خطبة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) لمّا منعت من فدك
روى العلاّمة الطبرسي في كتابه الاحتجاج بسنده عن عبد الله بن الحسن [ هو عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن طالب ( عليه السلام ) ] باسناده عن آبائه ( عليهم السلام ) : انه لما أجمع [ أي أحكم النية و العزيمة ] أبو بكر و عمر على منع فاطمة ( عليها السلام ) فدكا ، و بلغها ذلك لاثت [ أي لفته ] خمارها [ الخِمار : المقنعة ، سميت بذلك لان الرأس يخمر بها أي يغطى ] على رأسها ، و اشتملت [ الاشتمال الشيء جعله شاملا و محيطا لنفسه ]، بجلبابها [ الجلباب : الرداء والازار ] ، و اقبلت في لمة ، [ أي جماعة و في بعض النسخ في لميمة بصيغة التصغير أي في جماعة قليلة ] من حفدتها [ الحَفَدَة : الاعوان و الخدم ] و نساء قومها ، تطأ ذيولها [ أي ان اثوابها كانت طويلة ، تستر قدميها ، فكانت تطأها عند المشي ] ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، [ الخُرم : البرك ، النقص ، و العدول ]، حتى دخلت على أبي بكر ، و هو في حشد [ أي جماعة ] من المهاجرين و الانصار و غيرهم ، فنيطت [ أي علقت ] دونها ملاءة [ الملاءة الازار ] ، فجلست ثم أنت انة اجهش [ اجهش القوم : تهيئوا ] القوم لها بالبكاء ، فارتج المجلس ، ثم امهلت هنيئة حتى اذا سكن نشيج القوم ، و هدأت فورتهم ، افتتحت الكلام بحمد الله و الثناء عليه و الصلاة على رسوله ، فعاد القوم في بكائهم ، فلما امسكوا عادت في كلامها ، فقالت ( عليها السلام ) :
( الحمد لله على ما انعم ، و له الشكر على ما الهم ، و الثناء بما قدم ، من عموم نعم ابتداها ، و سبوغ آلاء أسداها ، و تمام منن اولاها ، جم عن الاحصاء عددها ، و نأى عن الجزاء امدها ، و تفاوت عن الادراك ابدها ، و ندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها ، و استحمد إلى الخلائق باجزالها ، و ثنى بالندب إلى امثالها ، و اشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل الاخلاص بأولها ، و ضمن القلوب موصلها ، و أنار في التفكر معقولها ، الممتنع من الابصار رؤيته ، و من الالسن صفته ، و من الاوهام كيفيته ، ابتدع الاشياء لا من شيء كان قبلها ، و انشأها بلا احتذاء امثلة امتثلها كونها بقدرته ، و ذرأها بمشيته ، من غير حاجة منه إلى تكوينها ، و لا فائدة له في تصويرها ، الا تثبيتا لحكمته ، و تنبيها على طاعته ، و اظهارا لقدرته ، تعبدا لبريته ، اعزازا لدعوته ، ثم جعل الثواب على طاعته ، و وضع العقاب على معصيته ، زيادة لعباده من نقمته ، و حياشة [ حاش الابل : جمعها وساقها ] لهم إلى جنته ، و اشهد ان أبي محمدا عبده و رسوله ، اختاره قبل ان ارسله ، و سماه قبل ان اجتباه ، و اصطفاه قبل ان ابتعثه ، اذ الخلائق بالغيب مكنونة ، و بستر الاهاويل مصونة ، و بنهاية العدم مقرونة ، علما من الله تعالى بما يلي الامور ، و احاطة بحوادث الدهور ، و معرفة بموقع الامور ، ابتعثه الله اتماما لامره ، و عزيمة على امضاء حكمه ، و انفاذا لمقادير حتمه ، فرأى الامم فرقا في اديانها ، عكفا على نيرانها ، عابدة لاوثانها ، منكرة لله مع عرفانها ، فأنار الله بأبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) ظلمها ، و كشف عن القلوب بهمها [ أي مبهماتها ، و هي المشكلات من الامور ] ، و جلى عن الابصار غممها [ الغمم : جمع غمة وهي : المبهم الملتبس و في بعض النسخ ( عماها ) ] ، و قام في الناس بالهداية ، فانقذهم من الغواية ، و بصرهم من العماية ، و هداهم إلى الدين القويم ، و دعاهم إلى الطريق المستقيم .
