• عدد المراجعات :
  • 1470
  • 1/30/2008
  • تاريخ :

الطريق إلى جمران

الثورة الإسلامية

الإمام الخميني كما رأيته... كتبه بالانجليزية المحررّ والكاتب الأمريكي

روبين وودزورث كارلسن

 مع أنه بات وشكياً أن يُصرّح لي بمقابلة قائد الجمهورية الإسلامية آية الله الخميني.. الذي زجّ الكثيرون غماماً كثيفاً من الكراهية حول شخصيته التي تتألق بالكثير من المهابة ووافر الاحترام.. فقد حدّثتني خبرتي بأنه من الأوفق وأنا أقترب من مثل هذه الزيارة المهمة أن أبذل جهدي.. وأن أقبل النتيجة كيفما كانت.

لقد حاولت رؤية الإمام في مارس عام 1980م.. وتوجّهت مرات ثلاثة إلى البوابة التي تؤدّي إلى منزله بشمال طهران.. وكان المنزل تحت حراسة مشددة يجوب حرس الثورة سطحه في خطوات وئيدة.. أمّا الآن فقد تصاعدت شدّة الحراسة.. إذ إني أقدّر عدد الحراس القائمين بها بما يزيد على خمسمائة فصارت أشدّ ما تكون الحراسة.. وكنّا قد اُحطنا علماً عند وصولنا إلى طهران أنه إذا كان سيصرح لنا برؤية الإمام الخميني فإن ذلك لن يصير مؤكّداً حتى آخر لحظة.. وبدا ذلك متفقاً تماماً وتقاليد رجال الدين.. وأولئك الذين يرسمون جداول أعمالهم استجابة لخاطر وتوجيه إلهي.. أو لإحساس تلقائي بما ينبغي إنجازه لتَوّه بين ظروف الكون المتغيرة المتقلّبة.

وقد زرت سابقاً عدداً من المتصوفين والحكماء والعارفين.. فلمست فيهم ـ دون تفاوت بينهم ـ الإحساس بإمكانية التغير المفاجئ في آخر لحظة حتى فيما يتعلق بأرسخ التقاليد الثابتة.. وسواء كان ذلك صحيحاً أم غير صحيح فإن انطباع الفرد منّا وهو على مقربة من الأشخاص الربانيين يشير الى عدم اقتناعهم بأبعاد خبراتنا سواء الخطي منها أي ذي البعد الواحد، أو ما تحدّده أبعاد الفراغ والزمن.. إذ هم يفضّلون تعديل جدول أعمالهم بما تتطلبه مستلزمات الساعة وتطورات الحاجة الملحّة وحقيقة العالم البيّنة الداعية الى إنجاز كلّ شيء في وقت واحد.

وبناءً على ما جمعت من مصادري، فإن آية الله الخميني لا يختلف عن هؤلاء رغم أنه يحرص على المواظبة فيما يتعلق بمواقيت الصلاة وما إلى ذلك من المسائل الدينية.. فما أن بدأ أمراً حدَّد واجباته بما تمليه عليه استجابته في لحظة معيّنة.. ولا يعنى بإعداد جدول أعمال ومقابلات دقيق.. فقد يتعارض ذلك ومسؤولية التصرف بما تقتضيه سرعة الإنجاز في لحظة ما، أو التصرّف بما توحي إليه خبرته من معانيَ واهتمامات.. إنني أذكر فكرة "كارما" البوذية التي تقضي بأن ما يحدث لأي فرد إنما هو نتيجة حتمية لأعمال له مضت.. أي أنها مسألة نموذج كامل للمسببات والنتائج ذلك الذي يحدد مثلاً ما إذا كانت رغبة هذا الفرد في شيء ما قد تحقّقت.. وهذا أشبه بالمفهوم الإسلامي لإرادة الله.. فمن خلال أسفاري في إيران هذه المرّة والمرات السابقة كنت كلّما سألت عما إذا كان بمقدوري أن أزور شخصاً ما (على سبيل المثال.. الطلبة والمحتجزين الأمريكيين..) اعتدت أن أجاب بأن ذلك سيحدث "إن شاء الله"؛ أي إذ أراد الله ذلك.. لقد اكتشفت حقيقة رسوخ هذا القَدَر المطمئن في أفئدة مضيفي الإيرانيين حتى إنني توقفت هكذا ببساطة عن متابعة إنجاز أي أمر كلّما لاح لي أنّ الشخص المعنيّ سيحيل معظم المسؤولية إلى الله وليس الى جهده المستمر لإتمامه.. وفيما يتعلق بمقابلتي للإمام فقد قيل لي بوضوح إن هذا الأمر يرجع برمّته الى الله.. وعلى ذلك، ومع أنه كان واضحاً أنني قد اسعد كثيراً إذا شاء الله لي ببركة مقابلة الإمام.. كنت في الوقت ذاته قد تأقلمت تحت ثقل قوى التواكل الدينية بالمفهوم السائد أن هذه القوى في النهاية هي العامل لأمور كتلك التي تختص بمقابلة قائد ايران المحبوب.

واعلن في ليلة الثامن من شهر فبراير ان الإمام الخميني سيتحدث بمقر إقامته بشمال طهران إلى أولئك المدعوين للمؤتمر.. وما أن ترامى إلى مسمعي تأكيد ما كان مجرد احتمال قد يتحقق يوماً من أسابيع عديدة ظل المؤتمر خلالها منعقداً حتى أحسست في الحال أهمية هذا الحدث بالنسبة لي.. فقد تحين لي الفرصة أخيراً فأقيم قدر هذا الرجل بنفسي.. ستفحصه بدقة حساسيتي الروحية الناقدة.. والمناقشات المشوبة بالانحياز التي أجريتها مع الاستاذ اللبناني وإبراهيم يزدي قد تعطي عن قليل معنى يختلف كثيراً.. فمع أنه يصعب على الفراد أن يحكم على ما يخبئه ضمير شخص ما.. فهو بإمكانه ـ على الأقل ـ أن يقرر فيما إذا كانت بالأداء الشخصي علامات توحي بقبول مفهوم الوصول إلى حالة التحرر من حدود الذات الضيقة.. لقد كان هناك الكثير من الثأر والدم والكمال العقائدي، بحيث لا يمكنني في النهاية أن أقبل الفكرة القائلة "إن للخميني كياناً متحرراً روحياً.." فبالرغم من أن معظم القديسين وأولياء الله المشهورين ظهروا عادة من جهاز عبادي رفيع التركيب.. ومنظّم.. وتمتد جذوره الى الماضي البعيد.. بالاضاف الى ممارستهم الطاهرة والنقاوة.. فهم حين يصلون إلى قمة تقواهم وورعهم.. ينفصلون عن السياسة فلا يعد لهم صلة وثيقة بمظاهر الحياة السطحية ولا بأيديولوجية الحرب القاسية والآراء المتصارعة التي تسيطر على الفرد العادي.

وإن اعتناق الخميني دون تحفظ لعدالة الإسلام الفظّة.. كرجم الزاني على سبيل المثال أو قطع يد السارق.. واتهاماته العنيفة للولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ونسبته جميع المشاكل الى مؤامرات الاستعمار.. كل هذا يبدو فيه الكثير من الرأي الفردي والاستبداد العقائدي اللذين لا نجدهما في إنسان يعيش في هدوء مطلق وما يستمد منه من نعيم.. فهما لا يعبران عن التحرر الدائم من قبضة حب الذات.. ثم كانت أوصاف الإمام بمجلة "التايم".. تلك الأوصاف العديدة.. وخاصة ما كان منها أثناء أزمة الرهائن.. وحتى بعد سقوط الشاه؛ كلها أشارت إلى خطورة وبيلة.. وحزم لا يعرف المزاح.. وموقف ظاهره يفتقد الدماثة والدعابة، ومن الأهمية بمكان القدرة على المواربة.. إن الخاصية الجلية في شخصية الإنسان التي قد حققت شيئاً من الوحدة بوعي محض كانت حقيقة الحب المشرقة.. ذلك الحب الذي هو في بساطة حقيقة ذلك الوفاق.. حقيقة الالتزام بتعاون مطلق مع قوانين الكون التي عملت من أجل سعادة كل مخلوق.. لقد كان هذا قدر جميع القديسين العظام مثل القديس "فرانسس" و"بورا" و"لاوتس" وحتى الصوفيين الذين قرأت عنهم.. أما الإمام الخميني فهو في نظر الغرب رمز لأعنف وأعند كبرياء يمكن أن يورث.. وكراهية لا تعرف الصفح.. وحتى بعض الغربيين الذين تحدثت معهم وممن قابلوا الخميني فقد علقوا على قدر ماله من شخصية جذابة.. ولكنهم في الوقت نفسه أشاروا الى غياب كامل لروح الدعابة والدفء في تصرفه.

والآن.. إنها فرصتي لأحكم بنفسي.. وما إن كنا في طريقنا بالأتوبيس إلى مقر إقامة الإمام بجمران (تتصل بهذا المنزل القاعة التي سيتحدث فيها الخميني) حتى أحسست باستثارة لها طنين يؤذن بأن شيئاً ما جباراً يوشك أن يحدث.. أعرف أنه يمكنني الوثوق بكفاية بديهتي فأحدد ما إذا كان الإمام الخميني في حقيقته صالحاً أم طالحاً.. أو كان مزيجاً من هذا وذاك.. وشعرب كذلك بشيء مثير يدنو مني وكأن الهواجس تنبئ بما سيكون له من تأثير جذري على تجاربي وقوى إدراكي.. إنني أميل الى الاعتقاد بأن شيئاً ما من خلال الكون يعلم ماذا يوشك أن يحدث.. أو بالأحرى.. على أساس إلمامنا باتجاهات موقف معين فإني أدرك أن أمراً من أمور الغيب المهمة بات وشيك الوقوع.. وبدأ في إرساء معالمه حتى قبل وقوعه.. وبعبارة أخرى، يحجب الزمن، ويقبض الحاضر على معاني المستقبل، وخاصة ما يلي الحاضر منه بما يؤثر تأثيراً بالغاً على خبرة الفرد منا في الحقيقة والواقع... إن حدث شيء يستدعي الاهتمام لفرد ما، فان تجربته ستتضمن حقيقة هذا الواقع ويؤدي ذلك الى الخبرة التي يكتسبها الفرد تبعاً لذلك.. لا علم لي بما سيحدث في القاعة التي سيتكلم فيها الخميني.. ولكني أتوقع شيئاً صاخباً عاصفاً.. وكيف يكون غير ذلك وهنا شخص واحد تتجسد فيه وتنبع منه أهداف الثورة وحقيقتها..؟ وإن التذبذب والغموض اللذين خبرتهما فيما يتعلق بشخص الخميني لعلى وشك أن ينجليا: سأقف على لب دوافعه.. وجوهر زعم مواطنيه عن عظمته الدينية.. ومن تتابع الخطوات التي بدأت بركوب الأتوبيس إلى شمال طهران مروراً بنقط التفتيش المتعددة والتي انتهت بدخولنا إلى القاعة، كان لابد أن نخلص إلى أن حديث الخميني سيتبع ذلك حقاً.. ولأنه أصبح مؤكداً أننا سنرى الإمام فقد ملأت حقيقة هذا اللقاء جنبات رحلتنا على الأتوبيس.. وبذلك تدفقت قدرة هذه الحقيقة في تجربتنا الحاضرة توجّهنا نحو غايتنا.. ولاح لي أن ظنوني وخواطري ومفاهيمي عن الثورة قد تنهار كلها وتذوب عند اللقاء وجهاً لوجه مع قائد هذه الثورة.. ولكن ما ساءتني تلك الخواطر والظنون.

وكانت هناك خمس أو ست نقاط على الأقل، حيث صار تفتيشنا للتأكد من عدم وجود أي سلاح أو شيء قد يستعمل في تهديد حياة قائد إيران والثورة الإسلامية المحبوب و(المكروه).. لا شيء.. لا أقلام.. لا آلات تصوير.. لا مواد من أي نوع أمكن التصريح بالمرور بها خلال نقطة التفتيش الأولى.. وبينما كنا نسرع الخطى فيما بدا لي أن يكون متاهة من ممرات.. وبينما كنا نسرع الخطى فيما بدى لي أن يكون متاهة من ممرات.. كانت اللهفة تعتري كل فرد من المدعوين للفوز بمكان مناسب يرى منه الإمام.. وفي عبارة أخرى.. أدركت أن الكثيرين منا كانوا يهرولون بغية الفوز بأفضل المقاعد.. وبينما نحن كذلك كنت في شغل شاغل عن الوقوف على حقيقة ذلك الإشراق والتأهب والحكمة التي يمتلئ بها الهواء هناك؛ لقد كان ذلك المكان يتميز عن بقية أجزاء طهران؛ لقد كان يعج بالطاقة والنشاط من نوع خاص من الوعي والإدراك.. أيؤول ذلك فعلاً إلى حقيقة هذا الشخص المسمى بآية الله الخميني..؟ أم آل ذلك إلى ما تميزت به الجماهير في تقديرها للخميني...؟ لقد أحسست حينئذ أنه ربما كان الاثنان معاً.. ذلك لأني.. ومرة أخرى.. أيقنت بحق أن للمكان الذي ندخله شيئاً موضوعياً خاصاً.. لقد كان هذا مركز النقيض للفتور واللامبالاة اللتين ألفتهما على شوارع طهران؛ هنا.. في الممرات المؤدية الى قاعة المحاضرة.. وفي الصباح الباكر.. كانت الساعة الثامنة تقريباً.. والمئات من حراس الثورة.. ومن عامة المواطنين.. ورجال الدين.. كانوا جميعاً جزءاً من ممر تكون من حراس وموظفين يدورون جميعاً حول شمس الخميني.. رأيتهم يستمتعون بعملهم الذي يؤدونه.. في مكان أظهرت فيه الثورة قوتها النابضة بالحياة (كما تكشّف عن ذلك في غمار المعركة).. وبدا بحق أننا نقترب من منبع الثورة ذاته، وبدت المشاعر في تناسق ووفاق مع مبادئ الثورة وحقيقة معتقداتها!. 

