بحوث فی الملل والنحل جلد 6

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

بحوث فی الملل والنحل - جلد 6

جعفر سبحانی تبریزی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید









المسألة الرابعة:




القول بالبداء




إنّ من العقائد الثابتة عند الشيعة الامامية، هو القول بالبداء، ومن الكلمات الدارجة بين علمائهم انّ النسخ والبداء صنوان، غير أنّ الأوّل في التشريع والثاني في التكوين، وقد اشتهرت بالقول به، كاشتهارها بالقول بالتقية وجواز متعة النساء وصار القول بهذه الاُمور الثلاثة من خصائصهم وقد أنكرت عليهم السنّة أشد الانكار خصوصاً في مسألة البداء ولكنّهم لو كانوا واقفين على مراد الشيعة من تجويز البداء على اللّه لتوقّفوا عن الاستنكار، ولأعلنوا الوفاق، وأقول عن جد: لو اُتيحت الفرصة لعلماء الفريقين للبحث عن النقاط الخلافية بعيداً عن التعصب والأنحياز لتجلّى الحق بأجلى مظاهره، ولا عترفوا بصحة مقالة الشيعة، غير أنّ تلك اُمنية لا تتحقق إلاّ في فترات خاصة، وقد سألني أحد علماء أهل السنّة عن حقيقة البداء، فأجبته باجمال ما أُفصّله في هذا المقام، فتعجّب عن اتقان معناه، غير أنّه زعم أنّ ما




ذكرته نظرية شخصية لا صلة لها بنظرية الامامية في البداء فطلب منّي كتاباً لقدماء علماء الشيعة، فدفعت إليه أوائل المقالات، وشرح عقائد الصدوق لشيخ الاُمّة محمّد بن النعمان المفيد (336 ـ 413) فقرأهما بدقة، وجاء بالكتاب بعد أيام وقال: لو كان معنى البداء هو الّذي يذكره صاحب الكتاب فهو من صميم عقيدة أهل السنّة ولا يخالفون الشيعة في هذا المبدأ أبداً .



ولتوضيح حقيقة البداء نأتي بمقدمات:



الأولى: اتفقت الشيعة على أنّه سبحانه عالم بالحوادث كلّها غابرها وحاضرها، ومستقبلها لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فلا يتصوّر فيه الظهور بعد الخفاء، ولا العلم بعد الجهل، بل الأشياء دقيقها وجليلها، حاضرة لديه ويدل عليه الكتاب والسنّة المروية عن طريق أئمّة أهل البيت ـ مضافاً إلى البراهين الفلسفية المقرّرة في محلها ـ أمّا الكتاب:



فقوله سبحانه: (اِنَّ اللّهَ لا يَخْفى عَلَيهِ شَىءٌ فِى الاَرْضِ وَ لا فِى السَّماءِ)(1) .



وقوله تعالى (وَ مَا يَخْفى عَلَى اللّهِ مِنْ شَىء فِى الاَرْضِ وَ لا فِى السَّماءِ)(2) .



وقوله سبحانه: (إنْ تُبْدُوا شيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَاِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىء عَلِيماً)(3) كيف وهو محيط بالعالم صغيره وكبيره، ماديّه و مجرّده، والأشياء كلها قائمة به قياماً قيّومياً كقيام المعنى الحرفي بالاسمي والرابطي بالطرفين ويكفي في ذلك قوله سبحانه:(مَا اَصابَ مِنْ مُصيبَة فِى الاَرْضِ وَ لا فِى اَنْفُسِكُمْ اِلاّ فِى كِتاب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا اِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّه يَسيرٌ)(4) .



1 . آل عمران / 5 .



2 . إبراهيم / 38 .



3 . الأحزاب / 54 .



4 . الحديد / 22 .




وقوله سبحانه: (وَ مَا مِنْ دَابَّة فِى الاَرْضِ اِلاّ عَلَى اللّهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَ مُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتاب مُبين)(1) .



وأمّا الأخبار فنكتفي بالقليل منها:



قال الامام موسى الكاظم ـ عليه السلام ـ : «لم يزل اللّه عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء»(2) .



وقال الامام علي ـ عليه السلام ـ : «كل سر عندك علانية، وكل غيب عندك شهادة»(3) .



وقال ـ عليه السلام ـ : «لا يعزب عنه عدد قطر الماء، ولا نجوم السماء، ولا سوافي الريح في الهواء، ولا دبيب النمل على الصفا، ولا مقيل الذّرّ في الليلة الظلماء، يعلم مساقط الأوراق، وخفىّ طرف الأحداق»(4) .



إلى غير ذلك من الروايات(5) الّتي تدل على احاطة علمه بكل شيء قبل خلقه وحينه وبعده، وانّه لا يخفى عليه شيء ابداً .



وقال الصادق ـ عليه السلام ـ في تفسير قوله: (يمحوا اللّهُ ما يشاءُ ويثبتُ وعندَهُ اُمّ الكتاب):



«فكل أمر يريده اللّه، فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شيء يبدو له إلاّ وقد كان في علمه، إنّ اللّه لا يبدو له من جهل. وقال: من زعم أنّ اللّه عزّوجلّ يبدو له من



1 . هود / 6 .



2 . الكافي ج 1، باب صفات الذات، الحديث 4 .



3 . نهج البلاغة، الخطبة 105 .



4 . نهج البلاغة، الخطبة 173، طبعة عبده .



5 . لاحظ في العثور على الروايات حول علمه سبحانه، البحار 4 / 121 والكافي 1 / 111 .




شيء لم يعلمه أمس، فابرأ وامنه»(1) إلى غير ذلك من الروايات الّتي تدل على إحاطة علمه بكل شيء قبل خلقه وحينه وبعده وانّه لا يخفى عليه شيء أبداً .



وأمّا العقل فقد دلّ على تنزّهه من وصمة الحدوث والتغيير، وانّه تقدّست أسماؤه، أعلى من أن يقع معرضاً للحوادث والتغييرات، ولأجل ذلك ذهبوا إلى امتناع البداء عليه بمعنى الظهور بعد الخفاء والعلم بعد الجهل، لاستلزامه كون ذاته محلاّ للتغير والتدبل، والمستلزم للتركيب والحدوث، إلى غير ذلك ممّا يستحيل عليه سبحانه .



فالآيات وكذلك الأحاديث المروية عن أئمّة الشيعة ـ عليهم السلام ـ تشهد على علمه الّذي لا يشوبه جهل، وعلى سعته لكل شيء قبل الخلق وبعده، وأنّه يستحيل عليه الظهور بعد الخفاء، والعلم بعد الجهل .



وعليه فمن نسب إلى الشيعة الإمامية ما يستشم منه خلاف ما دلّت عليه الآيات والأحاديث فقد افترى كذباً ينشأ من الجهل بعقائد الشيعة، أو التزلّف إلى حكّام الوقت الحاقدين لهم أو التعصّب المقيت .



وبذلك يعلم بطلان ما قاله الرازي في تفسيره عند البحث عن آية المحو والاثبات حيث يقول: قالت الرافضة: البداء جائز على اللّه تعالى وهو أن يعتقد شيئاً ثم يظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده، وتمسّكوا فيه بقوله (يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت): ثم قال: إنّ هذا باطل لأنّ علم اللّه من لوازم ذاته المخصوصة وما كان كذلك، كان دخول التغيّر والتبدّل فيه باطلا(2) .



وما حكاه الرازي عن «الرافضة» كاشف عن جهله بعقيدة الشيعة وإنّما سمعه



1 . البحار 4 / 111 باب البداء، الحديث 30، والبرهان 2 / 300 حديث 21 .



2 . تفسير الرازي 4 / 216 تفسير سورة الرعد .




