• عدد المراجعات :
  • 3988
  • 3/4/2006
  • تاريخ :

شبهات حول المكي والمدني في القران الكريم

شبهات حول المكي والمدني في القران الكريم

وبالاحري يجب أن يقال : إن شبهات المكي والمدني ترتبط في الحقيقة بالشبهات التي اثيرت حول الوحي ارتباطاً موضوعياً لأنها ترتبط بفكرة انكار الوحي ولذا فسوف نناقش هذه الشبهات بعد التحدث عنها لايضاح بطلانها من ناحية وتقديم التفسير الصحيح للفرق بين المكي والمدني بعد ذلك من ناحية ثانية. الشبهة حول المكي والمدني.

 للشبهة حول المكي والمدني جانبان : جانب يرتبط بالاسلوب القرآني فيها وجانب آخر يرتبط بالمادةوالموضوعات التي عرض القرآن لها في هذين القسمين وفي كل من القسمين تصاغ الشبهة علي عدة اشكال نذكر منها صياغتين لكل واحد من القسمين.

أ - اسلوب المكي يمتاز بالشدة والعنف والسباب فقد قالوا : إن اسلوب القسم المكي من القرآن يمتاز عن القسم المدني بطابع الشدة والعنف بل السباب أيضاً. وهذا يدل علي تأثر محمد(ص) بالبيئة التي كان يعيش فيهالأنها مطبوعة بالغلظة والجهل. ولذا يزول هذا الطابع عن القرآن الكريم عند ما ينتقل محمد الي مجتمع المدينة الذي تأثر فيه - بشكل أو بآخر - بحضارة اهل الكتاب واساليبهم وتستشهد الشبهة بعد ذلك لهذه الملاحظة بالسور والآيات المكية المطبوعة بطابع الوعيد والتهديد والتعنيف أمثال : سورة (المسد) وسورة (العصر) وسورة (التكاثر) وسورة (الفجر) وغير ذلك.ويمكن أن نناقش هذه الشبهة.

اولاً :

 بعدم اختصاص القسم المكي من القرآن الكريم بطابع الوعيد والانذار دون القسم المدني بل يشترك المكي والمدني بذلك. كما إن القسم المدني لا يختص ايضاً كما قد يفهم من الشبهة بالاسلوب اللين الهادئ الذي يفيض سماحة وعفواً بل نجد ذلك في المكي والشواهد القرآنية علي ذلك كثيرة.فمن القسم المدني الذي اتسم بالشدة والعنف قوله تعالي: (فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة اعدت للكافرين)، (1).وقوله تعالي : (الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس)، (2)، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين. فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من اللّه ورسوله وان تبتم فلكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)، (3) و قوله تعالي : (إن الذين كفروا لن تغني عنهم اموالهم ولا اولادهم من اللّه شيئاً واولئك هم وقود النار. كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم اللّه بذنوبهم واللّه شديد العقاب. قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون الي جهنم وبئس المهاد)، (4)

كما نجد في القسم المكي ليناً وسماحة كما جاء في قوله تعالي : (ومن احسن قولاًممن دعا الي اللّه وعمل صالحاً وقال انني من المسلمين. ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي احسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها الا ذو حظ عظيم)، (5). و قوله تعالي : (فما اوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند اللّه خيروأبقي للذين آمنوا وعلي ربهم يتوكلون. والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش واذا ماغضبوا هم يغفرون. والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وامرهم شوري بينهم ومما رزقناهم ينفقون. والذين اذا اصابهم البغي هم ينتصرون وجزاء سيئة سيئة مثلها. فمن عفا واصلح فأجره علي اللّه إنه لا يحب الظالمين. ولمن انتصر بعد ظلمه فاولئك ماعليهم من سبيل. إنما السبيل علي الذين يظلمون الناس ويبغون في الارض بغير الحق اولئك لهم عذاب اليم. ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور)، (6). و قوله تعالي : (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم. لا تمدن عينيك الي ما متعنا به ازواجاً منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين) ، (7). و قوله تعالي : ( قل يا عبادي الذين اسرفوا علي انفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه ان اللّه يغفر الذنوب جميعاً انه هو الغفورالرحيم)، (8).

