• عدد المراجعات :
  • 4166
  • 11/24/2007
  • تاريخ :

 الحج في الشعر الإسلامي في العصر الاُموي
کعبه

تطوّر الشعر و فنونه في العصر الاُموي ( 41 ـ 132 هـ ) وازدهرت الحياة الأدبية في الحجاز خاصّة والجزيرة العربية عامّة . وصوّر الشعراء الحجّ ومناسكه ومشاعره في قصائدهم ، وخاصّة في الشعر الغزلي بالنساء خلال أداء مناسك الحج ، كالطواف ورمي الجمار وأيام مُنى . وتحتوي كُتب الأدب ودواوين الشعر على الكثير من هذا الشعر ، الذي يصوّر الحج وما يحدث فيه من مشاهد .

وقد نشأ في مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة في العصر الاُموي الشعر الغزلي وتناول في جوانبه مشاهد الحج ، وكان الشاعر عمر بن أبي ربيعة المخزومي صاحب هذه المدرسة الشعرية الجديدة ، تبعه في ذلك تلميذه العرجي وهو عبدالله بن عمرو ابن عثمان ، الذي كان يسكن منطقة العَرْج قرب الطائف ، وغيرهما من الشُعراء الذين صوّروا الحج ومشاهده في شعرهم .

وكان طبيعياً أن يتأثّر شُعراء الحجاز بعمر بن أبي ربيعة والعرجي وغيرهما بالبيئة القرشية الجديدة ، والتغير الذي أصاب الحياة في الحجاز نتيجة للفتوحات الإسلامية ، وإنسياب الأموال على الحجاز ، والتغير الاجتماعي الذي أصاب مجتمع الحجاز نتيجة لذلك . وقام أصحاب هذا الشعر الغزلي يصفون الحج ، ويلهجون بأسماء مشاهد الحج وبعض النساء الحسناوات من الحواج ، كما ذكروا أوصاف مواسم الحج والإبل والهوادج ، ومشاهد الحج في عرفة ومنى والصفا والمروة والمطاف ورمي الجمرات ، والإفاضة إلى آخر ما في الحج من مواقف ومشاهد .

و يحتوي ديوان الشاعر عمر بن أبي ربيعة على العديد من الأبيات الشعريّة التي تصف الحج ، كما توجد أشعاره التي تصف الحج في العديد من كُتب الأدب . ويتناول عمر بن أبي ربيعة في قصيدة له الحج ومشاهده ، ويمتزج في هذه القصيدة الحنين إلى مكّة ، ومعالم الحج ، بالذكريات التي اقترنت بمواقفه الغزلية ، بعد أن قضى ردحاً من الزمن باليمن ، وفي هذه القصيدة يقول عمر بن أبي ربيعة :

 

هيهات من أُمةِ الوهاب منزلنا
 إذ حللنا بسيف البحر من عدن
واحتل أهلك «أجياداً» وليس لنا
إلاّ التذكّر أو حظ من الحزن

 

ويستمر عمر بن أبي ربيعة في قصيدته ذاكراً مشاهد الحج في غزله بمحبوبته فيقول :

 

ما أنسى لا أنسى يوم الخيف موقفها
وموقفي وكلانا ثمّ ذو شجن
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها
فما أخذت بترك الحج من ثمن

 

وبالرغم من تغزّل عمر بن أبي ربيعة بصاحباته في الأماكن المقدّسة ، إلاّ أنّه كان يشعر بالتحرّج والتأثّم; لما يتطلبه الموقف العظيم في الحج من خشوع ، يقول في إحدى قصائده :

 

نظرت إليها بالمحصب من منى
ولي نظر لولا التحرّج عارمُ

 

وفي أبيات أُخرى يقول عمر بن أبي ربيعة :

 

أفسد الحج علينا نسوة
من عبد شمس كن للموسم زينا

 

وبالرغم من ذلك ، يتمنّى عمر بن أبي ربيعة أن يتكرّر الحج على مدار السنة; لتعلّق قلبه بحبيبته التي يراها في منى ، حيث يقول :

 