والآن، ينبغي أن يدرك القارئ في هذه النقطة من قصتي أنني كنت على دراية جيدة بجميع تلك الأمور التي سببها هذا الحكم.. وخاصة سلطة الإمام؛ التعذيب الوحشي.. تنفيذ أحكام الإعداء في الآلاف.. هتك أعراض السجينات.. إحياء "سا?اك".. إلغاء الموسيقي والرقص وأي نشاطات ترفيهية أو فنون جارحة نابية مما يقبلها العالم الحديث ويعتبرها أموراً عادية.. وقتل الأطفال الصغار.. وإطلاق الرصاص على طالبات المدارس.. وفرض الرقابة على الصحافة.. والحملات القاسية لانتهاك مقدسات جالية البهائيين وقتلهم، ورفض السماح "للهيئة الدولية للعفو عن السياسيين والمجرمين" بدخول إيران.. وباختصار.. الإطاحة المنظمة العنيفة بجميع مظاهر الديمقراطية وإقامة نظام حكم لا يعتبر أفضل إذا ما قورن بنظام الشاه حتى في أسوأ حالاته.. لقد سمعت كل هذا.. بل قد سمعت هذا كله من أناس لا يتطرق شكي إلى صدقهم ونزاهتهم!! لقد كانت إيران في حالة جنون شرس.. وما كان مصدر ذلك القمع المؤذي غير الشخص الذي سأراه حين يلقي حديثه والذي سأقابله بعد ذلك.. وقبل أن يدير الدفة بحملته الجماعية ضد جميع معارضي نظامه (مع ما نتج عن ذلك من عداوة متزايدة ضده)، كان آية الله الخميني هدفا ًلكراهية قصوى من الولايات المتحدة، وذلك لصلته ورضاه بالقبض على الدبلوماسيين الأمريكيين الأبرياء.. ثم كانت هناك في إيران قوى عديدة مازالت تؤيد الخميني، أما الآن فإن الصحوة على إعدام معارضي نظام الحكم وتعذيبهم أدت إلى رسوخ الكراهية ضد الخميني حتى في قلوب الكثيرين ممن حاربوا الشاه.. وحتى بعض الإيرانيين الذين عملوا في الحكومة الانتقالية وكانوا في واقع الأمر من المخلصين للخميني منذ البداية وحتى قبل الستة أشهر الماضية!

الآن.. سأرى هذه الشخصية المهمة مجسمة.. تلك التي سيطرت على إيران إرادتها.. وأدت سياستها ـ رغم نسبتها إلى الله ـ إلى الكثير من التمزق في إيران.. وقوبلت بالكثير من السلبية من جانب الغرب.

مشاهدة الإمام

حصلت على مقعد في مقدمة القاعة.. وبدا مقعد الخميني تكسوه ملاءة بيضاء على منصة ترتفع خمسة أمتار على الأقل عن مستوى أرض القاعة.. وما أن دخلنا القاعة حتى ألقى علينا أحد رجال الدين من ذوي اللحى البيضاء نظرة عامة.. وضبط الميكروفون.. وكان ينتظر في شغف صدور الإشارة التي تعني أن الإمام في طريقه إلى الباب المغلق على يمين المنصة حيث سيلقي محاضرته.. وسرى همس في جنبات القاعة بتوقعات وتوقعات وتعالت بين الحين والحين أصوات مجموعة من المسلمين بشعارات أو بآية من القرآن ورددها مئات من المسلمين الآخرين وحراس الثورة الحاضرون.. ولم يكن مسموحاً بالتدخين داخل القاعة.. وساد الوقار وخيمت المهابة على سلوك جميع المترقبين لمقدم الإمام.. فاختلف المكان كثيراً عن أرجاء إيران العادية.. وحتى حين ألقيت بصري على المنصة.. على المكان الذي ألقى منه الخميني مئات الخطب والأحاديث، شاهدت عيناي المكان في هدوء حقاً.. تشيع فيه الطهارة والصفاء والنقاوة.. ويملأ جنباته الانتعاش.. بل تجمعت كلها في كتلة من الطاقة.. صلبة وشبه شفافة.. بدت على النقيض مما رأينا ولمسنا في الفندق.. وفي الحقيقة.. ما لمست في أي مكان آخر ارتدته أثناء رحلتين قمت بهما إلى إيران، وحتى المساجد، ما لمست من أي منها ما يشع بمثل هذه الجودة وتلك الطاقة المتكاملة.. أيكون الإمام إنساناً مؤيداً روحياً..؟! أتتكشف له الحجب..؟! أهو صوفي حقيقي..؟! ربما كان أكثر من ذلك.. وتشير كل الدلائل إلى أن شيئاً ما كان يحدث عادة في هذه القاعة فيتسامى على إثره الى شيء مما يحدث خارج هذه القاعة في إيران .. وما ألفت هذا الشعور والإحساس قط في غير جبهة القتال ثم حين مررت خلال مقابر جنة الزهراء.. يمكنني فقط أن أفسر ذلك بأن أفترض أنه ربما كان الاستشهاد أمراً حقيقياً.. وان انفصال الروح عن الجسد، وذلك الانفصال المفاجئ وقداسته، وصعود روح الشهيد الى الفردوس، ربما يبعث طاقة مقدسة، مباركة بذات الله.. ومهما كان الأمر، فحيث كان مقعد الخميني، كان الجو حيّاً مشرقاً.. هنا يسود الوفاق.. لا الكراهية.

وأثناء انتظارنا للإمام قدم جمع من الأطفال اللبنانيين والفلسطينيين الذين فقدوا أهليهم أثناء القصف الإسرائيلي، قدموا استعرضاً وجابوا القاعة في خطوات عسكرية وكانوا ينشدون باللغة العربية مختلف الأناشيد عن الثورة.. ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء الأطفال كانوا قد تبنتهم الحكومة الإيرانية نزولاً على إرادة الخميني.. ووقفوا أمامنا تحت المنصة.. وبدوا في شيء من الارتباك أكثر قليلاً مما اعترى مئات الطلبة الإيرانيين الذين قدموا من المدارس الثانوية الإسلامية والذين ساروا أيضاً في خطوات عسكرية ورفعوا أصواتهم عالية لنا.. لقد دُعوا ليستمعوا الى الإمام.. وفي الملابس البيضاء وغطاء الرأس الأزرق.. بما يشبه زي البحرية، وقفوا في دعة، بينما انشغل مدرسوهم بتنظيم أماكنهم وترانيمهم.. ويبدو أن الخميني يقابل كل يوم أفراداً وجماعات ممن يرتبطون بإدارة شؤون الثورة.. وللإمام الخميني اهتمام خاص بهؤلاء الأطفال الذين قتل أهلوهم بمخيمات اللاجئين تحت قصف النفاثات الإسرائيلية العنيف.. إنهم مظلومون.. إنهم أبرياء عانوا على أيدي المعتدين، فكانوا بذلك من الفئات الخاصة التي تستوجب اهتمام أحكام أخلاقيات الإسلام والثورة.. وهناك فقط مصدر شر آخر ربما أحال هؤلاء الأطفال أيتاماً.. الاستعمار الأمريكي.. لقد كان الفلسطينيون ضحاياه.. فقد كانت الأسلحة أمريكية، تلك التي أراقت دماء آباء وأمهات هؤلاء الأطفال.. وفُرّق كل شيء الى خير وشر.. وصُنّف كل نضال في العالم على أنه حرب للمظلومين ضد الظالمين.. وكان هؤلاء الأطفال رمزاً لهذا النضال.. رمزاً لتفوق المبادئ اللازمة للتمسك بالثورة وصيانة إيجابية أساسها.. وبغير حقيقة الشر لا يستطيع الفرد أن يقف على وجود ما هو ضده.. الخير.. وقد لا يكون الإيرانيون ذاتهم مؤهلين لوصف أنفسهم بالنقاوة، غير ان دوافعهم الإسلامية نقية والعدو شرير بيقين.. ومن يكون غير الله ذلك الذي يضاد الشر..؟ ومنذ تواجد الشر، كان كل ما يعارضه ويضاده خيراً.. لقد علَّم الإيرانيين قائدُهم أن يفكروا بهذا الأسلوب: لا شيء.. لا تفوق ابراهيم يزدي، ولا مقاومة المجاهدين يمكن أن تحول بين مؤيدي "خط الإمام" وبين التزامهم بنوعيتي الحكم على الأمور.. بيضاء وسوداء.. إذ إنه بهذه الوسيلة فقط يمكن التشريع في عبارة الخير ضد الشر.

ومكثنا هناك قرابة خمس وأربعين دقيقة قبل أن تظهر علامات تشير إلى أن الإمام على وشك أن يدخل إلينا.. وكانت الإشارة واضحة؛ لقد دخل من الباب عدد آخر من العلماء المعممين وأخطروا رجل الدين الذين كان بالانتظار على المنصة.. أن الرئيس الأعلى، التقي النقي الورع، القائد الإمام.. إنه في طريقه إلينا.

وحين ظهر الخميني لدى مدخل المنصة.. قفز الجميع ناهضين مهللين: خميني! خميني! خميني! في صوت واحد ينبض بفرح.. ويشيد بتقدير.. ما شهدتُ أسمى منها يؤدّيان لمخلوق آخر.. وبدا كل حاضر وقد فاجأته موجة غامرة دافقة من الحب والتودد.. وكأني بهم يعلنون من أعماق قلوبهم في تأكيد مطلق.. ويقين.. أنهم يبجلون ويكرمون.. من هو أهل له في أعين الله.. حقاً.. أستطيع القول.. ان انفجار النشوة والعظمة الذي حُيّي به الإمام لم يكن في حد ذاته رد فعل يعكس ما في أذهان الجماهير عن الإمام فحسب.. بل كان فيضاً طبيعياً من التسبيح والحمد والابتهال أطلقته شخصية هذا الرجل الغامرة وفخامتها التي لا تقاوم.. وما أن فُتح الباب له، أحسست بإعصار من الطاقة يتدفق خلال الباب.. وفي عباءته البنية اللون.. وعمامته السوداء.. ولحيته البيضاء رمق كل جزء بالمبنى.. وجذب كل الأنظار شاخصةً إليه.. وشعرت وكأننا تضاءلنا جميعاً في حضرته.. وكأن لم يبق في القاعة شيء سواه.. لقد كان كتلة من النور دافقة نفذت الى بصيرة كل حاضر ومشاعره.. لقد دمر كل المعايير التي ظننت أنها ستعينني على تقييمه وتحديد قدره.. لقد كان مسيطراً في حضوره، حتى إنني وجدت نفسي وقد غلفتها أحاسيس طاحت بها بعيداً عن مفاهيمي.. إنها طريقتي التي أتعامل بها مع تجاربي.. فأهضم محتوياتها...

لقد توقعت ـ مهما كان مظهر هذا الرجل ـ أن أفحص قسمات وجهه بدقة.. وحوافزه.. بحثاً عن حقيقته.. غير أن قدرة الخميني.. ووقاره.. وسيطرته المطلقة.. دمرت جميع أساليب التقييم التي أتعبها.. وتركتني.. أكتسب خبرة في تجربتي التي أحسست خلالها بالطاقة التي تألقت طيلة وجوده على المنصة.. لقد كان إعصاراً.. ولكن ما إن استقر بصرك.. لأدركت لتوك أن هناك مركز سكون مطلق داخل هذا الإعصار، فبينا هو جاد حازم ومسيطر.. تجده أيضاً هادئاً ومنصتاً.. لقد كان بداخله شيء راسخ وثابت.. ذلك الشيء الثابت.. هو ذاك الشيء ذاته الذي حرك دولة إيران برمتها.. أهذا إنسان عادي..؟!

حقيقة الأمر أني قابلت عدداً ممن يقال عنهم أنهم قديسون كالدالاي لاما مثلاً.. والرهبان البوذيين.. والحكماء الهنود.. فما وجدت ذاتاً لأحد منهم تضاهي ذات الخميني بخبرتها الفذة.. وروحها النفاذة.. فقد بات جلياً لكل من يعي ويرى أن لا شائبة على كمال الخميني وأمانته ونزاهته.. ولا على ما يزعمه شعبه رغم ما يتكتمه العديدون من أن الخميني قد اجتاز ذاتية الإنسان.. عادية كانت أو غير عادية.. وأن ذاته استقرت في شيء من كمال مطلق لا حدّ له.. وهام هذا القدر من الكمال في الهواء.. حتى حركة جسمه.. وحركة يديه.. كانتا تعبيراً عن هذا الكمال.. وكانت حرارة شخصيته تتدفق بالكمال.. وتجسد الكمال حتى في سكون أحاسيسه ومشاعره. لم يكن غامضاً ولا محيراً. لماذا يحبه الملايين من الإيرانيين والمسلمين في جميع أرجاء العالم إلى هذا القدر؟! لقد عشت تجربة استعرضت مفهوم المراتب الأعلى للأحاسيس والمشاعر.. نعم.. كان الحزم والجدية واختفاء الدعابة والمزاح.. كانت كلها تخيم على القاعة.. ولكن.. إذا أخذنا في اعتبارنا الظروف المحيطة جميعاً.. فإني أقر أن كل لفتة وإماءة صدرت من الإمام الخميني كانت كلها مناسبة تماماً.. لم أر شخصاً خارقاً للعادة يفوق هذا الرجل أو يدانيه..!