وثانياً :

 انه ليس في القرآن الكريم سباب وشتم. كيف ؟ وقد نهي القرآن نفسه عن السب والشتم حيث قال تعالي : (ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللّه فيسبوا اللّه عدواً بغير علم) ، (9).وليس في سورة (المسد) أو (التكاثر) سب أو بذاءة - كما يحاول المستشرقون ان يقولوا ذلك - وإنما فيهما تحذير ووعيد بالمصير الذي ينتهي اليه أبو لهب والكافرون باللّه.نعم، يوجد في القرآن الكريم تقريع وتأنيب عنيف وهو موجود في المدني كما هوفي المكي وان كان يكثر وجوده في المكي بالنظر لمراعاة ظروف الإضطهاد والقسوة التي كانت تمر بها الدعوة، الامر الذي اقتضي ان يواجه القرآن ذلك بالعنف والتقريع -احياناً - لتقوية معنويات المسلمين من جانب وتحطيم معنويات المقاومة من جانب آخركما سوف نشير اليه قريباً.ومن هذا التقريع في السور المدنية قوله تعالي: (ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم ام لم تنذرهم لا يؤمنون. ختم اللّه علي قلوبهم وعلي سمعهم وعلي ابصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم. ومن الناس من يقول آمنا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين -الي قوله تعالي - صم بكم عمي فهم لا يعقلون)، (10). و قوله تعالي : (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من اللّه ذلك بانهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون النبيين بغير الحق. وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) ، (11) ، و قوله: (بئسما اشتروا به أنفسهم ان يكفروا بما انزل اللّه بغياً أن ينزل اللّه من فضله علي من يشاء من عباده فباؤوا بغضب علي غضب وللكافرين عذاب مهين) ، (12) . و قوله تعالي: (إن الذين يكتمون ما انزلنا من البينات والهدي من بعد ما بيناه للناس في الكتاب اولئك يلعنهم اللّه ويلعنهم اللاعنون)، (13). و قوله تعالي : (اذ قال اللّه يا عيسي اني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلي يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فاحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون. فأما الذين كفروا فاعذبهم عذاباً شديداً في الدنياوالآخرة وما لهم من ناصرين) ، (14). و قوله تعالي : (قل هل أُنَبِّئُكم بشرّ من ذلك مثوبة عند اللّه من لعنهاللّه وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً واضل عن سواء السبيل)، (15). و قوله تعالي :( وقالت اليهود يد اللّه مغلولة غلت ايديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان)، (16).

ب - اسلوب القسم المكي يمتاز بقصر السور والآيات :وقالوا ايضاً إن من الملاحظ قصر السور والآيات في القسم المكي علي عكس القسمالمدني الذي جاء بشيء من التفصيل والاسهاب. فنحن نجد أن السور المكية جاءت قصيرة ومعروضة بشكل موجز في الوقت الذينجد في القسم المدني سورة البقرة وآل عمران والنساء وغيرها من السور الطوال.وهذا يدل علي انقطاع الصلة بين القسم المكي والقسم المدني وتأثرهما بالبيئةالتي كان يعيشها محمد (ص) فان مجتمع مكة لما كان مجتمعاً امياً لم يكن بقدرتهالتبسط في شرح المفاهيم وتفصيلها وانما واتته القدرة علي ذلك عند ما اخذ يعيش مجتمعالمثقفين المتحضر في يثرب.وتناقش هذه الشبهة بالامرين التاليين :