ثمّ قبضه الله اليه قبض رأفة و اختيار ، و رغبة و ايثار ، فمحمد ( صلى الله عليه وآله ) من تعب هذه الدار في راحة ، قد حف بالملائكة الابرار ، و رضوان الرب الغفار ، و مجاورة الملك الجبار ، صلى الله على أبي نبيه ، و أمينه ، و خيرته من الخلق و صفيه ، و السلام عليه و رحمة الله وبركاته ) .
ثمّ التفتت إلى أهل المجلس ، و قالت : ( انتم عباد الله بصب امره و نهيه ، وحملة دينه و وحيه ، وامناء الله على انفسكم ، و بلغائه إلى الامم ، زعيم حق له فيكم ، و عهد قدمه اليكم ، و بقية استخلفها عليكم : كتاب الله الناطق ، و القرآن الصادق ، و النور الساطع ، و الضياء اللامع ، بينة بصائره ، منكشفة سرائره ، منجلية ظواهره ، مغتبطة به اشياعه ، قائدا إلى الرضوان اتباعه ، مؤد النجاة استماعه ، به تنال حجج الله المنورة ، و عزائمه المفسرة ، و محارمه المحذرة ، و بيناته الجالية ، و براهينه الكافية ، و فضائله المندوبة ، و رخصه الموهوبة ، و شرائعه المكتوبة .
فجعل الله الايمان ، تطهيرا لكم من الشرك ، والصلاة : تنزيها لكم عن الكبر ، و الزكاة ، تزكية للنفس ، و نماء في الرزق ، والصيام ، تثبيتا للاخلاص ، و الحج ، تشييدا للدين ، و العدل ، تنسيقا للقلوب ، و طاعتنا ، نظاما للملة ، و امامتنا ، امانا للفرقة ، و الجهاد ، عزا للاسلام ، و الصبر ، معونة على استيجاب الاجر ، والامر بالمعروف ، مصلحة للعامة ، و بر الوالدين ، وقاية من السخط ، و صلة الارحام ، منساه [ أي مؤخرة ] في العمر و منماة للعدد ، و القصاص ، حقنا للدماء ، و الوفاء بالنذر ، تعريضا للمغفرة ، و توفية المكائيل و الموازين ، تغييرا للبخس ، و النهي عن شرب الخمر ، تنزيها عن الرجس ، و اجتناب القذف، حجابا عن اللعنة ، و ترك السرقة ، ايجابا بالعفة ، و حرم الله الشرك ، اخلاصا له بالربوبية ، فاتقوا الله حق تقاته ، و لا تموتن الا و أنتم مسلمون ، و اطيعوا الله فيما أمركم به و نهاكم عنه ، فانه انما يخشى الله من عباده العلماء ) .
ثمّ قالت : ( أيها الناس اعلموا ، اني فاطمة ، و أبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) اقول عودا وبدوا ، و لا اقول ما اقول غلظا ، و لا افعل ما افعل شططا [ الشَطَط : هو البعد عن الحق و مجاوزة الحد في كل شيء ] لقد جاؤكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم [ عنتم : انكرتم و جحدتم ] حريص عليكم بالمؤمنين روؤف رحيم .
