من أخبارالرضا عليه السلام مع الفضل بن سهل
وذكر رواة السير : أنّ المأمون لمّا أراد العقد للرضا عليه السلام أحضر الفضل بن سهل والحسن بن سهل فأعلمها بما قد عزم عليه من ذلك وقال : إنّي عاهدت الله تعالى أنّني إن ظفرت بالمخلوع أخرجت الخلافة إلى أفضل آل أبي طالب ، وما أعلم أحداً أفضل من هذا الرجل على وجه الاَرض .
فلمّا رأيا عزيمته على ذلك أمسكا عن معارضته ، فأرسلهما ألى الرضا ، فعرضا ذلك عليه فامتنع منه ، فلم يزالا به حتّى أجاب ورجعا إلى المأمون فعرّفاه إجابته ، فسّر به وجلس للخاصّة في يوم خميس ، وخرج الفضل بن سهل فأعلم الناس برأي المأمون في عليّ بن موسى عليه السلام ، وانّه قد ولاه عهده ، وقد سمّاه الرضا ، وأمرهم بلبس الخضرة والعَود لبيعته في الخميس الآخر ، على أن يأخذوا رزق سنة .
فلمّا كان ذلك اليوم ركب الناس على طبقاتهم من القوّاد والحجّاب والقضاة وغيرهم في الخضرة ، وجلس المأمون ووضع للرضا عليه السلام وسادتين عظيمتين حتّى لحق بمجلسه وفرشه ، وأجلس الرضا عليه السلام عليهما في الخضرة وعليه عمامة وسيف ، ثمّ أمر ابنه العبّاس بن المأمون فبايع له أوّل الناس ، فرفع الرضا عليه السلام يده فتلقّى بها وجه نفسه وببطنها وجوههم ، فقال المأمون : ابسط يدك للبيعة ، فقال الرضا عليه السلام : «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هكذا كان يبايع» .
فبايعه الناس ويده فوق أيديهم ، ووضعت البدر ، وقامت الخطباء والشعراء ، فجعلوا يذكرون فضل الرضا عليه السلام وما كان من المأمون في أمره ، ثمّ دعا أبو عبّاد بالعبّاس بن المأمون فوثب فدنا من أبيه فقبّل يده وأمره بالجلوس ، ثمّ نودي محمد بن جعفر بن محمد وقال له الفضل بن سهل : قم ، فقام فمشى حتّى قرب من المأمون فوقف فلم يقبّل يده ، فقيل له : إمض فخذ جائزتك ، وناداه المأمون : إرجع يا أبا جعفر إلى مجلسك ، فرجع ثمّ جعل أبو عبّاد يدعو بعلويّ وعبّاسيّ فيقبضان جوائزهما حتّى نفدت الاَموال .
ثم قال المأمون للرضا عليه السلام : اخطب الناس ، فحمدالله سبحانه وأثنى عليه وقال : «إنّ لنا عليكم حقّاً برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولكم علينا حقّاً به ، فإذا أنتم أدّيتم إلينا ذلك الحقّ وجب علينا الحقّ لكم» .
ولم يذكر عنه غير هذا في ذلك المجلس ، وأمر المأمون فضربت الدراهم وطبع عليها إسم الرضا عليه السلام ، وخطب للرضا في كلّ بلد بولاية العهد .
وخطب عبدالجبّار بن سعيد في تلك السنة على منبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمدينة فقال في الدعاء له : ولي عهد المسلمين عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ عليهم السلام .
ستّة آباءٍ هُم ما هُم * أفضُ مَنْ يَشرَبُ صَوبَ الغمامِ
وذكر المدائنيّ عن رجاله قال : لمّا جلس الرضا عليه السلام لولاية العهد قام بين يديه الخطباء والشعراء ، وخفقت الاَلوية على رأسه ، فذكر بعض من حضر ذلك المجلس ممّن كان يختصّ بالرضا عليه السلام قال : نظر إليّ وكنت مستبشراً بما جرى ، فأومأ إليّ أن اُدن فدنوت منه فقال لي من حيث لا يسمعه غيري : «لا تشغل قلبك بهذا الاَمر ولا تستبشرله ، فإنّه شيء لا يتمّ» .