- الاول : ان القصر والايجاز ليسا مختصين بالقسم المكي بل يوجد في القسمالمدني سور قصيرة ايضاً كالنصر والزلزلة والبينة وغيرها. كما ان الطول والتفصيلليسا مختصين بالقسم المدني بل توجد في المكي أيضاً سور طويلة كالأنعام والأعراف. وقد يقصد من اختصاص المكي بالقصر والايجاز ان هذا الشيء هو الغالب الشائع فيه.وقد يكون هذا صحيحاً ولكنه لا يدل بوجه من الوجوه علي انقطاع الصلة بينالقسمين المذكورين من القرآن الكريم لأنه يكفي في تحقيق هذه الصلة ان يأتي القرآنالكريم ببعض السور الطويلة المفصلة في القسم المكي كدليل علي القدرة والتمكن منالارتفاع الي مستوي التفصيل في المفاهيم والموضوعات.بالاضافة الي ان من الملاحظ وجود آيات مكية قد أثبتت في السور المدنيةوبالعكس وفي كل من الحالتين نجد التلاحم والانسجام في السورة وكأنها نزلت مرة واحدةالامر الذي يدل بوضوح علي وجود الصلة التامة بين القسمين.

- الثاني : ان الدراسات اللغوية التي قام بها العلماء المسلمون وغيرهم  دلت علي ان الايجاز يعتبر مظهراً من مظاهر القدرة الخارقة عليالتعبير وهو بالتالي من مظاهر الاعجاز القرآني. خصوصاً إذا اخذنا بعين الاعتبار انالقرآن قد تحدي العرب بأن يأتوا بسورة من مثله حيث يكون التحدي بالسورة القصيرةأروع وأبلغ منه حين يكون بسورة مفصلة.ج - لم يتناول القسم المكي في مادته التشريع والاحكاموقالوا : إن القسم المكي لم يتناول فيما تناول من موضوعات - جانب التشريع مناحكام وأنظمة بينما تناول القسم المدني هذا الجانب من التفصيل. وهذا يعبر عن جانبآخر من التأثر بالبيئة والظروف الاجتماعية حيث لم يكن مجتمع مكة مجتمعاً متحضراًولم يكن قد انفتح علي معارف اهل الكتاب وتشريعاتهم علي خلاف مجتمع المدينة الذيتأثر إلي حد بعيد بالثقافة والمعرفة للأديان السماوية كاليهودية والنصرانية.وتناقش هذه الشبهة بالأمرين التاليين أيضاً :

- اولاً : ان القسم المكي لم يهمل جانب التشريع وإنما تناول اصوله العامةوجملة مقاصد الدين كما جاء في قوله تعالي : (قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ألاتشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا اولادكم من املاق نحن نرزقكم واياهمولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه الا بالحقذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون. ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي احسن حتي يبلغأشده... الآية)،(17).بالاضافة الي اننا نجد في القسم المكي وفي سورة الانعام بالخصوص مناقشة لكثير من تشريعات أهل الكتاب والتزاماتهم وهذا يدل علي معرفةالقرآن الكريم بهذه التشريعات وغيرها مسبقاً.

- وثانياً : إن هذه الظاهرة يمكن ان تطرح في تفسيرها نظرية اخري تنسجم معالاساس الموضوعي لوجود الظاهرة القرآنية نفسها. وهذه النظرية هو أن يقال : أنالحديث عن التشريع في مكة كان شيئاً سابقاً لأوانه حيث لم يتسلم الاسلام حينذاكزمام الحكم بعد. بينما الامر في المدينة علي العكس. فلم يتناول القسم المكيالتشريعلأن ذلك لا يتفق مع المرحلة التي تمر بها الدعوة. وانما تناول الجوانبالاخري التي تنسجم مع الموقف العام كما سوف نشرح ذلك قريباً.د - لم يتناول القسم المكي في مادته الادلة والبراهين :وقالوا : إن القسم المكي لم يتناول أيضاً الادلة والبراهين علي العقيدةواصولها علي خلاف القسم المدني. وهذا تعبير آخر أيضاً عن تأثر القرآن بالظروفالاجتماعية والبيئة اذ عجزت الظاهرة القرآنية بنظر هؤلاء عن تناول هذا الجانب الذييدل علي عمق النظر في الحقائق الكونية عندما كان يعيش محمد (ص) في مكة مجتمعالاميين بينما ارتفع مستوي القرآن في هذا الجانب عندما اخذ محمد (ص) يعيش الي جانباهل الكتاب في المدينة وذلك نتيجة لتأثره بهم ولتطور الظاهرة القرآنية نفسها.وتناقش هذه الشبهة من وجهين :