فان تعزوه و تعرفوه ، تجدوه أبي دون نسائكم ، و اخا ابن عمي دون رجالكم ، و لنعم المعزى اليه ( صلى الله عليه وآله ) ، فبلّغ الرسالة ، صادعا [ الصدع هو الاظهار ] بالنِذارة [ الانذار : و هو الاعلام على وجه التخويف ] مائلا عن مدرجة [ هي المذهب و المسلك ] المشركين ، ضاربا ثبجهم [ الثَبَج : وسط الشيء و معظمه ] آخذا باكظامهم [ الكَظَم : مخرج النفس من الحلق ] داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة ، يجف الاصنام [ في بعض النسخ ( يكسر الاصنام ) و في بعضها ( يجذ ) أي يكسر ] و ينكث الهام ، حتى انهزم الجمع و ولوا الدبر ، حتى تفرى الليل عن صبحه [ أي انشق حتى ظهر وجه الصباح ] و اسفر الحق عن محضه ، و نطق زعيم الدين ، و خرست شقاشق الشياطين [ الشقاشق : جمع شِقشقة و هي : شيء كالربة يخرجها البعير من فيه اذا هاج ] و طاح [ أي هلك ] و شظ [ الوشيظ : السفلة و الرذل من الناس ] النفاق ، و انحلت عقد الكفر وا لشقاق ، وفهتم بكلمة الاخلاص [ أي كلمة التوحيد ] في نفر من البيض الخماص [ المراد بهم اهل البيت عليهم السلام ] ، و كنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب [ أي شربته ] و نُهزة [ أي الفرصة ] الطامع ، و قبسة العجلان [ مثل في الاستعجال ] و موطئ الاقدام [ مثل مشهور في المغلوبية والمذلة ] تشربون الطَرق [ ماء السماء الذي تبول به الابل وتبعر ] و تقتاتون القِدّ [ سير بقد من جلد غير مدبوغ ] اذلة خاسئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، فانقذكم الله تبارك و تعالى بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) ، بعد اللتيا و التي ، و بعد أن مني ببهم الرجال [ أي شجعانهم ] و ذؤبان العرب ، و مردة اهل الكتاب ، كلما اوقدوا نارا للحرب اطفأها الله ، ان نجم [ أي ظهر ] قرى الشيطان [ أي امته وتابعوه ] او فغرت فاغرة من المشركين [ أي الطائفة منهم ] ، قذف أخاه في لهَوَاتها [ اللهوات ، و هي اللحمة في اقصى شفة الفم ] ، فلا ينكفيء [ أي يرجع ] ، حتى يطأ جناحها باخمصه [ الاخمص مالا يصيب الارض من باطن القدم ] ، و يخمد لهبها بسيفه ، مكدودا في ذات الله ، مجتهدا في أمر الله ، قريبا من رسول الله ، سيدا في أولياء الله ، مشمرا ناصحا ، مجدا ، كادحا ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، و انتم في رفاهية من العيش ، و ادعون [ أي ساكنون ] ، فاكهون [ أي ناعمون ] آمنون ، تتربصون بنا الدوائر [ أي صروف الزمان أي كنتم تنظرون نزول البلايا علينا ] و تتوكفون الاخبار [ أي تتوقعون اخبار المصائب والفتن النازلة بنا ] ، و تنكصون عند النزال ، و تفرون من القتال ، فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه ، و مأوى اصفيائه ، ظهر فيكم حسكة النفاق [ في بعض النسخ ( حسكية ) و حسكة النفاق عداوته ] و سمل [ أي صار خلقا ] جلباب الدين [ الجلباب الازار ] و نطق الغاوين ، و نبغ خامل [ أي من خفى ذكره وكان ساقطا لانباهة له ] الاقلين ، و هدر [ الهدير : ترديد البعير صوته في حنجرته ] فنيق [ الفحل المكرم من الابل الذي لا يركب و لا يهان ] المبطلين ، فخطر [ خطر البعير بذنبه اذا رفعه مرة بعد مرة وضرب به فخذيه ] في عرصاتكم ، و اطلع الشيطان رأسه من مغرزه [ أي مايخفى فيه تشبيها له بالقنفذ ، فانه يطلع رأسه بعد زوال الخوف ] هاتفا بكم [ أي حملكم على الغضب فوجدكم مغضبين لغضبه ] فألفاكم لدعوته مستجيبين ، و للعزة فيه ملاحظين ، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا ، و احشمكم فألفا غضابا ، فوسمتم [ الوسم اثر الكي ] غير ابلكم و وردتم [ الورود : حضور الماء للشرب ] غير مشربكم ، هذا و العهد قريب و الكُلم [ أي الجرح ] رُحيب [ أي السعة ] و الجرح لما يندمل [ أي لم يصلح بعد ] و الرسول لما يقبر ، ابتدارا زعمتم خوف الفتنة ، ألا في الفتنة سقطوا ، و ان جهنم لمحيطة بالكافرين ، فهيهات منكم ، و كيف بكم ، و انى تؤفكون ، و كتاب الله بين اظهركم ، اموره ظاهرة ، و احكامه زاهرة ، و اعلامه باهرة ، و زواجره لايحة ، و أوامره واضحة ، و قد خلفتموه وراء ظهوركم ، أرغبة عنه تريدون ؟ ، ام بغيره تحكمون ؟ ، بئس للظالمين بدلا ، و من يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه و هو في الاخرة من الخاسرين .