لم يبدأ سماحته بالكلام.. بل تحدث أحد القادة الدينيين الآخرين الى الحاضرين.. بينما جلس الخميني في سكون آمن.. واتزان تام.. لم تصدر عنه حركة.. ومع ذلك كان هناك شيء ما في حركة نقية.. شيء ما في تشابك حركي فعال... شيء ما على استعداد لشن حرب تطّرد.. رأيته عملاقاً كلما قارنته بجميع من قابلت في إيران.. ما سيطر على المنصة سواه، حتى أثناء خطاب الشخص الآخر.. العيون كلها تركزت على الخميني.. فما وجدت عليه أثر الغرور أو ارتباك أو حتى لو جاز لي أن أقول.. أثر الحوار يعتمل في نفسه أو تفكير شارد لا هدف له.. لقد تجمع كيانه كله بجدية لا افتعال فيها في نقطة تركيز واءمت مشهدنا المثير في روحها وجمالها.. فرغم جدية القصد وعنف العزم والإدراك النزية المطلق الذي لا يقبل أنصاف الحلول، هناك إحساس بشيء رفيق هادئ كامل ومسالم.. ذلك الشيء الذي تفصح عنه حركات يديه.. وصوت إجلاء حنجرته.. ذلك الشيء هو مصدر تركيز انتباهه.. وهنا مئات من المسلمين والغيورين على وطنهم ترتفع حناجرهم تهتف بعظمته وتقسم بحبها وتتقرب وتتودد.. ومع ذلك.. تلّقى ذلك كله بنفس الهدوء.. والثبات.. وظل ساكناً.. من خلال هدوء داخلي راسخ.. هدوء تخطى حدود الاستثارة المألوفة لي.

وقد يفزع القارئ من تطرفي في وصف هذا الرجل.. ولكن يجب على القارئ أن يعلم أنه بالرغم من كل ما سمعت.. رغم ما بحيازتي من أدلة متباينة على احتمال عنف بالبلاغة أو انعدام مزاح مبدع خلاق.. وما إلى ذلك.. فليس للانطباع الحقيقي الفوري الذي يصدر عن الإمام الخميني صلة بمثل هذه الفكرة أو هذا المفهوم.. لقد كانت تجربة غلابة لمثل هذا.. اعمل خيالك لحظة دفع جسم الطفل من رحم أمه.. أو لحظة يذكر الإنسان فيها أنه خلق جنيناً.. أو لحظة يدرك الإنسان فيها أنه يعالج سكرات الموت.. أو لحظة استكشف الإنسان فيها لأول مرة قوة الحب العارمة؛ تجد أن أساس هذه التجارب كلها محدداً رئيسياً يخرج عن إطار كيان الفرد.. إن ما يسيطر هو طبيعة الحقيقة الذاتية التي تولّد ما نسميه بالخبرة.. وهذا ما حدث صباح الأربعاء التاسع من فبراير عام 1982م في شمال طهران.. وبدت خبرتي التي اكتسبتها وقد أضفى عليها موضوعية ذلك الشيء الذي يكمن في جوهر أساس مشاعري.. لقد اجتزت أسلوب الخبرة الذي يحدد عادة أي  أحاسيس.. وأية أفكار ومشاعر التي تجمعت ورسخت فيما أعي به نفسي وأدركها.. الخميني هو ذلك القادر.. الخميني هو ذلك القوي.. الخميني هو الذي لم يتسرب الى نفسه الغرور.. وهو الذي لا يُقهر.. لقد شاهدت في لحظة واحدة كل القوى الدافعة للثورة.. وجميع تاريخ الإطاحة بالشاه.. وسمعت أنغام الاستشهاد.. ورقص أمامي بريق الحضارة الإسلامية الغابرة التي حجبت الغرب ردحاً من الزمان؛ لقد تجسم لي كل ذلك في حضور هذا الرجل.. إنه منبع إحياء الإسلام.. إنه مصدر الثورة.. إنه أساس القوة التي يراها العالم في الثورة وفي الإسلام.. وإني لعلى يقين أنه بدونه لظلت الملكية حيث كانت.. ولمُحق عامل الإسلام تماماً من بين العوامل السياسية التي تحدد مصير الشرق الأوسط.. وما أن رأيت الخميني حتى ساءلتني نفسي.. أكان للثورة في إيران أن تصمد في حيويتها وتماسكها وترابطها بدونه..؟ لقد كان جلياً أن الثورة تستمد إلهامها من قيادة الخميني.. الخميني هو الثورة.. وما فتئ ذوو الوعي والإدراك بما يدعو إليه الإمام الخميني من العيش بالإسلام في جميع أوجه الحياة إلا أن تتقد نفوسهم بنور الإسلام، واستعذاب الشهادة، والإصرار على نشر دعوة الإسلام على العالم أجمع.. لقد رفع الخميني المعنويات، وحول الأفئدة.. ولم يكن ذلك وليد فكرة عفوية جادت بها شخصيته.. بل كان له جذور في واقع الحياة.. وتحقق ذلك النجاح من خلال عزمه على هذا الشيء الذي أوجد كل هذه الإثارة.. نعم.. لقد كان الخميني مركز هذا الانفجار الإسلامي.. ولقد كان أيضاً منبع الطاقة الروحية التي تغلغلت في قلوب المسلمين بالشرق الأوسط، وخاصة أولئك الذين تميل قلوبهم بفطرتها الى الاسلام.

لم يبتسم مرة.. لقد ثبتت قسمات وجهه في إصرار تمليه إرادته.. وكأن الله حمّله أمانة كل شيء.. لقد بذل حياته في خدمة الله.. فلم يكن هناك شيء يضحك.. أو يبعث الى الترفيه.. وليس في الأمر ما يثير عجباً أو تساؤلاً.. لقد عقد العزم.. وقام على الطريق يعالج العقبات المترتبة.. ليعيد للإسلام عزّه الذي بشّرت به نشأته السماوية.. لقد عاش للإسلام.. وأصبح الداعي الفعال لإحياء الإسلام.. فليس له من غاية سوى تطبيق الإسلام.. لقد اندمجت ذاتيته في كل ما يحمل هدفه الأعلى من معانيَ.. ما استشففت فيه ولو لمسة طفيفة من اختلال.. وما لمحت أي اهتزازة.. وما نالت منه خلجة واحدة لما تعج به البيئة من حوله.. لا.. ما أحسست غير هالة الواجب الحتمي الذي وضعه تماماً في خدمة الخالق.. ومن المسلّم به أن العلوم جميعها وما بها من علم نفس لتعجز كلها عن إثبات الحقائق الكامنة في ملاحظاتي ومشاهداتي التي أكتب عنها.. هذه الملاحظات وتلك المشاهدات تخرج عن قدرة الآلات والاجهزة لقياسها وتقنين مداها، أو لتشخيص الحقائق التي تكمن وراء هذه التجربة التي عشتها.. ماذا أقول..؟ ربما تصدر عن موجات فؤاد الخميني استنتاجات شاسعة مترابطة.. ليست كتلك التي تصدر عنّا، والتي مازالت تتخبط في قبضة التضارب والتردد اللذين اعتادتهما فباتت تفتقد الأمان.

أما عن لياقته البدنية.. وهو الذي يتجه الى منتصف العقد التاسع من عمره.. فإن انطباعي.. سلامة وافرة.. وكفاءة زاخرة.. وتأدية موزونة.. وطاقة مخزونة.. فكل ما صدر عنه من حركة يديه ولفتاته.. وصوت حنجرته ونبراتها.. كانت كلها بمقدار يتحكم هو فيه بترتيب ذكي.. لقد تجسم فيه التماسك كله.. لقد أشاع فينا إحساساً بأنه لم ينتصر على نفسه فصار سيداً لها فحسب.. بل إنه أصبح الآن أعلى من ذلك بكثير.. لقد صار الآن خادماً لسيد آخر.. ولنا أن نفترض في هذا المجال أحد أمرين: اما إنه نذر نفسه وكرسها لجوءاً الى الله.. أو إنه ارتقى فعلاً الى مرتبة قداسة دائمة.. ذلك الموضوع الذي دارت عنه مناقشات وجدل بيني وبين  كل من ابراهيم يزدي والأستاذ اللبناني.. وربما قال البعض إنه لم يلق رجل من الكراهية في عصر ما بعد هتلر أكثر مما لقيه هو.. إلا أن الأمانة تقتضي بأن أقول إنني رأيته أبعد ما يكون عن زعامة تتلاعب بعواطف العامة بخطبها الرنانة الجوفاء.. إن أقل ما يمكنني قوله.. إنني رأيته وكأنه أحد أنبياء العهد القديم.. أو إنه موسى الإسلام.. حذر ليدفع فرعون الكافر عن أرضه.

ومع كل هذه الكراهية.. كراهية الملايين من الأمريكيين الذين اجتاحتهم أفكار سلبية عن "آية الله" على طول أيام عديدة من حياتهم خلال أزمة المحتجزين الأمريكيين.. وبالرغم من عنفوان التركيز عليه بأشد العداوة ضرواة.. ظهر الخميني وما تمسسه تلك الطاقة المدمرة.. ولم تنل منه شيئاً.. لقد كانت قوته جبارة فنجا منها.. بل كانت بالكفاية الهائلة اللازمة لإطلاق مثل هذه الكراهية.. وهو لايزال أشد المكروهين لدى آلاف وربما بضعة ملايين من أبناء بلده.. ناهيك عن صدام حسين وملوك المنطقة الذين تألبوا جميعاً ضده.. تحدثني نفسي أن هذه الكراهية الشديدة التي وُجّهت إليه قد زادت الثورة صلابة.. وجعلته أكثر قوة.. فقد برهنت على أنه لم يسعَ إلى إرضاء الآخرين.. ولم يهدف الى تحقيق بطولة.. ولم يطمح في كسب شخصي.. بل عاش من أجل الحقيقة التي يجابهها.. في ظل قوانين الإسلام.. وما أوحي الى نبي الإسلام.. في رضىً وخلود يتحققان على طريق الإسلام.

وقد لا تقبل ذلك عقول معظم قراء هذا الكتاب.. إلا أن وضوح انطباعاتي لا يخطئه مشاهد.. فإذا هي جلية من غير حاجة إلى إثبات.. وحقيقة يرويها المستيقظ تماماً كما رآها في منامه.. إن الخميني حقيقة.. وقد أدى وجوده البارز ـ شخصياً كان أو متجرداً ـ الى تقلص انطباعي عما عداه من القادة السياسيين الذين قابلتهم في حياتي.. فهو قد يمقت النفاق وازدواج القيم.. وقد لا يقبل الخوض في بحث أسباب الوجود والقيم والقوانين الجامدة التي يساندها أنه أسمى قوة للكمال والنزاهة؛ إنه عالم الحقيقة التي عاشت خلال الإسلام.. إنه ليس من يمكننا النقاش معه حول معنى حرية اختيار الفرد.. أو الجمال الحسي لرقصة البالية.. ولكنه مع ذلك الأعظم بأساً ومراساً على مسرح السياسة الدولية.. وبدا ـ على الأقل من وجهة نظري وقد شاهدته ـ وكأنه عاصر المسيح.. ولا يعني ذلك أن الخميني يقارن نفسه بالمسيح مطلقاً.. ولكنه يتألق بنفس النزاهة التي لا مساومة فيها، والتي لا تقبل أنصاف الحلول.. وله قصد لا يحيد عنه قيد أنملة..

وعجيب أن يحمل إنسان بين جنبيه الكثير من أسرار الكون ذاته.. وهو الذي لم يكتسب مختلف الخبرات العديدة.. وهو الذي لا يعترف بثروة الحرية الشخصية.. حسناً.. قد يبدو الوصف والتغير اللذين أعطيتهما أكثر الصور تضحماً وتشوّها من وجهة نظر القراء الذين لا يقرّون وجوب رجم مرتكبي الفاحشة حتى الموت ولا إعدام المصابين بالشذوذ الجنسي.. وبالرغم من ذلك أود أن أوضح أنه على الأقل ـ ليمكن الوصول الى استنتاجات عن هذه الثورة وعن الحب المتأجج في قلوب أكثر من نصف الشعب لذات الخميني ـ يجب أن نفصل بين عبارات الخميني الآيديولوجية وبين تقييمنا التلقائي لكيان الرجل كإنسان.. فهو لم يستمد الكثير من كيانه هنا من كلماته.. ولا من سلطته.. ولكن من واقع وجوده.. ومن كيفية رد فعل الكون لهالة شخصيته المنظمة.. وبالرغم من كل تطرفه البلاغي.. وكل المرارة التي يحس بها تجاه الولايات المتحدة.. وكل لعناته التي يصبها على الغرب، فهو لايزال يتسامى بمضمون كلماته وكتابته؛ إن ما يعني أساساً لهو الغبطة الجوهرية التي تفيض من قلب الفرد لأبسط رغبة فطر عليها لاستيعاب خبرته.. لو كان لمدير مسرح أو سينما أن يشاهد أداء آية الله الخميني لقال إنه الوحيد الذي يمكنه القيام بدور المسيح أو الإمام الثاني عشر.. هكذا كان وجوده على المنصة فخماً.. وكذلك كان إحساسه بالثقة المطلقة رائعاً.. وكانت عزيمته على هذا القدر من الصلابة لا تتزعزع.

وليس هذا كل ما في الأمر.. فلدينا مزيد؛ لقد اقتحم الإمام الخميني عليَّ قلبي وعقلي بتيار من العاطفة التي يمكنني بيقين أن أصفها بأنها إيجابية قصوى.. وهذا ما أفضّل أن اطلق عليه لفظ "الحب".