عن بعض الكذّابين الأفّاكين الذين يفتعلون الكذب لغايات فاسدة، وقد قبله من دون امعان ودقّة، مع أنّ موطنه ومسقط رأسه (بلدة ري) كانت مزدحم الشيعة ومركزهم وكان الشيخ محمود بن علي بن الحسن سديد الدين الحمصي الرازي، علاّمة زمانه في الاُصولين معاصراً ومواطناً للرازي وهو مؤلّف كتاب «المنقذ من التقليد والمرشد إلى التوحيد»(1) ولو كان الفخر الرازي رجلا منصفاً لرجع إليه في تبيين عقائد الشيعة، ولما تهاجم عليهم بسباب مقذع، وربّما ينقل عنه بعض الكلمات في تفسيره .



وليس الرازي فريداً في التقوّل في هذا المجال بل سبقه البلخي (ت 319) في هذه النسبة(2)، ونقله الشيخ الأشعري (260 ـ 324) في مقالات الاسلاميين(3) ونقله أبو الحسن النوبختي في فرق الشيعة عن بعض فرق الزيدية(4) .



* * *



الثانية: كما دلّت الآيات والأحاديث(5) على أنّه سبحانه لم يفرغ من أمر الخلق والايجاد، والتدبير والتربية، دلّت على أنّ مصير العباد يتغيّر، بحسن أفعالهم وصلاح أعمالهم من الصدقة والاحسان وصلة الأرحام وبرّ الوالدين، والاستغفار والتوبة وشكر النعمة واداء حقّها إلى غير ذلك من الاُمور الّتي تغيّر المصير وتبدّل القضاء وتفرّج الهموم والغموم وتزيد في الأرزاق، والأمطار، والأعمار



1 . الطهراني آغا بزرگ: الثقات العيون في سادس القرون 295 وطبع الكتاب أخيراً .



2 . الطوسي: التبيان 1 / 13 .



3 . مقالات الاسلاميين 107 .



4 . فرق الشيعة 76 نقله عن سليمان بن جرير الّذي كفّره أهل السنّة أيضاً لتكفيره عثمان فهل يصحّ الاعتماد على قول مثله .



5 . البحار 4 / 104 الحديث 17 وغيره .




والآجال كما أنّ لمحرّم الأعمال وسيّئها من قبيل البخل والتقصير، وسوء الخلق، وقطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، والطيش، وعدم الانابة، وكفران النعمة وماشابهها تأثيراً في تغيير مصيرهم بعكس ذلك من اكثار الهموم، والقلق، ونقصان الأرزاق، والأمطار، والأعمار، والآجال، وما شاكلها .



فليس للانسان مصير واحد، ومقدر فارد، يصيبه على وجه القطع والبت، ويناله، شاء أو لم يشأ، بل المصير أو المقدر يتغيّر ويتبدّل بالأعمال الصالحة والطالحة وشكر النعمة وكفرانها، وبالايمان والتقوى، والكفر والفسوق. وهذا ممّا لا يمكن (لمن له أدنى علاقة بالكتاب والسنّة) انكاره إلاّ من كان مؤمناً بالقلب، ومنكراً باللسان .



ونحن نأتي في المقام بقليل من كثير ممّا يدل على ذلك من الآيات والروايات. منها:



قوله سبحانه حاكياً عن شيخ الأنبياء: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ اِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً * وَ يُمْدِدْكُمْ بِاَمْوال وَ بَنينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّات وَ يَجْعَلْ لَكُم اَنْهاراً)(1) .



ترى أنّه ـ عليه السلام ـ ، يجعل الاستغفار، علّة مؤثرة، في نزول المطر، وكثرة الأموال والبنين، وجريان الأنهار إلى غير ذلك. وأمّا بيان كيفية تأثير عمل العبد في الكائنات الطبيعية، فيطلب عن محلّه .



وقوله سبحانه: (اِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حَتّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنْفُسِهِمْ)(2) .



وقوله تعالى: (ذلِكَ بِاَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أنْعَمَها عَلى قَوْم حَتّى






1 . نوح / 10 ـ 12 .



2 . الرعد / 11 .






يُغَيِّرُوا مَا بِأنْفُسِهِم) .(1)



وقوله سبحانه: (وَ لَوْ أَنَّ أهْلَ القُرى آمَنُوا وَاتَّقُوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ والأرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأخَذْناهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) .(2)



وقوله سبحانه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ).(3)



وقوله تعالى: (وَ إذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).(4)



وقوله سبحانه: (وَنُوحاً إِذْ نَادى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظيمِ).(5)



وقال تعالى: (وَ أَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنَّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَ اَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مَن ضُرٍّ).(6)



وقال سبحانه: (وَ مَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).(6)



وقال تعالى: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ اِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالعَرَاةِ وَ هُوَ سَقِيمٌ * وَأنبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرةً مِن يَقْطِين).(7)



وقال تعالى: (فَاستَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيناهُ مِنَ الغَمِّ وَكذلِكَ نُنْجِى المُؤْمِنِينَ).(8)



وقال سبحانه: (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا






1 . الأنفال 53 .



2 . الأعراف 96 .



3 . الطلاق 2 ـ 3 .



4 . إبراهيم 7 .



5 و 6 ـ الأنبياء 76 و 83 ـ 84 .



6 . الأنفال 33 .



7 . الصافات 143 ـ 146 .



8 . الأنبياء 88 .






آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْىِ فِى الحَيوةِ الدُّنْيا وَ متَّعْناهُمْ إِلى حِين)(1) .



وهذه الآيات بالاضافة إلى كثير من الأحاديث الّتي سيوافيك بيان نزر منها تعرب على أنّ الأعمال الصالحة مؤثّرة في مصير الإنسان وانّه يقدر بعمله الصالح على تغيير القدر، وتبديل القضاء وليس هناك مقدر محتوم فيما يرجع إلى أفعاله الاختيارية حتّى يكون العبد في مقابله مكتوف الأيدي والأرجل .



وأمّا الأحاديث الّتي تدل على هذا المطلب فكثيرة جدّاً، مبعثرة في كتب الحديث تحت عناوين مختلفة من قبيل الصدقة، والاستغفار، والدعاء، وصلة الرحم، وما أشبه ذلك، وسنذكر فيما يلي نموذجاً من الأحاديث لكل من الاُمور الآنفة .



الف ـ الصدقة وأثرها في دفع البلاء:




روى الصدوق في الخصال عن أنس: قال رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : «أكثر من صدقة السر، فإنّها تطفىء غضب الرب جلّ جلاله» .



وروى في عيون الأخبار عن الرضا عن آبائه، قال: قال رسول اللّه: «باكروا بالصدقة فمن باكر بها لم يتخطاها البلاء» .



وروى الشيخ الطوسي في أماليه عن الباقر ـ عليه السلام ـ قال: قال أميرالمؤمنين: «أفضل ما توسّل به المتوسّلون الإيمان باللّه... وصدقة السر، فإنّها تذهب الخطيئة وتطفىء غضب الرب، وصنائع المعروف فإنّها تدفع ميتة السوء وتقي مصارع الهوان» .



وروى الصدوق في ثواب الأعمال عن الصادق ـ عليه السلام ـ : قال: «الصدقة



1 . يونس / 98، وقد استشهد الامام أمير المؤمنين ببعض هذه الآيات عند الاستسقاء، فقال: «إنّ اللّه يَبتلي عبادَهُ عند الأعمال السيّئة بنقص الثمرات...» نهج البلاغة، الخطبة 143 .




باليد تدفع ميتة السوء، وتدفع سبعين نوعاً من أنواع البلاء» .



إلى غير ذلك من الروايات الّتي جمعها العلاّمة المجلسي في كتاب الزكاة والصدقة(1) .



