراح. هذا ماء آجن، ولقمة يغصّ بها آكلها، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزراع بغير أرضه .


فإن أقل، يقولوا: حرص على الملك، وإن أسكت، يقولوا: جزع من الموت، هيهات بعد اللّتيَّا والّتي واللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي اُمّه، بل اندمجت على مكنون علم لو بُحْتُ به، لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوىِّ


1 . راجع للوقوف على هذه المناشدات كتاب الغدير 1 / 159 ـ 213 .


2 . نهج البلاغة، الخطبة 3 .



البعيدة»(1) .


وقد خطب بها الامام لمّا قبض رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة. وذلك بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر في السقيفة، فيشير الامام إلى ما لديه من العلم المكنون، وهو إشارة إلى الوصيّة الّتي خصّ بها ـ عليه السلام ـ وأنّه كان من جملتها الأمر بترك النزاع في مبدأ الاختلاف عليه (2) .


وقد أوضح ما ذكره مجملا في هذه الخطبة الّتي ألقاها بعد وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بخطبته الّتي ألقاها بعد رجوع الناس إليه وصرّح بأنّ لمسالمته الخلفاء لأجل أخطار كانت تحدق بالمسلمين بعد موت النبىّ، فقال ـ عليه السلام ـ : «إنّ اللّه سبحانه بعث محمّداً ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ نذيراً للعالمين، ومهيمناً على المرسلين، فلمّا مضى ـ عليه السلام ـ ، تنازع المسلمون الأمر من بعده، فواللّه ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالي، أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عن أهل بيته، ولا أنّهم مُنحّوه عنّي من بعده! فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به علىّ أعظم من فوت ولايتكم الّتي إنّما هي متاع أيّام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل


1 . نهج البلاغة، الخطبة 5 .


2 . شرح نهج البلاغة 1 / 215 .



وزهق، واطمأن الدين وتنهنه»(1) .


ورواه أبو الحسن علي بن محمّد المدائني عن عبداللّه بن جنادة، قال: قدمت من الحجاز اُريد الطرق في أوّل إمارة علي ـ عليه السلام ـ فمررت بمكّة فاعتمرت، ثم قدمت المدينة فدخلت مسجد رسول اللّه، إذ نودي: الصلاة جامعة; فاجتمع الناس وخرج علي ـ عليه السلام ـ متقلّداً سيفه، فشخصت الأبصار نحوه، فحمداللّه وصلّى على رسوله، ثم قال: أمّا بعد، فلمّا قبض اللّه نبيّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قلنا: نحن أهله وورثته، وعترته، وأولياؤه دون الناس، لا ينازعنا سلطانه أحد، ولا يطمع في حقّنا طامع، إذ انبرى لنا قومنا، فغصبونا سلطان نبينا، فصارت الإمرة لغيرنا ـ إلى أن قال: ـ وأيم اللّه، لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر ويبور الدين، لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه فوليَ الأمر ولاة لم يألوا الناس خيراً»(2) .


كان الامام ـ عليه السلام ـ يرى أنّ الدعوة إلى نفسه تؤدّي إلى تعرّض الإسلام إلى الأخطار المهلكة .


روى الزبير بن بكار، قال: روى محمد بن إسحاق أنّ أبابكر لمّا بويع افتخرت تيم بن مرة، قال: وكان عامة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكون انّ عليّاً هو صاحب الأمر بعد رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقال بعض بني هاشم شعراً مدح فيه الامام وعاب المتقمّصين وقال:


ما كنت أحِسب أنّ الأمر منصرف * عن هاشم ثمّ منها عن أبي حسن


أليس أوّل من صلّى لقبلتكم * وأعلم الناس بالقرآن والسنن؟


وأقرب الناس عهداً بالنبىّ وَ من * جبريل عون له فيالغسل والكفن


1 . نهج البلاغة، قسم الكتب 62 .


2 . شرح نهج البلاغة 1 / 307، والكلمتان متقاربتان .



ما فيه ما فيهم لا يمترون به * وليس في القوم ما فيه من الحسن


ماذا الّذي ردّهم عنه فنعلمه؟ * ها إنّ ذا غبننا من أعظم الغبن!


