• عدد المراجعات :
  • 1802
  • 11/26/2007
  • تاريخ :

البعد الاجتماعي للحج في نظر الإمام الخميني (قدس سره)

الحج

يتمتّع الإمام الخميني (قدس سره) بفكر وعبقرية ذات طابع تجديدي مستوحى من مبادئ الإسلام الأصيلة. فهو (رحمه الله) عندما ينظر لمسألة الحج في بعده الاجتماعي ينطلق من هذا المعين المتمثّل بأحكام السماء الخالدة، ومن الصعب - بهذه العجالة - الإحاطة بفكر الإمام العملاق.

لقد أصبح الإمام (قدس سره) رمزاً إنسانياً عالمياً ، لأنه كرّس كلّ حياته وعمره الشريف -الذي ليس ملكاً له- من أجل تغيير الإنسان وتزكيته من كلّ أشكال العبوديات وبنائه بناءً إسلامياً جديدًا.

موقع النظرية الاجتماعية في الحياة الإنسانية:

إنّ الجوانب الرئيسية لأسلوب وطريقة تعامل النظرية الاجتماعية مع مختلف جوانب الحياة البشرية تتمثّل بالمجتمع الإنساني والسلوك الاجتماعي. والجدير بالذكر أنّ النظرية الاجتماعية هي ما يطرحه الدين على نطاق النظرية الفقهية الدينية.

وتتمتّع النظرية الاجتماعية بخاصية وضع المؤشرات الدقيقة للموازين الاجتماعية في الحكم والسياسة، والقضاء والتعليم، والعائلة، والقانون، والدفاع، والصحة، والتجارة والزراعة، والصناعة... لذا فالمسؤولية الملقاة على عاتق النظرية الاجتماعية كبيرة جدّاً، ذلك أنّ جميع العناوين السابقة ستدخل تحت مظلّة عنوان كلّي هو دراسة السلوك الاجتماعي والمجتمع الإنساني. ومن هنا يتضح ان النظرية الاجتماعية في ظل النظام الإسلامي، تستلهم أفكارها من مبادئ الدين وأحكامه الشرعية ونظامه الأخلاقي.

الإسلام والواقع الاجتماعي للحج:

إنّ الإسلام كنظام عالمي خالد قرّر أحكاماً وقوانين ثابتة لجميع نواحي الحياة الإنسانية. منها ماله علاقة بالخالق البارئ، ومنها ما يرتبط ببني النوع المماثلين في الخلق. ومنها ما يرتبط بأتباع الدين الواحد من سائر المسلمين.

والإسلام يربّي المسلمين تربية إلهيّة، ويوجّههم نحو صراط العزيز الحكيم من خلال تذكيرهم وإرشادهم إلى صالح الأعمال، قال تعالى: ( ... قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ / يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )، (المائدة/15/16).

فالقرآن المبيّن للأحكام والوظائف دعوته عامة لكلّ الأفراد والجماعات، كما أنّ النبيّ محمّداً (ص) رسول الله إلى الناس جميعاً. ومن هنا، فالإسلام يدعو الناس جميعاً وبصوت واحد. والمسلمون المعتقدون بالإسلام تتوحّد أهدافهم الإسلامية باتجاه واحد وبخطى متراصّة.وإن كلّ ما رآه الإسلام هدفاً قيّماً مقدّساً يراه جميع المسلمين كذلك. هذا مع العلم بأنّ هذه الأحكام والقوانين كالحج مثلاً تبيّن فيما يتعلّق بالمسلمين أهدافاً يهتم بها الإسلام ويركّز عليها.وأن العزّة والانتصار في حياة المسلمين يترتّبان على مدى الالتزام بهذه الأحكام والقوانين وتحكيمها في مختلف شؤون الحياة اليومية.

وقد أكّد الإمام الراحل (قدس سره) على «أنّ جميع الانتصارات والهزائم تنطلق من الإنسان، والإنسان أساس النصر وأساس الفشل، وما يحمله الإنسان من أفكار وتصوّرات هو أساس كلّ شيء».