وذكر الصوليّ بإسناده ، عن الفضل بن سهل النوبختي ـ أو عن أخ له ـ قال : لمّا عزم المأمون على العقد للرضا عليه السلام بالعهد قلت : والله لاَعتبرنّ بما في نفس المأمون أيحبُّ تمام هذا الاَمر أو هو تصنّع منه؟ فكتبت إليه على يد خادم له كان يكاتبني بأسراره على يده : قد عزم ذو الرئاستين على عقد العهد والطالع السرطان وفيه المشتري ، والسرطان وإن كان شرف المشتري فهو برج منقلب لا يتمّ أمر يعقد فيه ، ومع هذا فإنّ المرّيخ في الميزان في بيت العاقبة ، وهذا يدلّ على نكبة المعقود له ، وقد عرّفت أمير المؤمنين ذلك لئلاً يعتب عليّ إذا وقف على هذا من غيري .
فكتب إليّ : إذا قرأت جوابي إليك فاردده إليّ مع الخادم ، ونفسك أن يقف أحدٌ على ما عرّفتنيه ، أو أن يرجع ذوالرئاستين عن عزمه ، فإنّه إن فعل ذلك ألحقت الذنب بك وعلمت أنّك سببه .
قال : فضاقت عليّ الدنيا ، وبلغني أنّ الفضل بن سهل قد تنبّه على الاَمر ورجع عن عزمه ، وكان حسن العلم بالنجوم ، فخفت والله على نفسي وركبت إليه فقلت له : أتعلم في السماء نجماً أسعد من المشتريّ؟ قال : لا ، قلت : أتعلم في الكواكب <نجماً> يكون في حال أسعد منها في شرفها؟ قال : لا ، قلت : فأمض العزم على ذلك إن كنت تعقده وسعد الفلك في أسعد حالاته ، فأمضى الاَمر (2)على ذلك ، فما علمت أنّي من أهل الدنيا حتّى وقّع العقد فزعاً من المأمون (3) .
وروى عليّ بن إبراهيم ، عن ياسر قال : لمّا عزم المأمون على الخروج من خراسان إلى بغداد خرج معه ذو الرئاستين وخرجنا مع أبي الحسن الرضا عليه السلام ، فورد على الفضل كتاب من أخيه الحسن بن سهل ونحن في بعض المنازل : إنّي نظرت في تحويل السنة فوجدت فيه أنّك تذوق في شهر كذا يوم الاَربعاء حرّ الحديد وحرّ النار ، وأرى أن تدخل أنت وأمير المؤمنين والرضا الحمّام في هذا اليوم وتحتجم فيه تصبّ على بدنك الدّم ليزول عنك نحسه .
فكتب ذوالرئاستين بذلك إلى المأمون وسأله أن يسأل أباالحسن في ذلك ، فكتب إلى الرضا عليه السلام يسأله فيه ، فأجابه : «لست بداخل الحمّام غداً» فأعاد عليه الرقعة مرّتين ، فكتب إليه أبو الحسن عليه السلام : «إنّي رأيت رسول الله صلّى لله عليه وآله وسلّم في هذه الليلة فقال لي : يا عليّ لا تدخل الحمّام غداً ، ولا أرى لك يا أمير المؤمنين ولا للفضل أن تدخلا الحمّام» .
فكتب إليه المأمون : صدقت يا أبا الحسن وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ولست بداخل الحمّام غداً ، والفضل أعلم .
قال ياسر : فلمّا أمسينا قال لنا الرضا عليه السلام : «قولوا : نعوذ بالله من شرّ ما ينزل في هذه الليلة» فلم نزل نقول ذلك ، فلّما صلّى الرضا عليه السلام الصبح قال لي : «إصعد السطح فاستمع هل تجد شيئاً» فلمّا صعدت سمعت الصيحة فكثرت وزادت فلم نشعر بشيء ، فإذا نحن بالمأمون قد دخل من الباب الذي كان من داره إلى دار أبي الحسن عليه السلام وهو يقول : يا سيّدي يا أبا الحسن ، آجرك الله في الفضل ، فإنّه دخل الحمّام ودخل عليه قوم بالسيوف فقتلوه ، وأُخذ ممّن دخل عليه ثلاثة نفر أحدهم ابن خالة الفضل ابن ذي القلمين .