ب ـ أثر الاستغفار في الرزق:




روى الصدوق في الخصال عن أميرالمؤمنين قال: «الاستغفار يزيد في الرزق». وروى أيضاً فيها عن أميرالمؤمنين ـ عليه السلام ـ : «أكثروا الاستغفار، تجلبوا الرزق»(2) .



ج ـ الدعاء وآثاره :




روى الحميري في قرب الاسناد عن الصادق ـ عليه السلام ـ : «انّ الدعاء يرد القضاء وانّ المؤمن ليذنب فيحرم بذنبه الرزق» .



وروى أيضاً عنه ـ عليه السلام ـ : قال رسول اللّه: «داووا مرضاكم بالصدقة، وادفعوا أبواب البلاء بالدعاء» .



وروى الصدوق عن أميرالمؤمنين ـ عليه السلام ـ : «ادفعوا أمواج البلاء عنكم بالدعاء قبل ورود البلاء»(3) .



1 . بحارالأنوار: الجزء 93 الباب 21، الأحاديث 4 ـ 7 ـ 9 ـ 26 (وروى هناك أحاديث اُخرى) .



2 . المصدر نفسه كتاب الذكر والدعاء باب الاستغفار وفضله وأنواعه، الحديث 4 ـ 17 (وروى أحاديث حول الاستغفار من الفريقين) .



3 . البحار الجزء 93 كتاب الذكر والدعاء، أبواب الدعاء. الباب 16 ـ الحديث 2 ـ 3 ـ 5 (وروى أحاديث من الفريقين) .




وقد عقد الكليني في الكافي باباً أسماه «انّ الدعاء يرد البلاء والقضاء» ومن جملة أحاديث هذا الباب عن حماد بن عثمان قال: سمعته يقول: «انّ الدعاء يردّ القضاء ينقضه كما ينقض السلك وقد اُبرم إبراماً»(1).



وروى عن أبي الحسن موسى ـ عليه السلام ـ : «عليكم بالدعاء فإنّ الدعاء للّه والطلب إلى اللّه يرد البلاء وقد قدر وقضى ولم يبق إلاّ امضاؤه فإذا دعى اللّه عزّوجلّ وسئل، صرف البلاء صرفة»(2) .



وأخرج الحاكم عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ ، قال: لا ينفع الحذر عن القدر ولكن اللّه يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر .



قال: وأخرج ابن أبي شيبة في المصنّف وابن أبي الدنيا في الدعاء عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: ما دعا عبد بهذه الدعوات إلاّ وسع اللّه له في معيشته: «يا ذا المنّ ولا يمنّ عليه، يا ذا الجلال والاكرام يا ذا الطول، لا إله إلاّ أنت ظهر اللاجين وجار المستجيرين، ومأمن الخائفين إن كنت كتبتني عندك في اُمّ الكتاب شقياً فامح عنّي اسم الشقاء واثبتني عندك سعيداً، وإن كنت كتبتني عندك في اُمّ الكتاب محروماً مقتراً على رزقي، فامح حرماني ويسّر رزقي واثبتني عندك سعيداً موفقاً للخير فإنّك تقول في كتابك الّذي أنزلت: (يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت وعنده اُم الكتاب)(3) .



وروى أيضاً في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى: (يسأله من في






1 . الكافي ج 2 باب انّ الدعاء يرد القضاء ص 469 الحديث 1 .



2 . المصدر نفسه ص 470 الحديث 8 .



3 . السيوطي، الدر المنثور 4 / 66 .






السموات) ما يقرب من هذا، فلاحظ(1) .



د ـ أثر صلة الرحم:




روى الكليني عن أبي الحسن الرضا قال: «يكون الرجل يصل رحمه فيكون قد بقى من عمره ثلاث سنين فيصيّرها اللّه ثلاثين سنة ويفعل اللّه ما يشاء»(2) .



روى أيضاً عن أبي جعفر قال: «صلة الأرحام تزكي الأعمال ونمني الأموال وتدفع البلوى وتيسّر الحساب وتنسىء في الآجال»(3) .



وروى أهل السنة نظير هذه الروايات فنكتفي بما رواه السيوطي في الدر المنثور عن علي ـ رضي الله عنه ـ : انّه سأل رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عن هذه الآية (يَمْحُوا اللّه)؟ فقال له: «لأقرّن عينيك بتفسيرها ولأقرّن عين اُمّتي بعدي بتفسيرها: الصدقة على وجهها وبرّ الوالدين، واصطناع المعروف يحوّل الشقاء سعادة، ويزيد في العمر، وتقي مصارع السوء» .



وكما أنّ للأعمال الصالحة أثراً في المصير وحسن العاقبة، وشمول الرحمة وزيادة العمر وسعة الرزق، كذلك الأعمال الطالحة والسيئات في الأفعال فإنّ لها تأثيراً ضد اثر الأعمال الحسنة .



ويدل على ذلك من الآيات قوله سبحانه:



(و ضَرَبَ اللّهُ مَثَلا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِن كُلِّ مَكَان فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَها اللّهُ لِباسَ الجُوعِ وَ الخَوْفِ بِمَا كانُوا






1 . الدر المنثور 6 / 143 .



2 . الكافي ج 2، باب صلة الرحم، الحديث 3 .



3 . المصدر نفسه، الحديث 4 ولاحظ البحار ج 4 باب البداء، الحديث 66 .






يَصْنَعُونَ)(1) .



وقال سبحانه: (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلَى قَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(2) .



وقال سبحانه: (وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنينَ وَنَقْص مِنَ الَّثمَراتِ لَعَلَّهُم يَذَّكَّرُونَ)(3) .



وأمّا الروايات في ذلك فحدّث عنها ولا حرج فنكتفي بما عن أميرالمؤمنين أنّه قال في خطبة: «أعوذ باللّه من الذنوب الّتي تعجّل الفناء» فقام إليه عبداللّه بن الكواء اليشكرى، فقال: يا أميرالمؤمنين أو تكون ذنوب تعجّل الفناء؟ فقال: «نعم، ويلك قطيعة الرحم». وقال أيضاً: «إذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار»(4) .



وقد وردت في الآثار الوضعية للأعمال، روايات يطول الكلام بنقلها. فلاحظ ما ورد في الزنا من أنّ فيها ست خصال ثلاث منها في الدنيا وثلاث منها في الآخرة أمّا الّتي في الدنيا فيذهب بالبهاء ويعجّل الفناء ويقطع الرزق(5) .



أيضاً ما ورد في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل ما روي عن أبي الحسن الرضا ـ عليه السلام ـ انّه قال: «لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو لتستعملن عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم»(6) وعن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ :



1 . النحل / 112 .



2 . الأنفال / 53 .



3 . الأعراف / 130 .



4 . الكافي ج 2 كتاب الايمان والكفر، باب قطيعة الرحم، الحديث 7 ـ 8 .



5 . سفينة البحار 1 / 560 مادة (زنا) .



6 . الوسائل ج 11 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب 1 الحديث 4 .




«إنّهم لمّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربّانيون والأحبار نزلت بهم العقوبات»(1) وورد: «لا تزال اُمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء»(2) إلى غير ذلك من درر الكلمات الّتي نقلت عن معدنها .



* * *



فقد تحصل ممّا ذكرنا:



أوّلا:إنّ علمه سبحانه يعم كل الأشياء ماضيها وحاضرها ومستقبلها .



وثانياً: إنّه سبحانه كل يوم هو في شأن .



وثالثاً: إنّ لأفعال العباد، تأثيراً في حسن العاقبة وسوئها، ونزول الرحمة والبركة، أو العقاب والنقمة .