فالذي يحثّ عليه الإمام (رحمه الله) بشكل متواصل لبلوغ الهدف هو مسألة التغيير الذاتي والنفسي للفرد والمجتمع على حدٍّ سواء انطلاقاً من مبادئ الإسلام ومفاهيمه الكلية الشاملة (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، (الرعد/11).

الإمام و المسيرة التاريخية:

إنّ حركة التاريخ في فكر الإمام (قدس سره)، ترتكز على مبدإ وحدة للأمة، وأيّ أمر من شأنه إيجاد العقبات، أو تفريق للأمة يكون مرفوضاً إسلامياً. فالإمام (رحمه الله) شخّص القاسم المشترك والأرضية المشتركة، التي يجب أن تقف عليها للأمة في مواجهة قوى الاستكبار العالمي. فهو (قدس سره) ينظر إلى الحج باعتباره الساحة التي يمكن فيها تعرية النفاق في للأمة. وفيما يتعلّق بالانقسامات بين المسلمين، فقد استطاعت الطائفية أن تَنْخَرَ جسم عالمنا الإسلامي طيلة قرون عديدة.

وكان نتيجة هذه الظاهرة والانقسام الكبير بين السنّة والشيعة، أن تسود العالم الإسلامي حالة الضعف. وقد كان ميسوراً على الإمام الاستفادة من هذا الوضع، إلاّ أنه بشخصيّته الإسلامية الفذّة، بقي فوق كلّ هذه الانقسامات، بل قام بوظيفته الإسلامية بتوحيد صفوف جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم، من خلال نظرته الإسلامية الشاملة.

فالإمام الراحل (قدس سره) لا يمكن تحجيمه بأي شكل من الأشكال، أو تحديده ضمن مدرسة فكرية إسلامية. كما أنّ الحجّ بالنسبة للإمام يمثِّل أقصى درجات التعبير عن قوّة الإسلام.

الحجّ في الفكر الاجتماعي الشمولي للإمام (قدس سره):

قال الله تعالى: ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)، (الحج/27).

تشغل أهمية البُعد الاجتماعي للحج حيّزاً كبيراً في فكر الإمام الخميني (رحمه الله) لما له من دور تغييري على الصعيد العالمي. ذلك أنّ المسلم في الحج يدرك بشكل واضح وجليّ أنه يعيش في جسم للأمة، وأنّه جزءٌ لا يتجزّأ من هذه الأمة الكبيرة. كما يشعر بأنّ كيانه مرتبط بكيانها، وأن المسلمين جميعاً ذمّتهم واحدة يسعى بها أدناهم.

فهذا الأذان والإعلان العام للحج من قبل خالق الكون والرسول الأكرم (ص)، ثم التجاوب البشري من مختلف بقاع الأرض يمثِّل التواجد الواقعي للأمة الإسلامية. ومن هنا جاء نداء الإمام (رحمه الله) «يا مسلمي العالم، يا مستضعفي الأرض هيّا إلى النظام الذي جاء من قِبل الله تعالى لنموّكم وتكاملكم ولسعادتكم في الدنيا والآخرة، ولإزالة الظلم وحقن الدماء ونصرة المظلومين في العالم...».

