• عدد المراجعات :
  • 397
  • 11/24/2007
  • تاريخ :

« الإخلاص في الحج »

الحج

      قال الله تعالى في كتابه الكريم : ( وما أُمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين ... )(1) .

      لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم ، وتمدّح بخلقه في قوله تعالى : (فتبارك الله أَحسن الخالقين)(2) وركّبه من سرّ وعلن ، وروح وبدن . وبدنه من تراب وروحه من أمر ربه ( ونفختُ فيه من روحي)(3) فأودعه أسرار خلقه . جرمه صغير ولكن انطوى فيه العالم الأكبر . فدنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى ، فعلّمه الأسماء الحسنى وفهّمه البيان الأتم ، وأناله الله تعالى بخضوعه وعبوديته له المقام الشامخ ، فإن العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة ، وأنطقه بأقواله سبحانه ومَن أصدق من الله قيلا ، وأصبغه بصبغته ومَن أحسن من الله صِبغة ، وهداه النجدين: نجد الخير ونجد الشر ، وجعله مختاراً

في سلوك الطريقين إمّا شاكراً وإمّا كفوراً .

      وخلق لروحه وبدنه منافيات وملائمات ، وآلام ولذّات ، ومنجيات ومهلكات ، فمنافيات البدن الأمراض والأسقام الجسمانية ، وملائماته الصحة واللّذات الجسمانية ، والمتكفّل ببيان تفاصيل هذه الأمراض ، وكيفية علاجها هو علم الطب ، ومنافيات الروح وآلامه هي رذائل الأخلاق وذمائمها التي تهلكه وتشقيه ، وترديه وتهويه إلى أسفل السافلين ، فيكون كالأنعام بل أضل سبيلا ، وقلبه كالحجارة بل أشدّ قسوة . والمتكفّل ببيان هذه الرذائل الأخلاقية ومعالجاتها هو (علم الأخلاق) .

      أما صحة الروح فتتمّ برجوعها إلى فضائل الأخلاق ومحامدها التي تُنجيه وتُسعده في الدارين ، وتأخذ بيديه إلى مجاورة أهل الحقّ عند مليك مقتدر في مقعد صدق .

      وإنما بعث الله رسوله خاتم النبيين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ليتمّم مكارم الأخلاق ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : آ« إنّما بعثتُ لأُتمم مكارم الأخلاق آ» وقد مدحه ربّه في قوله تعالى : ( وإنك لعلى خلق عظيم )(4) . وقد أقسم في سورة الشمس بأحد عشر قسماً أنه ( قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها)حتى قيل أوجب الواجبات الأخلاق الحسنة والمحمودة .

      ثم البدن ماديّ فان ، وكل من على الأرض فان . والروح مجرد باق ، وإذا اتّصفت بشرائف الأخلاق كانت منعّمة في السعادة الأبدية ، وإن اتّصفت برذائلها كانت في الشقوة والعذاب مخلّدةً .

      فعلى المرء الواعي أن يهذّب نفسه ، ويزكّي أخلاقه ، ويعالج أمراضه ، قبل فوات الأوان . كما أن المريض ينبغي له أن يعالج بدنه وصحته . وكلُّ شيء إنما يعالج بضدّه ، فإن علاج اليابس بالرطب ، والرطب باليابس ، والحار بالبارد والبارد

بالحار ، وهكذا أمراض الأخلاق ، فإن الجهل يُعالج بالعلم ، والبخل بالسخاء ، والكبر بالتواضع ، والشّره بالكفّ عن الشهوات ، ومرض الرياء بالإخلاص . وإن كان ذلك كلّه يستلزم التكلّف والمرارة ، فإنّ مَن أراد أن يعالج مرض بدنه عليه أن يتحمّل مرارة الدواء ، وأن يصبر عن المشتهيات ، وكذلك الروح حيث يُريد الإنسان علاجها فلابد له من احتمال مرارة المجاهدة وشدّة الصبر الذي هو سيّد الأخلاق . فيصبر على فعل الطاعات والعبادات ، وترك المعاصي والآثام ، ليداوي بالصبر أمراض القلوب . وإن علاجها أولى من علاج الأبدان ، فمرض البدن يخلص الإنسان منه بالموت ، ولكن مرض الروح ـ والعياذ بالله ـ يدوم حتى بعد الموت . فالحريّ بمن يخاف على نفسه وقلبه وروحه أن يباشر المعالجة قبل الموت ، فإنه سيندم يوم لا ينفعه الندم .

