- نبی و اهل بیته نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

نبی و اهل بیته - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



الأول :


الذي كان بينهم وبين قريش .



والثاني :


الذي كان بينهم وبين اليهود الساكنين في حصون اليهود حول المدينة .



والثالث :


الذي كان بينهم وبين سائر الأعراب الذين تصدوا لمنع تقدُّم الإسلام ، ووقفوا أمام انتشاره .


وقد اجتمعت الحروب بأنواعها الثلاثة في غزوة الخندق . ولذلك سميت بـ الأحزاب أيضا ، حيث تحالفت قريش مع بني سليم و أسد و فزارة و أشجع و غطفان ومع بني قريظة . وبعض يهود المدينة تحالفوا جميعا على محاربة النبيّ (ص) .


وحينئذٍ تمَّ رأي المسلمين على أن يبقوا في المدينة ، ويحفـــروا بينهم وبين الأحزاب خندقاً عميقاً وعريضــاً .


وجــاءت الجيوش المعادية كالسيـل الهادر يملأ السهل والجبل ، فرأوا الخندق فقالوا : هذه حيلة جديدة . وجاء شجعانهم ، وهما : عمرو بن عبد ودّ ، وعكرمة بن أبي جهل واقتحما الخندق حتى توسَّطا بينه وبين المسلمين .. فأخذا يطلبان المبارزة فتقدم الإمام علي بن ابي طالب (ع) إلى أشجع العرب في زمانه عمرو بن عبد ود فقتله . وبموته ساد الرعب في صفوف الكفار . وتبادل الفريقان المُراماة بالسهام . وبقيت الجيوش الكافرة أكثر من عشرين يوما ، ثم رجعوا على أعقابهم خائبين بعدما كلفهم الأمر خسائر معنوية ومادية كثيرة .


وشاع في الجزيرة العربية خبر صمود المسلمين أمام القوى مهما تضاعفت وتجمَّعت . فهذا جيش الإسلام لم يتجاوز عدده ثلاثة آلاف ، بينما الكفار كانوا عشرة آلاف . ومع ذلك كان النصر للإسلام .


وبغزوة الخندق انتهت السلسلة الكبرى من حروب النبيِّ (ص) مع قريش . ولم يخض النبي بعدها أيَّة معركة ، إلاّ فتح مكة التي لم تكن حرباً في الواقع بل كانت انتصاراً وغلبة نهائية للمسلمين على الكفار .


وبقيت هناك سلسلتان من الحروب الإسلامية .


الأولى : حروب المسلمين مع اليهود .


والثانية : حروبهم مع القبائل العربية الأخرى .


أما حروب المسلمين مع اليهود فَتُوجَزُ بما يلي : اليهود كانوا أحجاراً ناتئة ناشزة وضعت في الجزيرة العربية لترد ما لحقهم من سيوف الملوك والسلاطين . وكانت الأكثرية الساحقة منهم يسكن في المدينة ، وهم بنو قينقاع وبنو النضير ، وبنو قريظة ويهود خيبر ، ويهود فدك ، ويهود وادي قرن ، ويهود تيماء .


فأما بنو قينقاع فقد كانت قبيلة مهنية تستولي على صياغة الجزيرة .. وقد ذهبت امرأة من المسلمين عند أحد الصاغة منهم فراودها ليكشف عن وجهها فأبت فعمد اليهودي إلى طرف ثوب المرأة فعقده إلى ظهرها من حيث لم تعلم المرأة بذلك . فلما قامت انكشفت سوأتها فضحك اليهودي منها ، فصاحت تستصرخ المسلمين . فوثب أحد المسلمين وقتل اليهودي ، فاجتمع اليهود وقتلوا ذلك المسلم .


ثم احتدم النزاع بين المسلمين واليهود . وجاء النبيُّ (ص) إلى اليهود ينصحهم بالدخول إلى الإسلام وقبول نُظمه المقدسة ، فاستهزأوا به ، وطلبوا النزال . فذهب الرسول إلى حصونهم وحاصرهم خمسة عشر يوما فانتهى إلى الصلح مع النبيِّ بالخروج عن المدينة مع أموالهم وذراريهم وخلفوا تركاتهم وأمتعتهم لتكون للمسلمين ففعلوا ذلك وذهبوا إلى أطراف الشام .


واما بنو النضير ، فقد كانت قبيلة ثريّة تعطي أموالها قرضاً للناس ، فذهب النبيُّ (ص) إليها يطلب منها القرض . فأرادوا اغتياله ، حيث أصرُّوا عليه بالدخول إلى دورهم فأبى ذلك ، واتكأ على الحائط فأرادوا القاء حجر الدفن على رأسه من فوقه . فتنحى عنه ، ورجع إلى المدينة قبل أن يقترض منهم ، وارسل إليهم أن اخرجوا من دياري حيث نقضتم ميثاقي . وقد أجَّلتكم عشرة ايام . فأخبروا النبيَّ (ص) بأنهم لن يخرجوا فليفعل ما شاء .


فخرج النبي (ص) إليهم ، وحاصرهم وهدم مساكنهم فأخذوا يتنقلون من حصن إلى حصن . حتى ضاق عليهم الأمر فطلبوا من النبيِّ (ص) أن يخرجوا بأثقالهم عن المدينة ، فلم يقبل منهم . فخرجوا وخلَّفوا أموالهم غنائم للمسلمين .


أما بنو قريظة فإنهم كانوا حلفاء للاوس ، ثم أصبحوا معاهدين مع الرسول (ص) . ولكنهم انضموا إلى الأحزاب في غزوة الخندق .. فبعد انتهاء الغزوة بانتصار المسلمين أمر الرسول (ص) الجيش بالمسير إلى بني قريظة . فجاؤوا حتى حاصروهم مدة خمسة وعشرين يوما . ثم أراد الإمام أمير المؤمنين (ع) أن يقتحم حصونهم . فنزلوا على حكم رسول اللـه (ص).


فأمر بهم فأُوثقوا . ثم جاء إليه بعض الأوس يستشفعونه في أمرهم فقال لهم : الا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا بلى . فاختاروا سيّدهم سعد بن معاذ فلما جاء سعد حكم فيهم بحكم التوراة ( الكتاب المقدس الذي يتبعونه ) بأن يقتل رجالهم ، ويسبي نساءهم ، ففعل ذلك بهم .


وفي السنة السابعة من الهجرة حيث تم صلح الحُديبية فكّر النبيُّ (ص) في محاربة يهود خيبر الذين كانوا يكثرون الضغط على المسلمين ويعاونون أعداءهم عليهم دائما . فلما سار إليهم الجيش كان لهم حصون سبعة كلها منيعة أشد ما تكون المنعة . فحاصروا الحصون مدةً مديدة .. حتى ضاق اليهود ذرعاً بالحصار . بيد أنهم قاوموا حتى فتح المسلمون تحت قيادة الإمام علي بن أبي طالب (ع) حصونهم واحداً تلو الآخر ، وقتل الإمامُ أشجعَ أبطالهم مرحب وقلع الباب الكبير الذي كان يعجز عنه أربعون فارساً ورمى به بعيدا . وانتهت المعركة بقتل مائة من اليهود ، واستشهاد سبعة عشر من المسلمين . وقد غنم المسملون الشيء الكثير من المال والسلاح والأسرى .


