• عدد المراجعات :
  • 1387
  • 9/19/2004
  • تاريخ :

البعد الاجتماعي في حياة الإمام الحسين

الامام الحسين (ع)

إنما نحتفل بذكريات الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) ، و نحتفي بالمناسبات الإسلامية ، لكي نتواصل مع تاريخنا العريق ، و نستلهم منه الدروس و العبر بما يفيدنا لحاضرنا و بناء مستقبلنا ، و حينما تمر علينا ذكرى ولادة أو شهادة إمام من الأئمة فإننا نهتم بها ، لنستضيء بسيرة ذلك الإمام و نستهدي بتوجيهاته و إرشاداته.

- البعد الاجتماعي في حياة الإمام:

 

و سنتناول في حديثنا جانباً من جوانب حياة الإمام الثرية المعطاءة و هو البعد الاجتماعي في سيرته العطرة.

و بإطلالة عابرة يتلخص لنا هذا البعد في ثلاث نقاط:

1-الحضور الاجتماعي.

2-النموذج الأخلاقي.

3-الاهتمام بمناطق الضعف في المجتمع.

 

1 - الحضور الاجتماعي :

أن يحمل الإنسان أهدافاً كبيرة ، أو يمتلك مستوى علمياً متقدماً ، فذلك لا يؤثر شيئاً في حركة الواقع و الحياة ، ما لم يصاحبه حضور اجتماعي ، يشق الطريق أمام تلك الأهداف الكبرى ، و يترجم العلم إلى فعل ملموس . لذلك كان الأنبياء و الأئمة يعيشون في وسط الناس ، و يتفاعلون معهم ، ولم يكونوا منعزلين على قمم الجبال ، أو في الكهوف و المغارات ، و لا كانوا يتعالون و يترفعون عن الناس في أبراج عاجية . و مهما كان مستوى المجتمع من حيث التخلف و الجهل ، أو من حيث طغيان أجواء الفساد و الانحراف ، فإن ذلك لا يبرر الهروب و العزوف عن الناس لدى المصلحين الإلهيين.

صحيح أن مخالطة الناس و هم يعيشون حالة الجهل والتخلف أو يخضعون لأجواء الفساد و الانحراف ، قد تسبب الكثير من الأذى و المعاناة للرجال الإلهيين ، لكن ذلك هو طريق التغيير و الإصلاح ، كما أنه وسيلة لنيل ثواب اللَّه و رضوانه.

ورد في حديث مروي عن

رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) أنه قال : ( المؤمن الذي يخالط الناس ، و يصبر على أذاهم ، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس و لا يصبر على أذاهم  ) ، (1).

و في حديث آخر أنه (صلى الله عليه وآله) فقد رجلاً، فسأل عنه فجاء ، فقال:  يا رسول اللَّه إني أردت أن آتي هذا الجبل فأخلوَ فيه و أتعبّد . فقال رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) : (

يصبر أحدكم ساعة على ما يكره في بعض مواطن الإسلام خير من عبادته خالياً أربعين سنة ؛ و في نص آخر: ستين سنة ) ، (2).

و

الإمام الحسين (عليه السلام) نشأ من بداية حياته في عمق الشأن الاجتماعي و في صميم الأحداث ، فجده رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) كان قطب رحى المجتمع و قائده الأعلى ، و أبوه علي (عليه السلام) كان وزير الرسول ، و ساعده الأيمن ، بل كان نفسه بنص آية المباهلة.

فكان حضوره في ساحة الشأن العام أمراً طبيعياً ، لالتصاقه بجده الرسول (صلى الله عليه وآله ) ، و الذي كان يحتضن حفيده حتى و هو في الصلاة ، و يأخذه معه على المنبر ، فقد روي عن عبد اللَّه بن بريدة ، عن أبيه ، قال : خطبنا رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) فأقبل

الحسن و الحسين رضي اللَّه عنهما، عليهما قميصان أحمران ، يعثران و يقومان ، فنزل فأخذهما فصعد بهما المنبر ، (3).

و في ذلك الموقف الحسّاس بين المسلمين و النصارى ، حينما دعاهم الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى المباهلة ، كان الحسين محمولاً على كتف جده ، و هو وأخوه الحسن مصداق الأبناء في قوله تعالى : (

فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ) ،(4).

و بعد

وفاة رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) وجد الحسين نفسه ضمن الآم عائلته ، و مأساة أمه الزهراء ، فكان يصحبها في جولتها على بيوت المهاجرين و الأنصار مطالبة بحقها ، (5).

و ينقل التاريخ موقفاً للإمام الحسين (عليه السلام) في بداية عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، و الحسين إذ ذاك لتوه يتخطى العقد الأول من عمره :

يروي ابن حجر العسقلاني في كتابه (الإصابة) عن يحي بن سعيد الأنصاري عن عبيد بن حنين ، حدثني الحسين بن علي، قال : أتيت عمر وهو يخطب على المنبر فصعدت إليه ، فقلت : انزل عن منبر أبي ، و اذهب إلى منبر أبيك .