- الاول : ان القسم المكي لم يخل من الادلة والبراهين بل تناولها في كثير منسوره والشواهد القرآنية علي ذلك كثيرة وفي شتي المجالات. فمن موارد الاستدلال علي التوحيد قوله تعالي : (ما اتخذ اللّه منولد وما كان معه من إله. اذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم علي بعض سبحان اللّهعما يصفون)، (18).وقوله تعالي : (لو كان فيهما آلهة الا اللّه لفسدتا فسبحان اللّه رب العرشعما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ام اتخذوا من دونه آلهة. قل هاتوا برهانكم.هذا ذكر من معي وذكر من قبلي، بل اكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون)، (19).وبصدد الاستدلال علي نبوة محمد (ص) وارتباط ما جاء به من السماء : (وما كنتتتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك اذن لارتاب المبطلون. بل هو آيات بينات فيصدور الذين اوتوا العلم وما يجحد بآياتنا الا الظالمون وقالوا لولا انزل عليه آياتمن ربه قل انما الآيات عند اللّه وانما أنا نذير مبين. أوَلم يكفهم انا انزلنا عليكالكتاب يتلي عليهم إن في ذلك لرحمة وذكري لقوم يؤمنون)،(20).وبصدد الاستدلال علي البعث والجزاء قوله تعالي : (ونزلنا من السماء ماءمباركاً فانبتنا به جنات وحب الحصيد. والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقاً للعبادواحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج)، (أفعيينا بالخلق الاول بل هم في لبس من خلق جديد)،(21).وقوله تعالي : (افحسبتم انما خلقناكم عبثاً وانكم الينا لا ترجعون)،(22)

وقوله تعالي : (أم حسب الذين اجترحوا السيئات ان نجعلهم كالذينآمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ؟ ساء ما يحكمون. وخلق اللّه السمواتوالارض بالحق لتجزي كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون)،(23).وهكذا تتناول الادلة جوانب اخري من العقيدة الاسلامية والمفاهيم العامة.

- الثاني : انه لو تنازلنا عن ذلك فمن الممكن تفسير هذا الفرق علي اساس مراعاةطبيعة موقف المواجهة من الدعوة حيث كانت تواجه الدعوة في مكة مشركي العرب وعبدةالاصنام. والادلة التي كان يواجه القرآن بها هؤلاء ادلة وجدانية من الممكن انتستوعبها مداركهم ويقتضيها وضوح بطلان العقيدة الوثنية. وحين اختلفت طبيعة الموقفواصبحت الافكار المواجهة تمتاز بكثير من التعقيد والتزييف والانحراف كما هو الحالفي عقائد اهل الكتاب اقتضي الموقف مواجهتها باسلوب آخر من البرهان والدليل اكثرتعقيداً وتفصيلاً، (24).