إذا وقفت على هذه المقدّمات الثلاث فاعلم أنّه يقع الكلام في البداء في مقامين:



1- البداء في مقام الثبوت: أي تغيير المصير بالأعمال الصالحة أو الطالحة .



2- البداء في مقام الاثبات: أي الاخبار عن تحقق الشيء علماً بالمقتضى مع خفاء المانع .



1 . الوسائل ج 11 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب 1 الحديث 7 .



2 . المصدر نفسه، الحديث 18 .







البداء في مقام الثبوت والاثبات




حقيقة البداء هو انّه سبحانه (على خلاف ما اعتقده اليهود والنصارى في حقّه من فراغه عن أمر الخلق والتدبير، والاحياء والاماتة، والتوسيع والتقدير في الرزق، والتعمير والتنقيص إلى غير ذلك ممّا يرجع إلى الكون والإنسان) هو القائم دائماً بالأمر، والتدبير، وهو القيوم على كل شيء، وكل يوم في شأن وليست يداه مغلولتان، بل يداه مبسوطتان (في كل شيء) يمحو ويثبت حسب مشيئته الحكيمة وارادته النافذة فهو المتجلّي في كل زمان بأسمائه الحسنى وصفاته العليا كالخالقية والرازقية والاحياء والامامة إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى .



ومن شعب هذا الأمر، هو أنّه سبحانه: يزيد في الرزق والعمر وينقص منهما، وينزل الرحمة والبركة، كما ينزل البلاء والنقمة، حسب مشيئته الحكيمة، النافذة، ولا تصدر عنه الاُمور جزافاً واعتباطاً بل حسب ما تقتضيها حال العباد من حسن الأفعال وقبحها وصالح الأعمال وطالحها. فربّما يكون الإنسان مكتوباً في الأشقياء ثم يُمحى فيكتب من السعداء أو على العكس بسبب ما يقوم به من أعمال .




وبالجملة: فالبداء في عالم الثبوت يضاد مزعمة اليهود والنصارى المشار إليها في قوله سبحانه: (وَ قَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثيراً مِنْهُم مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً)(1)، وقد رد سبحانه تلك العقيدة اليهودية الباطلة في هذه الآية كما هو واضح .



ولأجل أنّ يديه سبحانه مبسوطتان، يزيد في الخلق ما يشاء، وفي العمر، وينقص منه، حسب مشيئته الحكيمة قال سبحانه: (الحَمْدُ لِلّهِ فَاطِرِ السَّماواتِ والأَرْضِ... يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلٍّ شَيء قَدِيرٌ)(2) وقال سبحانه: (وَ مَا تُحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إلاّ بِعِلْمِهِ وَ مَا يُعَمِّرُ مِن مُعَمِّر وَ لا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتاب إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ)(3) .



وبناء على ذلك فالبداء بهذا المعنى، ممّا يشترك فيه كل المسلمين، على مذاهبهم المختلفة من دون اختصاص بالشيعة، فليس أحد من المسلمين ينكر أنّه سبحانه كل يوم هو في شأن، وانّه جلّ وعلا. يبدئ ويعيد، ويحيي ويميت، كما أنّه سبحانه يزيد في الرزق والعمر وينقص إلى غير ذلك حسب المشيئة الحكيمة والمصالح الكامنة في أفعاله .



وكما أنّه سبحانه: يداه مبسوطتان، كذلك العبد مختار، في أفعاله لا مسيّر، وحرفي تصرفاته(4) لا مجبور، له أن يغيّر مصيره ومقدّره بحسن فعله، وجودة عمله ،



1 . المائدة / 64 .



2 . فاطر / 1 .



3 . فاطر / 11 .



4 . لا يخفى أنّ المقصود من أفعال الإنسان الّتي نثبت اختياره فيها هي الأفعال الّتي تتعلق بها التكاليف لا الأفعال القهرية الّتي تصدر من جهازه الهضمي مثلا .




ويخرج اسمه من الأشقياء، ويدخله في السعداء، كما أنّ له أن يخرج اسمه من السعداء ويدخله في الأشقياء بسوء عمله .



فاللّه سبحانه كما يمحو ويثبت في التكوين، فيحيي ويميت، كذلك يمحو مصير العبد، ويغيّره حسب ما يغيّر العبد بنفسه (فعله وعمله) لقوله سبحانه: (إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حتّى يُغَيِّروا مَا بِأَنفُسِهِمْ)(1)، كل ذلك لأجل أنّ يديه مبسوطتان وأنّ العبد حرّ مختار، قادر على تغيير القضاء، وتبديل القدر، بحسن فعله أو سوئه، كما دلّت عليه الآيات والروايات .



وليس في ذلك أي محذور ولا مخالفة للعقل ولا الكتاب والسنّة بل تغيير القضاء بحسن الفعل وتغيير القدر بسوئه، هو أيضا من قدره وقضائه وسننه الّتي لا تبديل لها ولا تغيير، فاللّه سبحانه إذا قدّر لعبده شيئاً وقضى له بأمر، فلم يقدره ولم يقضه به على وجه القطع والبت، بحيث لا يتغيّر ولا يتبدّل، بل قضى به على وجه خاص وهو أنّ القضاء والقدر يجري عليه، ما لم يغيّر العبد حاله، فإذا غيّر حاله بحسن فعله أو سوئه، يتغيّر القضاء ويتبدّل القدر ويخلف قضاء وقدر آخر مكانهما الأوّل، وكل هذه أيضاً قضاء وقدر منه، كما لا يخفى .



وهذا (البداء في الثبوت) أولى بالتسمية بالمحو والاثبات، والتغيير والتبديل في الكون وفي مصير الإنسان غير أنّ المحو والاثبات في الكون بيد اللّه سبحانه، يتصرّف فيه حسب مشيئته، ولا دخل لارادة الإنسان ولصلاح فعله ولا فساده فيه، وأمّا التغيير في مصير الإنسان فيتوقّف تعلّق المشيئة عليه، على كيفية حال العبد وكيفية عمله من حسن أو قبح .



1 . الرعد / 11 .




البداء في الذكر الحكيم:




هذا الأصل ـ الّذي يعدّ من المعارف العليا تجاه ما عرف من اليهود، من سيادة القدر على كل شيء حتّى إرادته سبحانه ـ يستفاد بوضوح من قوله سبحانه (يَمحوا اللّه ما يشاءُ ويُثبت وعِنده اُمُّ الكِتاب)(1) وهذه الآية هي الأصل في البداء في مقام الثبوت ويكفي في إيضاح دلالتها، نقل كلمات المحققين من المفسرين، حتّى يقف القارئ على أنّ القول بالبداء بالمعنى الصحيح، مما أصفقت عليه الأُمّة.



1- روى الطبري (310 هـ ) في تفسير الآية عن لفيف من الصحابة والتابعين أنّهم كانوا يدعون اللّه سبحانه بتغيير المصير واخراجهم من الشقاء ـ إن كتب عليهم ـ إلى السعادة مثلا، كان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول وهو يطوف بالكعبة: اللّهمّ إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني على الذنب [الشقاوة] فامحني وأثبتني في أهل السعادة فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك اُمّ الكتاب .



وروى نظير هذا الكلام عن ابن مسعود، وابن عباسن وشقيق وأبي وائل(2) .



وروى عن ابن زيد أنّه قال في قوله سبحانه: (يمحوا اللّه ما يشاء) بما يُنزِّلُ على الأنبياء، ويُثبت ما يشاء مما ينزل على الأنبياء قال: وعنده اُمّ الكتاب لا يُغيّر ولا يُبدِّل (3) .



2- قال الزمخشري (528 هـ ): (يمحوا اللّه ما يشاء) ينسخ ما يستصوب نسخه ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته أو ينزله غير منسوخ(3) .