نعم.. بالرغم من تصريحه بإعدام البعض (وفي الحديث ذاته أمر بالإفراج عن آلاف المسجونين الذين أبدوا ولاءً له).. وإصرار قسمات وجهة الذي لا يضطرب.. ومناعته ضد الأحاسيس الفردية.. بالرغم من كل ذلك، فقد كان مشحوناً بحب بدا لي فعلاً أنه أصاب من القلب فطهّره.. وملأه بنعيم ما تذوقت له من قبل حلاوة... حتى حين كان يجلس هناك.. وما كان قد تكلم إلينا بعد.. حين كان أحد رجال الدين يسهب في تقريع القوى العظمى كما كان متوقعاً.. أنشودة الإسلام الأكيدة.. وجدتني أحدق في وجه الخميني (والضوء محيط به).. ومُلئتُ تفي الوقت ذاته بتلك الطاقة التي ترتبط بأعظم أنواع القدرة والإبداع حيوية.. لقد كان الخميني مولد هذه الطاقة وذاك الشعور بما يغمر القلب ويطهر الروح.. وددت لو أمكنني الاحتفاظ بتجردي عن الاهتمام بهذا الواقع.. وعدم تفككي الخطير حين رأيت الإمام.. لقد عودتني نفسي صموداً فلا يسيطر عليها إنسان آخر.. وعودتني نفسي ألاّ يضطرب تكاملي الداخلي بشيء يمر خارج كياني.. ومع ذلك.. فإني هنا أفقد حدود ذاتي.. إنني هنا أستكشف مشاعر سامية وأحاسيس نقية لم آلفها من قبل.. لقد احتل كل كياني هنا رجل غير عادي.. رجل مسلم تقي ورع.. وقد كان هذا الفرد ـ على رحابة هذا العالم ـ آخر من يؤخذ في الحسبان أن يخلع على صحفي غربي إحساس السعادة الإلهية.. وجلاء الوعي والإدراك.. ولكنها كانت خبرتي التي اكتسبتها.. لقد شاءت الأقدار أن يكون الإمام الخميني هو تلك الحقيقة الوحيدة التي أخذت بآفاق أفكاري إلى مدارك أوسع ومشاعر أكثر رحابة.. فكان الحقيقة التي طهرت قلبي وأنارت عقلي وتركت في أثره إحساساً من الرضا لا تخبو شدته.. وسيظل هذا الرضا ملازماً لي حيث أكون وإن حجبته عني في الوقت الحاضر بعض المشاغل التي استحوذت على تفكيري.

وما إن شعرت بالطاقة الكامنة في مدافن جنة الزهراء حتى اندلعت مني عاطفة خالصة.. هنا تفتحت براعم ذاتي حيث تجسم الإسلام المجاهد جامحاً.. وتكشّفت عني الغمة.. فأبصرت بريق الكرامة يتصاعد حتى السماء.. وما تسعفني استعارة ولا تعبير مجازي فأصف أحاسيس الحقيقة التي اجتاحتني.. فلن تخفق ذاكرة الكون أن تسجل أن ما رأيته اليوم، واكتسبت بقلبي خبرة منه، ذلك المعنى الذي اقتحم روحي بصورة تلقائية واضحة ونهائية، كان في حد ذاته أقصى حقائق هذه الثورة أهمية.. وليس هذا فحسب.. بل كان أكثر حقائق الوجود ذاته أهميةً.. ومن المسلّم به أن يحرز الإنسان عظمة إذا اتصل مخلصاً بخالقه.. فبينا يرجم البعض الإمام الخميني باختلال العقل.. والتوحش.. والقتل.. والعداء للحرية والنور.. فإن الإمام روح الله الموسوي الخميني رغم ذلك دليل فائق وبيّنة سامية لقدرة الإنسان على إحراز الكرامة التامة والكمال.. وأن يحقق من خلالهما أعلى درجات الفضل والروعة الشخصية.. ولما كان الخميني حقاً من عباد الرحمن يحمل بين جنبينه حقيقة الإسلام.. واستحق أن ينال حباً يضاهي حب الشيعة للاستشهاد.. لزم علينا كمشاهدين أن نحاول فهم هذه الثورة.. وأن نقف على مدى حكمة الله في إيصال هذه الحقيقة إلينا.. والحقيقة التي وصفتها هنا هي الحقيقة ذاتها التي يتمركز عليها تماماً مستقبل الشرق الأوسط.. وإنني أعتقد أنه لن يدرك إنسان تبلور مصير الشرق الأوسط ولا اتجاهات القوى التي تشكل الآن أحداثه، حتى يعترف بصدق ما كتبت، وحتى يميز هذه الحقيقة.. وإن وجه "چري فولويل" ليختلف في ناظري عن وجه آية الله الخميني تماماً كما يختلف بائع نسخ الإنجيل عن يوحنا المعمدان.

ولما لم يكن هناك اتفاق حول طبيعة الله، ولا حتى عن وجوده، فإن الاحتمال ضئيل أن يكون هناك اتفاق ملحوظ فيما إذا كان وجوده جلياً واضحاً في أحاسيس إنسان.. ذلك المخلوق الوحيد في عالمنا هذا الذي قد يستطيع جهازه العصبي أن يتضمن وأن ينقل ادق المعلومات والمعرفة.. وقد يكون الله هذا العلم.. وتلك المعرفة.. إن التفسيرات الواردة عن المتصوفين المسيحيين، وقدّيسي الشرق، وأولياء الله، (ناهيك عن الأنبياء) أوضحت كلها بجلاء عن دلالة من أنار الله باليقين قلبه من بني الإنسان.. إن تصرفات مثل هذا الانسان تسيطر عليها قوة علم خارقة، ربما تقوم بحساب أنشطة العالم الأكبر.. فلم تعد ذات هذا الإنسان المعتادة تحدد تصرفاته أو تتحكم فيها.. لقد صارت ذاته كونية.. ومن ثم.. فإن مكانة هذا الإنسان وقدرته العقلية، ومستوى انفعالاته تعكس بالضرورة الحقيقة الكونية التي تتضمنها أحاسيسه ومداركه.. أتراني أصف الإمام الخميني..؟!

إن هذه المعاييير لتنطبق عليه كثيراً.. حتى إنه لو لم يكن للفرد منّا أية مرجعية دينية.. أو أي مقياس للتسامي والروحانيات.. لظللنا نحس ونشهد ذلك السيل من الطاقة.. والهدوء الثابت.. والحب الذي لا يخبو.. والرحمة التي لا تغيض.. نعم.. كان في محياه تعبير عن تركيز حازم لا يلين.. ونحن ـ وقد نجهل مصدر ذلك ـ مازلنا ندرك أن هذا التعبير، صفة.. وشكلاً، كان واجباً حتمته ضرورة.. حقيقة لو أصاب شخص ما حالة توازنه مع السماء.. فاستسلم تماماً لعزة الله.. وآمن بأن التكبر صفة تختص بها ذات الله وحده.. فإن الوسيلة التي وصل من خلالها إلى هذه الحالة.. ستنعكس حتماً على قسمات وجهه وشخصيته.. وما كان تقدم آية الله الخميني نحو إدراكه لطبيعته غير المحدودة.. وطفرته إلى الأحاسيس النقية الطاهرة.. ولجوؤه الى الله المطلق.. ما كان ذلك سعادة دون جهد.. وما تحققت بأسلوب تسامٍ طبيعي بسيط؛ لا.. ما تحققت إلا بعزيمة هائلة لا تقهر.. وتفانٍ ملتزم لا ينحرف عن شريعة الإسلام وقوانينه.. وما من مشاهد للإمام الخميني إلا وأحسّ وكأن الخميني عاش منذ مولده حياة محددة الاتجاه تستهدف أسمى غرض من خلال أعظم التقاليد العالمية.. فهو منذ البداية، كمشاهير الهند من القديسين مثلاً.. دأب على المعرفة.. زاهداً في متعة الشباب المعطلة.. وركز انتباهه على غاية الحياة كلها.. والتعرف الكامل على ماهية النفس.. ومافتئت أن بقيت ذاته غير مطلقة بسبب طبيعتها القائمة على الشروط والاحتمالات.. ولكن ذاتيته.. الآن.. لجأت الى المطلق.. فما عاد لها من قصد سوى العلم في خدمة ذلك المطلق.. وأقر أني ما رأيت من قبل تعبيراً للمطلق أكثر صلابة مما شهدت.!

ويبدو أن الخميني على معرفة بمفهوم الله على أنه المطلق.. وأستشهد مؤكداً ببعض عبارات من أربع محاضرات منفصلة:

"وأسماء الله هي... أعلام لذاته سبحانه؛ وما هي إلا أسماؤه التي يعرفها الإنسان. أما ذاته سبحانه فلا يدركها إنسان.. وحتى خاتم الأنبياء.. أكثر الناس علماً وأعظمهم نبلاً لم يحط علماً بذات الله.. إن الله لم يطلع العقول على تحديد صفته وذاته.. ولكنه سبحانه لم يحرمها طريق معرفته.

فإن كان النور أو الوجود مطلقاً وليس كمثله شيء.. فهو بالضرورة يتضمن الكمال كله.. ذلك لأنه إذا فقد نقطة واحدة من كماله.. أمكن تحديده وتمييزه.. فإذا كان في الذات الإلهية ـ على سبيل الجدل ـ نقطة نقص واحدة، لكان معنى ذلك تغيب نقطة من الوجود.. ولما عاد الوجود بعد ذلك مطلقاً.. فيصبح بذلك غير كامل.. بل يصبح عَرَضاً.. ولا يعد ضرورياً.. إذ إن الوجود الضروري لا بد أن يكون مطلقاً من كماله وجماله.. وعلى ذلك، فنحن حين نستعرض الأمر حتى من خلال طريقة "البرهان المنطقي" غير الكاملة، فإننا نصل إلى أن الله تعالى هو "ذات الوجود المطلق" التي هي منبع الإيحاء كله.. وتتضمن هذه الذات الإلهية الأسماء كلها.. والصفات كلها.. وهي الكمال المطلق.. الكمال الذي لا يمكن تحديده...

.... ذلك الهدف الذي من أجله جاء الأنبياء جميعهم، ليسودوا الإنسان قدماً من هذا العالم، فيخرجوه من الظلمات الى رحاب النور المطلق. لقد أراد الأنبياء أن يغمروا الإنسان في هذا النور المطق.. فتندمج القطرة بأحضان المحيط.. لقد أرسل النبيون جميعهم من أجل هذه الغاية.. إن المعرفة الحقيقية، والحقيقة الموضوعية كلها تنتمي خاصة لذلك النور.. فلا وجود لنا جميعاً.. ويعود أصلنا إلى ذلك النور.. لقد أرسل الأنبياء جميعهم ليخرجونا من الظلمات الى النور المطلق.. محررين إيانا من غياهب الظلام وحجب النور.. وحتى البعض وهم لايزالون في عالمنا هذا سينجحون في الوصول الى مرحلة تتجاوز مجال خيالنا عن اللا وجودية وعن مواراتنا في ذات الله عز وجل..."

فإذا كان الخميني.. الذي يعتبر قدوة في الإسلام.. والذي يرى فيه معظم مسلمي العالم المعاصر ظلاً للإمام الثاني عشر.. إذا كان مثل هذا الشخص لم يصل بعد إلى ذلك "النور المطلق" حيث يذوب في ذات الله، فكيف نصدق أن الإسلام جاء... وأن الأنبياء أرسلوا من أجل هذا الهدف..؟! ربما عمد الإمام الى تحويل انتباه الناس عن فكرة نجاحه في جهاده الداخلي عن نفسه.. حقيقةً أنه بذلك قد سمح لصورته وسمعته أن تظهرا كأسمى تعبير لهذه الثورة.. وفي ذلك اعتراف ضمني أنه في الواقع قد أصاب ذلك المستوى الذي تندمج عنده القطرة بمحيطٍ رحابه الله المطلق.

وإن مصدر ذلك الحزم والإحساس بالعزيمة التي لا تلين والصلابة المميزة لقسمات وجهه ليكمن حقيقةً في أن هذه الغاية لا تنال إلاّ عن طريق جهاد دائم لا يمكن أن يقوى عليه شخص إلا إذا عزف عن الدنيا وزينتها.. وأعرض عنها بقلبه.. وأمات ذكرها في نفسه.. وقد عرّف الخميني العالم في سياق هذا التحليل فقال:

"إن إجمال طموح الإنسان هو الذي يكّون عالمه، وليس عالم الطبيعة الخارجي بشمسه وقمره، إذ هما آيتان من آيات الله.. وإن عالم الإنسان بهذا المعنى الضيق المحدود هو الذي يحول دون اقتراب الإنسان من مجال القداسة والكمال".

ونحن نتفق على أن التقرب إلى الله.. والوصول إليه إن شاء.. لهو أعلى مراتب اهتمامات الإنسان.. ومن المنطقي أن يكون ذلك ما يريده الله من الإنسان.. فهو من المنطقي، لأن الجزاء في هذه الحالة نعيم مقيم، وهو ما يجب أن يسعى إليه كل إنسان.. وفي خطاب الإمام الخميني أشار سماحته الى حديث عن محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول فيه: "إذا خرج أحدكم مهاجراً إلى الله ورسوله فوافاه الأجل وقع أجره على الله".

ومن الواضح الجلي أنه لا يمكن تحقيق هذه الغاية دون الكثير من التضحيات.. الغاية هي استكمال الإنسان لمصدر المعرفة الحقيقية كلها.. وانتماء الحقيقة الموضوعية إلى ذلك النور وحده.. أصلنا هو ذلك النور..

