• عدد المراجعات :
  • 1042
  • 4/30/2011
  • تاريخ :

الاُنس بالله

الورد

قال مولانا وإمامنا العسكري (عليه السلام) : ( من استأنس بالله استوحش من الناس ) .

ونستلهم من روحه الزكية ونفسه القدسية بيان ما جاء في كلمته القصيرة ، الموجزة في الألفاظ ، العظيمة في المغزى والمحتوى والمعنى ، فإنّها وإن كانت مختصرة الحروف إلاّ أ نّها تحمل المعاني السامية والمفاهيم القيّمة ، فإنّ كلام الإمام إمام الكلام ، دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق . وكلام الأئمة الأطهار نور ، له بواطن ووجوه كما للقرآن الكريم ، كما ورد هذا المعنى في الأخبار الشريفة .

وأقصد من شرح الرواية التي تلوتها في مطلع الحديث ، فتح آفاق جديدة أمام طلبة العلوم ، ليفكّروا من بعد ويتعمّقوا وينظروا بكل دقّة في روايات أهل البيت (عليهم السلام) فكلّ كلمة منهم تحمل كتاباً قطوراً ، فإنّها كالبحر المتلاطم الأمواج بالعلم والمعرفة ، فيها الدرر الثمينة واللآلئ القيّمة ، يقف عليها من غاص في بحارها ، وأسبر في أعماقها .

 

بيان الحديث :

أمّا شرح الرواية الشريفة فعلينا أن نبيّن أوّلا كلماتها ومداليلها ، ثمّ ما تحمل الكلمات من المعاني التي يمكن أن تكون مقصودة ومرادة .

فقوله (عليه السلام) : من أنس : ( من ) اسم موصول ويفيد العموم الشمولي وتكون القضية على نحو الموجبة والكلّيّة ، فمن استأنس أي كلّ واحد من الناس سواء كان مسلماً أو غير مسلم من الموحّدين المؤمنين إذا استأنس بالله ، كما أنّ الجملة ، جملة شرطية مرتّبة من فعل الشرط ( من أنس بالله ) وجزاءه ( استوحش من الناس ) .

ومفهوم الشرط المخالف : أنّه من لم يستأنس بالله لم يستوحش من الناس ، وعكسه : من أنس بالناس استوحش من الله ، ويجعلون أصابعهم في آذانهم ، لكي لا يسمعوا ذكر الله وكتاب الله جلّ جلاله ، ويقولون هذا سحرٌ مبين ، فيأنسون بالملاهي ومجالس البطّالين ، ويستوحشون من المساجد ومجالس العلماء ومجالس التوّابين والمؤمنين ، ويتّهمونهم بالرجعيّة والتخلّف والانحطاط ، وأنّه أراذل القوم اتّبعوا الأنبياء .

وغريزة الاُنس هي من الغرائز ، وهي جذر الحياة الاجتماعية ، ويقال : الإنسان اشتقّ من الاُنس ، إذ يألف بالآخرين ويأنس بمحيطه ، ويبحث عن مجتمع يحكمه الاُنس الجماعي ، فيطالب بحكومة العدل والعلم والفلاح والصلاح ، يطالب من يحترم شخصيّته ، ولا يقيسه بالقرد والفأرة كما في المذهب الرأسمالي ، ولا بآلة ماكنة كما في المذهب الاشتراكي .