الفروق الحقيقية بين المكي والمدنيولم نجد في الشبهات التي تناولناها ولانجد في غيرها ما يمكنه ان يصمد امام النقد العلمي او الدرس الموضوعي ومن كل ذلكيجدر بنا ان نقدم تفسيراً منطقياً لظاهرة الفرق بين القسم المكي والقسم المدني وانكنا قد المحنا الي جانب من هذا التفسير عندما تناولنا الشبهات بالنقد والمناقشة.ويحسن بنا أن نذكر الفروق الحقيقية التي امتاز بها المكي عن المدني سواء مايتعلق بالاسلوب او بالموضوع الذي تناوله القرآن. ثم نفسر هذه الفروق علي اساسالفكرة التي اشرنا اليها في صدر البحث والتي تقول أن هذه الفروق كانت نتيجة لمراعاةظروف الدعوة والاهداف التي تسعي الي تحقيقها. لان الهدف والغاية يلقيان - في كثيرمن الاحيان - بظلهما علي طريق العرض والمادة المعروضة.وتلخص هذه الفروق والخصائص التي يمتاز بها المكي عن المدني غالباً بالامورالتالية: (25)

1 -ان المكي عالج بشكل اساسي مبادئ الشرك والوثنية واسسها النفسية والفكريةومؤداها الاخلاقي والاجتماعي.

2 -وقد اكد علي ما في الكون من بدائع الخلقة وعجائب التكوين الامر الذي يشهد بوجود الخالق المدبر لها. كما اكد علي عالم الغيب والبعث والجزاء والوحيوالنبوات وشرح ما يرتبط بذلك من ادلة وبراهين كما خاطب الوجدان الانساني وما اودعهاللّه فيه من عقل وحكمة وشعور.

3 -والي جانب ذلك تحدث عن الأخلاق بمفاهيمها العامة مع ملاحظة الجانب التطبيقي منها وحذر من الانحراف فيها كالكفر والعصيان والجهل والعدوان وسفك الدماءووأد البنات واستباحة الاعراض واكل اموال اليتامي.. الي غير ذلك وعرض الي جانب ذلكالوجه الصحيح للاخلاق كالايمان باللّه والطاعة له والعلم والمحبة والرحمة والعفووالصبر والاخلاص واحترام الآخرين وبر الوالدين واكرام الجار ونظافة اللسانوالصدق في المعاملة والتوكل علي اللّه وغير ذلك.

4 -وقد تحدث عن قصص الانبياء والرسل والمواقف المختلفة التي كانوا يواجهونها من قبل اقوامهم واممهم وما يستنبط من ذلك من العبر والمواعظ.

5 -انه سلك طريق الايقاع الصوتي والايجاز في الخطاب سواء في الآيات او السور ويكاد ان يكون المدني بخلاف ذلك علي الغالب وان كان قد امتاز بالامرينالتاليين:

1 -دعوة اهل الكتاب الي الاسلام مع مناقشتهم وبيان انحرافهم عن العقيدة والمناهج الحقة التي انزلت علي انبيائهم.

2 -بيان التفصيلات في التشريع والنظام ومعالجة مشاكل العلاقات المختلفة في المجتمع الانساني.

التفسير الصحيح للفرق بين المكي والمدنيوحين نريد ان ندرس ظاهرة الفرقبين المكي والمدني من خلال هذه الخصائص والميزات نجد :

- اولاً : ان الدعوة الاسلامية بدأت في مكة وعاشت فيها ثلاث عشرة سنة وهذهالفترة منسوبة الي زمن نزول القرآن تعتبر في الحقيقة فترة إرساء أسس العقيدةالاسلامية بجوانبها المختلفة سواء ما يتعلق بالجانب الالهي او الغيبي او الاخلاقياو الاجتماعي وسواء ما يتعلق بالجانب الايجابي كعرض مفاهيمها عن الكون والحياةوالاخلاق والمجتمع او ما يتعلق بالجانب السلبي كمناقشة الافكار الكافرة التي كانتتسود المجتمع آنذاك.