وبعد هذه الغزوة لم يبق لليهود شأن يذكر في الجزيرة العربية فقد أصبحوا - بعدها - عبيداً بينما كانوا قبلها اسياداً .


ولذلك فإن يهود فدك ويهود تيماء رضوا بأن تكون أراضيهم للرسول (ص) ويعملوا فيها على أن تكون الغلة بينهما نصفين .


وكانت طائفة من اليهود في وادي قرن لم يستسلموا للنبيّ (ص) فذهب الرسول إليهم ، ونازلهم وحاربهم حتى قبلوا أن يكونوا مثل إخوانهم ..


أما حروبهم مع سائر العرب فهي كما يلي :


1- بنو سليم ذهب إليهم الرسول (ص) بعد تجمعهم لمحاربته في موضع كان يسمى بـ الكدر ولكنهم تفرّقوا خوفاً منه (ص) .


2- بنو ثعلبة و محارب اجتمعوا تحت قيادة رجل كان يدعى بـ دعثور في واحة عطفان في أطراف نجد ، فرحل إليهم النبي (ص) وقبل أن يحاربهم اتَّفق أنه (ص) اضطجع على تلّ فعرف بذلك دعثــــور قائد الجبهة المعادية فجاء إليه . ووقف على رأسه شاهراً سفيه وقال من يمنعك مني ؟. فقال النبي : اللـه . وفيما أراد دعثور إنزال سيفه دفعه جبرائيل فوقع بجانب التل ، فوثب النبيُّ (ص) وأخذ سيفه ووقف عليه وقال : من يمنعك مني ؟. فقال : عفوك . فعفا عنه النبي (ص) وأسلم ، ودعا قومه إلى الإسلام ولم تقع محاربة قط .


3- بنو سليم ايضاً أرادوا الحرب فخرج إليهم النبي (ص) فولَّوا هاربين قبل ان يلحقهم .


4- بنو ثعلبة ومحارب ، وبنو غطفان أيضاً ، اجتمعوا للحرب في نجد ، فلحقهم الرسول (ص) ففرُّوا من وجهه قبل النزال وخلّفوا نساءهم وأموالهم غنيمةً للمسلمين .


5- البدو في دومة الجندل . وكانت هذه المنطقة قرب الشام ، وكانت هذه القبيلة قد عاشت على السلب والنهب مما قَوَّض الأمن والاستقرار ؛ فذهب النبيُّ (ص) لتأديبهم بيد أنهم فرّوا هاربين قبل بلوغ النبي (ص) إلى هناك .


6- ومن هذه الحروب الحرب التي قامت بين المسلمين وبين الكفار في مؤتة .. وانتهت بغلبة المسلمين بعد تحملهم خسارات فادحة . ولكن هذه الحرب لم تكن تختص بالنبي مباشرة ، ولذلك فإنا نُعرض عن ذكرها كما نُعرض عن ذكر سائر الغزوات التي قام بها الجيش الإسلامي دون أن يشترك فيها النبيّ (ص) ،. ونعطف إلى ماهو المهمّ من أعماله (ص) في الحقلَين السياسي والديني .


وإليك موجزاً لأهم الأحداث السياسية والدينية :



صلح الحديبية :


منذ أن أخرجت قريش المسلمين وعلى رأسهم رسول اللـه (ص) عن وطنه مكة ، كان يشتاق إلى الرجوع إليها ، لأنها البلد الأمين والمقدّس عند اللـه .. ولأنها - مع ذلك - محطُّ أنظار العرب جميعاً .


ولكن الحروب والغزوات التي اكتنفت السنـوات السبع بعد الهجرة ، والضعف الذي كان يراه في اصحابه ، منعاه من المسير إلى مكة . ولذلك فإنه حين رأى الوقت مناسباً عزم على الزحف إلى مكة وأعلن في المسلمين ذلك . وقال : إنه يريد مكة لأداء مناسك البيت فقط ، فسار بألف واربعمائة رجل من المهاجرين والأنصار .


بيَد أن كفار قريش الذين رأوا أن دخول القوم مكة بعد أن أُخْرِجُوا منها من دون أن يلحقهم أذىً ، إنَّما هو ضعف وانهزام صريح في وجه المسلمين .


ولذلك فإنهم أرادوا منعه منها ، وأرسلوا بطلائع من جنودهم ليقفوا في وجه المسلمين . وحين ذاك تنكّب النبيُّ (ص) عن الطريق المألوف لئلا يصطدم بهذه الطلائع . ولما عرف الكفار تنكُّبه ، وأنه بلغ ثنية المرار اسفل مكة ، أرسل النبي (ص) أحد المسلمين ينبئ قريشاً بأنه لم يأتهم محارباً بل معتمراً .


وأرسلت قريش سفراء يريدون من النبي (ص) الرجوع عن عزمه . وكانت من قبل قد أرسلت سرية لمقاومة أعمال النبي (ص) فأخذها المسلمون وحبسوا جميع أفرادها ..


ولما أصرت قريش على منع النبيِّ (ص) عن البيت قال النبي لأصحابه : لا نبرح حتى نُناجز القوم وطلب من المسلمين البيعة فبايعوه على الفتح أو الشهادة ..


وحينما بلغ قريشاً نبأ البيعة الجديدة للنبيِّ (ص) هابوه فراسلوه على الصلح ، فاصطلح معهم بما يلي وكان أهم بنوده :


1- إيقاف الحرب بين الفريقين لمدة سنتين .


2- القادم إلى المسلمين يُردّ وليس بالعكس .


3- رجوع المسلمين هذه السنة وإتيانهم في المقبلة .


4- يستطيع الفريقان قبول عهد من شاء .


وكانت هذه السياسة السليمة التي اتَّبعها النبيُّ (ص) هي التي فتحت عليه طرق التقدم والنجاح ، حيـث زحف المسلمون لمواجهة العالم الخارجي بعد أن أمنــــوا الجانب الداخلي ، وكان بذلك الحدث التالي .


2- بعد هذا الصلح مباشرة بعث النبيُّ (ص) رسائل إلى زعماء وملوك كافة الدول المجاورة . فراسل ملك الروم ، والفرس ، والحبشة ، والقبط ، كما ارسل رسائل إلى كلِّ من أمير بصرى ، وأمير دمشق ، وملك البحرين ، وأميرَي عمان ، وملك اليمامة بشأن الرسالة التي حمّل مسؤولية تبليغها . وقد كان لهذه الرسائل آثارها البيعدة في نشر لواء الإسلام ومحق آثار الكفر ..


أما أجوبة هؤلاء فمنهم من اسلم - وهو كلٌّ من ملك الحبشة ، وأمير البحرين ، وملكَي عمان - فكان ذلك فتحا مبيناً للإسلام . ومنهم من لم يسلم ولكنه احترم الرسول فايَّده ، وهو كلٌّ من ملك الروم وملك القبط وملك اليمامة .. ومنهم من أساء إلى الرسول واستهزأ به وهو كلٌّ من ملك الفرس ، وأمير بُصرى وأمير دمشق .