ثم لم تلبثوا الا ريث ، أن تسكن نفرتها [ نفرت الدابة جزعت وتباعدت ] و يسلس [ أي يسهل ] قيادها ، ثم اخذتم تورون و قدتها [ أي لهبها ] وتهيجون جمرتها ، و تستجيبون لهتاف الشيطان الغوي ، و اطفاء انوار الدين الجلي ، و اهمال سنن النبي الصفي ، تشربون حسوا [ الحسو : هو الشرب شيئا فشيئا ] في ارتغاء [ الارتغاء : هو شرب الرغوة ، و هي اللبن المشوب بالماء ، و حسوا في ارتغاء : مثل يضرب لمن يظهر ، و يريد غيره ] ، و تمشون لاهله و ولده في الخَمرة [ الخمر : ماواراك من شجر و غيره ] ، و الضَراء [ أي الشجر الملتف بالوادي ] و يصير منكم على مثل حز [ أي القطع ] المدى ، و وخز السنان في الحشاء ، و انتم الان تزعمون ، أن لا إرث لنا ، افحكم الجاهلية تبغون و من احسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟ ، أفلا تعلمون ؟ ، بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية : أني ابنته .
ايها المسلمون أغلب على ارثي ؟، يابن أبي قحافة أفي كتاب الله ترث أباك ، و لا ارث أبي ؟ ، لقد جئت شيئا فريا ! ، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ، و نبذتموه وراء ظهوركم ؟ ، اذ يقول : ( وورث سليمان داود ) ، [ النمل : 16 ] ، و قال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا اذ قال : ( فهب لي من لدنك وليا ، يرثني و يرث من آل يعقوب ) ، [ مريم : 6 ] ، و قال : ( و اولوا الارحام بعضهم اولى ببعض في كتاب الله ) ، [ الانفال : 75 ] ، و قال : ( يوصيكم الله في اولادكم للذكر مثل حظ الانثيين ) ، [ النساء : 11 ] ، و قال : ( إن ترك خيرا الوصية للوالدين و الاقربين بالمعروف حقا على المتقين ) ، [ البقرة :180 ] ، و زعمتم : ان لا حظوة [ أي المكانة ] لي و لا ارث من أبي ، و لا رحم بيننا ، افخصكم الله بآية اخرج أبي منها ؟ ، ام هل تقولون : أن اهل ملتين لا يتوارثان ؟ ، أو لست انا و أبي من اهل ملة واحدة ؟ ، أم انتم أعلم بخصوص القرآن من أبي و ابن عمي ؟ ، فدونكها مخطومة [ من الخِطام، و هو : كل مايدخل في انف البعير ليقاد به ] ، مرحولة [ الرَحل : هو للناقة كالسراج للفرس ] تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم و الزعيم محمد ، و الموعد القيامة ، و عند الساعة يخسر المبطلون ، و لا ينفعكم اذ تندمون ، و لكل نبأ مستقر ، و سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ، و يحل عليه عذاب مقيم ) .