قال الزبير: فبعث إليه علي فنهاه، أمراً لا يعود وقال: لسلامة الدين أحبُّ إلينا من غيره .


فهذه الكلم والخطب عن عليٍّ تعرب عن إخلاصه للدين وحبّه لحفظ الوئام والسلام بين المسلمين وانّه لولا خوف محق الدين لما ترك الأمر إلى الغير، ولقام بالسلاح والكراع على أخذ حقّه .


«ولو لا مراعاة علىّ للأوضاع والظروف الّتي احاطت بالاسلام في تلك الفترة من تاريخه، لحدثت تطوّرات في تاريخ الإسلام لانستطيع أن نقدّر مدى أثرها السيّئ على جهود الرسول والوصي والمخلصين من الصحابة، ولكنّه أدرك ذلك، وأحصى ما سيجرّه تصلّبه في موقفه من الغنائم على المرتدّين والمنافقين الذين أضمروا الدمار للاسلام»(1) .


كان الامام ينظر إلى أنّ طوائف من العرب على عتبة الارتداد عن الإسلام، وانّ بين المسلمين في المدينة طابور خامس يتحيّن الفرص للقضاء على الإسلام وإحياء الجاهلية، فلم ير بدّأ من التسليم للأمر الواقع ومماشاة الخلفاء، ورفع مشاكل المسلمين في المسائل المستجدّة والمستعصية والاجابة على أسئلة الوافدين إلى المدينة، وتعليم القرآن للفيف من المهاجرين والأنصار وأبنائهم، والادلاء بالرأي الحق عند المشاورة، إلى غير ذلك من الاُمور الّتي استغرقت قرابة خمس وعشرين سنة من حياته، إلى عام 35 الّذي قتل فيه عثمان بمرأى ومسمع من المهاجرين والأنصار. وقد أحدث في الإسلام اُموراً أدَّت إلى الفتك به، وكان


1 . الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة 28 .



الخليفة الثاني متنبّئاً به، فقال له: لئن وليتها (الخلافة) لتحملن بني أبي معيط على رقاب الناس فحمل بني أبيه على رقابهم، يخضمون مال اللّه خضم الابل نبتة الربيع، فأدّى ذلك وغيره إلى قتله في عقر داره .


تسنّم الامام مقاليد الحكم بعد ربع قرن:



كان الامام قرابة ربع قرن جليس بيته، يشتغل ببعض الاُمور لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، إلى أن قُتِل عثمان و انثال الناس على الامام من كل جانب هاتفين: لا يصلح للخلافة إلاّ علي. فقال لهم: «دعوني والتمسوا غيري» .


روى الطبري نقلا عن محمّد بن الحنفية: كنت مع أبي، حين قتل عثمان فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول اللّه، فقالوا: إنّ هذا الرجل قد قتل، ولابدّ للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحقّ بهذا الأمر منك، ولا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقال: «لا تفعلوا فانّي أكون وزيراً خير من أن أكون أميرا» فقالوا: «واللّه ما نحن فاعلين حتّى نبايعك» فقال: «ففي المسجد، فإنّ بيعتي لا تكون خفياً، ولا تكون إلاّ عن رضا المسلمين»، قال سالم بن أبي الجعد: فقال عبداللّه بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه، وأبى هو إلاّ المسجد. فلمّا دخل، دخل المهاجرون والأنصار، فبايعوه، ثم بايعه الناس(1) .


وفي رواية اُخرى: غشى الناس عليّاً، فقالوا: نبايعك، فقدترى ما نزل بالاسلام وما ابتلينا به من ذوي القربى، فقال علي: «دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه، وله ألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول» فقالوا: ننشدك اللّه، ألا ترى ما نرى، ألا ترى الإسلام ، ألا ترى الفتنة، ألا تخاف اللّه،


1 . تاريخ الطبري 3 / 450 .



فقال: «قد أجبتكم لما أرى، واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني، فانّما أنا كأحدكم، إلاّ أنّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم»(1) .


