• عدد المراجعات :
  • 2393
  • 10/16/2007
  • تاريخ :

خطبة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) لمّا منعت من فدك

فاطمة الزهراء

روى العلاّمة الطبرسي في كتابه الاحتجاج بسنده عن عبد الله بن الحسن [ هو عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن طالب ( عليه السلام ) ] باسناده عن آبائه ( عليهم السلام ) : انه لما أجمع [ أي أحكم النية و العزيمة ] أبو بكر و عمر على منع فاطمة ( عليها السلام ) فدكا ، و بلغها ذلك لاثت [ أي لفته ] خمارها [ الخِمار : المقنعة ، سميت بذلك لان الرأس يخمر بها أي يغطى ] على رأسها ، و اشتملت [ الاشتمال الشيء جعله شاملا و محيطا لنفسه ]، بجلبابها [ الجلباب : الرداء والازار ] ، و اقبلت في لمة ، [ أي جماعة و في بعض النسخ في لميمة بصيغة التصغير أي في جماعة قليلة ] من حفدتها [ الحَفَدَة : الاعوان و الخدم ] و نساء قومها ، تطأ ذيولها [ أي ان اثوابها كانت طويلة ، تستر قدميها ، فكانت تطأها عند المشي ] ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، [ الخُرم : البرك ، النقص ، و العدول ]، حتى دخلت على أبي بكر ، و هو في حشد [ أي جماعة ] من المهاجرين و الانصار و غيرهم ، فنيطت [ أي علقت ] دونها ملاء‌ة [ الملاء‌ة الازار ] ، فجلست ثم أنت انة اجهش [ اجهش القوم : تهيئوا ] القوم لها بالبكاء ، فارتج المجلس ، ثم امهلت هنيئة حتى اذا سكن نشيج القوم ، و هدأت فورتهم ، افتتحت الكلام بحمد الله و الثناء عليه و الصلاة على رسوله ، فعاد القوم في بكائهم ، فلما امسكوا عادت في كلامها ، فقالت ( عليها السلام ) :

( الحمد لله على ما انعم ، و له الشكر على ما الهم ، و الثناء بما قدم ، من عموم نعم ابتداها ، و سبوغ آلاء أسداها ، و تمام منن اولاها ، جم عن الاحصاء عددها ، و نأى عن الجزاء امدها ، و تفاوت عن الادراك ابدها ، و ندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها ، و استحمد إلى الخلائق باجزالها ، و ثنى بالندب إلى امثالها ، و اشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل الاخلاص بأولها ، و ضمن القلوب موصلها ، و أنار في التفكر معقولها ، الممتنع من الابصار رؤيته ، و من الالسن صفته ، و من الاوهام كيفيته ، ابتدع الاشياء لا من شيء كان قبلها ، و انشأها بلا احتذاء امثلة امتثلها كونها بقدرته ، و ذرأها بمشيته ، من غير حاجة منه إلى تكوينها ، و لا فائدة له في تصويرها ، الا تثبيتا لحكمته ، و تنبيها على طاعته ، و اظهارا لقدرته ، تعبدا لبريته ، اعزازا لدعوته ، ثم جعل الثواب على طاعته ، و وضع العقاب على معصيته ، زيادة لعباده من نقمته ، و حياشة [ حاش الابل : جمعها وساقها ] لهم إلى جنته ، و اشهد ان أبي محمدا عبده و رسوله ، اختاره قبل ان ارسله ، و سماه قبل ان اجتباه ، و اصطفاه قبل ان ابتعثه ، اذ الخلائق بالغيب مكنونة ، و بستر الاهاويل مصونة ، و بنهاية العدم مقرونة ، علما من الله تعالى بما يلي الامور ، و احاطة بحوادث الدهور ، و معرفة بموقع الامور ، ابتعثه الله اتماما لامره ، و عزيمة على امضاء حكمه ، و انفاذا لمقادير حتمه ، فرأى الامم فرقا في اديانها ، عكفا على نيرانها ، عابدة لاوثانها ، منكرة لله مع عرفانها ، فأنار الله بأبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) ظلمها ، و كشف عن القلوب بهمها [ أي مبهماتها ، و هي المشكلات من الامور ] ، و جلى عن الابصار غممها [ الغمم : جمع غمة وهي : المبهم الملتبس و في بعض النسخ ( عماها ) ] ، و قام في الناس بالهداية ، فانقذهم من الغواية ، و بصرهم من العماية ، و هداهم إلى الدين القويم ، و دعاهم إلى الطريق المستقيم .