1 . الرعد / 39 .



2 . الطبري: التفسير (جامع البيان) الجزء 13 / 112 ـ 114 .



3 . الزمخشري: الكشاف: 2 / 169 .




3- ذكر الطبرسي (548 ـ 471 هـ ) لتفسير الآية وجوهاً متقاربة وقال: «الربع أنّه عامٌّ في كل شيء فيمحو من الرزق ويزيد فيه، ومن الأجل، ويمحو السعادة والشقاوة ويثبتهما. (روى ذلك) عن عمربن الخطاب، وابن مسعود وأبي وائل وقتادة: واُمّ الكتاب أصل الكتاب الّذي أُثبتت فيه الحادثات والكائنات .



وروى أبو قلابَة عن ابن مسعود أنّه كان يقول: «اللّهمّ إن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء...»(1) .



4- قال الرازي (608 هـ ) إنّ في هذه الآية قولين:



القول الأوّل: إنّها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ قالوا: إنّ اللّه يمحو من الرزق ويزيد فيه، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر وهو مذهب عمر وابن مسعود، والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرعون إلى اللّه تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء. وهذا التأويل رواه جابر عن رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ .



والقول الثاني: إنّ هذه الآية خاصة في بعض الأشقياء دون البعض .



ثم قال: فإن قال قائل: ألستم تزعمون أنّ المقادير سابقة قد جفَّ بها القلم وليس الأمر بأنف فكيف يستقيم مع هذا المعنى، المحو والإثبات؟



قلنا: ذلك المحو والإثبات أيضاً مما جف به القلم فلأنّه لا يمحو إلاّ ما سبق في علمه وقضائه محوه(2) .



5- قال القرطبي (671 هـ ) ـ بعد نقل القولين وإنّ المحو والإثبات هل يعمّان جميع الأشياء أو يختصّان ببعضها ـ : مثل هذا لا يدرك بالرأي والإجتهاد، وإنّما يؤخذ توقيفاً فإن صحّ فالقول به يجب أن يوقف عنده، وإلاّ فتكون الآية عامة في جميع الأشياء وهو الأظهر ـ ثم نقل دعاء عمر بن الخطاب في حال الطواف ودعاء عبداللّه



1 . الطبري مجمع البيان 6 / 398 .



2 . الرازي: 10 / 64 ـ 65 .




ابن مسعود ثم قال: روي في الصحيحين عن أبي هريرة قال: سمعت النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : «مَن سرَّه أن يبسط له في رزقِه ويُنسَأ له في أثره (أجله) فليصل رحمه» .(1)



6- قال ابن كثير (774 هـ ) بعد نقل قسم من الروايات: ومعنى هذه الروايات أنّ الأقدار ينسخ اللّه ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء، وقد يُستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد عن ثوبان قال: قال رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : «إنّ الرجل ليُحْرَمُ الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القَدَرُ إلاّ بالدعاء، ولا يزيد في العمر إلاّ البر» ثم نقل عن ابن عباس: الكتاب كتابان، فكتاب يمحو اللّه منه ما يشاء ويثبت عنده ما يشاء، وعنده اُمّ الكتاب(2) .



7- روى السيوطي (911 هـ ) عن ابن عباس في تفسير الآية: هو الرجل يعمل الزمان بطاعة اللّه، ثم يعود لمعصية اللّه فيموت على ضلالة فهو الّذي يمحو، والّذي يثبت الرجل يعمل بمعصية اللّه تعالى وقد سبق له خير حتّى يموت وهو في طاعة اللّه سبحانه وتعالى. ثم نقل ما نقلناه من الدعاء عن لفيف من الصحابة والتابعين(3) .



8- ذكر الآلوسي (1270 هـ) عند تفسير الآية قسماً من الآثار الواردة حولها وقال: أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علىّ ـ كرم اللّه وجهه ـ أنّه سأل رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عن قوله تعالى: (يمحوا اللّه ما يشاء...) الآية فقال: له عليه الصلاة والسلام. لاقرّنّ عينك بتفسيرها ولا قرّنّ عين أُمّتي بعدي بتفسيرها: الصدقة على وجهها، وبر الوالدين واصطناع المعروف، محوِّل الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء، ثم قال: دفع الإشكال عن استلزام ذلك، بتغيّر علم اللّه سبحانه ومن شاء فليرجع(4) .



9- قال صديق حسن خان (1307 هـ ) في تفسير الآية: وظاهر النظم



1 . القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 5 / 329 .



2 . ابن كثير: التفسير 2 / 520 .



3 . السيوطي: الدر المنثور 4 / 660 لاحظ ما نقله في المقام من المأثورات كلها تحكي .



4 . الآلوسي: روح المعاني 13 / 111 .




القرآني العموم في كل شيء ممّا في الكتاب فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر أو خير أو شرٍّ ويبدل هذا بهذا، ويجعل هذا مكان هذا .



لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون. وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود و ابن عباس وأبو وائل وقتادة والضحاك وابن جريح وغيرهم...(1) .



10- قال القاسمي (1332 هـ ): تمسّك جماعة بظاهر قوله تعالى: (يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت) فقالوا: إنّها عامَّة في كل شيء كما ـ يقتضيه ظاهر اللفظ قالوا ـ يمحو اللّه من الرزق ويزيد فيه وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر(2) .



11- قال المراغي في تفسير الآية: وقد أثر عن أئمة السلف أقوال لا تناقض بل هي داخلة فيما سلف ثم نقل الأقوال بإجمال(3) .



وهذه الجمل والكلم الدرية المضيئة عن الصحابة والتابعين لهم باحسان، والمفسرين تعرب عن الرأي العام بين المسلمين في مجال إمكان تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة ومنها الدعاء والسؤال وأنّه ليس كل تقدير حتمياً لا يغيّر ولا يبدّل وأنّ للّه سبحانه لوحين: لوح المحو والإثبات ولوح «اُمّ الكتاب» والّذي لا يتطرق التغيير إليه هو الثاني دون الأول، وإنّ القول بسيادة القدر، على اختيار الإنسان في مجال الطاعة والمعصية، قول بالجبر الباطل بالعقل والضرورة، ومحكمات الكتاب. ومن جنح إليه لزمه القول بلغوية إرسال الرسل وإنزال الكتب (ذلكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفروا فويلٌ لِلَّذِينَ كَفروا مِنَ النّار)(4) .



1 . صديق حسن خان: فتح البيان 5 / 171 .



2 . القاسمي: محاسن 9 / 372 .



3 . المراغي: التفسير 5 / 155 ـ 156 .



4 . سورة «ص» الآية 27 .




الأثر التربوي للاعتقاد بالبداء:




الاعتقاد بالمحو والاثبات، وانّ العبد قادر على تغيير مصيره بأفعاله وأعماله، يبعث الرجاء في قلب من يريد أن يتطهّر، وينمي نواة الخير الكامنة في نفسه، فتشريع البداء، مثل تشريع قبول التوبة، والشفاعة، وتكفير الصغائر بالاجتناب عن الكبائر. كلّها لأجل بعث الرجاء وايقاد نوره في قلوب العصاة والعتاة، حتّى لا ييأسوا من روح اللّه ولا يتولّوا بتصوّر أنّهم من الأشقياء وأهل النار تقديراً، فلا فائدة في السعي والعمل، فلو علم الإنسان أنّه سبحانه لم يجفّ قلمه في لوح المحو والاثبات، وله أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، يسعد من يشاء، ويشقي من يشاء «وليست مشيئته جزافية غير تابعة لضابطة عقلية» وتاب، وعمل بالفرائض وتمسّك بالعروة الوثقى، يخرج من سلك الأشقياء، ويدخل في صنف السعداء، وبالعكس وهكذا كل ما قدر في حقّه من الموت والمرض والفقر، والشقاء يمكن تغييره بالدعاء، والصدقة وصلة الرحم، وإكرام الوالدين، وغير ذلك، فالكل لأجل بث الأمل في قلب الإنسان، وعلى هذا فالاعتقاد بذلك من ضروريات الكتاب وصريح آياته وأخبار الهداة .