أيّها الراكب الُمحِدُّ ابتكارا
قد قضى من تهامة الأوطارا
من يكن قلبه صحيحاً سليماً
ففؤادي بالخيف أمسى معارا
ليت ذا الدهر كان حتماً علينا
كلّ يومين حجّة واعتمارا

 

ويتغزّل الشاعر عمر بن أبي ربيعة بعائشة بنت طلحة بن عبيدالله التيمي ، بعد أن رأها ترمي الجمار ، وكان يطوف حولها ويتعرّض لها ، وهي تكره أن يرى وجهها ، وفيها يقول :

 

فمكثن حيناً ثمّ قلن توجهت
للحج ، موعدها لقاء الأخشب
فلقيتها تمشي تهادي موهنا
ترمي الجمار عشية في موكبِ

 

أما الشاعر العرجي فيتغزّل بمحبوبته وهي نافرة من منى فيقول معاتباً :

 

عُوجي عليَّ فسلمّي جبرُ
فيما الصدود و أنتم سفرُ
ما نلتقي إلاّ ثلاث منى
حتى يُفرق بيننا النفرُ

 

كما يذكر العرجي بعض النساء اللاتي يحججن ليفتن الرجال ، حيث يقول :

 

أماطت كساء الخز عن حُر وجهها
وأدنت على الخدّين برداً مُهللا
من اللاتي لم يحججن يبغين حسبة
ولكن ليقتلن البريء المُغفلا

 

وعندما تولّى الخلافة هشام بن عبدالملك ( 105 ـ 125 هـ ) عيّن خاله محمّد ابن هشام والياً على مكّة المُكرّمة ، وكتب إليه أن يحج بالناس ، فهجاه العرجي بأشعار كثيرة ، ومنها قوله :

 

كأن العام ليس بعام حج
تغيّرت المواسم والشكُولِ

 

ومنها قوله :

 

ألا قل لمن أمسى بمكّة قاطناً
ومن جاء من عمق و نقب المسُللِ
دعوا الحج لا تستهلكوا نفقاتكم
فما حجُ هذا العام بالمتقبلِ
وكيف يُزكى حج من لم يكن له
إمامٌ لدى تجميره غيرُ دلدلِ

 

ويشبب العرجي بَجيْدَاء وهي أُم محمّد بن هشام ويذكرها بمنى فيقول :

 

نلبث حولا كاملا
ما نلتقي إلاّ على منهجِ
في الحجّ إن حجت وماذا منى
وأهله إن هي لم تُحجُجِ

 

وعندما أنشد عالم مكّة عطاء بن أبي رباح قول العرجي هذا ، قال :

 

الخير والله كلّه بمنى
وأهله حجت أو لم تُحجّ

 

ويذكر الشاعر عبيد الله بن قياس الرقيات في شعره البيت الحرام ومنى والجمار وبعض طُرق الحج ومناهله في قصيدة في ديوانه يمدح فيها مصعب بن الزبير ويفتخر بقريش حيث يقول :

 

أقفرت بعد عبد شمس كداء
فكدي فالركنُ فالبطحاء
فمنى فالجمار من عبد شمس
مقفرات فبلدح فحِراءُ
فالخيام التي بعسفان
فالجحفة منهم فالقاع فالابواءُ
قد أراهم وفي المواسم إذ يغدون
حلمٌ ونائلٌ وبهاءُ
ليس لله حُرمة مثل بيت
نحن حجابه عليه الملاءُ
خصّه الله بالكرامة فالبادون
والعاكفون فيه سواءُ

 

وفي قصيدة أُخرى في ديوانه ، يمدح عبيدالله بن قيس الرقيات

عبدالله بن الزبير ، وقد خرج إليه وافِداً في مكّة فيذكر البيت وعرفات حيث

يقول :

 

أنت ابن مُعتلج البطاح
كديها فكدائها
فالبيت ذي الأركان
فالمستنَّ من بطحائها
فمحلَّ أعلاها إلى
عرفاتِها فحرائها
أو فى قريش بالعلى
في حكمها وقضائها

 

ولم يخل ديوان عبدالله بن قيس الرقيات من الغزل في مواسم الحج . يقول في الثرياء :

 