ثمّ قبضه الله اليه قبض رأفة و اختيار ، و رغبة و ايثار ، فمحمد ( صلى الله عليه وآله ) من تعب هذه الدار في راحة ، قد حف بالملائكة الابرار ، و رضوان الرب الغفار ، و مجاورة الملك الجبار ، صلى الله على أبي نبيه ، و أمينه ، و خيرته من الخلق و صفيه ، و السلام عليه و رحمة الله وبركاته ) .

ثمّ التفتت إلى أهل المجلس ، و قالت : ( انتم عباد الله بصب امره و نهيه ، وحملة دينه و وحيه ، وامناء الله على انفسكم ، و بلغائه إلى الامم ، زعيم حق له فيكم ، و عهد قدمه اليكم ، و بقية استخلفها عليكم : كتاب الله الناطق ، و القرآن الصادق ، و النور الساطع ، و الضياء اللامع ، بينة بصائره ، منكشفة سرائره ، منجلية ظواهره ، مغتبطة به اشياعه ، قائدا إلى الرضوان اتباعه ، مؤد النجاة استماعه ، به تنال حجج الله المنورة ، و عزائمه المفسرة ، و محارمه المحذرة ، و بيناته الجالية ، و براهينه الكافية ، و فضائله المندوبة ، و رخصه الموهوبة ، و شرائعه المكتوبة .

فجعل الله الايمان ، تطهيرا لكم من الشرك ، والصلاة : تنزيها لكم عن الكبر ، و الزكاة ، تزكية للنفس ، و نماء في الرزق ، والصيام ، تثبيتا للاخلاص ، و الحج ، تشييدا للدين ، و العدل ، تنسيقا للقلوب ، و طاعتنا ، نظاما للملة ، و امامتنا ، امانا للفرقة ، و الجهاد ، عزا للاسلام ، و الصبر ، معونة على استيجاب الاجر ، والامر بالمعروف ، مصلحة للعامة ، و بر الوالدين ، وقاية من السخط ، و صلة الارحام ، منساه [ أي مؤخرة ] في العمر و منماة للعدد ، و القصاص ، حقنا للدماء ، و الوفاء بالنذر ، تعريضا للمغفرة ، و توفية المكائيل و الموازين ، تغييرا للبخس ، و النهي عن شرب الخمر ، تنزيها عن الرجس ، و اجتناب القذف، حجابا عن اللعنة ، و ترك السرقة ، ايجابا بالعفة ، و حرم الله الشرك ، اخلاصا له بالربوبية ، فاتقوا الله حق تقاته ، و لا تموتن الا و أنتم مسلمون ، و اطيعوا الله فيما أمركم به و نهاكم عنه ، فانه انما يخشى الله من عباده العلماء ) .

ثمّ قالت : ( أيها الناس اعلموا ، اني فاطمة ، و أبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) اقول عودا وبدوا ، و لا اقول ما اقول غلظا ، و لا افعل ما افعل شططا [ الشَطَط : هو البعد عن الحق و مجاوزة الحد في كل شيء ] لقد جاؤكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم [ عنتم : انكرتم و جحدتم ] حريص عليكم بالمؤمنين روؤف رحيم .

