• عدد المراجعات :
  • 4928
  • 8/26/2008
  • تاريخ :

تَجوعُ الحُرَّةُ ولا تأكُلُ بِثَديِيها
الطير

يضرب في صيانة النفس عن خسيس المكاسب.

أول مَن قاله الحارث بن سليل الأسدي.

ومِنْ خبره أنَّ الحارث هذا كان حليفاً لعلقمة بن خصفة الطائي، فزار علقمة، فنظر الى ابنته الزبّاء- وكانت من أجمل الحسان- فأُعجب بها، فقال له: أتيتك خاطباً، وقد ينكح الخاطب، ويُدرك الطالب، ويمنع الراغب.

فقال علقمة: أنت كفؤ كريم يُقبل منك الصفو، ويؤخذ منك العفو.

فأقم ننظر في أمرك.

ثُمّ انكفأ الى أمِّها، فقال لها: إنَّ الحارث بن سليل سيد قومه حسباً ومنصباً وبيتاً وقد خطب إلينا الزبّاء.

فلا ينصرفنّ إلّا بحاجته.

فقالت امرأته لابنتها: أيُّ الرجال أحبُّ إليك: الكهل الجَحجاح، الواصل المَنّاح، أم الفتى الوضّاح؟

قالت: لا، بل الفتى الوضّاح.

قالت: إنّ الفتى يُغيرك، وإنَّ الشيخ يميرك.

وليس الكهل الفاضل، الكثير النائل، كالحديث السّنِّ، الكثير المَنّ.

قالت: يا أُمَّتاه إنَّ الفتاة تحب الفتى كحب الرعاء أنيقَ الكلاً.

قالت: أي بُنيّة إنَّ الفتى شديد الحجاب، كثير العتاب.

قالت: إنَّ الشيخ يُبلي شبابي، ويدنس ثيابي، ويشمت بي أترابي.

فلم تزل أمُّها بها حتى غلبتها على رأيها.

فتزوجها الحارث على خمسين ومئة من الإبل وخادم وألف درهم.

فابتنى بها، ثُمَّ رحل الى قومه.

فبينا هو جالس بفناء وهي الى جانبه إذ أقبل اليه شباب مِن بني أسد يعتلجون فتنفست الصُّعداء، ثُمّ أرخت عينيها بالبكاء ألّا تكون امرأة أحدهم.

فقال لها: ما يبكيك؟

قالت: مالي وللشيوخ الناهضين كالفروخ؟

فقال لها: ثكلتك أُمُّك، تجوع الحُرَّة ولا تأكل بِثَديِيها.

فأرسلها مثلاً.

ثُمّ قال لها: أما وأبيك لَرُبَّ غارةٍ شهدتها، وسَبِيَّةٍ أردفتها، وخمرةٍ شربتها.

فالحقي بأهلك. فلاحاجة لي فيك.

وقال:

تَهزَّأت أنْ رأتْني لابساً كِبَرا

وغاية الناس بين الموتِ والكِبَرِ
فإنْ بَقَيتِ لَقيتِ الشيبَ راغِمةً
وفي التَعرُّف ما يَمضي مِنَ العِبَرِ
وإنْ يكُنْ قد علا رأسي وغَيَّرَهُ
صَرفُ الزمانِ وتغييرٌ مِنَ الشَّعَرِ
فقد أروحُ لِلذّاتِ الفتى جَذِلاً
وقد أصيبُ بها عيناً مِنَ البَقَرِ
عنِّي إليكِ فإنّي لا توافقني
عورٌ الكلامِ ولا شُرْبٌ على الكَدَرِ

 

قال أبو عُبيد القاسم بن سلام- رحمه الله-: مِن أمثال اكثم بن صيفي: تجوعُ الحُرَّةُ ولا تأكلُ بِثَديِيها.

وهذا مثل قديم، ولكن العامة ابتذلته وحولته فقالت: لا تأكل ثدييها.

قال بعض العلماء: ليس هذا بشيء، وإنّما هو بثدييها.

ومعناه عندهم الرضاع.

يقول: لا تكونُ ظئراً لقومٍ على جُعْلٍ تأخُذُه منهم.

وذكر بعض أهل العلم أنَّ المثل للحارث بن السليل الأسدي، قاله لامرأته رَيّا بنت علقمة الطائي.

وقال أبو عبيد البكري- رحمه الله- ذكر أبو محمد بن قتيبة هذا المثل في شرح حديث النبي- صلى الله عليه وآله- أنَّ الحجاج سأله: ما يُذهب عني مذمَّة الرضاع؟

قال: غُرَّةٌ: عبدٌ أو أمَّة.

قال: يعين ذمام المُرضعة برضاعها.

وكانوا يستحبون أنْ يرضخوا للظئر شيئاً عند فصال الصبي سوى الأجر.

وأمّا العرب، فكانوا يعُدّون أخذ الأجر على الرضاع سُبَّةً.

ولذلك قيل: تجوع الحُرَّة ولا تأكُلُ ثَديِيها.

وقال العلماء: بثدييها.

والقولان صحيحان، لأنها إذا أكلت ثمن لبنها، فكأنَّها قد أكلت ثدييها، كما قال الراجز:

إنّ لنا أحمرةً عِجافا

يأكُلْنَ كُلَّ ليلةٍ إكافا

أي: نبيع كل يوم إكافاً من آكفتها، ونعلفها ثمنه.

وكذلك قول الآخر:

ونطعمها إذا شَتَّت أولادها

أي: أثمان أولادها.

ورَيّا بنت علقمة التي ذكر هي القائلة لزوجها: مالي وللشيوخ الناهضين كالفروخ.


أنت في القمة إذا كنت

الكرم ومحاسنه ومجالاته وبواعثه

البخل ومساؤه وعلاجه

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)