هذا ما يذكره الطبري، وأمّا الامام فهو يصف كيفية هجوم الناس على بيته لمبايعته فيقول: «فتداكّوا علىَّ، تداكّ الإبل الهيم يوم وِرْدِها، وقد أرسلها راعيها، وخُلعت مثانيها، حتّى ظننت أنّهم قاتلي، أو بعضهم قاتل بعض ولديَّ»(2) .


وفي خطبة اُخرى: «فما راعني إلاّ والناس كعرف الضبع إِلىَّ، ينثالون علىّ من كل جانب حتّى لقد وطئ الحسنان، وشقّ عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم»(3) .


ولم تشهد ساحة الخلافة احتشاداً جماهيرياً إلى يومنا هذا، مثلما شهدته في ذلك الزمان، فقد اتّفق المهاجرون والأنصار، والتابعون لهم بإحسان على المبايعة، ولم يتخلّف إلاّ قليل من الناس لا يتجاوز عدد الأنامل. وقد جاء الطبري بأسمائهم يقول: بايعت الأنصار علياً إلاّ نفراً يسيراً، منهم حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد الخدري، ومحمّد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت ورافع بن خُديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة وكانوا عثمانية. فقال رجل لعبداللّه بن حسن: كيف أبى هؤلاء بيعة علي وكانوا عثمانية، فقال: أمّا حسّان، فكان شاعراً لايبالي ما يصنع، وأمّا زيد بن


1 . تاريخ الطبري 3 / 456 .


2 . نهج البلاغة، الخطبة 53، تداكوا: ازدحموا، والهيم: العطاش، يوم وردها: يوم شربها، والمثاني: الحبال.


3 . نهج البلاغة، الخطبة 3، عُرْف الضبع: ما كثر على عنقها من الشعر، يضرب به المثل الكثرة، ينثالون: يتتابعون، شقّ عطفاي: خدش جانباه من الاصطكاك .



ثابت فولاّه عثمان الديوان وبيت المال، فلمّا حصر عثمان قال: يا معشر الأنصار، كونوا أنصار اللّه - مرتين ـ فقال أبو أيوب: ما تنصره إلاّ إنّه كثر لك من العضدان(1) فأمّا كعب بن مالك فاستعمله على صدقة «مُزِينة» وترك ما أخذ منهم له (2) .


قام الامام بواجبه، وهمَّ بالاصلاح، وحوله حُسّاد حاقدون، وأعداء يترقّبون الفرص، وعمّال للخليفة يسألونه البقاء على مناصبهم، فعند ذلك حاقت به الأزمات والشدائد، وهو يصف ذلك بقوله: «فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت اُخرى، وقسط آخرون، كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه سبحانه يقول: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُها لِلَّذِينَ لا يُريدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَ لا فَسَاداً وَ العَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ)(3)بلى! واللّه لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حَلِيَتْ الدنيا في أعينهم، وراقهم زِبْرجها. أما و الّذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة(4) ظالم، ولا سغب(5) مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنيا كم هذه أزهد عندي من عفطة عَنْز»(6) .


فقد أشار الامام بكلامه هذا إلى حروبه الثلاثة مع طوائف ثلاث، فالناكثون هم أصحاب الجمل، الذين لم يجدوا عند الامام إلاّ الحقّ، فطلبوا منه من المناصب ما كان فوق شأنهم وأمانتهم فاجتمعوا في مكّة تحت غطاء المطالبة بدم عثمان مع


1 . العضاد: كل ما يحيط بالعضد من حلي وغيرها .


2 . تاريخ الطبري 3 / 452 .


3 . القصص / 83 .


4 . الكظّة: البِطْنَة (ما يعتري الآكل عند امتلائه بالطعام) والمراد: استئثار الظالم بالحقوق .


5 . السغب: شدة الجوع .


6 . نهج البلاغة، الخطبة 3 .



أنّهم هم المحرّضون على قتله، وموَّلهم جماعة من بني اُميّة ولم يكتفوا بذلك، وإنّما غرّوا باُمّ المؤمنين عائشة، وأركبوها على الجمل يقطعون بها الفيافي والقفار، حتّى نزلوا البصرة، فقتلوا من شيعة علي ومحبّيه ما استطاعوا. فلمّا لاقوا عليّاً بجيوشهم أبوا إلاّ الحرب فدارت الدوائر على الناكثين، فقتل رؤوس الفتنة، واُرسلت اُمّ المومنين إلى المدينة بتكريم واحترام.