فاطمة الزهراء

فان تعزوه و تعرفوه ، تجدوه أبي دون نسائكم ، و اخا ابن عمي دون رجالكم ، و لنعم المعزى اليه ( صلى الله عليه وآله ) ، فبلّغ الرسالة ، صادعا [ الصدع هو الاظهار ] بالنِذارة [ الانذار : و هو الاعلام على وجه التخويف ] مائلا عن مدرجة [ هي المذهب و المسلك ] المشركين ، ضاربا ثبجهم [ الثَبَج : وسط الشيء و معظمه ] آخذا باكظامهم [ الكَظَم : مخرج النفس من الحلق ] داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة ، يجف الاصنام [ في بعض النسخ ( يكسر الاصنام ) و في بعضها ( يجذ ) أي يكسر ] و ينكث الهام ، حتى انهزم الجمع و ولوا الدبر ، حتى تفرى الليل عن صبحه [ أي انشق حتى ظهر وجه الصباح ] و اسفر الحق عن محضه ، و نطق زعيم الدين ، و خرست شقاشق الشياطين [ الشقاشق : جمع شِقشقة و هي : شيء كالربة يخرجها البعير من فيه اذا هاج ] و طاح [ أي هلك ] و شظ [ الوشيظ : السفلة و الرذل من الناس ] النفاق ، و انحلت عقد الكفر وا لشقاق ، وفهتم بكلمة الاخلاص [ أي كلمة التوحيد ] في نفر من البيض الخماص [ المراد بهم اهل البيت عليهم السلام ] ، و كنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب [ أي شربته ] و نُهزة [ أي الفرصة ] الطامع ، و قبسة العجلان [ مثل في الاستعجال ] و موطئ الاقدام [ مثل مشهور في المغلوبية والمذلة ] تشربون الطَرق [ ماء السماء الذي تبول به الابل وتبعر ] و تقتاتون القِدّ [ سير بقد من جلد غير مدبوغ ] اذلة خاسئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، فانقذكم الله تبارك و تعالى بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) ، بعد اللتيا و التي ، و بعد أن مني ببهم الرجال [ أي شجعانهم ] و ذؤبان العرب ، و مردة اهل الكتاب ، كلما اوقدوا نارا للحرب اطفأها الله ، ان نجم [ أي ظهر ] قرى الشيطان [ أي امته وتابعوه ] او فغرت فاغرة من المشركين [ أي الطائفة منهم ] ، قذف أخاه في لهَوَاتها [ اللهوات ، و هي اللحمة في اقصى شفة الفم ] ، فلا ينكفيء [ أي يرجع ] ، حتى يطأ جناحها باخمصه [ الاخمص مالا يصيب الارض من باطن القدم ] ، و يخمد لهبها بسيفه ، مكدودا في ذات الله ، مجتهدا في أمر الله ، قريبا من رسول الله ، سيدا في أولياء الله ، مشمرا ناصحا ، مجدا ، كادحا ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، و انتم في رفاهية من العيش ، و ادعون [ أي ساكنون ] ، فاكهون [ أي ناعمون ] آمنون ، تتربصون بنا الدوائر [ أي صروف الزمان أي كنتم تنظرون نزول البلايا علينا ] و تتوكفون الاخبار [ أي تتوقعون اخبار المصائب والفتن النازلة بنا ] ، و تنكصون عند النزال ، و تفرون من القتال ، فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه ، و مأوى اصفيائه ، ظهر فيكم حسكة النفاق [ في بعض النسخ ( حسكية ) و حسكة النفاق عداوته ] و سمل [ أي صار خلقا ] جلباب الدين [ الجلباب الازار ] و نطق الغاوين ، و نبغ خامل [ أي من خفى ذكره وكان ساقطا لانباهة له ] الاقلين ، و هدر [ الهدير : ترديد البعير صوته في حنجرته ] فنيق [ الفحل المكرم من الابل الذي لا يركب و لا يهان ] المبطلين ، فخطر [ خطر البعير بذنبه اذا رفعه مرة بعد مرة وضرب به فخذيه ] في عرصاتكم ، و اطلع الشيطان رأسه من مغرزه [ أي مايخفى فيه تشبيها له بالقنفذ ، فانه يطلع رأسه بعد زوال الخوف ] هاتفا بكم [ أي حملكم على الغضب فوجدكم مغضبين لغضبه ] فألفاكم لدعوته مستجيبين ، و للعزة فيه ملاحظين ، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا ، و احشمكم فألفا غضابا ، فوسمتم [ الوسم اثر الكي ] غير ابلكم و وردتم [ الورود : حضور الماء للشرب ] غير مشربكم ، هذا و العهد قريب و الكُلم [ أي الجرح ] رُحيب [ أي السعة ] و الجرح لما يندمل [ أي لم يصلح بعد ] و الرسول لما يقبر ، ابتدارا زعمتم خوف الفتنة ، ألا في الفتنة سقطوا ، و ان جهنم لمحيطة بالكافرين ، فهيهات منكم ، و كيف بكم ، و انى تؤفكون ، و كتاب الله بين اظهركم ، اموره ظاهرة ، و احكامه زاهرة ، و اعلامه باهرة ، و زواجره لايحة ، و أوامره واضحة ، و قد خلفتموه وراء ظهوركم ، أرغبة عنه تريدون ؟ ، ام بغيره تحكمون ؟ ، بئس للظالمين بدلا ، و من يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه و هو في الاخرة من الخاسرين .