ويبدو أن الله لن يسبغ علينا قمة حبّه ورضاه ما لم نبرهن على استعدادنا لخوض العديد من التجارب التي وضعها الله للإنسان على هذه الأرض.. وقد أثار ذلك شجب ما سمي سابقاً بـ"تزمت الخميني" وما قيل من أن عبادة الله على هذا النحو لا تخرج عن كونها إخلاصاً سقيماً لا متعة فيه موجهاً الى رب يطالب بتضحيات مستمرة.. غير أن الخميني قد عرف مشيئة الله من خلال القرآن الكريم ومن خلال مبادئ العدل التي سنّها محمد رسول الله والأئمة المطهرين.. وليس هناك ما يشير الى إمكانية وصول أي إنسان الى ذروة الوجود عن طريق أي نظام للتفاني في عبادة الله دون تضحيات مستمرة.. لستُ أدري إن كان الله حقاً قد خلق الكون أساساً لمجرد أن يتسامى فيه الإنسان، وأن يقاوم الكثير من ملذات الأرض فلا توقعه في شراكها، ولا تغريه بالانزلاق في الخطيئة.. ربما تكمن الإجابة على ذلك عند الله وحده.. أما عن نفسي.. فإن صَدَقَ حسي في هذا الأمر.. فإنني أعتقد أنه ربما كانت هناك بعض الطرق التي توصلنا الى الله (المطلق.. الذات الإلهية).. طرق توائم رغبات الإنسان ونزعاته.. طرق لا تتطلب مثل هذا النظام وذاك التحكم.. ورغم ذلك.. فهناك أمر واضح.. إن الإمام روح الله الموسوي الخميني قد أحرز هذا الهدف وحقق الغاية.. ذلك لأنه.. بالرغم من استمرار نضاله نحو كمال بلده وترسيخ صدارة الإسلام في جميع أنحاء الشرق الأوسط (والعالم بطبيعة الحال).. فقد انتزع نفسه كلّيةً من كل قلق أو اضطراب أو نزاع داخلي.. وإن عمق النظام والتقشف السائدين على حياته كلها قد ينعكس على صلابة شخصيته وحتى على قسمات وجهه.. وما من شك أن روعة الاكتمال التي غمرت كل وجوده.. لدليل على ما يتمتع به الآن من جميل الجزاء والحقيقة.. وفيما يراه الكاتب.. فإن الإمام الخميني يشرق بكل ما بشرت به قداسة الإسلام.. وإن ما تألق به كان مطلقاً في هذا الكون.. وفي لغة الإسلام، إنه منبع هذا الكون ذلك الذي أدار دفة هذه الثورة.. إنه مصدر هذا الكون ذلك الذي بعث شغف هذا الشعب وهيامه.. وهو أساس هذا الكون ذلك الذي أعاد نهضة الإسلام.. أما نحن من الغرب وقد نذم الخميني كثيراً.. وأما الكثيرون من مواطني الخميني بالمنفى وقد يصبّون لعناتهم على هذه الثورة، وقد يحاولون تدميرها.. وأما الكثيرون أمثال إبراهيم يزيد وقد يعلنون تأييدهم ويفسرون تعضيدهم لما يحدث في إيران.. بالرغم من ذلك كله، فإن الدافع الرئيس كان موجهاً بشيء مطلق، حين سرى ذلك المطلق في شخص وأحاسيس آية الله الخميني.. لقد أشارت كتاباته، وخطبه، وأحاديثه، وأداؤه الذي أشهده الآن (وكما قلت سابقاً، حتى ولو لم يستمع الفرد منا إلى ما يتضمنه حديثه الآن).. أشارت كلها الى التقاء جهادَيه الناجحين الخارجي منها والداخلي.. لقد تجسد في الإمام الخميني اندماجهما (تأسيس جمهورية إسلامية، وقهر الأعداء الخارجيين، وانتصار الإسلام في بقاع أخرى من العالم ـ ووضع لبنة التكامل الداخلي والوحدة التي حققتها النفس العليا على النفس السفلى والتي أذابت ذاتية الفرد في الذات الإلهية).. لقد كانت هذه الثورة تطبيقاً لهذا الاندماج.. وإن من يساوره شك في مستوى أحاسيس الخميني، أو من عمق فهمه وتفانيه من أجل الإسلام، ليقصر فهمه تماماً لماهية الثورة.. ولمستقبل الإسلام بالشرق الأوسط.

ولأنه لا يمكنني أن أتخلى عن اعتقادي بوجود طبيعة للكون أكثر تعاوناً.. وأقرب مساندة.. تنحو الى استكمال وإتمام ذاتها داخل عالم الإنسان الصغير (ومن ثم التبرير الضروري والنهائي للدفع الأساسي خلف الحضارة الغربية التي تؤكد زيادة تمجيد الفرد وشخصيته الفريدة).. فإنه لا يمكنني أن أصبح مسلماً.. ولا يمكنني أن أشارك في اكتساح وتعنيف القيم الغربية ودراسة أسباب وجود الفرد.. ولا يمكنني حتى أن أوصي كل البشر أن يستسلموا لصرامة الإسلام وحزمه.. ومع ذلك.. فإنني أعترف أن شخص هذا الرجل الجالس أمامي إنما هو شخص رجل يتمتع ببركات الله جميعها.. ولأن نفسه عزفت عن الكثير.. ولأنه عاش حياته ولايزال في تفانٍ مطلق لله.. فإن مكانته تعكس قدرة مجيدة.. وجمالاً.. وكرامة.. قد لا ينال أيّاً منها فردٌ حقق نفس الهدف ـ لو كان ذلك ممكناً ـ بوسائل أقل صرامة ومتطلبات.. وأنا أعرف أن الخميني يجابه كل قوى الشر في العالم.. وأن شيئاً من خلال الإسلام يحدث بما قد يغير للأمة الاتجاه الذي اتبعه الغرب ولايزال.. فالإمام الخميني هو نقطة التضاد للدنيويات الجشعة.. وهو نقطة التضاد للتساهل والتسامح في الانقياد وراء الملذات.. واستحواذ الأنانية على الفرد.. وكل هذه سمات سيطرت على الغرب.. وسواء آمن أحد منّا بالإسلام.. وسواء أيد ثورة الإمام الخميني أو سياسته.. وسواء حتى آمن بالله.. أم لا.. فقد يكون الشخص منّا جافاً غير مهذب تعوزه القدرة على الاستجابة لو لم يصب قدراً من الحب المدفق والقوة والنقاوة والرضا والتي تمثل كلها جوهر الرجل الذي جاوز الواحد والثمانين من عمره.. وقد بدأ يتحدث إلينا دون عناء، بصوت لا تشوبه غلظة.. ذي نغمة عذبة.. ويظل سكون الكون ذاته ونبضه ينتشران خلال وجوده.. وتجمعت كل التناقضات الظاهرية التي وصفتها والتي قد كمن وراءها كل الحقائق.. الخشونة.. الهدوء والصفاء.. الحزم في التعبير.. فيض الرحمة.. تماسك العزيمة المطلق.. ولكن من قدرة ذات مرونة تكاد تكون لا نهائية.. تركيز كلي، ولكن مع تجرد كامل.. ومع إدراك معنى قرب إنسان من الله أو بعده عنه.. فإنني يحزنني أن هذه الأسرار التي سردتها لا تتوفر في الواقع في جميع سياسيي العالم.. ناهيك عن الأوساط الغربية.

وما كنت مجنوناً أو مختل العقل.. وما كان المتصوفون.. والقديسون.. والحكماء.. والنبيون.. فقد كشفت التجربة الساحقة هنا عن اكتمال فائق للحياة وللإنسان وللإمام الخميني. وهي طبعاً مشيئة الله أيضاً تلك التي تمكّن شخصاً ما أن يرفض الجوانب الأكثر تطرفاً في وصف الخميني كما قدمت.. وقد ينتهي هذا الشخص إلى أنني قد استولى عليَّ شيء شرير (كما حدث للنازيين تحت حكم هتلز، أو لأتباع القسيس المبجل چيمس چونز في بلدة "چونز").

ولكن ثقتي في الحياة التي عودتني في نهاية الأمر أن تطلعني على ما هو حقيقي أو ما يطابق فكرة "پلاتو" عن الخير لتعلن أن ما شهدته اليوم كان بكل تأكيد مشهداً من أعلى درجات القداسة والحقيقة.. وحين تكلم الخميني، استمعت في بساطة لإيقاع الكلمات ونغماتها.. وليس معانيها.. وما وهنت أبداً شدة أحاسيسه التي يزخر بها قلبه.. وما توقف تأثيره على جهازي العصبي طيلة جلوسه أمامنا.. وشعرت طوال هذه الجلسة أنني تلقيت أعظم هدية يمكن أن تخلع على شخص مثلي!

وقد ينزعج العديد من القراء لسرد هذه الوقائع.. وربما يرفضون هذا الكتاب.. فقد بدا واضحاً أنني قد فقدت موضوعيتي كلها.. موضوعيتي التي كانت أكثر تماسكاً حتى لقائي بالإمام الخميني. أما بالنسبة لي.. فإن التحليل الذي بينته عن خبرتي تلك لهو أكثر مقومات هذا الكتاب موضوعية.. أما الخبرة التي اكتسبتها من وجهة نظري الشخصية البحتة عند مواجهة ما هو مطلق فهذا.. وهذا فقط.. يضفي على وجهة نظري هذه.. حقيقة موضوعيتها.

قد لا أصبح مسلماً أبداً.. قد لا أرى مطلقاً ان كل التراث الغربي وفلسفته وفنونه وقيمه غير صالح للحياة كما يراه هؤلاء المسلمون.. وحتى قد لا أجد نفسي قادراً على معاداة ما ليس إسلامياً في العالم.. ولكني سأبقى للأبد أجل آية الله الخميني كإنسان رائع مطلق الطهارة.. مجّد قيمة الإنسان ومصيره.. وأظهر عظمة الله كما بينها سبحانه من خلال التقاليد الإسلامية.

أما أهم الرسائل التي تلقفتها نفسي في إيران فكانت: آية الله الخميني يكرهه الغرب.. يسبه الغرب.. يسخر منه ويستهزئ به.. وكان وقعها يشابه كثيراً تعذيب المتزمتين اليهود لعيسى (عليه السلام) والاستهزاء بكلماته والسخرية منه.. لن تنال هذه اللعنات المستمرة من آية الله الخميني.. وستنتصر ثورته الإسلامية سواء قدر لها أن تنتشر إلى أقطار أخرى أم لا.

أما هؤلاء الذين لا يقبلون أو لا يستطيعون التسليم بتصميم القدر في إيران حيث المبايعة للإسلام النقي لا تقبل أنصاف الحلول.. فليس أمامهم إلا أن يعانوا مرارة المنفى إن كانوا من الإيرانيين أو العيش في الغرب إن كانوا ممن يناهضون ما يتعلق بأساطير الكمال.

فإذا ذكرنا موسى ومحمد والمسيح وبوذا وكنفيوشس، أيقبل أي من هؤلاء أنصاف الحلول أمام القوى الدنيوية أو الإلحاد المادي..؟! فما تضمنت الاستجابة الأسطورية إنكاراً لتسامي ذلك التركيب الديني.. بل كانت الطاعة كاملة.. وكيف يفهم هنري كيسنجر مؤلف "عظة فوق الجبل" أو مؤلف "باچافاد ـ جيتا"..؟ ربما كان كيسنجر مثالياً في تقاليده التي لا تلجأ الى الاساطير.

تقاليد المهارة السياسية المبنية على سياسة الواقع السائد؛ ذلك الابتعاد عن أساطير الكون ومجال الشؤون السياسية هو ما أدى الى إحياء الأساطير، واندلاع الثورة الاسلامية التي تعتمد على كتاب مقدس وتحمل سياسة متسامية تحت قيادة آية الله الخميني في إيران.. معلنة للعالم أن الله لايزال يرضى عن الأساطير.

لقد أنزل للإنسان ما يعرّفه بأصله.. وما تؤول إليه نهايته.. وينتهي به مصيره..

لقد كنت أحد شهود هذه الحقيقة يوم الأربعاء التاسع من فبراير عام 1982م.

 

انطباعي

لقد تألّق الإمام الخميني بالرحمة والحيوية.. بل وبالنعيم.. من تركيز قوي غمرني بطاقة مطهّرة.. وشعور.. كان لهما أعمق إحساس بالشكر.. لقد أحسست وكأني قد مُنحت الكثير من محيط الوجود.. وبدا لي التديّن واضحاً بما تدفّق خلال الإمام مما يُكنُّه هذا المحيط.. وخلال الثلاثين دقيقة التي قضاها الإمام على المنصّة، أحسست بخلايا عقلي وقلبي تفيض كلّها بحب شاف.. وتقدير.. لقد نلت كلّ ما يمكن أن يناله أحد.. ذلك لأن اللّه يدلّنا على ما يريد، ويبيّن لنا عن وجوده، وقصده الكامل.. من خلالمخلوق منّا.. وحتى حياتي كلّها.. أحسست بمعناها يتّضح.. واستيقظت معرفتي بمصيري.. وعثرت على ما بقي مهملاً منطاقتي وقدراتي.. ونهضت كرامتي.. وتصاعد تكاملي.. فقد اُصبح من الآن فصاعداً إنساناً أفضل وأعمق وأوسع اُفُقاً وأبعد نظراً.. وكان لمشاعري التي اندفعت خلالي تأثير موضوعي غريب على نفسي؛ ما كانت نزوة عاطفية.. بل كانت وكأن تكامل الإمام قادر على التقدّم نحو كلّ شيء في الكون على صفحات أنهر من حنان.. ومعان تقتحم القلوب فتطهّرها وتُمجّدها.. وما كان قصد الإمام أن يحوّلني شخصياً الى الصورة التي قد أصبح عليها يوماً.. ولكني تحوّلت فعلاً نتيجة لطهارة ذاته ووجوده.. وإنَّ الشيء السماوي المطلق الذي أحسست به ينتشر في كياني كأنه مستمداً من حقيقة الإمام الخميني.. وكان أسمى تجربة تعرّضت لها في حياتي.. وإنني أذكر حين كنت أستمع الى جوقة «هانْدل» الغنائية تمجّد المسيح وتترنم بالشكر للّه.. لقد بدت لي ذلك اليوم على درجة النقاوة والرفعة كتجربتي التي شهدتها هنا.. غير أن الموسيقى في الحالة الأولى كانت العامل المُعبّر عن أسمى العواطف التي يعرفها الإنسان.. وتمثّلت أمامي لحظاتُ الحبّ العارم والتسليم لشخص آخر.. وجال بخاطري لحظات لَمَستُ فيها اُبُوَّتي جوهر روح ابنتي.. وتذكرت لحظات انتصاري في بعض منافساتي الرياضية.. وأمعنت فكري فيما نلته من ثواب لصلاتي.. وما استقبلت من جمهور يستمع إليّ.. جمهور تضمَّن رهباناً وأتقياءً ممن يتمتعون بتقدير كبير.. ولكن هذه الخبرة التي اتّخذت هذه المرحلة من حياتي توقيتاً لها، كانت أجمل خبرة يدور بخيالي أن اكتسبها حتى عن طريق اللّه ذاته.. وذلك لما لهذه الخبرة من قدرة مطلقة، ولَهيب يُطهّر المعاني والأحاسيس..