وأمّا هم فمن الأثرياء ، يحملون الشهادات العليا ، ومن المثقّفين المتحضّرين ، فأنسوا بالناس واستوحشوا من الله ، وأين المفرّ من حكومة الله وسطوته وقدرته وسمعه وبصره ، وهو العليم الخبير . واستأنس : مشتق من الأنس والاُنس غريزة من غرائز الإنسان ، والغرائز حالات روحية ، لها جذور ثابتة في نفس الإنسان وباطنه ، تظهر في ضميره اللاشعوري ، على نحو الحاجة وتطالب إشباعها ، وهي التي تدفع الإنسان نحو حياة أفضل ، ولا تفتقر في تعليمها إلى معلّم ، إنّما هي إدراكات باطنية تختلف ضعفاً وقوّة طيلة مراحل حياة الإنسان ، وتبقى أصالتها مغروزة في وجود الإنسان ، ولا تختصّ بشعب دون شعب ، وبقوم دون قوم ، وبجغرافية وعصر خاص ، إنّما هي مع الإنسان منذ نعومة أظفاره في كلّ عصر ومصر ، تدرك أهدافها التي هي أهداف الحياة ، ولكن لا ندري كيف ترضي حاجتها وتشبع رغبتها ، ولا تدري ما هي مصاديقها إنّما البيئة والمحيط لما فيه من الجاذبيات ، يهديها ويرشدها إلى الخير أو الشرّ ، مثلا غريزة الجوع ، فالإنسان بهذه الغريزة يفهم ويدرك أنّ عليه أن يتغذّى ويأكل ويسدّ جوعه ويقوّي بدنه ، ولكن لا يدري من أيّ غذاء يأكل وكيف يأكل وكم مرّة يأكل ؟ فالمحيط يقدّم له الأكل ويعلّمه كيف يأكل وكم مرّة ، فالإنسان قبل حاجته إلى معلّم يعلّمه العلوم والفنون ويشبع فكره ، فإنّه يحتاج إلى مربٍّ ومعلّم يهدي غرائزه ، فإنّ الغرائز جذور حركة الإنسان من أجل حياة أفضل .

وغريزة الاُنس هي من الغرائز ، وهي جذر الحياة الاجتماعية ، ويقال : الإنسان اشتقّ من الاُنس ، إذ يألف بالآخرين ويأنس بمحيطه ، ويبحث عن مجتمع يحكمه الاُنس الجماعي ، فيطالب بحكومة العدل والعلم والفلاح والصلاح ، يطالب من يحترم شخصيّته ، ولا يقيسه بالقرد والفأرة كما في المذهب الرأسمالي ، ولا بآلة ماكنة كما في المذهب الاشتراكي .

ويقابل الاُنس التوحّش والفرار ، مقابلة الملكة وعدمها ، فمن يأنس بشيء يفرّ من ضدّه ، والضدّان لا يجتمعان .

( من استأنس بالله ) : الله : اسم علم وضع للذات ، واجب الوجود لذاته ، مستجمع جميع الصفات الكمالية ، من الجمال والجلال ، فهو المطلق في العلم والقدرة والحياة وجميع صفات الكمال ، كما ينزّه عن الجسم والحلول والإمكان وجميع القبائح والنقص ، فهو الواحد الأحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، له الأسماء الحسنى والصفات العليا .

( استوحش ) : تعرف الأشياء بأضدادها فإذا عرفنا معنى الاُنس عرفنا ضدّه ، وهو الوحشة ، فمن يستأنس بشيء يستوحش من غيره ، كما يستوحش من فقده ، فالوحشة عبارة عن الاضطراب الباطني .

( من الناس ) : من بيانية ، والناس جمع محلّى بألف واللام يفيد العموم فمن يستأنس بالله ، فإنّ لازمه الطبيعي أن يستوحش من الناس ، هذا ما قاله الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ، وأمّا برهانه وأدلّته ولوازمه .

 فهذا ما سنذكره .

----------------------------------------------------------------------

الهوامش:

([1]) القيت مضمون هذه الرسالة كمحاضرة في مجمع من أهل العلم في منتدى اللبنانيين في مدينة قم المقدسة ، ليلة ذكرى ميلاد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عام 1412 هجرية ( 8 ربيع الثاني ) . وأغلب مصادر الأحاديث عن موسوعة ( ميزان الحكمة ) وبعض الكلام إنّما هو مستلّ من الروايات الشريفة .


قصة واقعية (الايمان بالله عند الرجوع الى الفطرة)

دليل النظام - دليل الامكان باسلوب آخر ( 3 )

الدليل الفلسفي على وجود الله وموقف المادية ( 3 )

ما هي الخطوات المعتبرة لمعرفة الدين؟

الطريق الثاني لمعرفة الله الطريق من خارج

لماذا نبحث عن وجود الله سبحانه؟

 

 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)