ثم لم تلبثوا الا ريث ، أن تسكن نفرتها [ نفرت الدابة جزعت وتباعدت ] و يسلس [ أي يسهل ] قيادها ، ثم اخذتم تورون و قدتها [ أي لهبها ] وتهيجون جمرتها ، و تستجيبون لهتاف الشيطان الغوي ، و اطفاء انوار الدين الجلي ، و اهمال سنن النبي الصفي ، تشربون حسوا [ الحسو : هو الشرب شيئا فشيئا ] في ارتغاء [ الارتغاء : هو شرب الرغوة ، و هي اللبن المشوب بالماء ، و حسوا في ارتغاء : مثل يضرب لمن يظهر ، و يريد غيره ] ، و تمشون لاهله و ولده في الخَمرة [ الخمر : ماواراك من شجر و غيره ] ، و الضَراء [ أي الشجر الملتف بالوادي ] و يصير منكم على مثل حز [ أي القطع ] المدى ، و وخز السنان في الحشاء ، و انتم الان تزعمون ، أن لا إرث لنا ، افحكم الجاهلية تبغون و من احسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟ ، أفلا تعلمون ؟ ، بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية : أني ابنته .

ايها المسلمون أغلب على ارثي ؟، يابن أبي قحافة أفي كتاب الله ترث أباك ، و لا ارث أبي ؟ ، لقد جئت شيئا فريا ! ، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ، و نبذتموه وراء ظهوركم ؟ ، اذ يقول : ( وورث سليمان داود ) ، [ النمل : 16 ] ، و قال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا اذ قال : ( فهب لي من لدنك وليا ، يرثني و يرث من آل يعقوب ) ، [ مريم : 6 ] ، و قال : ( و اولوا الارحام بعضهم اولى ببعض في كتاب الله ) ، [ الانفال : 75 ] ، و قال : ( يوصيكم الله في اولادكم للذكر مثل حظ الانثيين ) ، [ النساء : 11 ] ، و قال : ( إن ترك خيرا الوصية للوالدين و الاقربين بالمعروف حقا على المتقين ) ، [ البقرة :180 ] ، و زعمتم : ان لا حظوة [ أي المكانة ] لي و لا ارث من أبي ، و لا رحم بيننا ، افخصكم الله بآية اخرج أبي منها ؟ ، ام هل تقولون : أن اهل ملتين لا يتوارثان ؟ ، أو لست انا و أبي من اهل ملة واحدة ؟ ، أم انتم أعلم بخصوص القرآن من أبي و ابن عمي ؟ ، فدونكها مخطومة [ من الخِطام، و هو : كل مايدخل في انف البعير ليقاد به ] ، مرحولة [ الرَحل : هو للناقة كالسراج للفرس ] تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم و الزعيم محمد ، و الموعد القيامة ، و عند الساعة يخسر المبطلون ، و لا ينفعكم اذ تندمون ، و لكل نبأ مستقر ، و سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ، و يحل عليه عذاب مقيم ) .