ولما غادر الإمام الخميني المنصّة.. واصطفّ الجمهور خارجاً من الباب.. وقفت ونظري لا يغادر المكان الذي كان يجلس فيه الخميني: لقد أشرق هذا المكان بالطاقة التي كمنت الآن في قلبي.. مازال التألّق هناك.. وتحركتُ مع الموجات التي أعقبت تلك القدرة الساطعة، أكفكف أغزر دمع سكبته في حياتي.. يُطهّر كلّ كياني.. وقد يرى «ق.س.نيبول» في أساطير القدامى مجافاة لعقله ومنطقه.. وذلك لأنها لاتتمشى مع ما يراه هو معقولاً.. ولأنها لا تبارك الحديث من الحضارة الدنيوية.. وقد يستطيع أن يكتب ببراعة في حدود انحيازه.. وربما كان من ذلك أكثر براعة من كثير من الكُتّاب الملتزمين بعلم الأساطير.. ومع ذلك.. لا يستجيب قلبه لأعظم قوى الدفع براءة.. تلك القوى التي جعلت المسيح يقول: «فإنْ أنت لم تتحول.. لتصبح في براءة الأطفال.. فلن يُسمح لك بدخول مملكة الفردوس».. وعليه فقد لا يُسمح لنيبول دخول الجنة ذلك لأنه شعوره قد تبلد تجاه مفهوم الحياة الـذي ملأ كياني كلّه شـحنةً من خلال الإمام.. قد لا يقف على معنى هذا النظام بالذات.. وقد لا يُقدّر انعدام السلبية والتبلد.. وقد لا يدرك قيمة الطهارة والنقاوة والوئام الشامل الذي يسود.. أما بالنسبة لي، فقد بدا لي كلّ ذلك جليّاً بإدراك وملاحظة على مستوى طبيعي شاهدته.. أما بالنسبة لنيبول فكلّها محض خيال...!

إنّ مستوى العادة والرضا والوئام الذي يبديه أيّ إنسان يتوقّف على مدى تفاعله مع قوانين الكون.. أو هكذا كانت خبرة مؤلف هذا الكتاب.. ولكن لابدّ أن يستلهم الفرد منّا مايبعد عنه الشكوك فيما عبر عنه «والاس ستيفنز» بـ«واقع الإحسان الماهر».. ويتضح لي أن «نيبول» و«مايك والاس» العاملين بإذاعة كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية ـ وهما أوّل من سُمح لهما بمقابلة الخميني بعد التحفّظ على المحتجزين الأمريكيين ـ لم يلمسا جوهر ما أسمياه بالإحسان الماهر.. ذلك الإحسان الماهر الذي أدّت كفاية تواضعه إلى فشل العديدين من أذكياء بني الإنسان في استكشافه... أما من اختير ليصيبه هذا الإحسان، فسيبقى في غيب من خلَقَ كلّ هذا... لابدّ أن يُطلع شخص ما على ما يدلّ على اللّه.. وأعظم المعرفة حينئذ أن تتعرف على وجوده حين ترى أعلام الوجود رفرافة عالية.. أنْ ترى اللّه وأنت ترى خلق اللّه.. أن لا تنكر الموت وأنت ترى الموتى.. وأن تؤمن بالنشأة الآخرة وأنت ترى النشأة الأولى.. وكما يقول المتصوّفون: إنَّ اللّه موجود بصفة مطلقة حيثما اتجهت.. وحتى في حدود النسبية فقد تحسّ بوجوده بدرجات متفاوتة تختلف باختلاف دلالاتها حسب ما تظهر به قدرته من جماد أو أحياء أو من الطبيعة المحيطة ذاتها.. وقد ترى قدرة اللّه تتألق في أذكى صورة.. وأقوى لفظ.. وأجلى نطق.. من خلال رجل معترف به تماماً كالإمام الخميني.. وحتى القرآن ذاته.. أحد رموز أسرار اللّه.. فعديد من الناس مثلاً يقرأونه فيعتقدون أنه شعر يجارى.. وأنّ في رسالته طابع التكرار.. وأنّ تنظيمه ليس مطرداً.. ومع ذلك.. وحين يشاء اللّه.. فإنّ طاقة القرآن تنطلق إذا ما قرأه إنسان يستسلم لعزّة اللّه.. ويتذوق إيقاع اللغة العربية.. ويعيش في طبيعتها الداخلية.. وإنَّ أعظم الجزاء لتصيب من اُوحي إليه به.. إنَّ الوحيد الذي يعرف ويفهم القرآن حقّاً وصدقاً لهو من اُنزل عليه الكتاب.. وبدا لي الخميني وكأنه القرآن.. وكأني باللّه يرتّل في استمرار وتلقائية ما في قلبه من كتاب مقدّس وآيات بينات...

ومن الواضح أن من بين الخلائق من اختيروا في هذا العالم ليعوا انّ القرآن منزل من السماء.. هؤلاء فقط قادرون على معرفة اللّه.. ومن هؤلاء من اختصهم اللّه بقدر من البركات يعينهم على لمس ما يتضمن هذا المعلم الإسلامي من تكامل وقُدرة.. المعلم الإسلامي الذي أظهرته مجلة التايمز على أنه رجل عام 1979م.. (ونحن ندرك طبعاً أنّ التايمز أشادت به كما لو أشادت بهتلر وجعلته رجل العالم حين أسّس حكمه النازي قبل الحرب مباشرة)..

فإذا ما تركت انطباعي جانباً.. لواجهتني بعض المتناقضات عن هذه الثورة.. حقيقة أنَّ على هذه الأرض كثيراً من الأذكياء والمفكرين المخلصين الذين قد يعارضون الإمام الخميني وتكليفه الشرعي الإسلامي.. ولكن ذلك لا يمحو الواقع.. إنها الحقيقة انّ الإمام يتحدث بطلاقة وبلاغة يصدر بهما الأمر النهائي، على أكمل وجه، بما يظهر معارضي الإسلام ومناوئي الإمام وقد أعوزتهم البلاغة، وبُعْدُ جدالهم عن الاكتمال.. وذلك لأنهم يناهضون ما بارك فيه اللّه المطلق.. المطلق الذي خلق الكون الذي نشهد.. ولعلي أضيف في عُجالة.. المطلق الذي جعل الكراهية تسيطر على قلوب الملايين من الناس.. وألقيت نظرة على الفراغ الذي امتلأ بالخميني منذ هنيهة.. فرأيت حقيقة هذا الكون الخفية...

ولأن الشخص الذي غادر المكان نقي ومليء بتكامل الحياة.. فهو يخلّف وراءه طاقة وضوءاً في جوّ هذا المكان.. ويتضح من ذلك لماذا تلكّأت في مغادرة المكان.. ولماذا شخص بصري الى المنصّة حيث الملاءة البيضاء تغطي المقعد.. وظننت قبل رؤيتي للإمام الخميني أني سأقف على مجرى هذه الثورة.. فقد افترضت أنّ الخميني نفسه سَيُظهر نوعاً من مواطن الضعف في زاوية ما.. أو أنه سيبدي لوناً من ألوان القيد أو القصور.. غير أنه.. بالرغم من شدّة الحزم والصلابة التي ظهرت على وجهه.. وبالرغم من التزامه بعقيدة الإسلام المطلقة التزاماً لا يلين ولا يحيد.. بالرغم من ذلك كلّه كانت هناك بركة الوجود.. بركة اكتمال الحياة.. لقد نعمت بما يسمى في الشرق «دارشان».. أي القوة والطاقة المقدّستين اللتين يتألق بهما قدّيس.. أو أحد بني الإنسان المعترف بقدرهم وقيمتهم.. وفي حالتنا هذه.. يرجع ذلك الى المعاني العاصفة الصاخبة للثورة ـ ربما كانت المرة الأولى منذ عهد رسول اللّه محمد نفسه أن يُحدث حكيم أو صوفي تغييراً سياسياً عنيفاً أدّى الى ثورة.. وحرب.. وقد يكون تغييراً شاملاً في أسس السياسة الدولية.. ـ ولما كان لأوجه نشاط الخميني عواقب دولية، كان لوجود هذا الرجل قوّة وغاية إضافيتان.. فالروحاني أو القدّيس في أغلب الأحيان لا يخلُّ بالنظام الدنيوي.. وللراهب والمتصوّف أتباع.. ولكن أوجه نشاطهما تعرض عملية سياسية للتطهير والتغيير.. أما هنا.. فبالرغم من تجاوز قبضة ما كان نسبياً ومتغيراً (أي حالة التأسيس في نقاوة الوجود)، فإنَّ آية اللّه الخميني قاد ثورة مسَّت حياة كلّ فرد.. ثورة راحت تصفع سياسة الواقع في العالم.. وتصفع الأمم المتحدة.. وتصفع مركز المخابرات الأمريكية.. وتصفع مناورات موسكو.. وقد كان التحدّي الوحيد للغرب وللرأسمالية حتى هذه اللحظة ينبع من مذهب الاشتراكية ومن ثورات ونظريات الماركسية ـ اللينينية الملحدة.. أما الآن.. فإن المذهب الديني المحافظ، وهو بالفعل جوهر مخدر الشعوب، قد أيقظ الشعوب على قوّة الاساطير.. وقّوة الحقيقة الدينية. ولأن الإمام الخميني وقف حقّاً في مركز كلّ ذلك.. ولأنه الداعي لكلّ ذلك بحق.. ولأن أحاسيسه تحرّكت تكشف للناس بفعالية، وتنشر عليهم بوضوح ما يريده اللّه.. فانّ ذلك يعني أنه على قدر سام من الرضا والقدرة الروحية في دلالة كونية وأهمية فائقتين.. فمنذ لحظات.. ظهر هنا مسلم ورع قَلَبَ العالم رأسا على عقب.. مستعرضاً أنّ الدين قادر على أن يلعب دوراً حيوياً في نتائج أحداث العالم.. وحتى شَجْبُ اتجاه هذه الثورة الديني، كان موقفاً دينياً في حدّ ذاته.. فما كانت إدانة الثورة غير تعبير منا أنّ اللّه ذاته لم يكتب على نفسه أن يتدخل في شؤون العالم الهامّة.. أو أننا ننكر وجود اللّه.. اللّه وحده قادر على تبرئة هذه الثورة والدفاع عنها.. والسبيل الوحيد الى ذلك أن تصمد الأمة الإيرانية في تحدّي تنبوءات الكهنة الدنيويين والتصّدي لها.. هؤلاء الكهنة الدنيويون الذين يخشون تهديدات الاتحاد السوفياتي.. أو تساورهم أمانيهم بديمقراطي اشتراكي يخلف الخميني...

ومن الطبيعي.. إن كانت ملاحظاتي وانطباعاتي صحيحة.. أنْ تخرج الثورة الإسلامية في إيران ظافرة بأعلى معاني النصر على الإطلاق.. وستبقى إيران معقلاً لمذهب الاسلام الشيعي.. وستبقى الأمة كلّها مؤيدة للقيم والمبادئ المستمدة من نظام ديني عتيد.. متحدية بذلك استكبار أيديولوجية الإنسان الغربية.. ومتصدّية للعقيدة العلمية ومناظرات الجدل المادية على السواء...

ولقد كان هيّناً أن أقف أمام كاهن.. أو سيد أو روحاني معروف بقدرته.. فقد فعلت ذلك في عدد من المناسبات... ولكن الأمر يختلف تماماً حين أقف في حضور شخصية دينية تألّقت فيها جودة وَرع.. أو حكيم من القدامى.. وهو في الوقت نفسه قمّة التحول الشامل لشكل السياسة العالمية.. وستظل ثورة الخميني للأبد تُغَير من مناظرات الصراع وجداله.. وبينما تستمر القوى العظمى في حربها الأيديولوجية.. ستبقى دولة واحدة في غير تبعية لأيّ منها.. تتمتع بحكمها الذاتي.. ولا تأبه لعمالقة العالم.. وتخلق أبعاد جديدة للمناقشة حول العالم «الحرّ» منه و«الدكتاتوري»..

لقد أدّى العلم والتقدّم الى عدم التجاء الشعوب الى اللّه فيما يختصّ بأحداث العالم.. ولعلّ اللّه شاء أن يذكّرهم بذاته ووجوده.. فكانت هذه الانتفاضة الدينية المفاجئة والتي انبعثت عن شخص ومشاعر آية اللّه الخميني.. انتفاضةً لايمكن فهمها إلاّ من مركز العاصفة الإسلامية.. وبهدوء كامل.. أما أحاسيس الخميني التي عبّرت بوضوح وجلاء عن المطلق.. فقد انسابت في جهازه العصبي دون عقبة.. أو مقاومة..