      ثم أصل تهذيب النفس وتزكيتها أن يقف الإنسان على حقيقة نفسه ، ويرى عيوبها ومهلكاتها . فمن كملت بصيرته وتمّت حذاقته ، لم تخف عليه عيوبه . ومن عرف الأمراض والعيوب يسهل عليه التداوي والتخلّص منها . ولكنّ أكثرَ الناس جهلوا عيوب أنفسهم ، فيرون القذى في أعين الآخرين ، ولا يرون الجذع في عيونهم .

      ولابدّ من الاعتدال والحكمة في الأخلاق فهما الصحة للقلب والنفس والروح . أما الميل والانحراف عن حدّ الاعتدال فهما المرض والسقم الذي يخاف منه .

      وعلاج النفس لمحو الرذائل والأخلاق الذميمة عنها ، يكسبها الفضائل والأخلاق الحميدة ، كما أن تخلية القلب من الأهواء والأمراض النفسيّة ، وتحلّيه هو الآخر بالأخلاق الفاضلة ، يجعل الروح أكثر جلاءً ، ويصقلها حتى تكون كالمرآة تنطبع فيها أسرار الله وكونه .

      ثم الغالب على أصل المزاج البدني هو الاعتدال ، وإنما تعتريه العلل المغيرة بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال . وكذلك الروح ، فكل مولود يولد على الفطرة المعتدلة الصحيحة ، وإنما أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه ، فالمحيط والتربية والتعلّم والتعوّد لها الأثر البالغ في اكتساب الإنسان الرذائل والآثام .

      ولما كان البدن في ابتداء خلقه لم يخلق كاملا ، وإنما ينمو ويكمل وتقوى القوى فيه بالنشوء والتربية بالغذاء والماء ، فكذلك النفس تخلق ناقصة ، إلا أنها قابلة للتكامل المنشود في جبلته ، والذي خُلق الإنسان من أجله ، يصل الإنسان بجهده وجهاده إلى كماله ، وأن يكون مظهراً لأسماء الله وصفاته . وتكمل هذه النفس بالتزكية وتهذيب الأخلاق ، وتغذيتها بالعلم النافع والعمل الصالح والإيمان الراسخ . وإذا كان البدن صحيحاً ، فشأن الطبيب حينئذ تمهيد القانون وبيانه للصحة والمحافظة عليها ، وإن كان البدن مريضاً فشأن الطبيب أيضاً جلب الصحة إليه ، فكذلك النفس ، فإن كانت سليمة وزكيّة ومهذّبة الأخلاق ، فينبغي السعي من أجل حفظها وسلامة صحتها وبقائها ، واكتساب زيادة صفائها وجلائها ، وإن كانت عديمة الكمال ، فاقدة للصفاء الروحي ، فينبغي الجهد المتواصل لجلب الصحة النفسيّة إليها .

      هذا ومن أمراض القلب الخطرة جداً هو الرياء في النوايا والعمل ، فإنّه كدبيب نملة سوداء في ليلة ظلماء على صخرة صلداء ، فمَن يحسّ بدبيبها ؟ وان الرياء من عمل الشيطان الرجيم ليضل الناس ويغويهم ( قال فبعزّتك لأغوينهم أجمعين * الا عبادك منهم المخلصين )(5) .

      ويقابل الرياء الإخلاص ، آ« والأعمال بالنيات آ» ـ كما ورد في الخبر ـ آ« ولكل امرئ ما نوى آ» ، والنيّة من عمل الجوانح وهو القصد

 

القلبي نحو العمل المقصود اتيانه والمنشود فعله . ولو كانت النية خالصة لله سبحانه فإنها توجب قبول الأعمال، فإنّ الكلم الطيّب ـ وهو الذي فيه الإخلاص كما ورد في الأثر ـ يصعد إلى الله سبحانه ، وإنما يتقبّل الله من المتقين ، والإخلاص أساس التقوى .

      قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : طوبى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى ، تنجلي عنهم كلّ فتنة ظلماء(6) .

      وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : العلماء كلّهم هلكى إلّا العاملون ، والعاملون كلّهم هلكى إلاّ المخلصون والمخلصون على خطر .

      وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : إذا عملت عملا فاعمل لله خالصاً لأنّه لا يقبل من عباده الأعمال إلا ما كان خالصاً .

      وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ليست الصلاة قيامك وقعودك إنما الصلاة إخلاصك ، وأن تريد بها وجه الله .

      وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : العمل كلّه هباء إلا ما أُخلص فيه .

      وقال (عليه السلام) : ضاع مَن كان له مقصدٌ غير الله .

      وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : ولابدّ للعبد من خالص النيّة في كلّ حركة وسكون ; لأنه إذا لم يكن ذلك منه يكن غافلا ، والغافلون قد وصفهم الله تعالى فقال : ( أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) وقال : ( أولئك هم الغافلون ) .

      قال الله تعالى عن لسان نبيّه : ( قل إنّي أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين * وأمرت لأن أكون أوّل المسلمين )(7) .

      قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّ لكل حقّ حقيقة ، وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحبّ أن يحمد على شيء من عمل لله .

      وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث آخر : آ« أما علامة ] علامات [ الُمخلص فأربع : يسلم قلبه وتسلم جوارحه وبذل خيره وكفّ شرّه .

      وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام)

قال : مَن لم يختلف سرّه وعلانيته ، وفعله ومقالته فقد أدّ الأمانة وأخلص العبادة .

      قال أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين في بيان حقيقة الإخلاص ـ بعد أن ذكر أقوال الشيوخ فيها ـ : الأقاويل في هذا كثيرة ولا فائدة في تكثير النقل بعد انكشاف الحقيقة ، وإنما البيان الشافي بيان سيد الأولين والآخرين ، إذ سُئل عن الإخلاص فقال : آ« هو أن تقول ربّي الله ثم تستقيم كما أُمرت آ» أي لا تعبد هواك ونفسك ولا تعبد إلا ربّك ، وتستقيم في عبادته كما أمرك ـ إياك نعبد وإياك نستعين ـ وهذه إشارة إلى قطع كلّ ما سوى الله عزّ وجلّ من مجرى النظر وهو الإخلاص حقّاً .

      ثم من آثار الإخلاص في حياتنا الفردية والاجتماعيّة ، وفي العلميّة والعمليّة ، هو تفجّر ينابيع الحكمة وجريانها من قلب المخلص على لسانه .

      وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : قال الله عزّ وجلّ : لا أطلّع على قلب عبد فأعلم منه حبّ الإخلاص لطاعتي لوجهي وابتغاء مرضاتي إلا توليت تقويمه وسياسته .

      وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : غاية الإخلاص الخلاص . والمخلص حريّ بالإجابة ، وعند تحقق الإخلاص تستنير البصائر ، وبالإخلاص ترفع الأعمال ، وفي إخلاص النيّات نجاح الأمور ، ومَن أخلص بلغ الآمال ، أخلص تنل .

      حريّ أن تكتب هذه الكلمات بأقلام من نور على وجنات الحور ، فما أروع قوله (عليه السلام) : أخلص تنل . كلمتان فقط ولكن فيها ما فيها من الأسرار والحِكم والحقائق ، فإن الإنسان إنما ينال ما ينال بالإخلاص .

      وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : إن المؤمن ليخشع له كلّ شيء ويهابه كلّ شيء ، ثم قال : إذا كان مخلصاً لله أخاف الله منه كلّ شيء حتى هوام

الأرض وسباعها وطير السماء .

      ثم يا هذا هل بعد الإخلاص من مقصود ومنشود ؟

      وقد قال الإمام الباقر (عليه السلام) : ما بين الحق والباطل إلا قلّة العقل ـ أي من يختار الباطل فهذا من قلّة عقله ـ قيل : وكيف ذلك يا بن رسول الله ؟ قال : إن العبد يعمل الذي هو لله رضىً فيريد به غير الله ، فلو أنه أخلص لله ، لجاءَه الذي يريد في أسرع من ذلك(8).

      هذا في الإخلاص الذي هو من جنود العقل ، ويقابله الرياء الذي هو من جنود الجهل ، وقد قال الله تعالى في محكم كتابه : ( ولا تكونوا كالّذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدّون عن سبيل الله )(9) .

      قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لابن مسعود : يا بن مسعود إياك أن تظهر من نفسك الخشوع والتواضع للآدميين ، وأنت فيما بينك وبين ربّك مصر على المعاصي والذنوب . يقول الله تعالى : ( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) .