3- وفي السنة التالية - السابعة للهجرة - اعتمر النبيُّ (ص) على رأس أصحابه الذين كانوا في الحديبية . وفسح الكفار المجال أمامهم ، وخرجوا عن مكة لئلا يقع تضارب بين الفريقين - على ما كان يتضمنه أحد بنود الصلح الماضي - . وكانت هذه المرة أول مرة يدخل فيها النبيُّ (ص) مكة بعد هجرته عنها بسبعة أعوام .


4- ورجع النبي (ص) إلى المدينة بعدما بقي في مكة ثلاثة أيام . وبعد ذلك نقضت قريش بعض بنود الصلح بأن كانت قبيلة تسمى بـ خزاعة معاهدة مع النبيّ وكان على قريش ألا تُحاربها والاّ تُعين عليها أعداءها ، لكنها فعلت ذلك .


وحلّ للنبي (ص) بذلك قتالها ، فجمع أصحابُه وجمع من القبائل المسلمة التي كانت تقطن حول المدينة عدداً كبيراً ، وزحف نحو مكة بعد أن ملأ الطريق عيوناً ورقباء على السائرين ، لكي لايصل خبر خروجه إلى قريش فيتم الأمر بالحرب التي لايريدها النبي ولما بلغ النبيّ بجيشه حي ظهران بقرب مكة ، أمر أصحابه بأن يُكثروا من إيقاد النار ، ففعلوا ذلك . فاسترهب ذلك قلوب الكفار أَيَّ استرهاب ، وكان أبو سفيان يراقب طريق مكة إذ رأى النار فملكه الرعب ؛ والتقى بالعباس - عمّ النبيّ (ص) فحمله إلى النبي (ص) ودار بينهما محادثات تمت بإظهار ابي سفيان للإسلام وبإسلام بعض أبطال قريش وزعمائها قبله ، ففقدت مكة قوَّتها . ومنعتها ، ولم تملك قوة تدافع ضد دخول النبيِّ إليها . وقد انتهج النبيّ (ص) مسلكاً فريداً في هذا الهجوم العسكري ، وذلك بأن أعلن قبل الزحف إلى مكة أنَّ من ألقى السلاح أو دخل دار أبي سفيان أو دخل داره أو فناء الكعبة أو تحت لواء أبـي رويحة فهو آمن . ثم أمر قواته بإحاطة البلد والزحف عليهــــا من جميع جهاتها ، وألاّ يقاتلوا إلاّ من قاتلهم .. ثم دخل مكة من دون أن يعترض أحد طريقه إلاّ من جهة أسفل مكة حيث جاء منها خالد بن الوليد ، وقَتل اثنَي عشر نفراً ممن عارضه ، وقُتل من المسلمين واحد . ثم أعلن النبيّ (ص) في البيت الحرام العفو العام عن المشركين جميعاً ، أثناء خطبة ألقاها عليهم ..


وبفتح مكة تمت السيطرة المطلقة للمسلمين على الجزيرة العربية التي كانت تعتبر مكة دينها ودنياها معاً .


ثم أمر النبيّ (ص) بهدم - الأصنام - التي كانت تُعبد من دون اللـه فهدمت جميعاً . وبعد ذلك سمع النبيّ بأنَّ قبائل عربية اتَّحدت تريد الانقضاض على مكة للقضاء على المسلمين ، ومن بين تلك القبائل هوازن وثقيف .. فلما تحقق النبيّ (ص) الخبر جند اثنّي عشر ألفاً من المسلمين وتوجه إليها ، فالتقى الجمعان في وادي حُنين ، حيث كان مضيق جبليٌّ واقع بين جبلَين . وقد كان العدو قد سبق المسلمين إلى احتلال المواقع العسكرية في الجبلين . وحينما زحف المسلمون إلى العدو بين الجبلين انقض الكفار عليهم انقضاضاً ، فهزمت طائفة منهم ثم التقت بالطائفة التي بعدها فسادت الفوضى في الجيش الإسلامي ، وهُزموا هزيمة قبيحة . بيد أن النبيّ (ص) بقي صامداً . وبقي معه بعض المسلمين ثم اجتمع فلول المسلمين حتى كوَّنوا جبهة حاربوا بها الكفار وغلبوهم . وحيث إن الكفار كانوا قد أخرجوا جميع ممتلكاتهم ونسائهم إلى ساحة الحرب لعل ذلك يسبّب قوةً لمعنويات الجيش ، فإن المسلمين ربحوا غنائم كثيرة . واستعمل النبيُّ (ص) تلك الأموال في تأليف قلوب قريش ، ثم عزم الرجوع إلى المدينة .


وقبل الرجوع أرسل سرايا من المسلمين في ملاحقة المنهزمين من الكفار الذين أرادوا التجمع مرة أخرى وايقاد نار الحرب .


ومن تلك السرايا ، قوة مسلحة إلى الطائف حيث تحصَّن الكفار فيها .. بيد أن حصون الطائف كانت أمنع من أن يتغلب عليها المسلمون فرجعوا وعندما بلغ النبيّ (ص) المدينة تقاطرت عليه الوفود من جميع أنحاء الجزيرة يعلنون دخولهم في الإسلام ويطلبون منه ارسال المبلّغين المرشدين لهم .


وفي السنة التالية لفتح مكة نزلت سورة البراءة التي أعلنت انتهاء الدور المظلم للجزيرة وابتداء الدور المشرق .


فأرسل النبي (ص) الإمام علي بن أبي طالب إلى مكة حيث تلا هذه السورة في الحجَّاج المحتشدين في منى .. وأعلن بصراحة منع دخول المشركين إلى المسجد الحرام لأنهم نجس ولإن اللـه بريء منهم .. كما أعلن أنه لا عهد ولا ذمة لمشرك ، وان دم كل مشرك حلال بعد أربعة أشهر .


وبعد هذا الإعلان لم يبق في الجزيرة من يظهر الشرك ، إلاّ فلول منهزمة مختفية على خوف من المسلمين . فأخذ الرسول يتأهب لمقاتلة الروم ، وقد كانت طلائعهم تستقي في أرض الشام التي كانت إمـــارة عربيــة تابعة للأمبراطورية الرومية . فزحف بالجيش الإسلامي ، الذي كان عدده أكثر من ثلاثين ألفاً . وكانت الخيل عشرة آلاف . وكان المسلمون مدججين بالسلاح الكامل .


وكان فعلُ النبيِّ (ص) ذلك بعد اشاعة راجت في المدينة بأن جيش الروم قاصد لفتح الجزيرة العربية وإبادة المسلمين . ولكن حينما وصل النبيُّ بجيوشه إلى تبوك عرف كذب الإشاعة ، فصالح أهل تلك البلاد وملك الروم . ثم رجع بعدما جعل من أهل الحدود الشامية الحجازية مرابطين له ضد الأعداء ، وبعدما زرع الخوف والذعر في قلوب الرومانيين بمباغتة المسلمين لهم .


وفي السنة العاشرة بعد الهجرة اعتزم النبيُّ (ص) أن يحج ، فاجتمع إليه المسلمون من كل مكان .. فلما اكتمل عددهم سار بهم إلى مكة حيث أراهم كيفية الحج بعدما مُنع المشركون من إجراء مراسم الحج في السنة التاسعة .