حبذاء الحجُ والثريا ومن
بالخيف من أجْلِها ومُلقى الرحالِ
درة من عقائِل البحر بكر
لم تنلها مثاقب اللآلِ
قطنت مكّة الحرام فشطتْ
وَعَدَتني نوائب الأشغالِ

 

ويتناول الشاعر عمرو بن أذينة ، واسمه يحيى بن مالك بن الحارث الليثي ، وهو من شعراء المدينة ، في شعره البيت الحرام ، وزمزم ومشاعر الحج كمنى ، فيقول في أبيات :

 

نزلوا ثلاث مِنى بمنزل غبطة
وهم على غَرَض لعمرك ماهُمُ
متجاورين بغير دار إقامة
لو قَد أجَدّ رحيلهم لم يندموا
ولهنّ بالبيت الحرام لُبانة
والبيتُ يعرفهنّ لو يتكلّمُ
ولو كان حياً قبلهنّ ظعائناً
 حيا الحطيم وجوههنّ وزمزمُ

 

أمّا الشاعر الحجازي كثير وهو من خزاعة وينزل المدينة ، فيذكر تفرّق الحجيج من منى بعد أيّام التشريق حيث يقول :

 

تفرق أهواء الحجيج على مِنى
وصدعهم شعب النوى صُبح رابعِ
فريقان : منهم سالك بطن نخلة
وآخر منهم سالك بطن تضرعِ
فلم أر داراً مثلها دار غبطة
وملتقى إذا التف الحجيج بمجمعِ

 

وفي نفس المعنى يقول أحد الشعراء :

 

ولما قضينا من منى كلّ حاجة
ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وسالت بأعناق المطي الأباطح

 

ويتغزّل الشاعر ذو الرمة ، وهو غيلان بن عقبة بن حارثة ، بخرقاء إحدى نساء بني عامر بن ربيعة أثناء حجّها ، فيقول فيها :

 

تمام الحجّ أن تقف المطايا
على خرقاء واضعة اللثامِ

 

أمّا الشاعر مجنون بني عامر وهو قيس بن الملوح ، فقد تعلّق قلبه بليلى وهام بها ، وقد حجّ به أبوه ليشفيه ، وفي منى سمع صائحاً يصيح في الليل قائلا : يا ليلى ،

يبحث عن تائهة اسمها ليلى ، فسقط مجنون ليلى مغشياً عليه ، وعندما أصبح أنشد يقول :

 

وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى
فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنّما
أطار بليلي طائراً كان في صدري
دعا باسم ليلى ضلل الله سعيه
وليلى بأرض عنه نازحة قفر

 

وفي قصيدة اُخرى ، يقول مجنون بني عامر عن ليلى ، وهي بمنى ترمي الجمار الأبيات التالية :

 

ولم أرَ ليلى بعد موقف ساعة
بخيف منى ترمي جِمار المحصبِ
ويُبدي الحصى منها إذا قذفت به
من البُردِ أطراف البنان المخضبِ
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر
 مع الصبح في أعقاب نجم مُغربِ
ألا إنّما غادرت يا أمّ مالك
صدى أينما تذهب به الريحُ يذهبِ

 

ويصوّر شعراء النقائض كجرير والفرزدق الكثير من معاني الحج ومشاهده في ديوانيهما . وذلك في المدح والهجاء والفخر .

فالشاعر جرير المولود باليمامة من نجد ، يُشير إلى الحج ومواسمه في شعره ، فيقول من قصيدة يمدح فيها الخليفة عمر بن عبد العزيز الأبيات التالية :

 

كم بالمواسم من شعثاء أرملة
ومن يتم ضعيف الصوت والبصرِ
يدعوك دعوة ملهوف كأن به
خبلا من الجن أو خبلا من النشرِ

 

ويمدح الشاعر جرير ، خالد بن عبد الله القسري ـ وكان والياً على مكّة في عهد الخليفة الاُموي الوليد بن عبد الملك ـ ، ويقول : إن أجداده كانوا يمتدحون عندما يجتمع الحجيج في مكّة ، وفي أبيات من قصيدته يقول :

 