ثمّ رمت بطرفها نحو الانصار فقالت : ( يامعشر النقيبة [ أي الفتية ] و اعضاد الملة و حضنة الاسلام ، ماهذه الغَميزَة [ أي ضعفة في العمل ] في حقي و السِنة [ النوم الخفيف ] عن ظلامتي ؟ ، أما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبي يقول : ( المرء يحفظ في ولده ) ؟ ، سرعان ما أحدثتم ، و عجلان ذا إهالة [ أي الدسم ] و لكم طاقة بما احاول ، و قوة على ما اطلب و أزاول ، أتقولون مات محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟ فخطب جليل ، استوسع وهنه [ وهنة الوهن : الخرق ] ، و استنهر [ أي اتسع ] فتقه و انفتق رتقه ، و اظلمت الارض لغيبته ، و كسف الشمس و القمر ، و انتثرت النجوم لمصيبته ، و اكدت [ أي قل خيرها ] الآمال ، و خشعت الجبال ، و أضيع الحريم ، و أزيلت الحرمة عند مماته ، فتلك و الله النازلة الكبرى ، و المصيبة العظمى ، لا مثلها نازلة ، و لا بائقة [ أي داهية ] عاجلة ، اعلن بها كتاب الله جل ثناؤه ، في افنيتكم ، و في ممساكم ، و مصبحكم ، يهتف في افنيتكم هنافا ، و صراخا ، و تلاوة ، و الحانا ، و لقبله ما حل بأنبياء الله و رسله ، حكم فصل ، و قضاء حتم : ( و ما محمد الا رسول ، قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ، و من ينقلب على عقبيه ، فلن يضر الله شيئا ، و سيجزي الله الشاكرين ) ، [ آل عمران : 144 ] .
( أيّها بني قيلة [ قبيلتا الانصار : الاوس و الخزرج ] أهضم تراث أبي ؟ ، و انتم بمرئ مني و مسمع ، و منتدى [ أي المجلس ] و مجمع ، تلبسكم الدعوة ، و تشملكم الخبرة ، و انتم ذوو العد و العدة ، و الاداة و القوة ، و عندكم السلاح و الجُنة [ ما استترت به من السلاح ] توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، و تأتيكم الصرخة فلا تغيثون ، و انتم موصوفون بالكفاح ، معروفون بالخير و الصلاح ، و النخبة التي انتخبت ، و الخيرة التي اختيرت لنا اهل البيت ، قاتلتم العرب ، و تحملتم الكد و التعب ، و ناطحتم الامم ، و كافحتم البهم ، لا نبرح [ أي لا نزال ] او تبرحون ، نأمركم فتأتمرون ، حتى اذا دارت بنا رحى الاسلام ، و در حلب الايام ، و خضعت ثغرة الشرك ، و سكنت فورة الافك ، و خمدت نيران الكفر ، و هدأت دعوة الهرج ، و استوسق [ أي اجتمع ] نظام الدين ، فأنى حزتم بعد البيان ؟ ، و اسررتم بعد الاعلان ؟ ، و نكصتم بعد الاقدام ؟، و اشركتم بعد الايمان ؟ ، بؤسا لقوم نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم ، وهموا باخراج الرسول ، و هم بدؤكم اول مرة ، اتخشونهم فالله احق ان تخشوه ، ان كنتم مؤمنين .
ألا و قد أرى أن قد اخلدتم [ أي ملتم ] إلى الخفض [ أي السعة والخصب واللين ] ، و ابعدتم من هو احق بالبسط و القبض ، و خلوتم بالدعة [ الدعة : الراحة و السكون ] ، و نجوتم بالضيق من السعة ، فمججتم ماوعيتم ، و دسغتم [ الدسغ : الفيء ] الذي تسوغتم [ تسوغ الشراب شربه بسهولة ] ، فان تكفروا انتم و من في الارض جميعا ، فان الله لغني حميد .
ألا و قد قلت ما قلت هذا على معرفة مني بالجذلة [ الجذلة : ترك النصر ] التي خامرتكم [ أي خالطتكم ] و الغدرة ، التي استشعرتها قلوبكم ، ولكنها فيضة النفس ، و نفثة الغيظ ، و خور [ أي الضعف ] القناة [ أي الرمح ، و المراد من ضعف القناة هنا ضعف النفس عن الصبر على الشدة ] و بثة الصدر ، و تقدمة الحجة ، فدونكموها فاحتقبوها [ أي احملوها على ظهوركم و دبر البعير اصابته الدَبَرَة ، و هي جراحة تحدث من الرحل ] دبرة الظهر ، نقبة [ نقب خف البعير رق و تثقب ] الخف ، باقية العار ، موسومة بغضب الجبار ، و شنار الابد ، موصولة بنار الله الموقدة ، التي تطلع على الافئدة ، فبعين الله ما تفعلون ، و سيعلم الذين ظلموا أي مقلب ينقلبون ، و أنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فاعلموا أنا عاملون ، و انتظر أنا منتظرون ) .