وفي خمس دقائق عاد وفود المؤتمر الى السيارات.. وفيما عدا حراس الثورة المقيمون هنا حالياً بمنطقة مقرّ الإمام الطاهرة.. كنت الوحيد الذي بقي من الجمهور بهذه القاعة.. لقد كان جلال الموقف ذلك الذي حدا بي الى توقّفي هناك لمثل هذه المدة الطويلة.. وإلى عدم مبالاتي بكمية الحركة التي لايخطئها شخص عند الحشد المنصرف.. والى فشلي في الإنصات الى التوجيه الصادر للعودة الى السيارات.. ولمغادرة موقع القدرة والضياء.. ولكني وقفت يغمرني تقدير وإعجاب.. أو بالأحرى.. وقفت مستتراً خلف وافر من الجود والإحسان اللذين خلّفتهما بالقاعة روحانيات الإمام الخميني.. فبقيت كشخص خَفيّ حتى اللحظة التي بدت عندها نفسي وكأنها أخذت كفايتها.. أما حرّاس الثورة.. فقد لاحظوا انفعالي طيلة حديث الإمام.. ووقفوا على التأثير الذي أتعرض إليه من خلال هذه التجربة.. بينما وقفت أنا بالقاعة التي كادت تخلو.. وقفت أحملق دون حراك.. ولايزال قلبي يضطرم بنعيم لذيذ طعمه.. حلو مذاقه.. وتحدث مترجمي «محمد عباس زاده» مع حرّاس الثورة الذين بدا على مُحيّاهم نوع من الارتياح والغبطة وهم يرون شخصاً من الغربيين يجتاحه تألق وجود قائدهم الطاهر.. وكان واضحاً لي أنهم أيضاً قد فهموا وأدركوا أنّ طبيعة الإمام الخميني حقيقة مطلقة.. وأنّ اللّه قد أضفى عليها من لدنه قداسة.. فنبعت منها هذه الثورة.. ومن الواضح أنه قد يصعب على «ابراهيم يزدي» أن يستشعر هذه الحقيقة ولذلك تبدو له آيات لهذه الثورة لا يعرف لها تفسيراً.. وقد أشرقت وجوه حرّاس الثورة بالبهجة والفرح لرؤية قائدهم المحبوب.. وبمشاركة واحد من غير المسلمين لهم في هذا الحب.. لقد كانت لحظة بُرّئت فيها الثورة.. والإسلام.. وكل ما يحدث في إيران.. وعبَّروا عن رغبتهم في مقابلتي.. فاتجهت إليهم.. وأسندت ظهري الى الحائط.. وسألوني.. لا عن الإمام.. ولكن عن الثورة.. وعندها عاودني فيض من شعور نقي تدفّق في عينيَّ.. وبدأ يطهّر قلبي مرّة أخرى.. وأقول بإخلاص أنّ هذه العاطفة ملكت عليَّ كياني كلّه.. وكان عجزي عن التعبير أعظم الاستجابة بلاغةً للردّ على سؤالهم.. لقد كانت أنقى عاطفة أحسست بها منذ شققت طريقي عبر مدافن جنّة الزهراء منذ عامين تقريباً.. وقد أحسّ حرّاس الثورة بما ينتابني.. وشاركوني في صمت إجماعنا على قداسة شرعية قائدهم الإمام.. وأخيراً.. وما أن كفكفت دمعي، حتى وجدت طريق الموضوعية أمامي واضحاً.. فطفق لساني معبراً عن أفكاري.. يروي عن خبرتي التي اكتسبتها في اليوم ذاته.. ومع أن نهر المشاعر مازال ينساب في قلبي، فقد تمكنت من التعبير عن خبرتي هذا اليوم.. كيف أزاحت ليَ الستار عن منابع إلهام هذه الثورة.. إن لبّ هذه الثورة قد صار في كياني.. ومع أنه لم يكن مقدراً لي أن أولد في إيران، فأصبح مسلما يحارب من أجل الثورة.. فقد انضممت إليها بكلّ وجداني.. فما علمت عنها غير أصلها الطاهر.. فاستحقت مني على الأقّل صلاتي المتواضعة..

ومن المعروف انّ ثورات أخرى قامت.. ثورات ليست ذات طابع إسلامي.. ولا تصل بحال الى حجم هذه الثورة.. ربما يعبر اللّه لنا عن مشيئته بدرجات متفاوتة في بقاع مختلفة من العالم.. فإذا كنا نستطيع أن نقرأ شيئاً عن عاطفة فرد من خلال خطّ يده، فقد لا يكون الإسلام إذن النحو الوحيد الذي دلّ به اللّه لنا على وجوده من خلال الإنسان.. أما القضية المعقدة فكانت أن نتبين أنه ربما لم يرد اللّه أن يؤيّد تعميم هذه الثورة في الكون كلّه.. ولكني كنت على يقين أنّي أحسّ قدسية هذه الثورة.. وقدسية الإسلام.. وقدسية الإمام الخميني.. مع أنّ إحساسي لم يتغير عن احتمال مصير آخر يكمن في عالم الغيب لعالمنا الغربي.. ولازالت هناك تحدّيات لهؤلاء المحاربين الإيرانيين.. إن جهادهم الداخلي لم ينته.. ولذلك فقد تكون رؤيتهم عُرضَةً لشيء من الزيغ.. فهم لايزالون.. حتى وهم يردّدون كلمات إمامهم.. يفرطون كثيراً في تبسيط «قوى الحق» التي تنشد شيئاً من الوضوح في عالمنا.. وبالذات في المجال القومي.. وقد كانوا ـ معظمهم على الأقل ـ تنقصهم سعة الصدر بالرحمة والشفقة والحكمة ليدركوا أنّ شخصاً ما قد يظلّ مخلصاً ومتطوراً بكفاية وهو في الوقت ذاته يناهض هذه الثورة.. فالثورة قامت للبعض.. قامت من أجل إيران.. وربما قامت من أجل الشرق الأوسط كلّه.. ولا يعني ذلك أبداً أن من يعارض الثورة.. أو يقاوم نشر الإسلام في العالم.. يكن بالضرورة شريراً أو شيطاناً.. أما عن نفسي.. فإني حسبما أعتقد واُوقن به فإن اللّه ذاته قد لا يشاء إسباغ تأييده المطلق لمحاولة تهدف الى جعل الخلق كلّه مسلماً... غير أن شيئاً واحداً كان يقيناً.. لقد كان من خلال الإسلام، وبالإسلام وحده، أنّ اللّه أحيا قوة إحدى رسالاته.. يُقَوّض الافتراضات الدنيوية النامية في الغرب والشرق الداعية الى إقصاء مفهوم قدرة اللّه عن مسرح الأحداث في العالم.. تلك كانت الطاقة الكبرى لشخص حساس يشاهـد هذه الثورة: ىـراها معجزة مطهّرة.. معجزة لا غنى عنها.. وقوة حاسمة لتجديد روحانيات البشرية...

وقد يظهر أنّ الثورة الاسلامية في ايران لم تكن نموذجاً للمسببات والنتائج التي تتعرض لها السياسة الدولية الحديثة حيث لا حساب مطلقاً لإله.. وحيث لا صلة للّه بتحليل الأحداث.. أما من خلال الإمام وهذه الثورة، فإن الإسلام أوضح وأكثر التحديات صلابة لتلك المفاهيم.. وما كان حزمه القوي.. ورفضه اتّباع المخادعة السياسية التي تنادي بها قواعد «ماكيافيللي» غير إشارة هامّة الى خزائن المعاني والحق.. تلك الخزائن التي تاه عنها إدراك الإنسان منذ زمن.. إنّ الثورة الإسلامية في إيران لأكفأ وأقوى وسيلة لهذا الاعتراف.. وهذه المواجهة.. وهذه الصحوة.. وحتى نهضة الديانة المحافظة في أمريكا كانت في حدّ ذاتها تميل الى الكونية في ذلك الوقت مع أننا لم نستشعر أن تعبير المسيحية المتمشي مع تعاليم الإنجيل رئيسيّ بدرجة كافية أو تغلب عليه سمةُ الأساطير حتى يمكننا مقارنته مع ما يحدث في إيران.. وأما الفارق الشاسع بين قيادتي «جيري فولويل» و«الإمام الخميني» لَيُعبّر عن مشيئة اللّه في هذا الفارق.. وفي مدلوله..

وكان هامّاً للعديدين من الغربيين أن يتبيّنوا أنهم لايقبلون هذه الثورة كنموذج للمجتمع الأوروبي أو مجتمع أمريكا الشمالية.. إذ هم يعتقدون أن الفرد في الغرب قد صار خارقاً في تقدّمه، وعلمه بدقائق الإبداع والإختراع التي لا تنفذ.. في خبرة غير موضوعية.. وتعبير فردي.. ربما كان بإمكان الإسلام أيام رسول اللّه محمد أن ينتشر في العالم كله.. أما الآن.. فإنّ الأمور قد جاوزت المدى في إبعاد البشرية عن علم الأساطير.. كان لابدّ من استخلاص حقيقة ما من إقصاء الأساطير.. ومن هذا الاكتفاء الذاتي.. ومن التخلص من غرور النفس.. ومهما كانت هذه الحقيقة.. فهي لم تجد لها نظاماً متكاملاً للمناقشة يمكن به مناظرة هذه الثورة... وبمعنيً ربما كان ظاهره بدائياً غير أنَّ في باطنه الأساس، فإن هذه الثورة تحت القيادة الرشيدة لآية اللّه روح اللّه الخميني، أنقى نهضة للروح في عالمنا اليوم.. وإن المعايير التي استعملت لتقنين هذه الثورة تختلف عن تلك التي يمكن تطبيقها لتقنين غيرها من الثورات.. كثورة نيكاراجوا مثلاً.. أو ثورة كوبا.. ومع ذلك، فنحن بحاجة إلى إعلان أن البعض قد توصّل الى وجود حقيقة غير مادّية في أساس الوجود.. وأن الإسلام وهذه الثورة هما الوسيلة لإثبات هذه الحقيقة.. وأن هؤلاء الذين ولدوا داخل الحدود التي يحتمل أن يسيطر عليها تأثير هذه الحقيقة، هم جميعاً أولئك المختارون للتمسك والالتزام بقوتها الاسطورية..

وبالطبع لم أردّد شيئاً من هذا التحليل والانطباع على مسامع حرّاس الثورة.. فإنْ أنا أعلنت أنَّ هناك حقائق عديدة، وأنَّ هناك طرقاً أخرى الى اللّه إلى جانب طريق الإسلام، وأنّ الإسلام وإنْ كان حقيقة كونية إلا أنه ليس حقيقة لتعُمّ الكون كلّه بسيطرتها الروحية، إني إن فعلت ذلك، ما أصبت السبيل الأنسب والمفيد ليقرّبني ممن يجب عليهم أن يروا الإسلام على أنه الحقيقة الوحيدة.. فالمسلم ـ وخاصة المسلم الإيراني ـ يرى أن توجيه أي قدر من طاقته وتفكيره للنظر في أنّ للحقيقة وجهين.. وأن دينه أمر نسبي لأمور أخرى.. وأنه ينبغي عليه أن يتبع أسلوباً معتدلاً في نشر حقيقة الإسلام.. يرى في ذلك كلّه إخماداً للقوة اللازمة لتحفيزه.. وبالتالي للطاقة اللازمة لتحقيق الهدف الذي من أجله ظهر الإسلام للعالم.. هذا الهدف هو معرفة الاستسلام لمن خلق هذا الكون.. هذا الهدف هو الحركة، وتطور النفس، لتصيب قدراً أوفر من الوئام مع الكون.. هذا الهدف هو أعلى معاني الإنجاز.. وهذا ما يتضمنه الآن الإمام نفسه؛ أبدية الفرد من خلال امتداد النفس لتندمج في المطلق...

وليتمكن شخص من التقدّم بنجاح نحو هذا الهدف.. فإنه يجب عليه ألا يساوره في الفعالية الفائقة لنظام العبادة والتطهر والتعاليم التي يمليها عليه دينه.. حتى اللّه.. فقد شاء أن تكون بهذه الطريقة.. فما أن نال شخص بركة من اللّه، فإنه بصدق حَدْسه يحس بوجوب وجود أكثر من طريق تؤدّي كلّها الى ما هو المطلق.. وأن عددها يساوي عدد الطرق التي أوضح اللّه بها لنا عن ذاته عند اختياره لأنبيائه.. فكلّ دين ينفرج عند نقطة معينة ويسلك طريقاً غير الذي سلكته الأديان الأخرى. ولم يشذّ الإسلام عن ذلك أبداً.. بَيْدَ أنّها كانت لمدلول معين حين اختار اللّه هذا الدين ليُذكّر كلّ إنسان من خلاله بأسمى معنيً لبُعد الحياة الروحي.. وقد قامت الثورة الإسلامية نتيجة لتفوق وسمو الإمام الخميني.. فليس هناك قائد معروف آخر لديانة أخرى مشهورة ـ حتى البابا ـ ليس هناك من يداني الإمام الخميني في شدّة وقدر القداسة التي يتألّق بها...