إذا عُدّ أيام المكارم فافتخر
بآبائك الشم الطوال السواعد
يسرّك أيام المحصب ذكرهم
 وعند مقام الهدي ذات القلائد

 

ويمدح جرير الوالي الاُموي الحجّاج بن يوسف الثقفي ، بأنّه أمن سبل الحُجاج فلم يعد يغير عليهم اللصوص فيقول :

 

ولقد كسرت سنان كلّ منافق
ولقد منعت حقائب الحُجاجِ

 

ويفخر جرير على الفرزدق ، ويطلب منه أن يسأل الحُجاج عن مكانته ومكانة قبيلته فيقول :

 

وإذا الحجيجُ إلى المشاعر أوجفوا
فسأل كنانة وأسأل الأنصارا

 

ويهجو جرير الفرزدق وقومه ، ويقول : إنّ الحُجاج بالمشاعر في منى وعرفة نادوا بغدرهم بعبدالله بن الزبير ، فيقول :

 

ألم تر أنّ الله أخزى مُجاشعاً
إذا ضم أفواج الحجيج المعرفُ
ويوم منى نادت قريش بغدرهم
ويوم الهدايا في المشاعر عُكفُ

 

أمّا الشاعر الفرزدق ، فيحتوي ديوانه على العديد من صور الحج ومشاهده ، ففي قصيدة له في هجاء جرير يقول :

 

حلفت بربّ مكّة والمصلى
و أعناق الهدي مقلدات

 

ويهجو الشاعر الفرزدق الشاعر الطرمّاح الطائي ، فيقول :

 

سألت حجيج المسلمين فلم أجد
ذبيحة طائي لمن حج حلت

 

ويمدح الفرزدق الخليفة سليمان بن عبد الملك ، فيقول : إنّ المسلمين نذروا أن يحجّوا حفاة ويصوموا سنتين إذا وُليَّ الخلافة ، فيقول :

 

كم فيك إن ملكت يداك لنا
يوماً نواصينا من النذر
من حَجّ حافية و صائمة
سنتين أم أفيرخ زُعرِ

 

ويمدح الفرزدق الخليفة الاُموي عمر بن عبد العزيز ويريد الحج وزيارته في مكّة فيقول :

 

 

تريد معه الحجّ ابن ليلى كلاهما
لصاحبه خير تُرجى فواضله
زيارة بيت الله وابن خليفة
تحلب كفاه الندى وأنامله

ويمدح الفرزدق والي البصرة ، الحكم بن أيوب بن أبي عقيل فيقول :

حلفت بما حجّت قريش و نحرت
غداة مضي العشر المجللة الهدلا
لقد أدركت كفاك نفس بعدما
هويت ولم تثبت بها قدمٌ نعلا

 

ولم تخل المشاعر من الفخر بين جرير والفرزدق ، فقد التقى جرير والفرزدق بمنى وهما حاجان ، فقال الفرزدق لجرير :

 

فإنّك لاق بالمنازل من مِنىً
فخاراً فخبرني بما أنت فاخرُ

 

 

فقال له جرير : «لبيك اللهم لبيك » فاستُحسن هذا الجواب من جرير وأعجب الناس برده .

والملاح، أنّ بعض الولاة كانوا يتّخذون مواقف نتيجة لشعراء الغزل في الحجاز . فعندما وُلي خالد بن عبد الله القسري مكّة المكرّمة ، في عهد الخليفة الوليد ابن عبد الملك ، بلغه قول الشاعر :

 

يا حبذا الموسم من موفد
وحبذا الكعبة من مشهد
وحبذا اللاتي يزاحمننا
عند استلام الحجر الأسود

 

 

فقال خالد : أمّا إنّهن لا يزاحمنّك بعد هذا ، فأمر بالتفريق بين النساء والرجال في الطواف ، فكان أوّل من فرّق بين الرجال والنساء في الطواف .