فالحج في رؤية الإمام العميقة تترتّب عليه الأهداف الإسلامية الكبرى لإزالة الظلم ونصرة الحق. لذا يتّضح أنّ الحجّ حركة إلى الله من خلال الاندكاك والذوبان مع الجماعة الإسلامية ومن مختلف الأجناس والألوان والأصقاع. فالوسط الاجتماعي يعتبر المحكّ الذي من خلاله يستطيع الفرد المسلم تهذيب «الأنا» وتجاوز الوقوع في دائرة الإغراء، أو الإثارة. ذلك أنّ المسلم إسلام مجسّد لتحقيق أهدافه وطموحاته وتجسيدها في حيّز الواقع. علماً بأنّ هذه الأهداف تؤثّر في إيجاد علاقة اجتماعية بين كلّ المسلمين، فإذا كان كل مسلم بصدد تحقيق هذه الأهداف، فهو يكون بصدد بناء مجتمع عالمي صالح على ما يدعو إليه إسلامه. لقد أكّد الإمام (رحمه الله) على التحرّك الجماهيري الإسلامي في مختلف بقاع العالم الإسلامي، وبقي وفياً لشعاراته الواضحة حتى انتهاء حياته، وأوصى بها بعد وفاته.وكم كان يتألّم (رحمه الله) حينما يرى هذا التخاذل والتراجع المستمر، فهو (رحمه الله) كان يحذِّر المسلمين من القعود والوقوف مكتوفي الأيدي إزاء ما يجري حولهم.

لقد سعى الإمام (قدس سره) بكل ما أُوتي من قوّة من أجل ربط الإسلام بواقع المسلمين الاجتماعي. كما وقف بحزم وشدّة بوجه الذين شوّهوا صورة الإسلام الواقعية، حيث قال بشأنهم: «أَبعَدوا الإسلام عن واقع الحياة الاجتماعية... فقطعوا رأسه وسلّموا لنا بقيّته، وجرّونا إلى الوضع الذي نعيشه اليوم، وما دام المسلمون على هذه الحالة فلن يستعيدوا مجدهم».

وعلى صعيد آخر نجد الإمام (رحمه الله) يُلفت أنظار المسلمين إلى مسألة إثارة الشكوك حول الإسلام وعلمائه، وأن الدين لا علاقة له بالأوضاع الاجتماعية من خلال ما أثارته المؤسسات الاستعمارية حيث يقول (قدس سره): «ووسوست لهم في صدور الناس أنّ علماء الدين ليس لهم أن يتدخّلوا في الشؤون الاجتماعية...، ليس من حق الفقهاء أن يعملوا لتقرير مصير للأمة.. ومن المؤسف جدّاً أنّ بعضنا صدّق بتلك الأباطيل. وقد تحقّق بهذا التصديق أكبر أمل كانت تحلم به نفوس المستعمرين».

ومن هنا يمكن القول: إنّ الإمام (رحمه الله) من خلال وصاياه وتوجيهاته في مختلف المناسبات، يحاول إماطة اللثام عن مكر الماكرين، وتوعية للأمة على أهمية الأهداف الاجتماعية في تبليغ الرسالة الإسلامية. فهو (قدس سره) يشير مراراً وتكراراً إلى أنّ «كثيراً من الأحكام العبادية تصدر عنها معطيات اجتماعية...». فصلاة الجماعة مثلاً واجتماع الحج والجُمعة تؤدي - بالإضافة إلى ما بها من آثار خلقية وعاطفية - إلى توحيد كلمة المسلمين باتجاه الأهداف المطلوبة.

كما أشار (رحمه الله) موضّحاً آثار الحج الاجتماعية قائلاً: «استحدث الإسلام هذه العواطف، وندب الناس إليها، وألزمهم ببعضها حتى تعمّ المعرفة الدينية وتعمّ العواطف الأخوية، والتعارف بين الناس وتنضج الأفكار وتنمو وتتلاقح، وتبحث المشاكل الاجتماعية... وحلولها».