ولكن لم يقف الأمر على هذا الحد، فقام ابن آكلة الأكباد، الطليق ابن الطليق الّذي خَذَلَ عثمان، ولم ينصره، ثم انتحل دمه وطلب ثأره، فجمع حوله الهمج والرعاع، وتحالف مع عمرو بن العاص الّذي عزله عثمان عن ولاية مصر، فألّب عليه كل راع رآه في البادية، وساومه معاوية على ولاية مصر، فقابلهم الامام في أرض صفين، وقد كادت الحرب تنتهي لصالح الحق والمسلمين لولا أنّهم رفعوا المصاحف على الرماح، وانطلت الحيلة على عسكر الامام، وقالوا له: أجب القوم، فحذّرهم الامام بأنّه مكر وخداع، والقوم ليسوا أهل قرآن وسنّة، فطلب منهم المهلة فما أجابوه، قل هدّدوا بإراقة دمه وقتاله إن لم يُوقف الحرب، ولم يسترجع قائده من ساحة القتال حتّى أنّ الأشتر قائد القوات طلب منهم المهلة ولو بقدر فواق ناقة أو عدوة فرس، فما وافقوه، فاضطرّ الامام إلى إيقاف الحرب، وادلاء الأمر إلى الحكمين بشرط أن لا يخرجوا عن حكم الكتاب والسنّة، وكانت نهاية الأمر، عزل مندوب الامام (أبو موسى الأشعري) خليفة المسلمين، ونصب عمرو ابن العاص معاوية للخلافة، كل ذلك بمكر وخداع واحتيال على أبي موسى، فقام الحكمان ومن حولهما يشتتمان ويتسابّان .


ثمّ اُولئك الذين فرضوا قبول التحكيم على علي، ندموا على ذلك، وطفقوا يطالبونه بنقض الميثاق قبل حكم الحكمين، فخرجوا عن طاعة علي، وعن جيشه، فنزلوا حروراء ولم يرجعوا إلى الطاعة حتّى بعد ما دعاهم الامام لا عادة الحرب على



معاوية، لما ظهر لهم كون قول حكم الحكمين على خلاف الكتاب والسنّة، بل أصبحوا يطالبون عليّاً أن يتوب من كفره، كما هم تابوا من كفرهم، لأجل تحكيمه الرجال في أمر الدين، ولم يكتفوا بذلك، فصاروا كقطّاع الطريق يقتلون البريء، ويسفكون الدماء فأوجدوا دهشة ورعباً في قلوب المسلمين، فلم يجد الامام بدّا من قتالهم، وإن كان قتالهم أمراً عظيماً، لأنّهم كانوا أصحاب الجباه السود، يصومون النهار ويقومون الليل، وفي الوقت نفسه هم المارقون، المعاندون للّه ورسوله، وفي حقّهم يقول الامام:


«إنّي فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترىء عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها(1)، واشتدّ كلبها(2)»(3) .


هذه حياة الامام على وجه الاجمال، حياة من ولد في الكعبة ولم يسجد لصنم ورافق النبىّ منذ صباه في موطنه ومهجره، ولم يتخلّف عنه في غزوة من غزواته إلاّ غزوة تبوك، حيث خلّفه في المدينة لإدارة شؤونها في غيابه .


ومع الأزمات الّتي خلفت عثمان وعمّاله، وسوّدوا وجه التاريخ وقطعوا عرى الوحدة بين الخلافة والناس «استطاع أن يجعل من نظامه السياسي المثل الكامل للنظام السياسي للدولة الّتي أسّسها ورفع كيانها رسول اللّه، وأن يجعل من أعماله وأقواله في السلم والحرب، التجسيد الكامل للشريعة الإسلامية وأن يجعل من سلوكه وأخلاقه الصورة الكاملة لأخلاق الرسول وسلوكه، وبذلك ربط كل مسيرة عهده بمسيرة العهد النبوي الشريف، وثبّت للاسلام دعائمه، وأعاد إلى النفوس


1 . الغيهب: الظلمة، وموجها: شمولها وامتدادها .