قال : واجتمع الجند والقوّاد ومن كان من رجال الفضل على باب المأمون فقالوا : هو اغتاله وشغبوا عليه وطلبوا بدمه ، وجاؤوا بالنيران ليحرقوا الباب ، قال المأمون لاَبي الحسن عليه السلام : يا سيّدي إن رأيت أن تخرج إليهم وترفق بهم حتّى يتفرّقوا؟ قال : «نعم» .
فركب أبو الحسن وقال لي : «يا ياسر ، إركب» فركبت فلمّا خرجنا من باب الدار نظر إلى الناس وقد ازدحموا فأومأ إليهم بيده تفرّقوا .
قال : ياسر فأقبل الناس وقد يقع بعضهم على بعض ، وما أشار إلى أحد إلاّ ركض ومضى (6) .
وقال أبو عليّ السلامي : إنّما قتل الفضل بن سهل غالب خال المأمون في حمّام سرخس مغافضة (7)في شعبان سنة ثلاث ومائتين (8) .
عليّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن إبراهيم بن محمد الحسينيّ قال : بعث المأمون إلى أبي الحسن عليه السلام جارية ، فلمّا اُدخلت عليه اشمأزّت من الشيب ، فردّها إلى المأمون وكتب إليه :
«نعـى نفسي إلى نفسي المشيبُ * وعــندَ الشـيبِ يتّعظُ اللبيـبُ
فقــد ولّـى الشبـابُ إلى مداهُ * فلسـتُ أرى مـواضـعه تؤوبُ
سـأبكيــهِ وأندبـهُ طـويـلاً * وأدعـوهُ إلـيّ عسـى يجيـبُ
وهيهـاتَ الـذي قد فـاتَ منهُ * تمـنّيني بـهِ النفـسُ الكـذوبُ
وراعَ الغانيـاتِ بيـاضُ رأسي * ومـَن مُـدّ البقاءُ لـه يشيـبُ
أرى الـبيضَ الحسانِ يحدنَ عنّي * وفـي هجرانـهنّ لنا نصـيبُ
فـإن يكـن الشبابُ مضى حبيباً * فإنّ الشيبَ أيـضاً لـي حبيبُ
سـأصـحبهُ بتقــوى اللهِ حتّى * يفرّقَ بيننا الاَجلُ القريـبُ» (9)
الهوامش:
(1) ارشاد المفيد 2 : 259 ، روضة الواعضين : 224 ، كشف الغمة 2 : 275 ، مقاتل الطالبيين : 562 .
(2) في نسختي «ق» و«ط» : العزم .
(3) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 147 | 19 .
(4) الچاچله : كلمة فارسية تُطلق على الحذاء المصنوع من الجلد «اُنظر : لغت نامة 16 : 13» .
(5) الكافي 1 : 408 ، ارشاد المفيد 2 : 264 ، وباختلاف يسير في : عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 150| ذيل حديث 21 ، روضة الواعضين : 227 ، وباختصار في : المناقب لابن شهرآشوب 4 : 371 ، كشف الغمة 2 : 278 .
(6) الكافي 1 : 409 | 8 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 163 | ضمن حديث 24 ، ارشاد المفيد 2 : 266 ، روضة الواعضين : 228 ، كشف الغمة 2 : 279 .
(7) غافصت الرجل : أي اخذنه على غرة . «الصحاح ـ غفص ـ 3 : 1047» .
(8) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 166 ، دلائل الامامة181 .
(9) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 178 | 8 .
رسالة الإمام الرضا ( عليه السلام ) المُذهبة في الطب
صحيفة الإمام الرضا ( عليه السلام )
كلام الإمام الرضا ( عليه السلام ) في التوحيد
عناصر الإمام الرضا ( عليه السلام ) النفسية
بيعة الإمام الرضا (ع) بولاية العهد
نص الإمام الرضا ( ع ) على إمامة الجواد ( ع )
مناظرة الإمام الرضا ( عليه السلام ) مع علي بن الجهم
مناظرة الإمام الرضا ( عليه السلام ) مع سليمان المروزي