فقال عمر : لم يكن لأبي منبر ، و أخذني فأجلسني معه أقلب حصى بيدي ، فلما نزل انطلق بي إلى منزله ،

فقال لي : من علمك ؟ ،

قلت : و اللَّه ما علمني أحد .

قال : بأبي لو جعلت تغشانا ،

قال : فأتيته يوماً وهو خال بمعاوية و ابن عمر بالباب ، فرجع ابن عمر فرجعت معه ، فلقيني بعد فقال لي : لم أرك .

قلت: يا أمير المؤمنين إني جئت و أنت خال بمعاوية ، فرجعت مع ابن عمر ،

فقال : أنت أحق بالإذن من ابن عمر، فإنما أنبت ما ترى في رؤوسنا اللَّه ثم أنتم. سند صحيح ، (6).

و في القصة دلالات مؤثرة واضحة ، فهو على صغر سنه يأتي المسجد ، و يعرب عما في نفسه للخليفة ، و أمام الناس ، و يقرر أن ذلك التصرف نابع من قرارة نفسه ، لم يمله أحد عليه، ثم يذهب لزيارة الخليفة في داره.

و نرى الإمام الحسين في عهد الخليفة عثمان ، قد التحق بالجيش الإسلامي ، للفتح في أفريقيا ، و كان الجيش بقيادة عقبة بن نافع بن عبد القيس ، و عبد اللَّه بن نافع بن الحرث ، و فيه جماعة من الصحابة ، كعبد اللَّه بن عباس ، و ابن عمر ، و ابن جعفر ، و الحسن و الحسين.

كما شارك الحسين في حروب المسلمين مع الفرس في طبرستان و جهاتها ، و الجيش بإمرة سعيد بن العاص ، (7).

و تأكيداً لحضوره الاجتماعي ، كان مجلسه في المسجد النبوي ، حيث تلتف حوله حلقة واسعة من طلاب المعرفة ، و رواد العلم ، و أصحاب الحاجات ، و قد سأل رجل من قريش معاوية أين يجد الحسين ؟ ، فقال له معاوية : ( إذا دخلت مسجد رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) فرأيت حلقة فيها قوم كأن على رؤوسهم الطير فتلك حلقة أبي عبد اللَّه ) ، (8).

و الشواهد على هذا الجانب في حياة الإمام كثيرة يضيق المجال عن استقصائها.

2 - النموذج الأخلاقي :

في تعاطي الإنسان مع المجتمع ، يجد أمامه عناصر متفاوتة المستوى و الطباع ، و بعضهم قد يعاني من عقد نفسية ، أو انحرافات سلوكية ، تدفعه إلى الإساءة و العدوان ، مما يستفز الإنسان لردّ الفعل ، و الدفاع عن ذاته أمام هذه العناصر ، و الانزعاج من تصرفاتها.

لكن الرجال الإلهيين بقلوبهم الكبيرة ، و نفوسهم العالية ، يستوعبون تلك الحالات ، ويقابلونها بالحلم و الأناة و الإحسان.

و الإمام الحسين كان قمة في هذا المجال ، فقد كان -فيما أجمع عليه الرواة- لا يقابل مسيئاً بإساءته ، و لا مذنباً بذنبه ، و إنما كان يغدق عليهم ببره و معروفه ، شأنه في ذلك شأن جده الرسول (صلى الله عليه وآله) ، الذي وسع الناس جميعاً بأخلاقه و فضائله ، و قد عرف بهذه الظاهرة و شاعت عنه ، و قد استغلها بعض مواليه ، فكان يعمد إلى اقتراف الإساءة إليه، لينعم بصلته وإحسانه، و يقول المؤرخون : إن بعض مواليه قد جنى عليه جناية توجب التأديب فأمر (عليه السلام) بتأديبه ، فانبرى العبد قائلاً : ( يا مولاي، إن اللَّه تعالى يقول: ( الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ) .

فقابله الإمام ببسماته الفياضة و قال له: ( خلوا عنه، فقد كظمت غيظي..).

و سارع العبد قائلاً : ( وَ الْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ).

فقال: ( قد عفوت عنك .. ) . 

و انبرى العبد يطلب المزيد من الإحسان قائلاً : ( و َاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ).

قال : ( أنت حر لوجه اللَّه.. ، ثم أمر له بجائزة سنية تغنيه عن الحاجة و مسألة الناس ) ، (9).

و قد فزع مروان إليه و الى أخيه ، وهو من ألدّ أعدائهم، بعد فشل واقعة الجمل، وطلب منهما أن يشفعا له عند أبيهما، فخّفا إليه، وكلّماه في شأنه، و قالا له: ( يبايعك يا أمير المؤمنين ) .

فقال (عليه السلام) : ( أولم يبايعني بعد قتل عثمان لا حاجة لي في بيعته إنها كف يهودية، لو بايعني بيده لغدر بسبابته ). و ما زالا يلطفان به حتى عفا عنه ، (10).