2 . الكلب ـ محركة ـ داء معروف يصيب الكلاب، فكل من عظه اُصيب به فجنّ ومات إن لم يبادر بالدواء .


3 . نهج البلاغة، الخطبة 93 .



المؤمنة أمنها ويقينها بالرسالة الإسلامية الخالدة»(1) .


قام الامام بالخلافة، وتقلّدها بعد مقتل عثمان، وقد ترك ولاة يمتصّون دماء الناس، ولم يكن الامام ممّن يساوم ويداهن ويترك الحق جانباً، وأوّل ما قام به، هو أنّه أزال الظلم عن الناس بازالة العمّال والولاة الظالمين، الذين اكتنزوا الذهب والفضّة، وملكوا العقارات والمواشي، فعند ذلك قامت قيامة هؤلاء فهم بين ناكث، وقاسط، وضمّ إليهم أعداء يترقّبون الفرص للوثوب، والانتقام، لأنّه قتل آباءهم واستأصل شأفتهم في الحروب والغزوات، كل ذلك صار سبباً لانشغال الامام بالحروب الداخلية. ولو كان الامام آخذاً مقاليد الخلافة بعد الرسول، بل حتّى بعد خلافة الشيخين لما وجد الانحراف عن الدين وتعاليمه في الحياة مجالا ولكنّه ـ ياللأسف ـ أخذ بها والمجتمع مثقّل بالأزمات والانحرافات .


إغارة معاوية على البلاد الآمنة:



هذا ابن أبي سفيان، لمّا رأى انّ الأمصار الإسلامية ما عدا الشام في طاعة الامام، جمع حوله الأشقياء والبغاة، يغيرون على البلاد الآمنة، وينشرون الفوضى والفساد واحداً بعد واحد .


1- فأرسل سفيان بن عوف الغامدي، وقال: إنّي موجّهك في جيش كثيف، ذي أداة وجلادة فالزم لي جانب الفرات، حتّى تمر بهيت(2) فتقطعها، فإن وجدت بها جنداً فأغر عليها، وامض، حتّى تغير على الأنبار فإن لم تجد بها جنداً، فامض حتّى توغل المدائن، فكأنّك غرت على الكوفة، إنّ هذه الغارة يا سفيان على أهل العراق


1 . الزيدية نظرية وتطبيق 19 .


2 . هيت: بلد على الفرات فوق الأنبار .



ترعب قلوبهم، وتفرح كل من له فينا هوى منهم، وتدعو إلينا كل من خاف الدوائر، فاقتل من لقيته ممّن ليس على مثل رأيك، وأخرب كل ما مررت به من القرى، واحرب الأموال فإنّ حرب الأموال ـ أي سلبها ـ شبيهة بالقتل، وهو أوجع للقلب»(1) .


ولمّا بلغ عليّاً جنايات الرجل، خطب خطبته المعروفة وقال:


«فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع اللّه الحصينة، وجنّته الوثيقة ـ إلى أن قال: ـ وهذا أخو غامد، وقد وردت خيله الأنبار وقد قتل حسّان بن حسّان البكري، وأزال خيلكم عن مسالحها، ولقد بلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والاُخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورُعُثها، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام، ثمّ انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم، ولا اُريق لهم دم، فلو أنّ امرأً مسلماً مات من بعد هذا أسفا، ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا»(2) .


2- هذا بسر بن أرطاة، بعثه معاوية إلى اليمن في جيش كثيف وأمره أن يقتل كل من كان في طاعة علي ـ عليه السلام ـ ، فقتل خلقاً كثيراً، وقتل فيمن قتل ابني عبيداللّه بن العباس بن عبدالمطلب، وكانا غلامين صغيرين، فقالت اُمّهما ترثيهما:


يا من أحسّ بابنىّ اللذين هما كالدرّتين تشظّى عنهما الصدف(3)


وقد خطب الامام بعد ما بلغه النبأ بقوله: «اُنبئتُ بسراً قد اطّلع اليمن، وانّي واللّه لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم، وتفرّقكم


1 . شرح نهج البلاغة 2 / 85 .


