الظاهرة الاجرامية
كان لتمثال اله الحرب (كانيوس Janus) في الامبراطورية الرومانية وجهين ، الاول يتجه الى خارج حدود روما ، حيث يتربص بها العدو الاجنبي . بينما يتوجه وجهه الاخر نحو روما ، حيث يتربص بأبنائها العدو المحلي ( المجرم ) ، (1). و كان الرومان يؤمنون ايماناً راسخاً بأنهم ، لن يستطيعوا الصمود امام العدو الاجنبي مادام السوس ، ينخر في داخلهم.
اثارت الجريمة و الظاهرة الاجرامية اهتمام الانسان منذ القدم خاصة ، و ان الحياة الانسانية على البسيطة ، ابتدأت بجريمة ، عندما قام قابيل بقتل اخيه هابيل . و بفعله هذا الذي ندم عليه فيما بعد ندماً شديداً ، يكون قد اعلن عن فتح باب الصراع الازلي بين الخير و الشر ، الذي ما برح مستمراً ليوما هذا ، و سيستمر لا محالة مادام الانسان موجوداً الى جانب اخيه الانسان الاخر.
و قد نظمت القوانين القديمة قواعد الجريمة و العقاب ، و منها قانون اور ـ نمو و قانون حمورابي (حوالي القرن العشرين قبل الميلاد) ، و سارت على ذات النهج قوانين اليونان ( قانون دراكون ـ 620 ق.م ) ، و الرومان القديمة ( قانون الالواح الاثني عشر _ 450 ق.م).
كما و نظمت بعض الاديان السماوية و غير السماوية قواعد الثواب و العقاب بالنسبة لاعمال المكلفين . قال تعالى : ( و َنَفْس وَ مَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَ قَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) ، (2). أي أن الله تعالى قد خلق النفس البشرية ، و ألهمها القدرة على التمييز بين الفجور و التقوى.
و لهذا فان الظاهرة الاجرامية ظاهرة تاريخية و واقعية و حقيقة انسانية دائمة ، لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات في كل زمان و مكان ، و لا يمكن انهائها مطلقاً ، الا انه يمكن الحد منها الى مستويات مقبولة.
و تثير الجريمة اهتمام ، و انتباه كل الناس على حد سواء ، بل ان اخبار الجرائم و الروايات ، التي تتناول الظاهرة الاجرامية ، هي الاكثر انتشاراً و توزيعاً في الاوساط العامة من بين ما عداها من اخبار و روايات.
ان السبب في ذلك حسب اعتقادنا ، هو الاحساس العام ، بان الجريمة تمس شعور كل فرد من افراد المجتمع ، ولو لم تقع عليه الجريمة مباشرة ، فالجريمة ابتداءاً ، هي اعتداء على فكرة الحياة الاجتماعية ، التي تقوم على التضامن بين ابناء المجتمع فضلا عن انعكاساتها الخطيرة على توازن المصالح و القيم داخل المجتمع ، بما تمثله من اعتداء على تلك المصالح والقيم.
ان اولى الابتكارات البشرية لمواجهة الجريمة بشكل واقعي هو القانون، فقد اولت التشريعات القديمة اهمية قصوى لتحديد الجرائم و العقوبات التي تناظرها ، و كانت العقوبات في تلك القوانين بدائية و قاسية جداً.
و يذهب عالم الاجتماع اميل دوركهايم الى ان دراسة التاريخ ، تؤكد انه كلما اقترب المجتمع من التحضر ، كانت العقوبة اقرب الى الرحمة ، و كلما كان المجتمع متخلفاً ، برزت العقوبات البدائية ، التي تتميز بالعنف و القسوة ، كما ان العقوبات تكون مشددة و قاسية ، كلما كانت السلطة مركزية اقوى . و من ذلك ان العقوبات في النظم الدكتاتورية ، تكون ذات طبيعة انتقامية لدرجة الوحشية.
ان تطور النظم القانونية و العلمية ، التي تواجه الجريمة ، قد قابله في ذات الوقت تطور على ذات المستوى في الاساليب الاجرامية ، فقد دخل العلم و التكنولوجيا و التنظيم المؤسسي الحديث عالم الاجرام ، و اصبحت للجريمة منظمات دولية تمارس العمليات الاجرامية عبر القارات.
و كتعبير عن اهتمام الانسان بالجريمة ، تناولت الاساطير القديمة الظاهرة الاجرامية ، و فسرتها بطريقتها السحرية الميتافيزيقية ، و في القرون الوسطى ساد الاعتقاد بان سبب الجريمة ، هو الارواح او الشياطين التي تتلبس الانسان ، فيتحول بالنتيجة الى مجرم.
وفي العصور الحديثة كانت الجريمة و الظاهرة الاجرامية محل دراسة علوم مختلفة ؛ فقد اهتم الفلاسفة و علماء الاجتماع و النفس و القانون بدراسة ، و تحليل الظاهرة الاجرامية ، مما ادى الى نشوء علم مستقل ، هو علم الاجرام ، الذي تفرع بدوره الى ثلاثة فروع علمية ، تدرس الظاهرة الاجرامية ، هي علم الانثروبولوجيا الجنائية و علم النفس الجنائي و علم الاجتماع الجنائي ، كما اهتم العلماء في مختلف الاختصاصات العلمية بايجاد الوسائل العلمية و التكنلوجية اللازمة لرصد الجريمة ، و تتبع اثارها وصولاً الى الكشف عنها.
ان اعتماد المنهج العلمي التجريبي في علم الاجرام ، يقتضي تحديد اوجه الظاهرة الاجرامية ، و الحال ان للظاهرة الاجرامية وجهين ، وجه اجتماعي تبدو فيه الجريمة ظاهرة اجتماعية. و وجه فردي تبدو فيه الجريمة ظاهرة فردية ، تتمثل بالانسان المجرم ، كما ان للعلم الحديث دوره في رصد الجريمة و الظاهرة الاجرامية.
عولمة الجريمة و الإرهاب 1
عولمة الجريمة و الإرهاب 2
عولمة الجريمة و الإرهاب 3
مفهوم الضحية بين نظرية علم الاجتماع والنظرية العامة للتجريم