فلما أتم النبيُّ (ص) مناسكه خطب في المسلمين خطبته المشهورة التي بيَّن بها تعاليمه الدينية والخلقية ورجع قاصداً المدينة .


ولعل بعض من رافق النبيَّ (ص) في هذه الرحلة المقدسة لاحظوا بوضوح مظاهر القلق والاضطراب في ملامحه كل حين ، كأنِّه يريد إبداء شيء يخاف منه أو يرتقب فرصة أخرى أفسح وأولى !!


ولكنَّ هذه الحجة كانت الحجة الأخيرة للنبيِّ (ص) . ولذلك سمّيت بحجة الوداع . ومن الضروري أن يبيِّن فيها النبيُّ كل شيء يتعلق بمصالح المسلمين وشؤونهم السياسية والدينية . وإنّ أهم هذه الشؤون هي السلطة . فإذا توفي النبيّ (ص) اختلفت العرب الذين لم يتسرّب الإسلام إلى قلوبهم كما هو في واقعه ، وتنازعت أمرها وذهب الدين ضحية للإختلاف .


ولقد أنبأه الوحي بأنَّ السلطة تكون من بعده لعليِّ بن أبي طالب (ع) ، أوّل من آمن باللـه وبرسوله (ص) ، وأشدَّ من أَبلى في سبيله ، وأقضى المسلمين وأفضلهم . ولقد ذكر النبيُّ (ص) ذلك للمسلمين مراراً إِلاّ أن خوف النبيّ (ص) كان شديداً لمستقبل الأمة ، حيث رأى في المسلمين بعض الذين يهدفون للسيطرة وقد التفوا حول النبيِّ لها فقط .. فلما كان النبيُّ (ص) بمنزل كراع الغميم من أراضي عسفان نزلت عليه الآية المباركة تقول :


« فَلَعَلَّكَ تَارِكُ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقُ بِهِ صَدْرُك »


(هود/12) .


ولمّا بلغ غدير خم نزلت عليه هذه الآية :



« يَآ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ اُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللـه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللـه لاَيَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ »


(المائدة/67)



.


واطمأن النبي بنصرة اللـه في خلافة علي (ع) فعزم على الأمر وأمر المسلمين بأن ينزلوا في ذلك المكان وبأن يجتمعوا . فلما اجتمعوا قام فيهم خطيباً وأعلن خلافة علي ( عليه السلام) قائلاً ، بعد خطبة كريمة : من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه . اللـهم والِ من والاه وعاد من عاداه واحبَّ من أحبَّه ، وأبغضْ من أبغضه ، وانصر من نصره ، وأعزْ من أعانه وأخذلْ من خذله ، وأَدِرِ الحقَّ معه حيث دار . ثمَّ أمر المسلمين بالبيعة له ، والسلام عليه بإمرة المؤمنين .. ولما تمَّ أخذُ البيعة جاءت الآية الأخيرة التي أعلنت إكمال الدين وتمامه :



« الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً »


(المائدة/3)



.


وبعد رجوعه إلى المدينة .. سيّر جيشاً كبيراً فيه أبو بكر و عمر وكثير من المهاجرين والأنصار ، وأَمَّر عليه أسامة بن زيد وهو فتىً لم يبلغ العشرين - سيّر هذا الجيش إلى الشام حيث قُتل جعفر وزيد أبو أسامة القائدان للجيش الإسلامي ..


ومع حِرصِ النبيِّ (ص) على أن يخرج هذا الجيش في أقرب وقت ليبعد العناصر الفاسدة في المسلمين الذين كان يخشى منهم على مستقبل الأمة ومصيرها ، في حين كان يرى اقتراب أجله .. ومع ذلك فإن المنافقين أرجأوه ، حتى أمر النبي (ص) أسامة بكل إصرار على متابعة سيره فعسكر بالجرف على فرسخ من المدينة .


بيد أنَّه اشتد خلال ذلك مرض النبي (ص) الذي كان سببه السم الذي سُقيه على ما يذهب إليه بعض الرواة ، وقد دس إليه بيد بعض اليهود . فرجع أفراد الجيش إلى المدينة مع أن النبي (ص) لعن من يتخلف عن الجيش أشد لعنة .


وفي الثامن والعشرين من شهر صفر من السنة الحادية عشرة بعد الهجرة ، وبعد ثلاث وستين سنة قضاها في اللـه ، ثلاثة وعشرين عاماً منها بصورة خاصة في حمل الرسالة العالمية إلى الآفاق ، عشرة منها في مكة ، وثلاثة عشر في المدينة ، الْتَحق النبي محمّد (ص) بالرفيق الأعلى ؛ وكان ذلك في ضحى يوم الاثنين من سنة 633 ميلادية .


وكانت وفاة النبي (ص) نكبة فادحة في الإسلام لم يسبق لها مثيل .. كما كان فيها انحراف مباشر لخط السير السريع لتقدم الإسلام . وقام الإمام علي بي أبي طالب (ع) بمراسم الغسل والتكفين وصلَّى عليه هو والمسلمون ، ثمَّ دفن في بيته حيث مرقده الآن .


فعليك يا رسول اللـه أفضل الصلاة والسلام وعلى آلك الطيبين الطاهرين .


الخلــق العظيــم


- تعدّد الزوجات :


لقد حسب العدو أنه يستطيع أن يتخذ من تعدد زوجات النبيِّ (ص) نقطة ضعف ليفتري منها عليه من يشاء .


بيد أن الدراسة الواعية لتاريخ النبيِّ (ص) ، توحي بالفلسفة الواقعية لزيجات رسول الإسلام ، فإذا هي من صميم أخلاقه الطيبة ، ومن مظاهر إنسانيته ونشاطاته الدينية المقدسة ..


ونحن إذ لانستطيع أن نوجز ما يحتاج إلى سِفْرٍ في صفحة ، نأمل أن نُشير إلى موجز من فلسفة زيجات النبي ، ومجملها أُبيِّنه في ما يلي :


1- إن الرسول (ص) لم يتزوج في شبابه حينما تبلغ غريزة الإنسان الجنسية مشهاها . بل اكتفى بالسيدة خديجة وهي كما يعلم الجميع - كانت امرأة ثَيِّباً .. ولم يتزوج بامرأة بِكْرٍ إلاّ بعائشة ، وذلك حيث لم تكن له زوجة ، وكان بدء التبليغ الإسلامي وتأسيس شرائعه التي كانت تخالف الرهبانية المسيحية التي تحظر الزواج . وكان النبي يريد أن يكون عاملاً قبل أن يكون قائلاً ليكون أسوة حقة للمسلمين ؟


2- إن الرسول (ص) تزوج بنساء أرامل كانت العادة العربية تنبذها نبذاً ، فتذهب إما فاجرة أو فقيرة معدمة . تلك الأرامل التي كانت الحروب الإسلامية تكثر منها . كما أنه تزوج بنساء لكي يستميل أهلهن إلى الإسلام .


فمن القسم الأول : أم سلمة وسودة بنت زمعة ورملة أم حبيبة وحفصة بنت عمر وميمونة وغيرهن .