وصوّر بعض الشعراء الأحداث السياسية التي حصلت في مواسم الحج ، وأشاروا إلى الحُجاج في شعرهم ، فعندما تغلّب أبو حمزة الخارجي على مكّة المُكرّمة في موسم حج عام 129 هـ ، وفرّ واليها عبد الواحد ، وتركها لأبي حمزة الخارجي ، قال أحد الشعراء في مكّة :

 

زار الحجيج عصابة قد خالفوا
دين الإله ففرّ عبد الواحد
ترك الحلائل والإمارة هارباً
و مضى يخبط كالبعير الشارد

 

* الحج في النثر الإسلامي في عصر النبوّة و الراشدين :

كان للحجّ ومشاعره تأثير كبير في النثر الإسلامي منذ عصر النبوّة والخلفاء الراشدين إلى نهاية العصر الاُموي . وتمثّل ذلك في الخطب التي احتوت على العديد من معاني الحج وصوره .

وتشير كُتب السيرة ، كسيرة ابن هشام ، وكُتب التاريخ كتاريخ الطبري ، وغيرها إلى خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) عندما فتح مكّة وما ذكره من حرمتها ، ثمّ براءته من المُشركين في حج عام 9 من الهجرة ، وحجّة الوداع وخطبته فيها .

فعندما فتح الرسول (صلى الله عليه وآله) مكّة في العام الثامن من الهجرة ، أبطل مآثر قريش ما عدا سدانة البيت ، أي خدمة الكعبة المُشرّفة ، وسقاية الحج ، فقال عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكّة ، وكان واقفاً على باب الكعبة :

« لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يُدعى ، فهو تحت قدمي هاتين ، إلاّ سدانة البيت ، وسقاية الحاج .. » .

وبعد فتح مكّة أعاد الرسول (صلى الله عليه وآله) للبيت حرمته ، ففي اليوم الثاني من فتح مكّة خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) فبين حرمة مكّة ، وكانت خزاعة قد عَدَت على رجل من هُذيل فقتلوه وهو مشرك ، فخطب الرسول (صلى الله عليه وآله) قائلا :

«يا أيها الناس ، إنَّ الله حرّم مكّة يوم خلق السموات والأرض ، فهي حرام من حرام إلى يوم القيامة ، فلا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيه دماً ، ولا يعضد فيها شجراً ، لم تحلل لأحد كان قبلي ، ولا تحلّ لأحد يكون بعدي ، ولم تحلل لي إلاّ هذه الساعة ، غضباً على أهلها ، ألا ، ثمّ قد رجعت كحرمتها بالأمس .. » ، (1) .

وفي السنة التاسعة من الهجرة النبويّة ، أصبح الحج إلى مكّة يشمل عدداً كبيراً من عرب الجزيرة ، وعُرف «بالحج الأكبر» وهي أوّل حجّة في الإسلام ، وقد بعث الرسول (صلى الله عليه وآله) أبا بكر أميراً على الحج ليُقيم للمسلمين حجّهم ، وكان المشركون يحجّون أيضاً ، ثمّ نزلت سورة براءة في نقض ما بين الرسول (صلى الله عليه وآله) وبين المُشركين من عهد . يقول تعالى : ( بَرَاءَةٌ مِنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ{(2) . ويقول تعالى : } وَأَذَانٌ مِنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الاَْكْبَرِ أَنَّ الله بَرِىءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى الله وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَاب أَلِيم ) ، (3) .

ثمّ دعا الرسول (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب ، فقال : « أخرج بهذه القصّة من صدر براءة ، وأذّن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى ، إنّه لا يدخل الجنّة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) عهد فهو إلى مدّته » ، ففعل علي ذلك.

وفي السنة العاشرة من الهجرة ، قام الرسول (صلى الله عليه وآله) بحجّته التي عُرفت بحجّة الوداع ، وكان يُحيط به عدد كبير من المسلمين العرب جاءوا من أنحاء الجزيرة . فحجّ بالناس وأراهم مناسكهم وأعلمهم سُنن حجّهم ، وخطب فيهم خطبته المشهورة في يوم عرفة (يوم الحجّ الأكبر) وقال فيها : « إنّ الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة بلدكم هذا» . وقال : « إنّ الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا» .