      وقال : أشد الناس عذاباً يوم القيامة من يرى الناس أن فيه خيراً ولا خير فيه(10) .

      قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : المرائي ظاهره جميل وباطنه عليل .

      وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : إياك والرياء فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى من عمل له .

      وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ان الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به فإذا صعد بحسناته يقول الله ـ عزّ وجلّ ـ اجعلوها في سجّين إنه ليس إيّاي أراد به .

      وفي حديث آخر : تصعد الحفظة بعمل العبد مبتهجاً به فيطأُون الحجب كلّها حتى يقوموا بين يدي الله فيشهدوا له بعمل صالح ودعاء ، فيقول الله تعالى : أنتم حفظة عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه ، إنه لم يردني بهذا العمل عليه لعنتي .

      وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : إن المرائي

يُنادى يوم القيامة : يا فاجر ! يا غادر ! يا مرائي ! ضلّ عملك وبطل أجرك ، اِذهب فخذ أجرك ممّن كنتَ تعمل له .

      وقال الصادق (عليه السلام) : ما على العبد إذا عرفه الله ألاّ يعرفه الناس ؟ إنّه من عمل للناس كان ثوابه على النّاس ، ومن عمل لله كان ثوابه على الله ، وإن كلّ رياء شرك .

      قال الله عزّ وجلّ : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريءٌ فهو للذي أشرك .

      وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّ الله تعالى لا يقبل عملا فيه مثقال ذرّة من رئاء .

      وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا بن مسعود إذا عملت عملا من البرّ وأنت تريد بذلك غير الله فلا ترج بذلك منه ثواباً فإنّه يقول : ( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً)(11) .

      وعن شدّاد بن أوس قال : رأيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يبكي ، فقلتُ : يا رسول الله ! ما يبكيك ؟ فقال : إني تخوّفت على أُمتي الشرك أما إنّهم لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً ، ولكنهم يراؤون بأعمالهم .

      وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : يُجاء بعبد يوم القيامة قد صلّى فيقول : يا ربّ صلّيت ابتغاء وجهك فيقال له : بل صليت ليقال ما أحسنَ صلاة فلان اذهبوا به إلى النار .

      ولكلّ شيء علامة ، وقد جاء في علامة المرائي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : آ« اما علامة ] علامات [المرائي فأربع ; يحرص في العمل لله إذا كان عنده أحد ، ويكسل إذا كان وحده ، ويحرص في كل أمره على المحمدة ، ويحسن سمته بجهده آ» .

      وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : الإبقاء على العمل أشدُّ من العمل . قال الراوي وما الإبقاء على العمل ؟ قال : يَصلُ الرجل بصلة ، وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فتكتب له سراً ، ثم يذكرها فتمحى فتكتب له علانيةً ، ثمّ

يذكرها فتمحى وتكتب له رياءً .

      قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في وصف المؤمن : لا يعمل شيئاً من الخير رياءً ، ولا يتركه حياءً . وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : كلّ حسنة لا يراد بها وجه الله تعالى فعليها قبح الرياء وثمرها قبح الجزاء .

      وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : ما كان من الصدقة والصلاة والصوم وأعمال البرّ كلّها تطوّعاً فأفضلها ما كان سرّاً ، وما كان من ذلك واجباً مفروضاً فأفضله أن يعلن به(12) ، فالرياء حرام والمرائي عند الله سبحانه ممقوت ومغضوب عليه ، وقد شهدت لذلك الآيات والأخبار والآثار كما ذكرنا .

      هذا غيض من فيض في أخبار الإخلاص والرياء وبيان حدودهما وما يترتب عليهما من الآثار في الدنيا والآخرة .