ثمّ رمت بطرفها نحو الانصار فقالت : ( يامعشر النقيبة [ أي الفتية ] و اعضاد الملة و حضنة الاسلام ، ماهذه الغَميزَة [ أي ضعفة في العمل ] في حقي و السِنة [ النوم الخفيف ] عن ظلامتي ؟ ، أما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبي يقول : ( المرء يحفظ في ولده ) ؟ ، سرعان ما أحدثتم ، و عجلان ذا إهالة [ أي الدسم ] و لكم طاقة بما احاول ، و قوة على ما اطلب و أزاول ، أتقولون مات محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟ فخطب جليل ، استوسع وهنه [ وهنة الوهن : الخرق ] ، و استنهر [ أي اتسع ] فتقه و انفتق رتقه ، و اظلمت الارض لغيبته ، و كسف الشمس و القمر ، و انتثرت النجوم لمصيبته ، و اكدت [ أي قل خيرها ] الآمال ، و خشعت الجبال ، و أضيع الحريم ، و أزيلت الحرمة عند مماته ، فتلك و الله النازلة الكبرى ، و المصيبة العظمى ، لا مثلها نازلة ، و لا بائقة [ أي داهية ] عاجلة ، اعلن بها كتاب الله جل ثناؤه ، في افنيتكم ، و في ممساكم ، و مصبحكم ، يهتف في افنيتكم هنافا ، و صراخا ، و تلاوة ، و الحانا ، و لقبله ما حل بأنبياء الله و رسله ، حكم فصل ، و قضاء حتم : ( و ما محمد الا رسول ، قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ، و من ينقلب على عقبيه ، فلن يضر الله شيئا ، و سيجزي الله الشاكرين ) ، [ آل عمران : 144 ] .

( أيّها بني قيلة [ قبيلتا الانصار : الاوس و الخزرج ] أهضم تراث أبي ؟ ، و انتم بمرئ مني و مسمع ، و منتدى [ أي المجلس ] و مجمع ، تلبسكم الدعوة ، و تشملكم الخبرة ، و انتم ذوو العد و العدة ، و الاداة و القوة ، و عندكم السلاح و الجُنة [ ما استترت به من السلاح ] توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، و تأتيكم الصرخة فلا تغيثون ، و انتم موصوفون بالكفاح ، معروفون بالخير و الصلاح ، و النخبة التي انتخبت ، و الخيرة التي اختيرت لنا اهل البيت ، قاتلتم العرب ، و تحملتم الكد و التعب ، و ناطحتم الامم ، و كافحتم البهم ، لا نبرح [ أي لا نزال ] او تبرحون ، نأمركم فتأتمرون ، حتى اذا دارت بنا رحى الاسلام ، و در حلب الايام ، و خضعت ثغرة الشرك ، و سكنت فورة الافك ، و خمدت نيران الكفر ، و هدأت دعوة الهرج ، و استوسق [ أي اجتمع ] نظام الدين ، فأنى حزتم بعد البيان ؟ ، و اسررتم بعد الاعلان ؟ ، و نكصتم بعد الاقدام ؟، و اشركتم بعد الايمان ؟ ، بؤسا لقوم نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم ، وهموا باخراج الرسول ، و هم بدؤكم اول مرة ، اتخشونهم فالله احق ان تخشوه ، ان كنتم مؤمنين .

ألا و قد أرى أن قد اخلدتم [ أي ملتم ] إلى الخفض [ أي السعة والخصب واللين ] ، و ابعدتم من هو احق بالبسط و القبض ، و خلوتم بالدعة [ الدعة : الراحة و السكون ] ، و نجوتم بالضيق من السعة ، فمججتم ماوعيتم ، و دسغتم [ الدسغ : الفيء ] الذي تسوغتم [ تسوغ الشراب شربه بسهولة ] ، فان تكفروا انتم و من في الارض جميعا ، فان الله لغني حميد .

ألا و قد قلت ما قلت هذا على معرفة مني بالجذلة [ الجذلة : ترك النصر ] التي خامرتكم [ أي خالطتكم ] و الغدرة ، التي استشعرتها قلوبكم ، ولكنها فيضة النفس ، و نفثة الغيظ ، و خور [ أي الضعف ] القناة [ أي الرمح ، و المراد من ضعف القناة هنا ضعف النفس عن الصبر على الشدة ] و بثة الصدر ، و تقدمة الحجة ، فدونكموها فاحتقبوها [ أي احملوها على ظهوركم و دبر البعير اصابته الدَبَرَة ، و هي جراحة تحدث من الرحل ] دبرة الظهر ، نقبة [ نقب خف البعير رق و تثقب ] الخف ، باقية العار ، موسومة بغضب الجبار ، و شنار الابد ، موصولة بنار الله الموقدة ، التي تطلع على الافئدة ، فبعين الله ما تفعلون ، و سيعلم الذين ظلموا أي مقلب ينقلبون ، و أنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فاعلموا أنا عاملون ، و انتظر أنا منتظرون ) .

