• عدد المراجعات :
  • 994
  • 9/18/2010
  • تاريخ :

التقدير مقدَّم على القضاء

الورد

إذا كان التقدير بمعنى تحديد وجود الشيء والحدّ الّذي يتحدد به فهو مقدَّم على القضاء بمعنى ضرورة وجوده، لأن الشيء إنما يتحدد، بكل جزء من أجزاء العلة فإن كل واحد منها يؤثر أثره في المعلول على حدته. فحيث إن أجزاء العلَّة تتحقق قبل تمامها، وكل جزء منها يؤثر أثره في محيطه، ويكون أثره تحديد الموجود وصبغه، يجب أنْ يكون التقدير مقدماً على القضاء فصانع الطائرة يهيء لمصنوعه قِطَعاً وأجزاءً صناعية مختلفة، كل منها من صُنع مَصْنع، ثم تركب هذه الأجزاء بعضها مع بعض، فيصل إلى حد القضاء، فتكون طائرة تحلق في السماء.

ومثله الثوب المخيط، فإنَّ هناك عوامل مختلفة تعطيه صورة واحدة، مثل تفصيل القميص، والخياطة الخاصة، وغير ذلك من الخصائص الّتي تحدد الثوب قبل وجود العلَّة التامة.

وفي ضوء هذا البيان يمكن أنْ يقال: إذا كان الشيء موجوداً مادياً، وكانت علته علة مركبة من أجزاء، فتقديره مقدم على قضائه حيث إنَّ تأثير الجزء مقدم على تأثير الكل.وأما الموجودات المجرّدة المتحققة بعلّة بسيطة، فالتقدير والقضاء العينيان فيها يكونان في آن واحد فإن الخلق والإيجاد، الّذي هو ظرف القضاء، هو نفس ظرف التقدير والتحديد.

وبهذا يتضح سر تأكيد الإمام عليه السَّلام على تقدم القَدَر على القضاء.

روى البرقي في المحاسن بسنده عن هشام بن سالم قال:قال أبو عبد الله عليه السَّلام:"إنَّ الله إذا أراد شيئاً قدّره، فإذا قدّره قضاه، فإذا قضاه أمضاه".

وروى أيضاً بسنده عن محمد بن إسحاق قال:قال أبو الحسن ليونس مولى علي بن يقطين:"يا يونس لا تتكلم بالقدر، قال:إني لا أتكلم بالقدر، ولكن أقول: لا يكون إلا ما أراد الله وشاء وقضى وقدر. فقال: ليس هكذا أقول، ولكن أقول: لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى".

 

بقي هنا نكتتان هامتان يجب التنبيه عليهما

الأُولى: قد عرفت عناية النبي وأئمة أهل البيت عليهم السَّلام بالإيمان بالقدر، وأنَّ المؤمن لا يكون مؤمناً إلا بالإيمان به، فما وجه هذه العناية؟

والجواب: إنَّ التقدير والقضاء العينيين من شعب الخلقة، وقد عرفت أنَّ من مراتب التوحيد، التوحيد في الخالقية وأنه ليس على صفحة الوجود خالق مستقل سواه.ولو وصفت بعض الأشياء بالخالقية، فإنما هي خالقية ظليّة تنتهي إلى خالقيته سبحانه، انتهاء سلسلة الأسباب والمسببات إليه.

ولما كان القدر العيني، تأثر الشيء عن علله وظروفه الزمانية والمكانية، وانصباغه بصفة خاصة فهو نوع تخلّق وتكوّن للشيء فلا محالة يكون المقدِّر والمكوِّن هو الله سبحانه.

ولما كان القضاء العيني، هو ضرورة تحققه ولزوم وجوده، فهو عبارة أُخرى عن الخلقة الواجبة اللازمة، فلا محالة يستند إليه سبحانه.

فلأجل ذلك ترى أنه سبحانه تارة يسند التقدير إلى نفسه ويقول: ?قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَىْء قَدْراً?(الطلاق:3) ويقول: ?الذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالذِي قَدَّرَ فَهَدَى?(الأعلى:2- 3).

وأخرى يسند القضاء ويقول: ?فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ?(البقرة:117) ويقول: ?فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَموَات فِي يَوْمَيْنِ?(فصلت:12).

فبما أنَّ التقدير والقضاء عبارة أُخرى عن كيفية الخلقة، فلا يوجد شيء في صفحة الوجود إلا بهما، وإلى ذلك يشير ما تقدم من الإمام الصادق عليه السَّلام من قوله:"إنَّ القَضاءَ والقَدَرَ خَلْقان مِنْ خَلْقِ اللهِ واللهُ يَزيدُ في الخَلْقِ ما يَشاء".

الثانية: إن كون التقدير والقضاء العينيَّين منه سبحانه لا يلازم كون الإنسان مسلوب الاختيار، لأن المفروض أنَّ الحرية والاختيار من الخصوصيات الموجودة فيه، فالله سبحانه قدر وجوده بخصوصيات كثيرة منها كونه فاعلاً بالاختيار مقابل الفواعل الطبيعية الّتي لا تفعل إلا عن جبر طبيعي.

كما أنه سبحانه إذ قضى بأفعال الإنسان فإنما قضى على صدورها منه عن طريق المبادئ الموجودة فيه الّتي منها الحرية والاختيار. فقضى قضاءً تكوينيّاً بصدور فعل الإنسان منه عن اختياره وحريته التامة. وعلى ذلك فكون التقدير والقضاء العينيَّين منه سبحانه لا يسلب الاختيار عن فاعل مختار مثل الإنسان.

نعم، لو قدره بغير هذه الخصوصية وقضى على صدور فعله منه لا عن هذا الطريق، لكان لما توهم مجال. هذان هما التقدير والقضاء العينيَّان وهناك معنى آخر للعيني من القضاء والقدر يستفاد من آيات كثيرة، والمعنيان غير متزاحمين، غير أنا نعبر عن المعنى الأول بالقضاء والتقدير العينيَّين الجزئيَّين، وعن الآخر بالعينيَّين الكلّيَّين.

*الإلهيات، آية الله جعفر السبحاني، مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج2، ص183-196


معطيات الإعتقاد بالقضاء والقدر

الحكمة من الافات والكوارث

 

 

 

 

 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)