ومن القسم الثاني : صفية بنت ثابت أحد زعماء اليهود ، ولعل النبي تزوج بها لتأليف قلوب اليهود الذين هُدّمت حصونهم ، وأُبيد مجدهم . وجويرة التي تزوجها بعد هزيمة أربابها في غزوة بني المصطلق ، فأعتق بسببها كل من اسر من بني المصطلق . وأسلموا ببركة هذا الزواج الميمون . أضف إلى ذلك كله أن النبيَّ (ص) لم يبعث الى الرجال فقط بل الى النساء أيضاً فكان يتصل هو مباشرة بالرجال .. وبالنساء فيربيهم ويهذب نفوسهم . فإن لم يكن يتزوج هذا المقدار لم تتح له الفرصة الكافية للاتِّصال بالنساء إلاّ من بعيد . وهو لايكفي في تربية المرأة التي تؤهل لقيادة النساء فكريّاً وتربويّاً .


ومـع أن الرسول (ص) تزوج بهؤلاء النساء المختلفـــات الجنسيـــة ، فقد استطاع أن يكون المثل الأعلى فـــي


تدبير الشؤون العائلية مع ما كان له من مشاكل إجتماعية بالغة التعقيد .


اما في سائر الشؤون فقد استطاع النبيُّ (ص) بفكره وسعة صدره وحسن تدبيره وبما آتاه اللـه . من تفوُّق كامل على جميع الناس في جميع العصور ، لقد استطاع : ان يكوّن - وهو اليتيم المطارَد - من جحيم الصحراء العربية ، جنة البلاد الإسلامية ، ومهد الحضارات الإنسانية . ومن أهلها شر أهل الأرض وأسوأهم خُلقاً ومبدءاً وعادات ، كوَّن منهم قادة العالم وسادته على طول الخط .. كما سبق تفصيل بعض أحداثه آنفاً . أفلا يدلّ هذا على حسن التدبير وسعة التفكير . وجميل السيرة والاكتمال في السمو النفسي والعقلي .


أما إذا تكلَّمنا عن رحابة الصدر وسعة النفس في مجال التدبير للشؤون الخاصة والعامة - إلى سائر مظاهر السمو النفسي والخلقي - فإنا يجب أن نعترف بالعجز عن التعبير الكامل لكل جوانب التفوق والتسامي في الأخلاق بالنسبة إلى النبي (ص) الذي جعله اللـه خاتم النبيين الذين كانوا قادة النّاس وسادتهم في كِلاَ الحقلَين المادي والروحي .


ولقد احتج الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) بعجز الإنسان عن التعبير الكامل عن أخلاق النبيّ (ص) ، احتج لذلك احتجاجاً لطيفاً بأن اللـه يقول في كتابه :


« وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللـه لاَ تُحْصُوهَآ »


(اِبراهيم/34) ، في حين يقول في آية أخرى :


« فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الأَخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ »


(التوبة/38) فالحياة الدنيا مع أنها قليلة عند اللـه ، فإنها لايمكن الإحاطة بها . واحصاء ما فيها .. فكيف بأخلاق النبي الذي يقول فيه اللـه تعالى :


« وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ »


(القَلَم/4) حيث عبّر عنه بالعظيم .. فإذا لم يكن إحصاء القليل ممكناً فكيف يمكن إحصاء العظيم .


ومع كل ذلك فاني أسرد لك شيئا من مظاهر الْخُلق العظيم ، تاركاً الشيء الكثير منه .


كان النبي - أشجع ، وأحلم ، وأعدل ، وأعف ، وأسخى الناس جميعاً ، وكان لايبيت عنده دينار ولا درهم .


وكان أزهد الناس ، وأبسطهم في العيش ، حيث كان يخصف النعل ويرقع الثوب ، ويخدم في البيت مع سائر أهل بيته .


وكان أشد الناس حياءً ، فلا يثبت بصره في وجه أحد أبداً .


وكان أسمح الناس وأسهلهم . وكان يجيب دعوة الحر والعبد ، ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن ، ويكافئ عليها أحسن مكافأة . وكان لايستكبر عن اجابة أَمَةٍ أو مسكين .


وكان يغضب لله ولا يبغض لنفسه ؛ ويُجــــري حكم اللـه وإن تضرَّر هو أو أحد من أصحابه به . فقد أشــار


عليه أصحابه ذات مرة بأن ينتصر على أعدائه المشركين بسائر المشركين ، فأبى قائلا : انّا لا نستنصر بمشرك مع أنه كان أحوج ما يكون إلى ذلك .


وكان يربط الحجر على بطنه من الجوع . فإذا حضر الأكل . أكل ما وجد ولم يردّ شيئاً .. وكان متواضعاً في أكله ، فلا يأكل متوكئا ، ولا على خو ان . ويؤاكل المساكين ويجالس الفقراء ، ويكرم أهل الفضل ، ولا يجفو أحداً .


أما في شؤونه الإجتماعية ، فكان يعود المريض كائناً من كان وكيف كان ، ويشيّع الجنائز ، ويمشي وحده ولا يتخذ حاشية أبداً . ويركب ما حضر إن فرساً ، أو بغلة ، أو حماراً ، إن حافياً أو ناعلاً ، مع الرداء حيناً ، وحيناً بلا رداء وبلا عمامة ولا قلنسوة . ولكنه كان يسير بمظهر القوة لا الضعف . فإذا مشى اقتلع رجليه عن الأرض اقتلاعاً حتى كأنه ينحدر من عل .


وكان يحب الطِّيب حبّاً جمّاً .. وكان له عبيد وإماء ، ولكن لم يكن يترفع عليهم أبداً . وكان لا يمضي عليه وقت ليس في طاعة اللـه .


وكان يبدأ مَن لقيه بالسلام ، ومن قام معه في حاجة سايَرَه حتى يكون هو المنصرف . وكان إذا لقي أحداً من أصحابه بدأه بالمصافحة ، ثم أخذ يده وشابكه ثم قبض عليها .


وكان لايجلس إليه أحد وهو يصلِّي إلاّ خفَّف صلاته والتفت إليه قائلا : ألك حاجة ؟. فإذا تمت حاجته قام إلى صلاته .


وكان أكثر جلوسه جلسة التواضع وهي أن يرفع ساقيه ويمسكها بيديه ، ويجلس حيث ينتهي به المجلس . وما رؤي قط مادّاً رجليه بين أصحابه وكان أكثر ما يجلس يستقبل القبلة . وكان يكرم من يدخل عليه ؛ حتى ربما بسط ثوبه لمن ليس بينه وبين الرسول قرابة . وكان يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تكون تحته فإن أبى عزم عليه حتى يقبل .


وما استصغاه أحد إلاّ ظن أنه أكرم الناس عليه ، حتى أنه كان يعطي كل من جلس إليه نصيبه من وجهه ونظره .


ولقد كان يدعو أصحابه بكناهم إكراماً لهم وتعظيماً . فإذا لم يكن لأحد كنية كنّاه من جديد حتى يكنَّى بها .


والمـرأة إن كان لها ولد كناها به وإن لم يكن لهـــا ابتدأ بكنية لها جديدة . حتى الصبيان فإنه كان يكنيهم . وكان أبعد الناس غضباً على أحد ، وأسرعهم رضىً ، وأرقهم لهم قلباً ، وخيرهم لهم نفعاً .