فاجابها أبو بكر عبد الله بن عثمان ، و قال : يا بنت رسول الله ، لقد كان ابوك بالمؤمنين عطوفا كريما ، روؤفا رحيما ، و على الكافرين عذابا اليما ، و عقابا عظيما ، ان عزوناه وجدناه اباك دون النساء ، و اخا إلفك دون الاخلاء [ الالف : هو الاليف بمعنى المألوف و المراد به هنا الزوج لانه إلف الزوجة ، و في بعض النسخ : ابن عمك ] آثر على كل حميم ، و ساعده في كل امر جسيم ، لا يحبكم الا سعيد ، و لا يبغضكم الا شقي بعيد ، فأنتم عترة رسول الله ، و الطيبون الخيرة المنتجبون ، على الخير ادلتنا ، إلى الجنة مسالكنا ، و أنت يا خيرة النساء ، و أبنة خير الانبياء ، صادقة في قولك ، سابقة في وفور عقلك ، غير مردودة عن حقك ، و لا مصدودة عن صدقك ، و الله ماعدوت رأي رسول الله ، و لا عملت الا بإذنه ، و الرائد لا يكذب أهله ، و اني اشهد الله وكفى به شهيدا ، أني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : ( نحن معاشر الانبياء ، لا نورث ذهبا و لا فضة ، و لا دارا ولا عقار ، و إنما نورث الكتاب و الحكمة ، والعلم و النبوة ، و ما كان لنا من طعمة ، فلولي الامر بعدنا ، ان يحكم فيه بحكمه ) ، و قد جعلنا ماحولته في الكراع و السلاح ، يقاتل بها المسلمون ، و يجاهدون الكفار ، و يجالدون المردة الفجار ، و ذلك باجماع من المسلمين ، لم انفرد به وحدي ، و لم استبد بما كان الرأي عندي ، و هذه حالي و مالي ، هي لك و بين يديك ، لاتزوى عنك ، و لا ندخر دونك ، و انك وانت سيدة امة أبيك ، و الشجرة الطيبة لبنيك ، لا ندفع مالك من فضلك ، و لا يوضع في فرعك و اصلك ، حكمك نافذ فيما ملكت يداي ، فهل ترين ان اخالف في ذلك أباك ( صلى الله عليه و آله ) ؟
فقالت ( عليها السلام ) : ( سبحان الله ما كان أبي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن كتاب الله صادفا [ أي معرضا ] ، ولا لاحكامه مخالفا ! ، بل كان يتبع اثره ، و يقفو سوره ، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالا عليه بالزور ، و هذا بعد وفاته شبيه بما بغى له من الغوائل [ أي المهالك ] في حياته ، هذا كتاب الله حكما عدلا ، و ناطقا فصلا ، يقول : ( يرثني و يرث من آل يعقوب ) ، [ مريم : 6 ] ، و يقول : ( و ورث سليمان داود ) ، [ النمل : 16 ] ،و بين عزوجل فيما وزع من الاقساط ، و شرع من الفرائض و الميراث ، و اباح من حظ الذكران و الاناث ، ما ازاح به علة المبطلين ، و أزال التظني و الشبهات في الغابرين ، كلا بل سولت لكم انفسكم أمرا ، فصبر جميل ، و الله المستعان على ما تصفون ) .
فقال ابو بكر : صدق الله و رسوله ، و صدقت ابنته ، أنت معدن الحكمة ، و موطن الهدى و الرحمة ، و ركن الدين ، و عين الحجة ، لا ابعد صوابك ، و لا انكر خطابك ، هؤلاء المسلمون بيني و بينك ، قلدوني ما تقلدت ، و باتفاق منهم أخذت ما أخذت ، غير مكابر و لا مستبد ، و لا مستأثر ، و هم بذلك شهود .