وقد سُجل ما أدليت به لحرّاس الثورة.. وإني أعتبر أن عباراتي كانت أكثر إسهاباً وإرضاءً من أي ملاحظات ارتجلتها بعد حضوري مشهداً بلغ تألّق جماله الذروة.. فقد يشاهد فرد رقصة بحيرة البجع لـ«رودلف نيرييف».. وقد يشاهد فريقاً رائع التدريب في كرة السلة يلعب لشمال «كارولينا» ويفوز بالبطولة.. وقد يقع الشخص في حب أجمل امرأة أو أكمل رجل.. وقد يتسلق جبال «افيريست» فيصل إلى قمتها.. وقد يستمع لموسيقى «باخ» من كنيسة «وسْتيمنسْتَر».. ولكن ما من تجربة منها تساوي شيئاً مما حدث لي اليوم.. فإنْ تَفتَّح قلبك بحقّ لتستقبل بركات آية اللّه الخميني، فإنَّ ذلك يعني أنك رأيت انعكاس اللّه ذاته، إذ هو يتمثل فقط من خلال الجهاز العصبي لإنسان.. لقد حصلت على هذه البركة.. وجاشت في عقلي كلّ المعاني المترتبة على ذلك.. لقد وضحت حياتي.. ليس بتشكيل عن طريق الإسلام.. ولا حتى عن قصد من الإمام نفسه.. ولكن اللّه ذاته يعلّمني مالم أكن أعلم.. وذلك من خلال شيء مطلق ينساب دون انقطاع في أحاسيس وشخصية الإمام الخميني.. أما هذه التوجيهات فقد نُقشت داخل قلبي.. وخرجت من لقائي بالإمام الخميني أكثر ذاتية وأوفرَ تكامل مما كنت عليه قبل حضوري إلى إيران.. وإنَّ حقيقة الإمام الخميني ومكانة مشاعره.. وعظمة تكامله الشخصي.. ذهبت كلّها حتى الى ما هو أبعد من الإسلام.. إنها تؤثر في الخلق كلّه على مستوى الجزئيات الفعلية للحياة ذاتها.. والخلق يبرأون مما أصابهم من علل.. وبالذات أولئك المحظوظين الذين تفتحت قلوبهم فعرفوا حقيقته.. وقد أعدّت لي يومي هنا بطريقة أو بأخرى كلّ تجاربي السابقة.. وبالأخص.. ارتباطي بأوجه الحياة الروحية والبديهية.. لو كان «كارل جنج» اليوم حيّاً لكان بىـن القلة البـارزين من المثقّفـين الغربيين الذين يُحيُّون آية اللّه الخميني ويعترفون بوظيفته وتكامله.. فقد عرف «جنج» المرض الذي ألَمَّ بروح الإنسان حين بدأ الإنسان العصري بعزل نفسه عن أساطير الماضي.. ربما رأى «جنج» هذه الثورة على أنها محاولة لضمان شكل من التوازن بعد معاناة الاضطراب.. وذلك برجوع روح الإنسان الى ما هو معقول نتيجة لتطهير اللّه لها من هذا الكون..

فلما أتممت تعليقاتي.. كما اُلهمت إيّاها.. عرض عليّ حرّاس الثورة أن يسمحوا لي بمقابلة الإمام شخصياً.. وقد يجد القاريء الآن أن ذلك لا يتمشّى مع المنطق.. فبعد أن مَلَكَ عليّ الإمام حواسي.. وبعد أن نعمت بالفعل بمحيط الحب والقدرة.. فقد تبدو رؤيتي له شخصياً شيئاً يزيد عن الحاجة.. لقد شعرت وكأني قد اُسبغ عليَّ كلّ ما أراد اللّه لي أن أحصل عليه.. أما أن اُقابل الإمام شخصياً، فكأني أجعل الإمام يركز على شخصي.. وأنا أعلم أن وقته ثمين جدّاً لمثل ذلك.. وأنا أعلم أيضاً أنّ كلّ استفساراتي عن الثورة ودوره فيها قد أجيبت كلها بكفاية.. ومن ثمّ بدا غير الطبيعي أن أسعى الى لقاء شخصي مع الإمام.. ومع ذلك فقد قُدّم العرض بشغف لم أخطئه.. وتبينت أنه بالرغم من احتمال كونها مجرّد شكليات.. وبالرغم من أني لم اُفكر في فرض نفسي على الإمام.. فإنّ مقابلتي له شخصياً قد تُعزز من تصديق الغرب لي فيما أكتبه عن هذا الموضوع.. وقد تسمح لي كذلك بأن اُضيف أي جديد عن الإمام حين يكون في لقاء شخصي مع أحد.. وعلى ذلك وافقت على اللقاء المبدئي الذي سعى اليه بشغف مرشدي ومترجمي «محمد عباس زاده».

واُرشدنا خلال بوابة الى ممر يؤدي الى منزل الإمام.. وانتظرنا هناك لمدة ثلاثين دقيقة تقريباً.. ثم دعينا للانتظار بحجرة داخل المنزل نفسه.. فخلعنا أحذيتنا وطلب منّا الجلوس حيث قُدّم لنا شيء من الشاي (وفي ايران لا ينقطع تقديم الشاي)، وحيث جلس عدد من رجال الدين للمثول أيضاً بين يدي الإمام.. والآن.. ومرة أخرى ينتعش الجو.. وينبض بالتفتح والنقاوة.. فإذا ما قارناه بجو الفندق.. فكأننا نتنفس بالفندق من خلال ماسورة عادم سيارة.. أما هناك فكأننا نتنسم الهواء على جبل من جبال الهملايا.. بهذا القدر الكبير كان الفارق الذي تحدثه أحاسيس الخميني.. وبهذا القدر أيضاً تؤثر المهابة بشحناتها المحلية المستمرة على البيئة المحيطة.. وكان هناك واحد من رجال الدين، وقد بدا في غير حساسية وتهذيب.. فقد استمر يشهق الدخان الى رئتيه، حتى في منزل الإمام!.. وفيما يبدو انّ هناك تصريحاً، حتى في منزل الإمام، أن يستمر الفرد على ما أدمن عليه.. ولكن.. مع ان للسيجارة تأثيراً في تلويث الجو.. إلا أن الدخان الناتج لم يكن كافياً لتبديد حقيقة المشاعر التي يزخر بها هذا المنزل.. وأغمضت عيني فتنسمت في الهواء هدوءاً وصفاءً.. وبعد حوالي خمس عشرة دقيقة.. اُخطرنا في عجالة أن الإمام قد أحدث تغييراً مفاجئاً في جدول أعماله.. وأنه سيعود الى القاعة ليتحدث الى جمهور جديد من المخلصين.. طلاب من المدارس الثانوية وعدد من فقراء جنوب طهران.. ويعني ذلك انّ الإمام لن يتمكن من استقبالنا بحجرته الخاصة.. وأنني ومترجمي قد نستطيع لقاءه وهو في طريقه الى القاعة.. وكان بالحجرة عدد من رجال الدين لايكادون يصدّقون كيف سُمح لمحرر غربي مثلي.. وغير مسلم.. بالدخول الى مسكن الإمام.. فمعظم المحررين الغربيين لم يسمح لهم حتى بدخول ايران خلال الأربعة عشر شهراً الماضية.. أما أن أكون في انتظار مقابلة شخصية مع الإمام.. فذلك قد تجاوز حدود المعقول.. فشعرت لتَوّي أن موقفي كان معجزاً بحقّ...

واندفعنا الى الممر الذي يصل المنزل بالقاعة.. وعلمنا أن الإمام في طريقه.. وخرج الخميني من باب منزله.. ومرّة أخرى هبّت رياح الطاقة الإلهية واندلعت قوة الحب والمهابة التي سمت الى مستوى الكونية.. ودنا مني.. فأخبره محمد عن اسمي ومن أين جئت.. وامتدت يده لتصافحني.. فارتعشت كلتا يداي تستقبلانه.. وأمسكت يده برهة ليست بالقصيرة.. وصعقت عيناي بقدرته الراسخة.. لقد كانت كما تخيلتها.. وعُقد لساني خلال العشر ثوان أو الخمس عشرة ثانية التي غمرني في سكونها مرة أخرى محيط غير محدود زاخر بالأهداف الرائعة.. إنه هو كما كان بالقاعة.. غير أن الكون كان في هذه المرة أقرب.. وكانت كما لو لمحت وجه «يهوا» في لحظة تمثل فيها «يهوا» في شكل إنسان.. ما تمنّيت ولا قصدت أن اُخلَّ بتكامل لحظة وجودي معه.. وبدت ذاتيتي تتشكل في هدوء بال وقرارة عين.. تنتشر في وئام، دون حاجة الى مزيد.. لقد غمرني قبل أن يلمس يدي، أو بالأحرى، حين تشبّثت يداي بيده.. لقد ذُكّرت بالاستكمال الأبدي كحقيقة له حين كان أقرب ما يكون مني.. ويبدو أنّ رحلتي لإيران قد أكملت نفسها.. ربما عدت الى بلدي بعد أن غادر الإمام القاعة.. أما الآن.. والأمر كذلك.. أني قد رأيتـه عن قرب، فإن الإجـابات تترى في إيحـاء مطرد.. حـقّاً.. ما استعرض الإمام شخصه أبداً.. وحتى أحباؤه جميعهم وأولئك الذين كانوا معه لم ولن يتوقّعوا منه أن يستعرض شخصه.. لقد كان كونيّاً متجرّداً.. ولذلك كان فيّاضاً برحمة لا حدّ لها، وإخلاص وتفان لكلّ هؤلاء الذين اهتدوا فاتبعوا طريق الإسلام.. وحتى خلال المحاضرة.. لاحظت «أحمد» إبن الإمام.. يتّجه ببصره نحو والده ـ وكان يجلس على يمين الخميني ـ ويحملق في أبيه.. وهو يحسّ ويعلم أنه ما عاد ذاك الخميني الذي ألفَه من قبل أباً له.. وإنما صار الخميني المعلم والقائد.. لقد أصبح الخميني منبع الحكمة النابضة بالحياة لقد تجسَّم في الخميني مضمون الإسلام.. وظلّ أحمد يتفرس في وجه أبيه علّه يتبين تأكيد الفكرة القائلة بأنّ كلّ ما يراه الخميني مناسباً يسوده الترابط والتوافق.. وقد اكتسب أحمد من توازن أبيه المتعادل جمال هدوئه وصفائه.. وإن قوى الذكاء الدافعة التي سجلها أحمد من مشاهدته لأبيه عن قرب قد أطلعته على تحركات الكون الصحيحة حين تتجسَّم داخل واحد من بني الإنسان.. كان كالتلميذ الروحي يتطلّع الى سيده ومعلمه.. لقد كان أقرب تلاميذ الإمام إليه.. لقد تسامى والده فوق مكانة الوالد.. لقد أصبح والد للأمة الإيرانية جمعاء وللمسلمين المخلصين في جميع بقاع الأرض.. لقد كانت ـ إذن ـ حقيقة الخميني المجردة تلك التي أسبغت عليه تعبير الإخلاص الفائق للّه.. وللإسلام...

وأعود إلى مرافقي «محمد» يُقَبّل في حرارة يد الإمام الذي اتّجه اليه مادّاً يده اليسرى.. وهي رغم تقدم العمر كانت يداً جميلة، احتفظت بحيويتها، وكانت دون شكّ تغلفها لثمات شفاه الآلاف من الإيرانيين.. إنها بركة من نوع خاص ينالها المسلم الذي تتاح له فرصة تقبىـل تلك اليد.. وقـد قال لي «محمد» بشغف فيما بعد.. وهـو يبسط يده لـي: «لن تمسّ هذه اليد الاّ ما هو طاهر، ولن تمتد إلاّ للخير.. ما حييت».. وبعد أن عدت الى الفندق علت الدهشة وجوه العديدين من المسلمين حين علموا أنني شاهدت الإمام شخصياً.. وودّ الجميع أن يروا يدي.. فيحسدونني.. ويؤكدون لي أن يدي تلك.. قد نالت قدراً من القداسة!

ونزلنا خلال ممرات أدّت الى شارع حيث انتقلنا الى الفندق في سىـارة أجـرة.. وأحسست بالـزمان والمكان يتآمران عليّ فيقللان تدريجياً من شأن تجربتي.. ولكن سرعان ما أخذت بزمام أمري وانتباهي ووقفت على كلّ ما في تجربتي من معان وقَدْر ـ على الأقل بالقدر الذي عبرت به التجربة عن نفسها الآن في ظروفي الحاضرة ـ وكم شعرت أن توتراً هائلاً ينزاح عني.. ذلك التوتر الذي سبَّبه ما بدا على سطح الثورة مما قد يُرى على أنه إفراط وتناقضات.. وأيقنت أنني استكشفت وخبرت سرّ الثورة الكبير.. وعلمت أنّي سأحاول نقل هذا السر بطريقة أو بأخرى من كتابي عن إيران.. أما السر.. فقد أفصحت عنه.. إنها الحقيقة عن هذه الثورة.. وأنا أتـوقع أن كثيراً من الناس سيفترضون أنني بالغت فيما رويت وأحسست أو أنني قد ضُلّل بي.. وقد يشعر آخرون أنني خُنت هدف الحرية والديمقراطية وغدرت به فيما كتبت (ولي أصدقاء كانت لهم صلات ببعض من أعدموا أو عذبوا أو نزعت منهم الثقة، فصاروا الآن من أصلب معارضي السلطة الحاكمة في الوقت الحاضر).. ولكني أصرّ على أنّ ما كتبت هو الحقيقة التي يجب على كلّ فرد أن يأخذها في اعتباره على أقلّ تقدير.. وقد يرفض ذلك.. غير أن الحقّ يجب أن يقال.. وقد قلته هنا.. وإنني لأسارع بالاعتراف انّ جميع تجاربي اللاحقة في إيران كانت تحمل في طياتها ما يطابق ما انطبع في مخيلتي عن تكامل قائد الثورة.. وعلى ذلك.. فقد وجدت معياراً لقياس وتحديد معنى الأحداث المتعددة التي تعرضت لها.. وأثناء مقابلتي مع الإمام.. تمنّيت مخلصاً لو أن مشاهير السياسة أدركوا أهمية زيارتهم للإمام الخميني.. وما زلت أتمنى أن يحدث ذلك.. فالإمام الخميني أعظم القادة السياسيين شخصيةً في القرن العشرين.. وإنه لأكثر من ذلك بكثير.. إنه أحد أفراد قليلين جدّاً ممن التقيت بهم.. ثم تركوني شخصاً غير الذي كنت من قبل...

إنه هناك في ايران يدعم إحدى رسالات اللّه الكريمة:

الإسلام.. والحقيقة الرائعة في الاستسلام لعزة اللّه...

تمّ بعون اللّه

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

الإمام قدوة التنظيم الحياتي

السيره الذاتيه للامام الخميني

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)