وكـــان إذا جلس مجلساً قال : سبحانك اللـهم وبحمـــدك . أشهد أن لا إله إلاّ أنت ، أستغفرك وأتوب إليـــك .


وكان إذا جلس بين أصحابه لايُعرف أيهم محمد (ص) لاختلاطه بهم . فلما كثر الوافدون الذين كانوا يسألون عنه أمام عينيه قائلين : أيكم محمد ! . صنع له دكة من طين .. وكان يقول : إنما أنا عبد !.


أما صلته بربه فلقد كان نبيَّ الإسلام ، أخشى الناس لربه ، وأتقاهم له ، وأعلمهم به ، وأقواهم في طاعته ، وأصبرهم على عبادته ، وأكثرهم حبّاً له ، وأزهدهم فيما سواه . فكان يصلِّي حتى انشقت بطن قدَميه من كثرة الصلاة . فإذا وقف إلى الصلاة انهمرت دموعه . وارتجت البقعة بنشيجه وضراعته .. وكان يصوم حتى يقال : إنه لايفطر . ويفطر حتى يقال إنه لايصوم . وكان نظيف الجسم طاهر الثياب ، يرجّل جمته ، ويسرّح لحيتَه ، ويستاك ، ويعطِّر جسده ، حتى كان يشم منه الرائحة الطيبة من بُعد ، ويعرف الشخص الذي يصاحبه أو يجالسه أنه قد التقى به بما يسري منه إليه من العطر . ويطعم الجائع ويكسو العاري ، ويُركب الراجل ، ويُعين ذا الحاجة فيها ، ويقضي دين الْمَدين .


وكان أشجع الناس ، حتى قال الإمام علي ( عليه السلام ) لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ بالنبيّ (ص) وهو أقربنا إلى العدو . وكان من أشدّ الناس يومئذ بأساً . وقال - أيضاً - كنا إذا حمي الوطيس ولقي القوم القوم اتقينا برسول اللـه (ص) ، فما يكون أحد أقرب إلى العدوِّ منه . وكان أجود الناس كفّاً ، وأصدقهم لهجة ، وأوفاهم ذمة ، وألينهم عريكة ، وأوسطهم نسباً . من رآه هابه ، ومن خالطه أحبه . ما سئل شيئاً إلاّ أعطاه . وإن رجلاً أتاه سائلاً فأعطاه غنماً سدّت بين جبلين ، فرجع إلى قومه فقال : أسلموا فإن محمداً (صلى اللـه عليه وآله ) يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة . [3]


وكان يُنكر كلَّ منكر ، ويأمر بالمعروف .


وكان أخيراً قدوة لكل خير . وأسوة في كل فضل ورائداً إلى كل ما ينفع الإنسان في العالمين .


فعليه وعلى آله أفضل الصلاةوالسلام.


فاطمـة الزهـراء (سلام الله عليها )


قدوة وأسوة


تمهيـــد


القدوة هو ذلك الإنسان الذي يقود ركب البشرية إلى سبيل السلام . والأسوة هو ذلك المثل الأعلى لكل القيَم .


فالأسوة تعني النموذج الكامل ، لأفضل ما يفكر فيه الإنسان من خُلق وعمل ، بينما القدوة تعني الهاديَ إلى السبيل . بين سبل الحياة المتفرقة .


وإذ نكتب هذه السلسلة . باسم القدوة والأسوة فإنما نريد أن نشير إلى أن القادة الذين نشرح سيرة حياتهم ليسوا فقط قدوة الأمة بل هم أسوة الأمة أيضا .


فكما يجب أن نستنير بهداهم الذي خلّفوه لنا في أقوالهم ، فكذلك يجب أن نتأسى بهم في أعمالهم التي عملوها وكانت سنّة للبشر .


ويعتبر من ميزات الرسالات الإلهية أنها تصوغ ، جميعا ، أشخاصاً مثاليين ليكونوا النموذج الذي يجب أن يعجعله الفرد نصب العين ، فيطبق جميع شؤونه وفقه ليتخرج طبقاً لأفضل حياة كريمة .


أما سائر المبادئ فإنها حينما يفشل المنتمون إليها في صياغة نماذج مثاليين ، فإنهم يعمدون إلى أحجار جامدة .. وأخشاب صامتة . فيجعلونها الأسوة الرمزية التي يجب عندهم اتِّباع ما يُنسب إليها من الأساطير . وهكذا يحاولون سد الفراغ .. ومن ذلك كانت قديما أنصاف الآلهة التي كانت الشعوب المتخلفة تزعمها نماذج للبطولات الخارقة والأمجاد العظيمة .. ومن ذلك - حديثا - الجندي المجهول ، الذي يعتبر رمزاً للفدائي الذي يجب أن يتبع من قِبَلِ سائر المواطنين .


أما في الإسلام ، فقد جعل اللـه سبحانه حامل رسالته ، أسوة للأمة فقال :


« لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللـه اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ »


(الاحزَاب/21) حيث اعتبر الأسوة معصوماً ، وقال :


« وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى »




(النجم/3-4)



. وهو يعني كونه ، لايرتكب أي خطأ ولا يميل إلى أي انحراف . وإن لم يكن كذلك ، لبطل كونه أسوة ، ولم يصح ان يجعل الرسول سيداً مطاعاً في الخلق إذا أمكن أن يخطئ فيجر إلى تابعيه الويل ، وأمكن أن ينحرف فينكب بتابعيه الطريق ، وأمكن أن ينجرف إلى الأهواء ويتبع الشهوات فيهوي بالخلق إلى المهاوي بعد أن يبدل حكم السماء ويحرّف كلماته .


ولم تقتصر نعمة اللـه على المسلمين بجعل النبي أسوة ، إذ جعل لهم خلفاء للنبي ، وجعل كلاًّ منهم أسوة تتبع ، بعد ان جعلهم معصومين عن الزلل .. بل جعل للنساء من الأمة أسوة من جنسهن ، تكون رمز الفضائل والقيم ، وشاهدة على مدى صلاحية تعاليم السماء للتطبيق العملي بكلّ تفاصيلها ، وفي كلّ المجالات ... وتلك هي فاطمة الزهراء (ع) .


ففاطمة الزهراء التي أُضيئت هذه الأسطر بقبس من سيرتها الوهّاجة ، معصومة شأن سائر الأئمة والأنبياء عليهم صلوات اللـه . فهي إذاً ، لاتفعل سوى الحق ، ولا تتبع غير الحق ، وهي إذاً ، قد طبقت تعاليم السماء على نفسها تطبيقاً كاملاً . وهي - إذاً - قد أصبحت المثل المحتذى في جميع الفعال والخصال ، وهي لذلك كله القدوة ، والأسوة .


فإذا كيَّفنا حياتَنا وفق سيرتِها ، وأفكارَنا وفق أفكارها ، وتخلَّقنا بمثلِ خُلقها ، فقد بلغنا الصواب . لأنها كانت نسخة ناطقةً عن القرآن الكريم ، وشاهدة صدقٍ على واقعية تعاليمه الحياتية .