فالتفتت فاطمة ( عليها السلام ) إلى الناس ، و قالت : ( معاشر المسلمين المسرعة إلى قيل الباطل [ في بعض النسخ : قبول الباطل ] المغضية على الفعل القبيح الخاسر ، افلا تتدبرون القرآن ؟ ، أم على قلوب أقفالها ؟ ، كلا بل ران على قلوبكم ما اسأتم من اعمالكم ، فأخذ بسمعكم و ابصاركم ، ولبئس ما تأولتم ، و ساء ما به أشرتم ، و شر ما منه اغتصبتم ، لتجدن و الله محمله ثقيلا ، و غبه وبيلا ، اذا كشف لكم الغطاء ، و بان باورائه الضراء ، و بدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون ، و خسر هنالك المبطلون ) .
ثمّ عطفت على قبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، و قالت :
قد كان بعدك انباء وهنبثة |
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب |
انا فقدناك فقد الارض وابلها |
واختل قومك فاشهدهم ولا تغب |
وكل اهل له قربى ومنزلة |
عند الاله على الادنين مقترب |
ابدت رجال لنا نجوى صدورهم |
لما مضيت وحالت دونك الترب |
تجهمتنا رحال واستخف بنا |
لما فقدت وكل الارض مغتصب |
وكنت بدرا و نورا يستضاء به |
عليك ينزل من ذي العزة الكتب |
وكان جبريل بالآيات يؤنسنا |
فقد فقدت وكل الخير محتجب |
فليت قبلك كان الموت صادفنا |
لما مضيت وحالت دونك الكثب |
ثمّ انكفئت ( عليها السلام ) ، و أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يتوقع رجوعها اليه ، و يتطلع طلوعها عليه ، فلما استقرت بها الدار ، قالت : لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( يابن أبي طالب ، اشتملت شملة الجنين ، و قعدت حجرة الظنين ، نقضت قادمة ، [ قوادم الطير : مقادم ريشه وهي عشرة ] الاجدل [ أي الصقر ] فخانك ريش الاعزل [ العزل من الطير : ما لا يقدر على الطيران ] ، هذا ابن ابي قحافة يبتزني [ أي يسلبني ] نحلة أبي وبغلة [ البغلة ما يتبلغ به من العيش ] ابني ! لقد اجهد [ في بعض النسخ : اجهر ] في خصامي ، و الفيته [ أي وجدته ] الد [ الالد : شديد الخصومة ] في كلامي ، حتى حبستني قيلة نصرها و المهاجرة وصلها ، و غضت الجماعة دوني طرفها ، فلا دافع و لا مانع ، خرجت كاظمة ، و عدت راغمة ، اضرعت [ ضرع : خضع وذل ] خدك يوم اضعت حدك إفترست الذئاب ، و افترشت التراب ، ما كففت قائلا ، و لا اغنيت طائلا [ أي ما فعلت شيئا نافعا ، وفي بعض النسخ : و لا اغيت باطلا : أي كففته ] و لا خيار لي ، ليتني مت قبل هنيئتي ، و دون ذلتي عذيري [ العذير بمعنى العاذر أي : الله قابل عذري ] الله منه عاديا [ أي متجاوزا ] و منك حاميا ، و يلاي في كل شارق ! ويلاي في كل غارب ! مات العمد ، و وهن [ الوهن : الضعف في العمل او الامر او البدن ] العضد ، شكواي إلى أبي ! وعدواي [ العدوى : طلبك إلى وال لينتقم لك من عدوك ] إلى ربي ! اللهم انك اشد منهم قوة و حولا ، و اشد بأسا و تنكيلا ) .
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( لا ويل لك بل الويل لشانئك [ الشانيء : المبغض ] ، ثم نهنهي عن وجدك [ أي كفي عن حزنك و خففي من غضبك ] ياابنة الصفوة ، و بقية النبوة ، فما ونيت [ أي ماكللت ولا ضعفت ولا عييت ] عن ديني ، و لا اخطأت مقدوري [ أي ما تركت ما دخل تحت قدرتي أي لست قادرا على الانتصاف لك لما اوصاني به الرسول ] ، فان كنت تريدين البلغة ، فرزقك مضمون ، و كفيلك مأمون ، و ما اعد لك اضل مما قطع عنك ، فاحتسبي الله ) .
فقالت : ( حسبي الله ) ، و امسكت .