وبهذا يظهر أنّ البداء من المعارف العليا الّتي اتفقت عليه كلمة المسلمين وإن غفل عن معناه الجمهور (ولو عرفوه لأذعنوا به) .



وأمّا اليهود ـ خذلهم اللّه ـ فقالوا باستحالة تعلّق المشيئة بغير ما جرى عليه القلم، ولأجل ذلك قالوا: يد الّه مغلولة عن القبض والبسط، والأخذ والاعطاء، وبعبارة اُخرى عندهم انّ للانسان مصيراً واحداً لا يمكن تغيره ولا تبديله وانّه ينال ما قدّر له من الخير والشر .



ولو صح ذلك لبطل الدعاء والتضرّع ولبطل القول بأنّ للأعمال الصالحة وغير الصالحة ممّا عددناها تأثيراً في تغيير مصير الإنسان .




وعلى ضوء هذا البيان نتمكن من فهم ما جاء في فضيلة البداء وأهميته في الروايات مثل ما روى زرارة عن أحدهما (الباقر أو الصادق ـ عليهما السلام ـ ): «ما عبداللّه عزّوجلّ بشيء مثل البداء»(1) .



وما عن هشام بن سالم عن أبي عبداللّه ـ عليه السلام ـ : «ما عظّم اللّه عزّوجلّ بمثل البداء»(2) .



إذ لولا الاقرار بالبداء بهذا المعنى ما عرف اللّه حق المعرفة، ويتجلّى سبحانه في نظر العبد (بناء على عقيدة بطلان البداء) أنّه مكتوف الأيدي، لا يقدر على تغيير ما قدره، ولا محو ما أثبته .



ومن الروايات في هذا المعنى ما روي عن الصادق ـ عليه السلام ـ أنّه قال: «لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا من الكلام فيه»(3) .



وذلك لأنّ الاعتقاد بالبداء مثل الاعتقاد بتأثير التوبة والشفاعة يوجب رجوع العبد عن التمادي في الغي والضلالة، والانابة إلى الصلاح والهداية .



البداء في مقام الاثبات:




إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ المراد من البداء في مقام الاثبات هو، وقوع التغير في بعض مظاهر علمه سبحانه فإنّ لعلمه سبحانه مظاهر، منها: ما لا يقبل التغيير ومنها ما يقبل ذلك .



أمّا الأوّل: فهو المعبّر عنه بـ «اللوح المحفوظ» تارة و بـ «اُمّ الكتاب» اُخرى قال سبحانه: (بَلْ هُوَ قُرآنٌ مَجِيدٌ * فِى لَوْح مَحْفُوظ)(4) وقوله تعالى:



1 . البحار 4 / 107 باب البداء، الحديث 19 ـ 20 .



2 . التوحيد للصدوق باب البداء، الحديث 2 .



3 . الكافي 1 / 115، والتوحيد للصدوق، باب البداء، الحديث 7 .



4 . البروج 21 ـ 22 .






(وَ إِنَّهُ فِى اُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلىٌّ حَكِيمٌ)(1) وقال سبحانه: (مَا أَصَابَ مِن مُصِيبَة فِى الاَرْضِ وَ لا فِى أَنفُسِكُمْ إلاّ فِى كِتاب مِن قَبْلِ أن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ)(2) فاللوح المحفوظ واُمّ الكتاب وذلك الكتاب الّذي كتب فيه ما يصيب الإنسان من مصائب ممّا لا يتطرق إليها المحو والاثبات قدر شعرة، ولأجل ذلك لو أمكن الإنسان أن يتّصل به، لوقف على الحوادث على ما هي عليه بلا خطأ ولا تخلّف .



وأمّا الثاني: فهو لوح المحو والاثبات الّذي أشار إليه سبحانه، بقوله (يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ) (3) فالأحكام الثابتة فيه، أحكام معلّقة على وجود شرطها أو عدم مانعها، فالتغيّر فيها لأجل اعواز شرطها أو تحقّق مانعها وربّما يكتب فيه الموت نظراً إلى مقتضياته، ولكنّه ربّما يمحى ويكتب فيه الصّحة لفقدان شرط التقدير الأول أو طرؤ مانع من تأثير المقتضي .



فالتقدير الأوّل يفرض لأجل قياس الحادث إلى مقتضيه، كما أنّ التقدير الثاني يتصوّر بالنسبة إلى جميع أجزاء علّته، فإنّ الشيء إذا قيس إلى مقتضيه (الّذي يحتاج الصدور منه إلى وجود شرائط وعدم موانع) يمكن تقدير وجوده، ولكنّه بالنظر إلى مجموع أجزاء علّته الّتي منها الشرائط وعدم الموانع، يقدر عدمه لفرض عدم وجود شرائطه، وتحقّق موانعه .



إذا علمت ذلك، فاعلم أنّه ربّما يتصل النبي أو الولي بلوح المحو والاثبات، فيقف على المقتضى من دون أن يقف على شرطه أو مانعه، فيخبر عن وقوع شيء



1 . الزخرف / 4 .



2 . الحديد / 22 .



3 . الرعد / 39 .




ولكنّه ربّما لا يتحقّق لأجل عدم تحقّق شرطه أو عدم تحقّق وجود مانعه وذلك هو البداء في عالم الاثبات وإن شئت قلت: إنّ موارد وقوع البداء حسب الاثبات من ثمرات البداء في عالم الثبوت، ولم يرد في الأخبار من هذاالقسم من البداء إلاّ موارد لا تتجاوز عن عدد الأصابع، نشير إليه بعد الفراغ عمّا ورد في الذكر الحكيم .



تلميحات إلى البداء في الذكر الحكيم:




1- قال سبحانه: (فَبَشِّرْنَاهُ بِغُلام حَلِيم * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى المَنَامِ أَنَّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أبَتِ أفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إنْ شَاءَ اللّهُ مِنَ الصَّابِرينَ)(1) .



أخبر إبراهيم ـ عليه السلام ـ ولده إسماعيل ـ عليه السلام ـ بأنّه رأى في المنام أنّهُ يذبحه ورؤيا الأنبياء (كما ورد في الحديث) من أقسام الوحي(2)، فكانت رؤياه صادقة حاكية عن حقيقة ثابتة، وهي أمر اللّه إبراهيم بذبح ولده، وقد تحقّق ذلك الأمر، أي أمر اللّه سبحانه به .



ولكن قوله: (اِنِّى أرى فِى المَنامِ أنِّى اَذْبحك) يكشف عن أمرين:



الف: الأمر بذبح الولد وهو أمر تشريعي كما عرفت وقد تحقّق .



ب: الحكاية عن تحقّق ذلك في الواقع الخارجي وانّ إبراهيم سيمتثل ذلك، والحال أنّه لم يتحقق لفقدان شرطه، وهو عدم النسخ ويحكي عن كلا الأمرين قوله: (و فَدَيناهُ بِذَبح عظيم) .



وعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه بأنه كيف أخبر خليل الرحمن بشيء من



1 . الصافات / 101 ـ 102 .



2 . السيوطي: الدر المنثور 5 / 280 .




الملاحم والمغيبات، ثمّ لم يتحقّق، وما هذا إلاّ لأجل أنّه وقف على المقتضي، فأخبر بالمقتضى، ولكنّه لم يقف على ما هو العلّة التامة، وليس لعلمه هذا مصدر سوى اتصاله بلوح المحو والاثبات .