أقول ذلك في مقدمة هذه الصفحات - لكي نعرف أهمية البحث عن الصِّديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (ع) . لأنها تتصل بحياتنا بصورة مباشرة .


الفصل الأول: الأصل الكريم



« وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بإِذْنِ رَبِّهِ »


(الاعراف/58)




محمد بن عبد اللـه ( صلى اللـه عليه وآله ) رسول اللـه وخاتم النبيّين وسيّد المرسلين ، هو والد فاطمة (ع) ، وأَعْظِمْ به رسولاً ، وأَكْرِمْ به أبّاً .


وخديجة بنت خويلد ، أم المؤمنين ، والسابقة إلى الإسلام والمحامية عن دين اللـه والمضحية في سبيل الرسالة ، هي أمّ فاطمة (ع) .


في أجداد النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) شخص يُسمى ( لؤي بن غالب ) إليه يسمو نسب خويلد ، والد خديجة . فهو ابن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن كعب بن غالب .


ولقد كان خويلد من سادة قريش ومن أثرياء مكة ، وكان له من الأبناء ثلاثة : العوّام وهالة وخديجة .


العــوّام هو والد زيد بن العوّام .. وصهر سيد قريش ، عبـــد المطلب - جدَ النبي ( صلى اللـه عليه وآلــه ) - فمن ذلك كان لزيد صلتان بفاطمة عليها السلام في النسب . فهو من جهة ابن خال ، ومن جهة ابن عمّة فاطمة (ع) .


وأما هالة بنت خويلد ، أخت خديجة (ع) فإنها بقيت في الحياة إلى ما بعد الهجرة ، وكانت تتردد أحياناً على النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) في المدينة ، فكان الرسول ( صلى اللـه عليه وآله ) يبدي لها احتراماً بالغاً نظراً إلى نسبتها إلى خديجة - الزوجة الحانية والحامية - للرسول وكان يأخذ عائشة زوجة الرسول ما يأخذ النساء من أمر ضرّاتهن . بيد أن النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) كان ينهرها ، مشيداً بمواقف خديجة ومآثرها التي تقتضي تكريم النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) لها في احترام أختها .


كان من المنتظر أن تتزوج خديجة في شبابها بابن عمها نوفل بن أسد ولكنّ الزواج لم يتم ، لأن نوفل كان من الحكماء في الجزيرة فشغله البحث عن الحقيقة عن الزواج . وتقدم بعد نوفل سيد من زعماء بني تميم للزواج بخديجة وكان يسمى بـ هند بن بناس . ولكن هذا الزواج لم يسعد إذ توفّي هند في شبابه ، وترك خديجة أرملة غنيّة .


وكــان عتيـــــق بن عابد من مشاهير كرماء العرب ، فتقدم إلى الزواج بخديجة ، ورزق منها ابنـة سماهـــا بـــ


هند غير أنه مات هو الثاني وترك هنداً ابنته يتيمة في بيت خديجة .


وكان مولد خديجة خمسة عشر عاماً قبل الحدث التاريخي لهجوم أبرهة على مكة ، الذي كان مبدأ تاريخ العرب . واشتهرت تلك السنة بـ عام الفيل .


ومع ذلك فقد تزوجها النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) ثالث ثلاثة ، نظراً لرغبتها في ذلك ، ولِمَا عرفه الرسول في نفس خديجة من حب الخير والدفاع عن الحق ، ولٍمَا اتَّصــف به من الحكمة ، والخلق الفاضل . أمّا هي فقد أحبت النبيَّ ( صلى اللـه عليه وآله ) بعد سفرة تجارية ارتحل بها النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) إلى الشام في مال خديجة ، لِما رأت هي وأخبرها عبدُها الذي رافق النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) - في الرحلة - من مكارم الخلق ، وبشائر النبوغ ، والعظمة . ولعلها كانت قد علمت بنبوة الرسول ، فرغبت في الزواج به .


وتمّ وسعد الزواج الجديد بين محمد بن عبد اللـه ( صلى اللـه عليه وآله ) وبين خديجة .. وكان من أكثر الزيجات بركة في الإسلام ، وقد أنجبت خديجة للنبي أولاداً صالحين ، هم :



1- القاسم :


الذي ولد قبل البعثة . وتوفي قبلها أيضاً . وبه كُنّي النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) بأبي القاسم .



2- عبد اللـه :


الذي كان كأخيه ، في الميلاد والوفاة قبل البعثة . على القول المشهور .



3- الطاهر :


الذي ولد في الإسلام . وبذلك سمّي الطاهر ولكنه توفي أيضاً .



4- زينب :


وكانت أكبر بنات الرسول .. وتزوجت بابن خالتها أبي العاص بن الربيع ، وأنجبت له بنتاً ، وولداً . وهما أمامة وعلي . أما أمامة فقد حظيت - في يوم من الأيام - بالزواج من الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بعد فاطمة الزهراء (ع) وبوصية منها . وأمّا عليّ فقد وافاه الموت طفلاً .


وتوفيت زينب - أكبر بنات النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) في السنة الثامنة للهجرة .



5- رقيّة :


وتزوجت بابن عمها عتبة بن أبي لهب . ولكنه كان عدوّاً شديد العناد للإسلام . مثل والده أبي لهب المعروف بعدائه الشديد للدِّين الجديد . وحيث إنه سبّب مشاكل للنبي ( صلى اللـه عليه وآله ) ولسير الدعوة الإسلامية فقد دعا عليه الرسول .. واستجيبت دعوته حين مزقته أسود الحجاز ، وظلّت رقيّة أرملة .


ثم تزوجها عثمان بن عفان ، ورزق منها ولداً سماه عبد اللـه إلا أنه توفي في الطفولة . ولم يرزق منها ولداً غيره . حتى لـبَّـت رقيّة دعوة ربها . فماتت في نفس الوقت الذي كان الرسول يجاهد كفار قريش عند آبار بدر .



6- أم كلثوم :


التي سميت آمنة باسم أمّ النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) آمنة بنت وهب ، وتزوجت بابن عمها أبي لهب الذي كان يدعا بـ عُتيبة ولكن الزواج لم يسعد . نظراً للخلاف القائم بين الزوجين حيث أصرَّ أبو لهبٍ على عناده ، وأجبر ولده على طلاق زوجته ، بنت النبي ، أذيّة له وتنكيلاً به .


وتزوجها بعد فراق عُتيبة - عثمان بن عفان - لأن رقية كانت قد توفيت في ذلك الوقت .. ولكن أمّ كلثوم ماتت هي الأخرى في السنة التاسعة للهجرة .

7- فاطمة الزهراء
(ع) :


كانت خديجة ملكة الحجاز ، في ثرائها العريض ، وتجارتها الواسعة . وكانت مشهورة بحسن الخلق ورجاحة العقل ، وحينما تزوجت بالنبي ( صلى اللـه عليه وآله ) كانت الزوجة المثالية في إدارة الحياة داخل البيت وخارجه وفي تربية السلالة الطيبة .


