• عدد المراجعات :
  • 5036
  • 12/13/2009
  • تاريخ :

الامام علي – عليه السلام - يشرح فلسفة الوجود

نهج البلاغة

من هنا.. من مصدر الوجود ومبعث الرسالات، يبدأ الإمام في فلسفة الوجود. ولا يحاول - مطلقاً - أن يفبرك فلسفة مستقلة، وإنما يتابع الرحلة التي صدح بها القرآن منذ بدأ القرآن رحلته إلى الأرض إلى أن بلغ ختامه، ويواكب سير الرسالة منذ أن دثر الله رسوله بالوحي إلى أن خلع الحياة. وإن كان - في بعض الأحيان - يبدو أنه ينسج من جديد، ولكن - لدى التحقيق والمقارنة - يظهر أنه يستقي من: الضمير القرآني المجيد، والعمق الرسالي الرشيد. وإن يكن - هناك - أي زهوق أو مروق، ففلسفة الوجود واحدة: عبر عنها القرآن باسلوبه الدستوري، وعبر عنها الرسول بأسلوبه التأسيسي، وعبر عنها الإمام باسلوبه التركيزي. أما سائر الفلسفات الأخر: فإنها تعاني من التخلف أو التجاوز، وفي كلتا الحالتين لا تطابق بينها وبين الواقع.

وفلسفة الوجود الصحيحة - التي عبر عنها الإمام - هي التي انبثقت عن الله، ولكنها ما انفصلت عنه بالمزايلة - حسب تعبير الإمام -. فكل شيء - مهما كان صغيراً أو كبيراً - جزء من الكون، اندفع إلى الوجود وفق فلسفته العامة، فهو يعطي للحياة ويأخذ من الحياة. فلا ينظر إليه باعتبار حجمه، وإنما ينظر إليه باعتباره طرفاً متعاملاً مع الكل، فله احترام الكل. أو لم يقل القرآن: ( ... من قتل نفساً - بغير نفس، أو فساد في الأرض - فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ) ، ( سورة المائدة، 32 ) ؟!

فقوة الوجود تمنح لكل صغير نصيبه من الرعاية بنفس الاهتمام الذي تعطي به نصيب الكبير: فللنبتة الزاحفة من الاهتمام بقدر ما للدوح العتي، ولصغار الحشرات وزغب الطيور ما لسباع الصحراء ونسور الفضاء... أو ليس الله (أعطى كل شيء خلقه، ثم هدى) سورة طه، 50. و(أتقن كل شيء ) ، ( سورة النمل، 88) ؟!

وأقل حق يوفر على المخلوق - وخاصة : إذا كان ذا حياة - أن يوفر له حق الحياة، فلا ينازع في ما يمسك عليه حياته، فـ(لكل ذي رمق قوت) و(لكل حبة آكل)...

وعندما تكون الجناية على ضعيف لا يقاوم، وعندما تكون الجناية من أجل شيء بخس لا يغري؛ تنقلب الجناية الصغيرة خيانة عظمى، لأنها تشويه لعدالة الله في الوجود، واعتداء على العدالة الكونية: ( والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة، ما فعلته ).

فلا يؤخذ الكون بعين الشاعر التي تظهره في وحدة وجودية، ولا يؤخذ بمعمل العالم الذي يجزء كل شيء ويفرده لتكبيله وتحليله، وإنما يؤخذ الكون - كما هو - أجزاء متباينة متعاونة. فعناصره المختلفة مترابطة مع بعضها، ولبعضها على البعض حقوق متكافئة: فإذا كانت الشمس تمنح الوجود دفأ، فهي تأخذ منه ما يعوض استهلاكها، فلا يصغر حجمها. وإذا كان البحر يرطب الجو غيوما، فهو يسترجع روافده عيوناً وأنهاراً، فلا ينضب. وإذا أخذت الوردة من الهواء والنور، فهي تدفع اليهما من عطرها ولونها بمقدار ما أخذت منهما...؛ فـ( بالحق قامت السماوات والأرض ) - قال الإمام -. ولكل شيء دور لابد له من القيام به، وإلا كان ميتاً استهلكته الأحياء بسرعة كبيرة، في عمليات التطهير الدائبة في الكون.

وبين البشر - الذين هم من عناصر هذا الكون - نفس الحقوق المتكافئة بين جميع عناصره، القائمة على وحدة هي

(الحق):

(ثم جعل - من حقوقه - حقوقاً لبعض الناس على بعض. فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض).

فمن يعطي من نفسه الحق يأخذ الحق من نفوس الآخرين، ومن يرفض الاعتراف بحقوق الآخرين لا يكون له في الحق من نصيب. ومن اخذ اكثر مما أعطى فهو ظالم، ومن دفع أكثر مما أخذ فهو مظلوم. فإذا تزاحمت النعم على فرد فهو لم يجمعها بقدرة قادر، وإنما هي حصيلة عناصر أخرى بشرية وغير بشرية. فعليه أن يرتفع - في تعامله مع سائر عناصر الكون - إلى ذلك المستوى، وإلا انسحبت عناصر الكون عن التعامل معه إلى مقدار تعامله معها:

(من قبض يده عن الناس قبض عنهم يدا واحدة وقبضت عنه أيد كثيرة) وإذا قبضت عنه أيدٍ كثيرة، يبقى وحيداً لا يجيد إلا القليل.

(من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه: فمن قام لله فيها بما يجب عرضها للدوام والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب عرضها للزوال والفناء) ، (1)

فعدالة الله جارية في نواميس الكون، وهي (الحق) الذي به قامت السماوات والأرض، ولا يحيد عنه شيء إلا لينهار هو ويستهلك في غيره.

لآية الله السيد حسن الشيرازي

------------------------------------------------------------------

الهوامش

13 - نهج البلاغة، الحكمة رقم 364.


الامام – عليه السلام – يوصي الحکام بالعدل

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)