2- أخبر يونس قومه بأنّهم إن لم يؤمنوا فسوف يصيبهم العذاب إلى ثلاثة أيام(1) ولكن العذاب لم يصبهم، فما هذا إلاّ لأنّ النبي، وقف على المقتضي ولم يقف على المانع وهو أنّ القوم سيتوبون عند رؤية العذاب توبة نصوحاً رافعة للعذاب، وإليه يشير قوله سبحانه:(فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمانُها إلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْىِ فِى الحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلَى حِينِ)(2) .



3- أخبر موسى قومه بأنّه سيغيب عنهم ثلاثين ليلة، كما روي عن ابن عباس حيث قال: إنّ موسى قال لقومه: إنّ ربّي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه واخلف هارون فيكم، فلمّا فصل موسى إلى ربّه زاده اللّه عشراً، فكانت فتنتهم في العشر الّتي زاده اللّه(3) .



وإليه يشير قوله سبحانه: (وَ وَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْر فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أرْبَعينَ لَيْلَةً وَ قَالَ مُوسى لأَخِيهِ هَارونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى و أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدينَ)(4) .



فلا شك أنّ موسى اطّلع على الخبر الأوّل ولم يطّلع على نسخه وانّ التوقيت سيزيد ولا مصدر لعلمه إلاّ الاتصال بلوح المحو والاثبات .



1 . الطبرسي: مجمع البيان 3 / 135 .



2 . يونس / 98 .



3 . الطبرسي: مجمع البيان 2 / 115 .



4 . الأعراف / 142 .




هذه جملة الأخبار الّتي تحدث بها الذكر الحكيم ولكنّها لم تحقق، فلا محيص لتفسيرها إلاّ القول بوقوفهم على المقتضي دون العلّة التامة، فعندما يظهر عدم التحقّق يطلق عليه البداء، والمراد أنّه بدا من اللّه لنبيّه وللناس ما خفى عليهم، على غرر قوله سبحانه: (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتْسِبُونَ)(1) فالبداء إذا نسب إلى اللّه سبحانه فهو بداء منه، وإذا نسب إلى الناس فهو بداء لهم، وبعبارة اُخرى، البداء من اللّه هو اظهار ما خفى على الناس، والبداء من الناس بمعنى ظهور ما خفى لهم، وهذا هو الحق القراح الّذي لا يرتاب فيه أحد .



وأمّا ما ورد في الروايات، فهو بين خمسة أو أزيد بقليل:



1- إنّ المسيح ـ عليه السلام ـ مرّ بقوم مجلبين، فقال: ما لهؤلاء؟ قيل: يا روح اللّه فلانة بنت فلانة تهدى إلى فلان في ليلته هذه. فقال: يجلبون اليوم ويبكون غداً، فقال قائل منهم: ولم يا رسول اللّه؟ قال: لأنّ صاحبتهم ميّتة في ليلتها هذه... فلمّا أصبحوا وجدوها على حالها، ليس بها شيء، فقالوا: يا روح اللّه إنَّ الّتي أخبرتنا أمس انّها ميّتة لم تمت. فدخل المسيح دارها فقال: ما صنعت ليلتك هذه؟ قالت: لم أصنع شيئاً إلاّ وكنت أصنعه فيما مضى، انّه كان يعترينا سائل في كل ليلة جمعة فننيله ما يقوته إلى مثلها. فقال المسيح: تنحّ عن مجلسك فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة، عاضّ على ذنبه، فقال ـ عليه السلام ـ : بما صنعت، صرف عنك هذا(2) .



2- روى الكليني عن الامام الصادق ـ عليه السلام ـ : إنّه مرّ يهودي بالنبي فقال: السام عليك. فقال النبىّ عليك. فقال أصحابه: إنّما سلّم عليك بالموت فقال:



1 . الزمر / 47 .



2 . المجلسي: بحارالأنوار 4 / 94 .




الموت عليك. فقال النبىّ: وكذلك رددت. ثمّ قال النبىّ: إنّ هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله، قال: فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله، ثمّ لم يلبث أن انصرف، فقال له رسول اللّه: ضعه، فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاضّ على عود، فقال: يا يهودي ما عملت اليوم؟ قال: ما عملت عملا إلاّ حطبي هذا حملته فجئت ومعي كعكتان، فأكلت واحدة وتصدّقت بواحدة على مسكين، فقال رسول اللّه: بها دفع اللّه عنه، قال: إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الانسان(1) .



ولا يمكن لأحد تفسير مضامين الآيات الماضية وهذين الحديثين إلاّ عن طريق البداء بالمعنى الّذي تعرّفت عليه، وهو اتّصال النبي بلوح المحو والاثبات والوقوف على المقتضي والاخبار بمقتضاه دون الوقوف على العلّة التامة .



3- عرض اللّه عزّوجلّ على آدم أسماء الأنبياء وأعمارهم، فمرّ بآدم اسم داود النبي ـ عليه السلام ـ فإذا عمره في العالم أربعون سنة، فقال آدم: يا رب ما أقل عمر داود وما أكثر عمري يا رب إنّي أنا زدت داود من عمري ثلاثين سنة أتثبت ذلك له؟ قال اللّه: نعم يا آدم، فقال آدم: فانّي قد زدته من عمري ثلاثين سنة، فأثبت اللّه عزّوجلّ لداود في عمره ثلاثين سنة(2) .



ترى أنّه سبحانه أثبت شيئاً، ثمّ محاه بدعاء نبيه، وهذا هو المراد من قوله سبحانه: (يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب) فلو أخبر نبي اللّه عن عمر داود بأربعين سنة لم يكن كاذباً في إخباره، لأنّه وقف على الاثبات الأوّل ولم يقف على محوه .



1 . المجلسي: بحارالانوار 4 / 121 .



2 . المجلسي: بحارالأنوار 4 / 95 ـ 102 .




4- أخبر اللّه نبياً بأنّ يخبر ملكاً بأنّه تعالى متوفّيه إلى كذا وكذا، فأخبره بذلك ولمّا دعا الملك وقال: ربّ أجلّني حتّى يشب طفلي وأقضي أمري، فأوحى اللّه عزّوجلّ إلى ذلك النبي أن ائت فلاناً الملك واخبره انّي قد زدت في عمره خمس عشرة سنة(1) .



5- روى عمرو بن الحمق، قال: دخلت على أميرالمؤمنين ـ عليه السلام ـ حين ضرب على قرنه، فقال لي: يا عمرو إنّي مفارقكم، ثمّ قال: سنة السبعين فيها بلاء ـ قالها ثلاثاً ـ فقلت: فهل بعد البلاء رخاء؟ فلم يجبني واُغمي عليه، فبكت اُمّ كلثوم فأفاق... فقلت: بأبي أنت واُمّي قلت: إلى السبعين بلاء، فهل بعد السبعين رخاء؟ قال: نعم يا عمرو إنّ بعد البلاء رخاء و (يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب)(2) .



هذه جملة ما ورد في البداء في مقام الاثبات وإن شئت قلت في ثمرات البداء في الثبوت ولا تجد في الأحاديث الشيعية بداء غير ما ذكرنا، ولو عثر المتتبع على مورد، فهو نظير ما سبق من الموارد، والتحليل في الجميع واحد .



إذا وقفت على ذلك تعرفت قيمة ما ذكره الرازي في ختام محصّله، وقال: إنّ أئمّة الرافضة وضعوا مقالتين لشيعتهم، لا يظهر معهما أحد عليهم .



الأوّل: القول بالبداء، فاذا قال: إنّه سيكون لهم قوّة وشوكة، ثمّ لا يكون الأمر على ما أخبروا، قالوا: بدا لله فيه(3) .