وحينما بُعث النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) بالرسالة ، استجابت للدعوة ، قبل كل أحد ، ورضخت لتعاليم الإسلام ، وطبّقتها على نفسها ، وأبدت نشاطاً واسعاً في تبليغها ونشرها ، كما أنها جعلت كلّ ثروتها في خدمة النبي ينفقها في سبيل اللـه حيث يشاء ، وحيث وجد الإسلام - أول الأمر - أُذناً واعية بين أبناء الطبقة الفقيرة ، وفي تحرير العبيد سواء بصورة مباشرة أو عبر وسطاء كأبي بكر الذي كان ثرّياً ولم يكن شراؤه للعبيد يثير شبهة عند أثرياء قريش . لأنه إنما كان يفعل ذلك من أموال خديجة وبأمر الرسول ( صلى اللـه عليه وآله ).


وقد حدا هذا العطاء اللامحدود من خديجة للإسلام ، حدا بالنبي ( صلى اللـه عليه وآله ) الذي لم يكن ينطق عن الهوى ، بكلمة واحدة إلى أن يبيِّن الحقيقة التي أصبحت وساماً على كتف التاريخ الرسالي بأنه : قام الإسلام بسيف علي ومال خديجة . فلقد كانت ثورة خديجة المالية ، بمثابة الحجر الأساس لبناء الأمة إقتصاديّاً ، كما كان سيف عليّ بمثابة الدرع الحصين لبنائها السياسي .. فإذا اجتمعا إلى جانب الرسول ( صلى اللـه عليه وآله ) الذي كان صاحب الوحي ، ومهبط الرسالة الإلهية ، تكاملت شروط بناء الأمة الرسالية الحنفية ثقافيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً .


كما أن تكامل خديجة النفسي وتفاعلها الفكري مع الرسالة الإسلامية . في كل بنودها النازلة حتى ذلك الوقت على الرسول ( صلى اللـه عليه وآله ) ، حدا بالنبي الكريم ( صلى اللـه عليه وآله ) إلى أن يجعل خديجة في مصاف النساء الأربع الكاملات كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام إذ قال :


كُمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلاّ أربع :


- آسية بنت مزاحم .


- مريم بنت عمران .


-خديجة بنت خويلد .


- فاطمة بنت محمد . [4]


وكان ذلك أيضاً سبباً في ان يكون لموت خديجة أثر بالغ في فؤاد النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) لتأثيره في انتشار الدعوة ، تأثيراً بالغاً ، حتى سمي ذلك العام الذي توفيت خديجة فيه بـ عام الحزن فقد ورد على النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) فيه مصيبتان كبيرتان : وفاة أبي طالب كفيله ونصيره في كل موقف ، وموت خديجة بنت خويلد زوجته المدافعة عنه وعن دعوته .


الفصل الثاني: الشجرة المباركة


( عن أبي جعفر عليه السلام عن جابر بن عبد اللـه قال :


قيل يا رسول اللـه انك تلثم فاطمة وتلزمها وتدنيها منك وتفعل بها مالا تفعل بأحد من بناتك ؟


فقال : إن جبرائيل أتاني بتفاحة من تفاح الجنة فأكلتها فتحولت ماءً في صلبي ثم واقعت خديجة فحملت بفاطمة فأنا أشم منها رائحة الجنة ) . [5]


ولا زالت تحفها هالة من المعاجز الخارقة ، وهي في بطن أمها تكبر ساعة بعد ساعة حتى أنها كانت تحدث أُمها وهي في بطنها ، فتؤنسها بذلك ، حتى وُلدت وكان لميلادها ميزة تدل على اهتمام الخالق بها اهتماماً بالغاً .


وقد يتملكنا العجب حين نرى مثل ذلك مخصوصاً بميلاد فاطمة ، مع أنها لم تكن بالبنت الوحيدة لنبي الإسلام ( صلى اللـه عليه وآله ) ، ولا بالبنت الكبرى ، كما أنها لم تكن من الذكور .


ولكن يجب أن نعرف أن الكبر والصغر لايعترف بهما الإسلام كمقياس .. كما أنه لايعترف بمقياس الأنثى والذكر بصفة عامة ، بل المقياس المعترف به في الإسلام إنما هو الحكمة البالغة التي يفعل اللـه بحسبها ما يشاء . كما أن هناك مقياساً آخر معترفاً به في الإسلام ، وهو مقياس العمل الصالح ، وكلاَّ من المقياسين له موقعه .



فالمقياس الأول :


يتحكم في الشؤون الكونية . أي في مرحلة التكوين ، فخلق الشمس والقمر والأرض وو.. ، إنما هو خاضع لمقياس الحكمة .



وأما المقياس الثاني :


فهو يجري في الأمور التشريعية ، أي في جانب الاختيار الذي اصبح الإنسان بسببه مختاراً مريداً .


فـــإذا أردنا أن نعرف الرجل الطيب الذي يحبه اللـه ، وجب علينا أن نقيسه وفق المقياس الثاني ، فننظر


إلى أعماله وإلى الأمور التي فعلها هذا الفرد نفسه بإرادته وبمشيئته الخاصة . أما مقياس النسب أو العنصر أو البلد أو ما اشبه ذلك ، فليست هذه المقاييس معترف بها في الإسلام ، أبداً .


فالإسلام لايعترف بألف أبي لهب ، في مقابل سلمانٍ واحد ، مع كون أبي لهب عمّ النبي ( صلى اللـه عليـــه وآلــــه ) وابن سيد قريش عبد المطلب ، ومن الأسرة المختارة ، بني هاشم . مَن بأيديهم رفــادة البيت ، وسقاية حجاجه ، وكون سلمان عبداً أعجمياً ، لفظَته البلاد ، ونقضت قواه السنين .


كما لايعترف الإسلام بألف عتبة وعتيبة . وهما صهرا النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) الثريَّين ، في قبال بلال الرجل الأسود ؛ وإن كانا ابنا أبي لهب من أشد الناس بياضاً ، وكان بلال من أشدّهم سواداً .


وهكذا الإسلام لايعترف بألف أبي سفيان ، وهو قائد قوات مكة العربية ، في قبال صهيب وهو مستضعف من بلاد الروم البعيدة .


وفاطمة الزهراء (ع) يلفتنا من حياتها جانبان كلّ منهما يرضخ لمقياس ، وهما :



الأول :


ما نراه يحدث قبل ميلادها . من تكوينها عن فاكهة الجنة وحديثها لامها وهي جنين ، ومرافقة ميلادها حوادث خارقة ، مما يدل على أن لله تعالى عناية خاصة بها من جميع الجوانب ، أترى ذلك بأي مقياس ؟.


إنه وفق المقياس الأول - أي الحكمة البالغة التي يفعل اللـه حسبها ما يشاء سبحانه وتعالى - .


فلحكمـــةٍ خص اللـه فاطمة عليهــا السلام بهذه المزايـــا دون سائر النســـاء جميعـــاً ، وبينهن بنات النبـــي ( صلى اللـه عليه وآله ) وزوجاته .. وبنات المهاجرين والأنصار وزوجاتهن ، وذلك لمصحلة شاء اللـه أن يجعل بين الأمة الإسلامية مَن تَفوق درجةً على مريم عليها السلام سيدة نساء عالمها أي جميع نساء زمانها .


/ 35