      وبعد هذه الوقفة العاجلة عند عظمة الأخلاق الإسلاميّة ، ودورها البالغ في حياة المسلم الرسالي ، وبعد عرض موجز عن الإخلاص والرياء ، وإنّ القلبَ منشؤهما ومحطهما ، فإنه العالم بالله وهو العامل لله ، والساعي والمخلص والمتقرب إليه ، وهو الكاشف بما عند الله ولديه ، وإنما الجوارح أتباع له ، وخَدَم وآلات يستخدمها القلب كاستخدام الراعي للرعيّة ، وهو المقبول عند الله إذا سلم من غير الله ، وهو المحجوب عنه إذا صار مستغرقاً بغير الله ، وهو المخاطب وهو المطالب ، وهو المثاب والمعاقب ، فيفلح الإنسان إذا زكّاه ، ويشقى ويخيب إذا دَنّسَهُ ودسّاه ، وهو المطيع لله بالحقيقة ، وإنما التي تظهر على الجوارح الظاهرية من العبادات أنواره ، فهو سلطان البدن ، وهو العاصي المتمرد على الله ، وإنما الساري على الأعضاء من الفواحش آثاره . وبظلمانيته ونورانيته تتجلّى المحاسن الظاهرية ومساويها ، فإن كلّ إناء بما فيه ينضح ، وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه ، ومن عرف

نفسه عرف ربّه ، فتارة يهوي إلى أسفل السافلين ويكون كالأنعام بل هو أضلّ سبيلا ، وأخرى يصعد إلى أعلى عليين ، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقرّبين .

      ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه ويترصّد ما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه ومنه ، فهو ممّن قال الله تعالى فيه : ( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم اولئك هم الفاسقون )(13) . فمعرفة القلب وحقيقة أوصافه أصل الدين ، وأساس السالكين ، فلا تغفل .

      فلابدّ للمؤمن من أن يخلص في نواياه وأعماله ، وحركاته وسكناته ، حتى يلقى الله وليس في قلبه سواه وذلك هو القلب السليم ، الذي ينفع في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون .

      والمؤمن الحاج ، والمؤمنة الحاجة لابدّ لهما من الإخلاص في مناسكهما ، وفي حجّهما وعمرتهما ، فإنّ الحجَّ من فروع الدين ومن العبادات ، وشرطها الأوّل النيّة الخالصة متقرّباً بها إلى الله سبحانه وتعالى .

      والحجُّ من العبادات الدينية والسياسيّة والاجتماعية ذات المفاهيم القيّمة ، روحياً وبدنياً ، فرديّاً واجتماعيّاً ، في جميع جوانب الحياة من العبادة ، والإقتصاد والسياسة ، والثقافة والحضارة ، والأخوة الإسلاميّة وغير ذلك .

      ويكفي في شرافة الحج ، ومقامه الشامخ في الدين الإسلاميّ الحنيف ، أنه أحد الأركان التي بني عليها الإسلام ، فهو من الأسس الأولى التي يعلو عليها الإسلام العظيم . وتتجلّى في الحجِّ روح المحبّة والأخوة والصفاء ، وحكومة الروحانيّات على الماديّات . وكل مسلم متحمّس لدينه يرى في حجّه وعمرته ، أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، وأن هذا الدين القيم لو تمسّك به أهلُه حقَّ التمسك ، وطبقوه في كل زوايا حياتهم لحكم العالم ولرفرفت راياته على ربوع الأرض

ولو كره المشركون .

      فإن الإنسان الضائع ، والبشرية التائهة تجد انشودتها وسعادتها في هذا الدين ، فهو يتكفل سعادة الإنسان في داري الدنيا والآخرة .

      فالحجُّ يمثّل بوضوح عزّ الإسلام وبقاءه وسلطانه ، وكرامة المسلمين وشرفهم ، فليس لأُمّة وملّة من الأمم والملل مثل هذا المؤتمر العالمي العظيم ، والمشهد السنوي الكبير ، الحافل بالخيرات والبركات ; ليشهدوا منافع لهم ; ليجتمع فيه المسلمون من شرق الأرض وغربها على اختلاف جنسيّاتهم ، وطوائفهم ، واشكالهم وألوانهم ولغاتهم ، ولا يتميز غنيّهم عن فقيرهم ورئيسهم عن مرؤوسهم ، وكلّ واحد منهم وقد اتزر بأحد ثوبي الإحرام وارتدى بالآخر ; ليلبي دعوة الله ، التي يدوي صداها عبر الأحقاب والأجيال من شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل (عليه السلام)في قوله تعالى : ( وأذن في الناس بالحجّ يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فجّ عميق )(14) .