لقد استوحى الإمام (قدس سره) هذه المعطيات من القرآن وسنّة الرسول الأكرم (ص) في تكريس الوظيفة الاجتماعية للحج الإسلامي، وتعرية كلّ المحاولات الجاهلية لتشويه هذه الشعيرة، وإبعادها عن أهدافها الحقيقية. فعندما نمعن النظر في مسألة الطواف والسعي وغير ذلك من شعائر الحج الإبراهيمي نلاحظ أنّ هناك انصهاراً وذوباناً ضمن كتلة بشرية واحدة تسودها القوة والفاعلية، وتموت فيها «الأنا» ولا نجد أي مجال للفردية، بل الحضور كلّ الحضور للجماعة المسلمة، حيث يشعر الفرد المسلم بأنّ هذه للأمة لم تعدّ أمّة مجزّأة ومشتّتة العرى والأوصال، وإنما تتمتّع بكيان واحد ومصير مشترك. ذلك أنّ المسلمين في الحج يتحوّلون إلى اُمّة واحدة، عندما يتحرّكون باتجاه واحد، ويلبّون تلبية واحدة، ويلبسون لباساً واحداً، ويطوفون حول كعبة واحدة، ويسعون في اتجاه واحد، وفق مناسك مشتركة.

لذا من أجل هكذا نوع من الارتباط والتلاقي، تمّ إعداد الإنسان ليكون اجتماعياً. ذلك أنّ الإنسان من خلال هذا اللقاء والارتباط بالمجتمع يصل إلى درجة من النضج والرُقيّ في سُلّم الكمال الذي أعدّه الله تعالى له.

فالإحرام من الميقات تعبير عن الذوبان في المجموع. والطواف حول البيت يمثِّل الانجذاب إلى الله تعالى والتوجّه نحو الحياة، قال تعالى: ( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ / لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)، (الأنعام162/ 163).

ومن هنا يتضح أنّ للأمة من خلال مناسك الحج تعيش تجربة التوحيد، والارتباط بالله والمعايشة الفعلية مع للأمة - بنظر الإمام الراحل - في جوّ يسوده الودّ والإخاء بعيداً عن روح الإثارة والفوضى والجدل.ومن هنا جاء تأكيد الإمام الراحل بشكل متواصل على توحيد الكلمة والصفّ الإسلامي، ونبذ الخلافات الجانبية، والرجوع إلى القرآن الكريم مصدر القوّة والعزّة، حيث قال (رحمه الله) بهذا الصدد: «إن سبب كل المشاكل في البلاد الإسلامية هو اختلاف الكلمة وعدم التعاون، ورمز الانتصار هو وحدة الكلمة وإيجاد التعاون... كونوا جميعاً للإسلام، وتوجّهوا إلى الإسلام ولصالح المسلمين، وابتعدوا عن التفرقة والخلاف الذي هو أساس مشاكلنا وتخلّفنا».

فالإمام (رحمه الله) يعمل بدقّة ومبدئية لتوحيد كلمة المسلمين، وإرجاعهم إلى القرآن والسنّة والعمل على أساس الإسلام. والحج الإسلامي في بعده الاجتماعي الكبير والواسع أحد أهم الطروحات، التي أعلنها الإمام الراحل في مواجهة المستكبرين والمتصيدين بالماء العكر، والحيلولة دون تحقيق أهدافهم المتمثِّلة بفرض سيطرتهم على البلاد الإسلامية، وبثّ روح الخلاف والتفرقة بين المسلمين; ليسهل بالتالي نهب ثرواتهم ومصادرتها.إنّ البُعد الاجتماعي للحج من خلال فكر الإمام الشمولي يعدّ عاملاً واسع الأبعاد، لما له من دور مهم وكبير في تربية الإنسان على أن يكون تغييرياً لا يقبل الواقع الفاسد بشكل مطلق.فنجده (رحمه الله) يقول: «يجب استثمار هذه الاجتماعات لأهداف الإعلام والتعليمات الدينية، وتوسعة مدار النهضة العقيدية...». كما كان يحرص (رحمه الله) كلّ الحرص في أن يؤدّي الحجّ دوره الكبير في إعداد المجتمع الإسلامي المؤمن، العابد، الموحِّد، الواعي لخطط الاستكبار ودسائس المستعمرين.


البعد العرفاني والتربوي والعبادي للحج

الحجُّ في مبناه و معناه

الأهداف الاجتماعيّة للحجّ الإبراهيمي

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)