و يروي ابن هشام في السيرة النبويّة ، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث وقف بعرفة قال : «هذا الموقف ، للجبل الذي عليه ، وكل عرفة موقف . وقال حين وقف على قُزح صبيحة المزدلفة : هذا الموقف وكل المزدلفة موقف . ثمّ لما نحر بالمنحر بمنى قال : هذا النحر ، وكل منى منحر . فقضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحج وقد أراهم مناسكهم ، وأعلمهم ما فرض الله عليهم من حجّهم : من الموقف ، ورمي الجمار ، وطواف البيت ، وما أحلّ لهم من حجّهم ، وما حرّم عليهم ، فكانت حجّة البلاغ ، وحجّة الوداع ، وذلك أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يحجّ بعدها» .

ويروي الفاكهي في كتابه أخبار مكّة ، عن عمرو بن يثربي الضمري قوله : «رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر ، ويوم عرفة بعرفة حين زاغت الشمس على راحلته قبل الصلاة ، والغد من يوم النحر بمنى بعد الظهر».

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المدينة يصلّي صلاة عيد الأضحى ، ثمّ يعظ الناس ويوصيهم ويأمرهم . يروي البخاري عن أبي سعيد الخدري أنّه قال : «كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلّى ، فأوّل شيء يبدأ به الصلاة ، ثمّ ينصرف، فيقوم مُقابل الناس ـ والناس جلوس على صفوفهم ـ فيعظهم ويوصيهم ، ويأمرهم . فإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه أو يأمر بشيء أمر به ، ثمّ ينصرف» .

والواقع أنّ الخطابة تطوّرت بعد ظهور الإسلام ، فقد اتخذها الرسول (صلى الله عليه وآله)أداة للدعوة إلى الدين والوعظ والإرشاد ، وكانت خطابة الرسول (صلى الله عليه وآله) متمّمة للذكر الحكيم ، ومن ثمّ كانت فرضاً مكتوباً في صلاة الجمع والأعياد ثمّ مواسم الحج .

وتحتفظ كتب الحديث بما اتخذه الرسول (صلى الله عليه وآله) من أحكام الحج وتعاليمه وسننه ، التي يسير عليها المسلمون إلى اليوم . ففي صحيح البخاري وموطأ الإمام مالك بن أنس ، ومسند الإمام أحمد ، والمسند الصحيح لمسلم بن الحجاج ، والسُنن لأبي داود ، وغيرها من كُتب الحديث معلومات عن فريضة الحج ، وشروطه ، وأركانه ، وواجباته ، وسننه ، ومحظوراته ، والهدي والأضحية ، وأنواع الحج والعمرة ، وهي فرائض وتعليمات وآداب مبنيّة على القرآن وسُنّة الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) . وهي تصوّر أدب الحج في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) وعهد الخلفاء الراشدين وعصر الصحابة والتابعين .

وكان الخلفاء في العصر الراشدي يقيمون للناس حجّهم ويخطبون فيهم ، وإذا لم يحجّوا يخطبون فيهم ويصلّون بهم في المدينة المنوّرة صلاة العيد . يقول عبدالله بن عباس : «شهدت العيد مع رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان ، فكلّهم كانوا يصلّون قبل الخطبة» . وفي مواسم الحج كان الخُلفاء الراشدون والولاة يخطبون في اليوم السابع من ذي الحجّة بمكّة لتعليم الحاج مناسك الحج وسننه ، وذلك اقتداء بما كان يفعله الرسول (صلى الله عليه وآله) ، فقد خطب قبل التروية بيوم في حجّة الوداع ، وعندما بعث علي بن أبي طالب في العام التاسع للهجرة ، قام علي قبل التروية بيوم فعلّم

-----------------------------------------------------------------

الهوامش

(1) ابن هشام ، السيرة 4 : 58 .

(2) التوبة : الآية 1 . واُنظر : ابن هشام ، السيرة 4 : 188 .

(3) سورة التوبة : الآية 3 . واُنظر : ابن هشام ، السيرة 4 : 188 .


الحجّ في الأدب الجاهلي في الحجاز و الجزيرة العربية

الحج في الشعر الجاهلي

نبذة تاريخيّة عن القبلة في المسجد النّبويّ الشّريف

يومُ الحجِّ الأكبر

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)