وهذه الحقيقة تفرض - بطبيعة الحال - أن يكون القسم المكي اكثرشمولاً واتساعاً من جانب وان يكون مرتبطاً بمادته وموضوعاته بالاسس والركائزللرسالة الجديدة من جانب آخر. وهذا هو الذي يفسر لنا غلبة المكي علي المدني منالناحية الكمية مع ان الفترة المدنية تبدو - تاريخياً - وكأنها زاخرة بالأحداثالجسام والمجتمع المدني اكثر تعقيداً ومشاكل. كما أن هذا بنفسه بالاضافة الي الفكرةالتي اشرنا اليها وهي مراعاة الظروف التي تسير بها الدعوة يفسر لنا هذه الخصائصوالميزات التي غلبت علي المكي من جانب والمدني من جانب آخر.فاما بالنسبة الي الخصيصة

- الاولي : نلاحظ ان المجتمع المكي كان مجتمعاً يتسمبطابع الوثنية في الجانب العقيدي بالاضافة الي أن ايضاح الموقف تجاهها يشكل نقطةاساسية في القاعدة للرسالة الجديدة لأنها تتنبي التوحيد الخالص كأساس لكل جوانبهاوتفصيلاتها الأخري. فكان من الطبيعي التأكيد علي فكرة رفض الشرك والوثنية والدخولفي مناقشة طويلة معها بشتي الاساليب والطرق.وبالنسبة الي الخصيصة،

- الثانية : نلاحظ أن المجتمع المكي لم يكن يؤمن بفكرةالاله الواحد كما لا يؤمن بعوالم الغيب والبعث والجزاء والوحي وغير ذلك وهذهالافكار من القواعد الاساسية للرسالة والعقيدة الاسلامية بالاضافة الي ان مجتمع اهلالكتاب كان يؤمن بهذه الاصول جميعها. فكان من الضروري ان يؤكد القسم المكي علي ذلكانسجاماً مع طبيعة المرحلة المكية التي تعتبر مرحلة متقدمة كما ان بيانها في هذهالمرحلة يجعل المرحلة الثانية في غني عن بيانها مرة اخري.وبالنسبة الي الخصيصة ،

- الثالثة : فلعل التأكيد علي الاخلاق في القسم المكيدون المدني كان بسبب العوامل الثلاثة التالية :

أ - ان الأخلاق تعتبر قاعدة النظام الاجتماعي فالتأكيد عليها يعنيفي الحقيقة ارساء لقاعدة النظام الاجتماعي الذي يستهدفه القرآن.

ب - كما ان الدعوة كانت بحاجة - من اجل نجاحها - الي استثارة العواطفالانسانية الخيرة ليكون نفوذها في المجتمع وتأثيرها في الأفراد عن طريق مخاطبة هذهالعواطف والأخلاق هي الاساس الحقيقي لكل هذه العواطف وهي الرصيد الذي يمدها بالحياةوالنمو.

ج - ان المجتمع المدني كان يمارس الاخلاق من خلال التطبيق الذي كان يباشرهالرسول محمد (ص) بنفسه فلم يكن بحاجة كبيرة الي التأكيد علي المفاهيم الأخلاقية عليالعكس من المجتمع المكي الذي كان يعيش فيه المسلمون حياة الاضطهاد وكان يمارسالتطبيق فيه الأخلاق الجاهلية.

- وبالنسبة الي الخصيصة الرابعة : نجد القصص تتناول من حيث الموضوع اكثرالنواحي التي عالجها القرآن الكريم من العقيدة بالاله الواحد وعالم الغيب والوحيوالأخلاق والبعث والجزاء بالاضافة الي انها تصور المراحل المتعددة للدعوة والمواقفالمختلفة منها والقوانين الاجتماعية التي تتحكم فيها وفي نتائجها والمصير الذييواجهه اعداؤها والي جانب ذلك تعتبر القصة في القرآن أحد اسباب الاعجاز فيه وأحدالأدلة علي ارتباطه بالسماء.وكل هذه الأمور لها صلة وثيقة بالظروف التي كانت تمر بها الدعوة في مكة ولهاتأثير كبير في تطويرها لصالح الدعوة واهدافها الرئيسية.ومع كل هذا لم يهمل القسم المدني القصة مطلقة بل تناولها بالشكل الذي ينسجممع طبيعة المرحلةالتي تمر بها كما سوف نتعرف علي ذلك عند دراستنا للقصة.

