• عدد المراجعات :
  • 2465
  • 10/13/2010
  • تاريخ :

تفسير القَدَر والقضاء العينيين

الورد

حاصل التقدير العيني أنَّ الموجودات الإمكانية على صنفين: موجود مجرد عن المادة والزمان والمكان، فَقَدَرُهُ هو ماهيته الّتي يتحدد بها وجوده. وبما أنَّ ماهية هذه الموجودات العليا خفية علينا، فنكتفي في بيان تقديرها بلفظ "الإمكان" و"الحاجة" فكلها مصبوغة بهذه الصبغة ولا تخرج عن هذا الإطار، وتلك كالملائكة والعقول والنفوس.

وموجود مادي خلق في إطار الزمان والمكان، فَقَدَرُهُ عبارة عن جميع خصائصه الزمانية والمكانية والكيفية والكمية. وبعبارة أُخرى: حدود وجوده، وخصوصياته الّتي تحف به من بدو تحققه إلى فنائه.

وأما القضاء، فهو عبارة عن الضرورة الّتي تحف وجود الشيء بتحقيق علته التامة بحيث يكون وجوده ضرورياً مقطوعاً به من ناحية علته الوجودية.

وعلى ذلك فكل ما في الكون لا يتحقق إلا بقدر وقضاء أما القدر فهو عبارة عن الخصوصيات الوجودية الّتي تبين مكانة وجود الشيء على صفحة الوجود، وأنَّه من قبيل الجماد أو النبات أو الحيوان أو فوق ذلك، وأنَّه من الوجودات الزمانية، والمكانية إلى غير ذلك من الخصوصيات الّتي تبين وضع الشيء وموضوعه في عالم الوجود.

وأما القضاء، فهو عبارة عن وصول الشيء حسب اجتماع أجزاء علته إلى حد يكون وجوده ضرورياً وعدمه ممتنعاً، بحيث إذا نسب إلى علته يوصف بأنَّه ضروري الوجود.

فلأجل ذلك استعير لبيان مقدار الشيء من الخصوصيات لفظ "القدر"، ولتبيين ضرورة وجوده وعدم إمكان تخلفه، لفظ "القضاء" ولأجل ذلك فسر أئمة أهل البيت عليهم السَّلام القدر بالهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء، والقضاء بالإبرام وإقامة العين.

وعلى ذلك فيجب علينا أنْ نبحث عن التقدير والقضاء العينيين اللَّذين أخبر عنهما الكتاب العزيز وقال: ?إِنَا كُلَّ شَيْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَر?(القمر:49).

وقال سبحانه: ?فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَموَات فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ?(فصلت:12).

 

فلا يوجد على صفحة الوجود الإمكاني شيء إلا بظل هذين الأمرين

1- تقدير وجود الشيء وتحديده بخصوصيات تناسب وجوده، فلا يوجد شيء خالياً عن الحد والتقدير سوى الله تعالى سبحانه.

2- لزوم وجوده وضرورة تحققه بتحقق علته التامة الّتي تضفي على الشيء وصف الضرورة والتحقق.

وإلى ذلك يشير النبي الأكرم بقوله: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربعة"، وعَدّ منها القدر..ويشير إليه الإمام الطاهر موسى بن جعفر بقوله: "لا يكون شيء في السماوات والأرض إلاَّ بسبعة" وعدَّ منها القضاء والقدر.

فالعالم المشهود لنا لا يخلو من تقدير وقضاء.فتقديره تحديد الأشياء الموجودة فيه من حيث وجودها، وآثار وجودها، وخصوصيات كونها بما أنها متعلقة الوجود والآثار بموجودات أُخرى، أعني العلل والشرائط، فيختلف وجودها وأحوالها باختلاف عللها وشرائطها، فهي متشكلة بأشكال تعطيها الحدود الّتي تحدها من الخارج والداخل، وتعيّن لها الأبعاد من عَرْض وطول وشكل وهيئة وسائر الأحوال من مقدار الحياة والصحة والعافية أو المرض والعاهة ما يناسب موقعها في العالم الإمكاني. فالتقدير يهدي هذا النوع من الموجودات إلى ما قدر له في مسير وجوده. قال تعالى: (الذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالذِي قَدَّرَ فَهَدَى) أي هدى ما خلقه إلى ما قُدر له. وقال سبحانه: ?مِنْ نُطْفَة خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ?(عبس:19-20).

وفي قوله سبحانه:(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ)إشارة لطيفة إلى أنَّ التقدير لا يسلب منه الاختيار، وفي وسع الإنسان أن يبطل بعض التقدير أو يؤيده ويدعمه فيذهب عن نفسه العاهة أو يؤكدها ويثبتها.

وأما قضاؤه، فلما كانت الحوادث في وجودها وتحققها منتهية إليه سبحانه فما لم يتم لها العلل والشرائط الموجبة لوجودها فإنها تبقى على حال التردد بين الوقوع واللاوقوع فإذا تمّت عللها وعامة شرائطها ولم يبق لها إلا أن توجد، كان ذلك من الله قضاءً وفصلاً لها من الجانب الآخر وقطعاً للإبهام.

يقول السيد الطباطبائي رحمه الله: "إنا نجد الحوادث الخارجية والأُمور الكونية بالقياس إلى عللها والأسباب المقتضية لها على إحدى الحالتين فإنها قبل أن تتم عللها الموجبة لها وقبل أن تتم الشرائط وترتفع الموانع الّتي يتوقف عليها حدوثها، لا يتعين لها التحقق والثبوت.

فإذا تمت عللها الموجبة لها، وكملت ما تتوقف عليه من الشرائط وارتفاع الموانع، خرجت من التردد والإبهام وتعين لها أحد الطرفين وهذا هو القضاء وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: ?فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ?(غافر:68).

وقال سبحانه: ?قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ?(يوسف:41)".

وبذلك يظهر أنَّ التقدير، بمعنى إفاضة الحد على الشيء، والقضاء بمعنى إفاضة الضرورة على وجود الشيء، من صفاته الفعلية سبحانه، وإليه يشير الإمام الصادق عليه السَّلام في قوله: "إنّ القَضاءَ والقَدَرَ خَلْقانِ مِنْ خَلْقِ الله واللهُ يزيد في الخَلْق ما يَشاء"4.

وإنما يكون القضاء والقدر مخلوقين لله تعالى من حيث إنَّ وجود أيّةِ ظاهرة يكون ملازماً مع قَدَرها الّذي يعطي لها الحد والمقدار، ويخصّصها بشكل خاص كما يكون ملازماً مع القضاء الّذي هو ضرورة وجودها من قبل علتها فخالق الشيء خالق قدره وخالق قضائه.

*الإلهيات، آية الله جعفر السبحاني، مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج2، ص183-196


مصادر القضاء والقدر في الكتاب والسنة ( 1 )

السنن الإلهية في المجتمع البشري

الجبر والتفويض

التقدير مقدَّم على القضاء

معطيات الإعتقاد بالقضاء والقدر

 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)