3 - الاهتمام بمناطق الضعف في المجتمع :

تتجلى إنسانية الإنسان ، و يصدق إيمانه باهتمامه بالمحتاجين و الفقراء في مجتمعه ، و مهما بلغ الإنسان من العلم ، أو اجتهد في العبادة ، فإنه لن تتحقق إنسانيته ، و لن يصح تدينه ، إذا ما تجاهل مناطق الضعف في المجتمع ، ألم يقل ربنا سبحانه : (

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) ، (11) فالمهمل للأيتام ، و غير المبالي بجوع الفقراء ، مكذب بالدين ، و غير صادق في ادعائه التدين ، و إن بالغ في صلاته و عبادته ، بل هو مستحق للويل و العذاب ( فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَ يَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ) ، (12).

و الإمام الحسين كأهل بيته الطاهرين عليهم السلام ، كانوا يعيشون للناس أكثر مما يعيشون لأنفسهم ، ( 

و َيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) ، (13).

و من بداية حياته ، وهو طفل صغير، شارك أسرته الصيام ثلاثة أيام، ما كانوا يفطرون فيها إلا على الماء القراح، لأنهم عند الإفطار يقصدهم المحتاجون، فيتنازلون لهم عن طعامهم، وفيهم نزل قوله تعالى : (

و َيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا ) ، (14).

و طوال حياته كان ملاذاً للفقراء و المحرومين ، و ملجأ لمن جارت عليه الأيام ، و كان يثلج قلوب الوافدين إليه بهباته و عطاياه.

يقول كمال الدين بن طلحة : ( و قد اشتهر النقل عنه أنه كان يكرم الضيف ، و يمنح الطالب ، و يصل الرحم ، و يسعف السائل ، و يكسو العاري ، و يشبع الجائع و يعطي الغارم ويشد من الضعيف، ويشفق على اليتيم، ويغنى ذا الحاجة، وقل أن وصله مال إلا وفرقه ) ، (15).

و يقول المؤرخون إنه كان يحمل في دجى الليل البهيم، الجراب يملؤه طعاماً و نقوداً ، إلى منازل الأرامل و اليتامى و المساكين ، حتى أثر ذلك في ظهره، وكان يُحمل إليه المتاع الكثير فلا يقوم حتى يهب عامته ، (16).

و مرض أسامة بن زيد مرضه الذي توفي فيه فدخل عليه الإمام عائداً فلما استقر به المجلس قال أسامة : و اغماه.

-ما غمك؟

-ديني ، و هو ستون ألفاً.

-هو علي.

-أخشى أن أموت قبل أن يقضى.

-لن تموت حتى أقضيها عنك.

و بادر الإمام (عليه السلام) فقضاها عنه قبل موته ، و قد غض طرفه عن أسامة فقد كان من المتخلفين عن بيعة أبيه ، فلم يجازيه بالمثل وإنما أغدق عليه الإحسان ، (17).

و قد اجتاز يوماً على مساكين يأكلون في (الصفة) فدعوه إلى الغذاء فنزل عن راحلته، وتغذى معهم ، ثم قال لهم : قد أجبتكم فأجيبوني ، فلبوا كلامه وخفوا معه إلى منزله ، فقال (عليه السلام) لزوجه الرباب : أخرجي ما كنت تدخرين ، فأخرجت ما عندها من نقود فناولها لهم ، (18).

هذا غيض من فيض ، و قليل من كثير ، و نقطة من بحر ، في حياة الإمام الحسين (عليه السلام) ، و إذ نحتفي بذكرى ولادته العطرة فإننا مدعوون للاقتداء بهديه، والسير على خطه، بالاهتمام بأوضاع مجتمعنا، وأن نكثّف حضورنا في ساحة المجتمع، ونتجاوز حالة الأنانية والانزواء والانطواء، حتى نسهم في بناء أوطاننا، ونخدم قضايا أمتنا، ونتعاون على البر و التقوى.

----------------------------------------------

الهوامش:

1-الهندي: علي المتقي، كنز العمال، حديث رقم 686.

2-المصدر السابق ـ حديث رقم 11354.

3-السجستاني: أبو داود سليمان بن الأشعث، سنن أبي داود ج1 ص358 حديث رقم 1109.

4- سورة آل عمران، الآية61.

5-القزويني: محمد كاظم، فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد ص407 الطبعة الأولى 1991م، مؤسسة النور للمطبوعات- بيروت.

6-العسقلاني: ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة ج2 ص77 الطبعة الأولى 1992م دار الجيل- بيروت.

7-الحسني: هاشم معروف، سيرة الأئمة الاثني عشر ج2 ص16 دار التعارف للمطبوعات- بيروت 1990م.

8-القرشي: باقر شريف، حياة الإمام الحسين ج1 ص137 الطبعة الأولى 1993م دار البلاغة- بيروت.

9-المصدر السابق، ص124.

10-المصدر السابق، ص126.

11-سورة الماعون، الآية 1-3.

12-سورة الماعون، الآية 4-7.

13-سورة الحشر، الآية9.

14-سورة الإنسان، الآية 8-9.

15-القرشي: باقر شريف، حياة الإمام الحسين ج1 ص127 الطبعة الأولى 1993م دار البلاغة- بيروت.

16-المصدر السابق، ص128.

17-المصدر السابق، ص128-129.

18-المصدر السابق، ص125.

حسن موسى الصفار

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)