- وبالنسبة الي الخصيصة الخامسة : فقد كان لها ارتباطوثيق بجوانب مرحلية وإعجازية لأن المرحلة كانت تفرض كسر طوق الأفكار الجاهلية الذيكان مضروباً علي المجتمع فكان لهذا الاسلوب الصاعق الحاد تأثير فعال في تذليلالصعوبات وتحطيم معنويات المقاومة العنيفة.وحين يتحدي القرآن الكريم العرب في ان يأتوا بسورة منه يكون الايجاز فيالسورة ابلغ في ايضاح الاعجاز القرآني واعمق تأثيراً وأبعد مدي.وقد كانت المعركة الي ذلك كله في اولها معركة شعارات وتوطيد مفاهيم عامة عنالكون والحياة والايجاز والقصر ينسجم مع واقع المعركة واطارها اكثر من الدخول فيتفصيلات واسعة ولهذا نشاهد السور القصيرة تمثل المرحلة الأولي تقريباً من مراحلالقسم المكي.وهذه الملاحظات لم تكن تتوفر في مجتمع المدينة بعد ان اصبح الاسلام هوالحاكم المسيطر علي المجتمع وبعد أن أصبحت مسألة الوحي والاتصال بالسماء مسألةواضحة وبعد ان جاء دور آخر للمعركة يفرض اسلوباً آخر في العرض والبيان.ومن هذا الدرس لخصائص ومميزات القسم المكي تتضح مبررات خصائص القسم المدنيمن الدخول في تفصيلات الأحكام الشرعية والانظمة الاجتماعية او مناقشة اهل الكتاب فيعقائدهم وانحرافاتهم. حيث فرضت ظروف الحكم في المدينة. والحاجة الي تنظيم العلاقاتبين الناس الي بيان هذه التفصيلات في الأنظمة. كما ان المعركة في المدينة انتقلت منالاصول والاسس العامة للعقيدة الي جوانب تفصيلية منها ترتبط بحدودها واشكالهاوبالعمل علي تقويم الانحراف الذي وضعه أهل الكتاب فيها.

وبهذا نفسر الفرق بين المكي والمدني بالشكل الذي ينسجم مع فكرتنا عن القرآنوفكرتنا عن مراعاته للظروف من اجل تحقيق اهدافه وغاياته.

----------------------------------------------------------------------

الهوامش

(1) البقرة : 24.

(2)، (3) البقرة : 275 و278 - 279.

(4) آل عمران : 10-12.

(5) فصلت : 33-35.

(6) الشوري : 36-43.

(7) الحجر : 87-88.

(8) الزمر : 53.

(9) الانعام : 108.

(10) البقرة : 6-18 و61 و90 و171.

(11)، (12)، (13) البقرة 61 و90 و150.

(14) آل عمران : 55 و56.

(15): (16) المائدة : 60 و64.

(17) الانعام : 151 - 152.

(18) المؤمنون : 91.

(19) الانبياء : 22 - 24.

(20) العنكبوت : 48 - 51.

(21) ق : 9-11 و15.

(22) المؤمنون : 115.

(23) الجاثية 21-22.

(24) اعتمدنا بصورة اساسية - في عرض الشبهات ومناقشتها علي ما ذكره الزرقاني في مناهل العرفان : 1/199-232.

(25) سبق ان اشرنا الي هذه الميزات وغيرها عند البحث عن المكي والمدني.


المستشرق هنري كوربن

التعريف الاصطلاحي واللغوي للاستشراق

المستشرق إدواردو آنيلي

المستشرقة إيوادو فيتراي ميروفج

 

 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)