      فالحجّ فلاح وصلاح وقد أفلح من اقامه ، ورفع بنيانه كما أمر الشارع به ، وإنما ركّز القرآن الكريم ، ورسولُ الله الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)على الحجِّ لما فيه من المغزى والمعنى الملكوتي ، ولأنّه يحتوي على كثير من العبادات ، والفضائل الأخلاقية ، والخير والإحسان الاجتماعي ، والثواب الأخروي فإنه من بين أركان الإسلام ومبانيه ، عبادة العمر وختام الأمر ، وتمام الإسلام وكمال الدين فيه ، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : آ« من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً آ»(15) .

      فهو نقلة اجتماعية ، ورحلة جماهيريّة يتّجه فيها الناس من كل صوب ومكان ; لأداء فريضة إلهيّة واجبة ، في مكان مقدس واحد هو أشرف بقاع الأرض : مكّة المكرّمة . وفي زمان واحد من الأشهر الحرم ،

ذي الحجة المبارك ; ليمارسوا شعائر موحدة ، ومناسك دينيّة ، وطقوساً خاصة ، تجرّد الإنسان عن عالم الماديّات ، وتحلّق بروحه إلى عالم ملكوتي وروحاني بلا نهاية ، إلى الرفيق الأعلى فيكون قاب قوسين أو أدنى .

      ولكن نوايا الناس مختلفة ، والإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره وأستاره ، فقد روي في خبر من طريق أهل البيت (عليهم السلام) : آ« إذا كان آخر الزمان خرج الناس للحجِّ أربعة أصناف : سلاطينهم للنزهة ، وأغنياؤهم للتجارة ، وفقراؤهم للمسألة ، وقرّاؤهم للسُّمعة آ»(16) .

      فليس كلّ من أدى فريضة الحجِّ نال الكمال وبلغ العُلى ، بل بشرطها وشروطها والإخلاص أوّل شروطها .

      قال الإمام الصادق (عليه السلام) : الحجُّ حجّان : حجٌّ لله وحجٌّ للناس ، فمن حجّ لله كان ثوابه على الله الجنّة ، ومن حجّ للناس كان ثوابه على الناس يوم القيامة(17) .

      ولا يخفى أنّ من يدخل الجنة فهو من السعداء لقوله تعالى : ( وأمّا الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ... )(18 ، فمن كان سعيداً في حجّه ، إنما يخلص لله في مناسكه ويبتغي وجه الله في أعماله ، ومن عمل للناس فقد خسر الدنيا والآخرة ، فإن الدنيا الدنيّة دار ممرّ ، وأهل الدنيا لا وفاء لهم ، وفي الآخرة كلّ ينادي وانفساه ، وكلّ يفرّ من أخيه وصاحبته وبنيه وعشيرته التي كانت في الدنيا تؤويه . فمن الحماقة وقلّة العقل أن يعمل الإنسان لغير الله سبحانه ، كما ورد في الخبر .

      قال الإمام الصادق (عليه السلام) : مَن حجّ يريد به الله ولا يريد به رياءً وسمعة غفر الله له البتّة(19) ـ أي قطعاً ـ .

      فمن حجّ ليُنادى في المجتمعات والنوادي : يا حاج فلان ، يا حاجّة فلانة ، وليفخر على الآخرين ويتطاول عليهم ، لم يصيبه من حجّه إلا التّعب والنّصب . والأعمال العبادية تبطل بالرياء فيجب إعادتها وقضاؤها حينئذ . فهل بعد هذا إلا الإخلاص في النوايا والعمل ؟!

      وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث يذكر علامات ظهور المهدي (عليه السلام) : ... ورأيت طلب الحجّ والجهاد لغير الله ... فكن على حذر واطلب من الله النجاة(20 ).

ختامه مسك :

      ولنختم الموضوع بما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في أسرار الحجّ ودقائقه ، وعلوّ معانيه وسموّ مفاهيمه :

      روي في مصباح الشريعة عنه ـ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه وأولاده الطاهرين ـ أنّه قال : آ« إذا أردت الحجَّ فجرّد قلبك لله تعالى من كلّ شاغل وحجاب كلِّ حاجب ، وفوِّض أمورك كلَّها إلى خالقك ،

وتوكّل عليه في جميع ما تظهر من حركاتك وسكناتك ، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره ، ودع الدنيا والراحة والخلق ، واخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين ، ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك ، وقوّتك وشبابك ومالك ، مخافة أن يصير ذلك عدوّاً ووبالا ، فإنّ من ادعى ] ابتغى [رضا الله ، واعتمد على ما سواه ، صيّره عليه وبالا وعدوّاً ; ليعلم أنّه ليس له قوّة وحيلة ، ولا لأحد إلاّ بعصمة الله وتوفيقه .