فاجابها أبو بكر عبد الله بن عثمان ، و قال : يا بنت رسول الله ، لقد كان ابوك بالمؤمنين عطوفا كريما ، روؤفا رحيما ، و على الكافرين عذابا اليما ، و عقابا عظيما ، ان عزوناه وجدناه اباك دون النساء ، و اخا إلفك دون الاخلاء [ الالف : هو الاليف بمعنى المألوف و المراد به هنا الزوج لانه إلف الزوجة ، و في بعض النسخ : ابن عمك ] آثر على كل حميم ، و ساعده في كل امر جسيم ، لا يحبكم الا سعيد ، و لا يبغضكم الا شقي بعيد ، فأنتم عترة رسول الله ، و الطيبون الخيرة المنتجبون ، على الخير ادلتنا ، إلى الجنة مسالكنا ، و أنت يا خيرة النساء ، و أبنة خير الانبياء ، صادقة في قولك ، سابقة في وفور عقلك ، غير مردودة عن حقك ، و لا مصدودة عن صدقك ، و الله ماعدوت رأي رسول الله ، و لا عملت الا بإذنه ، و الرائد لا يكذب أهله ، و اني اشهد الله وكفى به شهيدا ، أني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : ( نحن معاشر الانبياء ، لا نورث ذهبا و لا فضة ، و لا دارا ولا عقار ، و إنما نورث الكتاب و الحكمة ، والعلم و النبوة ، و ما كان لنا من طعمة ، فلولي الامر بعدنا ، ان يحكم فيه بحكمه ) ، و قد جعلنا ماحولته في الكراع و السلاح ، يقاتل بها المسلمون ، و يجاهدون الكفار ، و يجالدون المردة الفجار ، و ذلك باجماع من المسلمين ، لم انفرد به وحدي ، و لم استبد بما كان الرأي عندي ، و هذه حالي و مالي ، هي لك و بين يديك ، لاتزوى عنك ، و لا ندخر دونك ، و انك وانت سيدة امة أبيك ، و الشجرة الطيبة لبنيك ، لا ندفع مالك من فضلك ، و لا يوضع في فرعك و اصلك ، حكمك نافذ فيما ملكت يداي ، فهل ترين ان اخالف في ذلك أباك ( صلى الله عليه و آله ) ؟

فقالت ( عليها السلام ) : ( سبحان الله ما كان أبي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن كتاب الله صادفا [ أي معرضا ] ، ولا لاحكامه مخالفا ! ، بل كان يتبع اثره ، و يقفو سوره ، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالا عليه بالزور ، و هذا بعد وفاته شبيه بما بغى له من الغوائل [ أي المهالك ] في حياته ، هذا كتاب الله حكما عدلا ، و ناطقا فصلا ، يقول : ( يرثني و يرث من آل يعقوب ) ، [ مريم : 6 ] ، و يقول : ( و ورث سليمان داود ) ، [ النمل : 16 ] ،و بين عزوجل فيما وزع من الاقساط ، و شرع من الفرائض و الميراث ، و اباح من حظ الذكران و الاناث ، ما ازاح به علة المبطلين ، و أزال التظني و الشبهات في الغابرين ، كلا بل سولت لكم انفسكم أمرا ، فصبر جميل ، و الله المستعان على ما تصفون ) .

فقال ابو بكر : صدق الله و رسوله ، و صدقت ابنته ، أنت معدن الحكمة ، و موطن الهدى و الرحمة ، و ركن الدين ، و عين الحجة ، لا ابعد صوابك ، و لا انكر خطابك ، هؤلاء المسلمون بيني و بينك ، قلدوني ما تقلدت ، و باتفاق منهم أخذت ما أخذت ، غير مكابر و لا مستبد ، و لا مستأثر ، و هم بذلك شهود .