1 . المجلسي: بحارالأنوار 4 / 121 (وفي رواية اُخرى أنّ ذلك النبي هو حزقيل، البحار 4 / 112 وذكر مثله في قضية شعيا ص 113 .



2 . المجلسي: بحارالأنوار 4 / 119، برقم 60 .



3 . الرازي: نقد المحصل 421، نقله عن سليمان بن جرير الزيدي، والأمثر الثاني هو التقية كما ستعرف .




إنّ الّذي نقله أئمة الشيعة هو ما تعرّفت عليه من الروايات فليس فيها ما يدعم ذلك، فقد نقلوا قصة رسول اللّه مع اليهودي وقصة المسيح مع العروس، كما نقلوا قصة عمر داود وعمر الملك، فهل ورد فيها ما أشار إليه الرازي؟



وأمّا ما رواه عمرو بن الحمق فإنّما هو خبر واحد فإنّ الامام ذيّل كلامه بالآية قائلا: بأنّ هذا ليس خبراً قطعياً وأنّه في مظان المحو والاثبات. أفيصح لأجل مثله رمي أئمّة الشيعة «بأنّهم وضعوا قاعدتين وأنّهم كلّما يقولون سيكون لهم قوّة ثم لا يكون، قالوا بدا لله تعالى فيه»؟ .



وقد سبق الرازي في هذا الزعم، أبو القاسم البلخي المعتزلي على ما حكاه شيخنا الطوسي في تبيانه(1) ثمّ إنّ اكمال البحث يتوقّف على ذكر اُمور :



الأمر الأوّل:




إنّ البداء بالمعنى المذكور يجب أن يكون على وجه لا يستلزم تكذيب الأنبياء ووحيهم بان تدل قرائن على صحة الإخبار الأوّل كما صحّ الخبر الثاني، كما هو واضح لمن قرأ قصة يونس وإبراهيم الخليل فإنّ القوم قد شاهدوا طلائع العذاب فأذعنوا بصحة خبر يونس كما أنّ التفدية بذبح عظيم دلّت على صحة اخبار الخيل، وهكذا وجود الأفعى تحت الثياب أو في جوف حطب اليهودي يدلاّن على صحة اخبار النبي الأعظم .



كل ذلك يشهد على أنّ الخبر الأوّل كان صحيحاً ومقدّراً، غير أنّ الإنسان يمكن له أن يغيّر مصيره بعلمه الصالح أو الطالح كما في غير تلك المقامات .



1. الطوسي: التبيان 1 / 13 ـ 14، طبع النجف، وقد عرفت بعض المتشدقين بهذه الكلمة الكاذبة .




وبالجملة يجب أن يكون وقوع البداء مقروناً بما يدل على صحة اخبار النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ولا يكون البداء على وجه يعد دليلا على كذبه، ففي هذه الموارد دلّت القرائن على أنّ المخبر كان صادقاً في خبره .



الأمر الثاني:




إنّ البداء لا يتحقّق فيما يتعلّق بنظام النبوّة والولاية والخاتمية والملاحم الغيبية الّتي تعدّ شعاراً للشريعة فإذا أخبر المسيح بمجيئ نبي اسمه أحمد أو أخبر النبي بكونه خاتماً للرسل أو أنّ الخلافة بعده لوصيّه أو أنّه يخرج من ولده من يملأ الأرض قسطاً وعدلا ونظير ذلك، فلا يتحقّق فيه البداء قطعاً، لأنّ احتمال البداء فيه ناقض للحكمة، وموجب لضلال العباد، ولو كان احتمال هذا الباب مفتوحاً في تلك المسائل الاُصولية، لما وجب لأحد أن يقتفي النبي المبشر به، ولا يوالي الوصي المنصوص ولا يتلقى دين الإسلام خاتماً ولا ظهور المهدي أمراً مقضيّاً بحجة أنّه يمكن أن يقع فيها البداء، ففتح هذا الباب في المعارف والعقائد والاُصول والسنن الإسلامية مخالف للحكمة وموجب لضلالة الناس. وهذا ما يستحيل على اللّه سبحانه وانّما مصبّ البداء هو القضايا الجزئية أو الشخصيّة، كما هو الحال في الأخبار الماضية .



الأمر الثالث:




إنّ اطلاق البداء في هذه الموارد، إنّما هو بالمعنى الّذي عرفت، وانّ حقيقته بداء من اللّه للناس واظهار منه ولو قيل بدا لله، فإنّما هو من باب المشاكلة والمجاز، والقرآن مليء به، فقد نسب الذكر الحكيم إليه سبحانه المكر وقال: (وَمَكَرُوا









وَ مَكَرَ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ) (1) وليست المناقشة في التعبير من دأب المحقّقين، فلو كان أهل السنّة لا يروقهم التعبير عن هذا الأصل بلفظ البداء للّه. فليغيّروا التعبير ويعبّروا عن هذه الحقيقة الناصعة بتعبير يرضيهم .



ولكن الشيعة تبعت النبي الأكرم في هذا المصطلح وهو أوّل من استعمل تلك اللفظة في حقّه سبحانه، روى البخاري في كتاب النبوّة «قصة بدء الخليفة» وفيها هذه اللفظة التي يستوحش منها أهل السنّة، روى أبو هريرة:



انّه سمع رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول: إنّ ثلاثة في بني إسرائيل ابرص وأقرع واعمى، بدا لله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص فقال: أىّ شيء أحبّ إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، قد قذّرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه فاُعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، فقال: أىّ المال أحبّ إليك؟ قال: الإبل أو قال: البقر ـ هو شك في ذلك انّ الأبرص والأقرع قال أحدهما: الإبل وقال الآخر: البقر ـ فاُعطي ناقة عشراء، فقال: يبارك اللّه لك فيها .



وأتى الأقرع فقال: أىّ شيء أحبّ إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عنّي هذا قذرني الناس. قال: فمسحه، فذهب، اُعطي شعراً حسناً، قال: فأيّي المال أحبّ إليك؟ قال: البقر. قال: فأعطاه بقرة حاملا، وقال: يبارك لك فيها .



وأتى الأعمى فقال: أىّ شيء أحبّ إليك؟ قال: يرد اللّه إلىّ بصري، فأبصر به الناس، قال: فمسحه فردّ اللّه إليه بصره. قال: فأىّ المال أحبّ إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والداً فأنتج هذان وولّد هذا، فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من الغنم .



1 . آل عمران / 54، وهنا آيات اُخرى يستدل بها على المشاكلة في التعبير عن الحقائق العلوية .




ثمّ إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين تقطّعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلاّ باللّه ثمّ بك. أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيراً اتبلّغ عليه في سفري فقال له: إنّ الحقوق كثيرة. فقال له: كأنّي أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس. فقيراً فأعطاك اللّه؟ فأجابه: لقد ورثت لكابر عن كابر؟ فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت.



وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا فرد عليه مثلما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت .



وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين وابن سبيل وتقطّعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلاّ باللّه، ثمّ بك. أسألك بالذي رد عليك بصرك، شاة أتبلَّغ بها في سفري فقال: قد كنت أعمى فرد اللّه بصري وفقيراً فقد أغناني فخذ ما شئت، فواللّه لا أجحدك اليوم بشيء أخذته للّه، فقال: امسك مالك فإنّما ابتليتم فقد رضي اللّه عنك وسخط على صاحبيك(1) .



* * *



هذه حقيقة البداء، وهذا هو مفهومه في الثبوت والاثبات، قد دعمه الذكر الحكيم والسنَّة النبوية فماذا بعد الحقِّ إلاّ الضلال .



1 . البخاري: الصحيح 4 / 172، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني اسرائيل .



/ 23