2 . نهج البلاغة، الخطبة 27 .


3 . شرح نهج البلاغة 1 / 340، تشظّا: تفرّق شظايا، راجع للوقوف على بقية الأبيات الكامل للمبرد وقد ذكره ابن أبي الحديد في شرحه 2 / 13 .



عن حقّكم، وبمعصيتكم إمامكم بالحق، وطاعتهم إمامهم بالباطل، وبأَدائهم الأمانة إلى صاحبهم، وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم، وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعب، لخشيت أن يذهب بعلاقته»(1).


3- دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري، وقال له: سر حتّى تمر بناحية الكوفة، وترتفع عنها ما استطعت فمن وجدته من الأعراب في طاعة علي، فأغر عليه، وإن وجدت له مسلحة أو خيلا، فأغر عليها، وإذا أصبحت في بلد فامس في اُخرى، ولا تقيمن لخيل بلغك أنّها قد سرحت إليك لتلقاها فتقاتلها، ثم جهّزه بثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف .


فاقبل الضحاك، فنهب الأموال، وقتل من لقي من الأعراب، حتّى مرّ بالثعلبية(2)، فأغار على الحاج، فأخذ أمتعتهم، ثم أقبل فلقي عمرو بن مسعود الهذلي، وهو ابن أخي عبداللّه بن مسعود، صاحب رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقتله في طريقه الحاج عند القطقطانة(3) .وقتل معه ناساً من أصحابه(4) .


4- ولم يكتف معاوية بهذه الهجمات العنيفة على البلاد الآمنة، بل جهّز بسر بن أرطاة مرّة ثانية، لإراقة الدماء في حرم الرسول. ويقول ابن أبي الحديد: كان بسر بن أرطاة قاسي القلب فظّاً سفّا كاً للدماء لا رأفة عنده ولا رحمة، وقد جهّزه معاوية في ثلاثة آلاف، وقال له: سر حتّى تمرّ بالمدينة، فاطرد الناس، وأخف من مررت به، وانهب أموال كل من أحصيت له مالا، فمن لم يكن دخل في طاعتنا، فإذا دخلت المدينة فأرهم أنّك تريد أنفسهم، واخبرهم أنّه لا براءة لهم عندك


1 . نهج البلاغة، الخطبة 25 .


2 . الثعلبية: من منازل طريق مكّة إلى الكوفة .


3 . بالضم ثم السكون: موضع قرب الكوفة من جهة البرية بالطف .


4 . شرح نهج البلاغة 2 / 116 ـ 117 .



ولا عذر. ووصل بسر إلى المدينة المنوّرة، فشتم أهلها وتهدّهم وتوعّدهم وأحرق دوراً كثيرة، منها دار زرارة بن حرون، ودار عمرو بن عوف، ودار رفاعة بن رافع الرزقي ودار أبي أيّوب الأنصاري صاحب منزل رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ (1) .


وقال المسعودي: قتل بسر بالمدينة وبين المسجدين خلقاً كثيراً من خزاعة وغيرها، وكذلك بالجرف قتل خلقاً كثيراً من رجال همدان، وقتل بصنعاء خلقاً كثيراً. ولمّا بلغ الخبر عليّاً أنفذ جارية بن قدامة في ألفين، ووهب بن مسعود في ألفين، وحين علم بسر بخبر حارثة فرّ هاربا(2) .


وكانت هذه العصابات الاجرامية، تأتي إلى العراق فقتل وتحرق وتدمّر، إلى آخر حياة الامام، الّذي قضى نحبه في الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة 40. وأصبحت شيعته كغنم غاب عنها راعيها، يفترسهم أعداؤهم عندما استتبّ الأمر لآل أبي سفيان وآل مروان وهذا هو الّذي نطرحه في الفصل التالي:


1 . شرح نهج البلاغة 2 / 10، وما ذكرناه ملخّص ما ذكره مفصّلا.


2 . مروج الذهب 3 / 31 طبعة 1948 .


/ 23