فالتفتت فاطمة ( عليها السلام ) إلى الناس ، و قالت : ( معاشر المسلمين المسرعة إلى قيل الباطل [ في بعض النسخ : قبول الباطل ] المغضية على الفعل القبيح الخاسر ، افلا تتدبرون القرآن ؟ ، أم على قلوب أقفالها ؟ ، كلا بل ران على قلوبكم ما اسأتم من اعمالكم ، فأخذ بسمعكم و ابصاركم ، ولبئس ما تأولتم ، و ساء ما به أشرتم ، و شر ما منه اغتصبتم ، لتجدن و الله محمله ثقيلا ، و غبه وبيلا ، اذا كشف لكم الغطاء ، و بان باورائه الضراء ، و بدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون ، و خسر هنالك المبطلون ) .

ثمّ عطفت على قبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، و قالت :

 

قد كان بعدك انباء وهنبثة
 لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
انا فقدناك فقد الارض وابلها
واختل قومك فاشهدهم ولا تغب
وكل اهل له قربى ومنزلة
عند الاله على الادنين مقترب
ابدت رجال لنا نجوى صدورهم
 لما مضيت وحالت دونك الترب
تجهمتنا رحال واستخف بنا
 لما فقدت وكل الارض مغتصب
وكنت بدرا و نورا يستضاء به
عليك ينزل من ذي العزة الكتب
وكان جبريل بالآيات يؤنسنا
 فقد فقدت وكل الخير محتجب
فليت قبلك كان الموت صادفنا
لما مضيت وحالت دونك الكثب

 

ثمّ انكفئت ( عليها السلام ) ، و أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يتوقع رجوعها اليه ، و يتطلع طلوعها عليه ، فلما استقرت بها الدار ، قالت : لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( يابن أبي طالب ، اشتملت شملة الجنين ، و قعدت حجرة الظنين ، نقضت قادمة ، [ قوادم الطير : مقادم ريشه وهي عشرة ] الاجدل [ أي الصقر ] فخانك ريش الاعزل [ العزل من الطير : ما لا يقدر على الطيران ] ، هذا ابن ابي قحافة يبتزني [ أي يسلبني ] نحلة أبي وبغلة [ البغلة ما يتبلغ به من العيش ] ابني ! لقد اجهد [ في بعض النسخ : اجهر ] في خصامي ، و الفيته [ أي وجدته ] الد [ الالد : شديد الخصومة ] في كلامي ، حتى حبستني قيلة نصرها و المهاجرة وصلها ، و غضت الجماعة دوني طرفها ، فلا دافع و لا مانع ، خرجت كاظمة ، و عدت راغمة ، اضرعت [ ضرع : خضع وذل ] خدك يوم اضعت حدك إفترست الذئاب ، و افترشت التراب ، ما كففت قائلا ، و لا اغنيت طائلا [ أي ما فعلت شيئا نافعا ، وفي بعض النسخ : و لا اغيت باطلا : أي كففته ] و لا خيار لي ، ليتني مت قبل هنيئتي ، و دون ذلتي عذيري [ العذير بمعنى العاذر أي : الله قابل عذري ] الله منه عاديا [ أي متجاوزا ] و منك حاميا ، و يلاي في كل شارق ! ويلاي في كل غارب ! مات العمد ، و وهن [ الوهن : الضعف في العمل او الامر او البدن ] العضد ، شكواي إلى أبي ! وعدواي [ العدوى : طلبك إلى وال لينتقم لك من عدوك ] إلى ربي ! اللهم انك اشد منهم قوة و حولا ، و اشد بأسا و تنكيلا ) .

فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( لا ويل لك بل الويل لشانئك [ الشانيء : المبغض ] ، ثم نهنهي عن وجدك [ أي كفي عن حزنك و خففي من غضبك ] ياابنة الصفوة ، و بقية النبوة ، فما ونيت [ أي ماكللت ولا ضعفت ولا عييت ] عن ديني ، و لا اخطأت مقدوري [ أي ما تركت ما دخل تحت قدرتي أي لست قادرا على الانتصاف لك لما اوصاني به الرسول ] ، فان كنت تريدين البلغة ، فرزقك مضمون ، و كفيلك مأمون ، و ما اعد لك اضل مما قطع عنك ، فاحتسبي الله ) .

فقالت : ( حسبي الله ) ، و امسكت .

 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)