      فاستعد استعداد من لا يرجو الرجوع ، وأحسن الصحبة ، وراع أوقات فرائض الله وسنن نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما يجب عليك من الأدب ، والاحتمال والصبر ، والشكر والشفقة ، والسخاوة وإيثار الزاد على دوام الأوقات ، ثم اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك ، والبس كسوة الصدق والصفا ، والخضوع والخشوع ، وأحرم من كلِّ شيء يمنعك عن ذكر الله ، ويحجبك عن طاعته ، ولبِّ تلبية صادقة صافية ، خالصة زاكية لله تعالى في دعوتك ، متمسّكاً بالعروة الوثقى ، وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش ، كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت ، وهرول هرولة من هواك ، وتبرّأ من حولك وقوّتك ، واخرج من غفلتك وزلاّتك بخروجك الى منى ، ولا تتمنّ ما لا يحلّ لك ولا تستحقّه ، واعترف بالخطايا بعرفات ، وجدّد عهدك عند الله تعالى بوحدانيّته وتقرب إليه ، واتّقه بمزدلفة ، واصعد بروحك إلى الملإ الأعلى بصعودك على الجبل ، واذبح حنجرة الهوى والطمع عند الذبيحة ، وارم الشهوات والخساسة والدناءة والذميمة عند رمي الجمرات، واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك ، وادخل في أمان الله ، وكنفه ، وستره وكلاءته ، من متابعة مرادك بدخولك الحرم ، ودُر حول البيت محقّقاً لتعظيم صاحبه ، ومعرفة جلاله وسلطانه ، واستلم الحجر رضا بقسمته

وخضوعاً لعزّته ، وودّع ] ودع [ ما سواه بطواف الوداع ، واصف ]وصفِّ [روحك وسرّك للقائه يوم تلقاه بوقوفك على الصفا ، وكن بمرأىً من الله ، نقيّاً ]ونقِّ [أوصافك عند المَروة، واستقم على شرط حجّتك هذه ، ووفاء عهدك الذي عاهدتَ به مع ربّك ، وأوجبته له الى يوم القيامة .

      واعلم بأنّ الله ـ تعالى ـ لم يفرض الحجّ ، ولم يخصّه من جميع الطاعات بالإضافة إلى نفسه بقوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) ولا شرع نبيّه سُنّةً من خلال المناسك على ترتيب ما شرّعه ، إلّا للإستعانة والإشارة إلى الموت والقبر والبعث والقيامة ، وفضل بيان السبق من الدخول في الجنّة أهلها ، ودخول النار أهلها بمشاهدة مناسك الحجّ من أولها إلى آخرها لأولي الألباب وأولي النهى(21) ، انتهى كلامه صلوات الله عليه وسلامه ، واغتنموا الفرص يا ضيوف الرحمن ، ويا حجّاج بيت الله الحرام ، وإنما يتقبّل الله من المتّقين المخلصين .

      وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البينة : 5 .

(2) المؤمنون : 14 .

(3) الحجر : 29 .

(4) القلم : 4 .

(5) ص : 82 - 83 .

(6) كنز العمال ح 5268 ـ الدرّ المنثور ، 2 : 237 .

(7) الزمر : 11 - 12

(8) الروايات نقلناها من آ« ميزان الحكمة آ» المجلد الثالث فراجع .

(9) الأنفال : 47 .

(10) كنز العمال : ح 7485 .

(11) الكهف : 105 .

(12) نقلنا الروايات من ميزان الحكمة ، 4 : 22 فراجع .

(13) الحشر : 19 .

(14) الحج : 27 .

(15) تفسير ابن كثير ، 1 : 386 .

(61) المحجة البيضاء ، 2 : 189 أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه ، ورواه ابو عثمان الصابوني في كتاب المائتين بلفظ آخر كما في المغني

(17) كتاب ميزان الحكمة ، 2 : 276 .

(18) هود : 108 .

(19) ميزان الحكمة ، 2 : 276 .

(20) نفس المصدر .

(21) المحجة البيضاء ، 2 : 207 .

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)