حوار مع الشیخ صالح بن عبدالله الدرویش حول تاملات فی نهج البلاغه جلد 1

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

حوار مع الشیخ صالح بن عبدالله الدرویش حول تاملات فی نهج البلاغه - جلد 1

جعفر السبحانی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید





( 61 )



5


احتجاج الإمام بمبايعة الناس لأبي بكر وعمر


يقول الشيخ :


وأورد المرتضى في النهج عن علي ـ عليه السَّلام ـ في كتابه الذي كتبه إلى معاوية:


«إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضىً فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين وولاّه الله ما تولّى» (1).




1 . نهج البلاغة: 446، قسم الرسائل: 6، ط محمد عبده .


( 62 )


وهنا يستدل الإمام على صحة خلافته وانعقاد بيعته بصحة بيعة من سبقه، وهذا يعني بوضوح أنّ علياً كان يعتقد بشرعية خلافة أبي بكر وعمر وعثمان (1) .


المناقشة:


لقد سها قلم الشيخ وقال: قال المرتضى مكان أن يقول قال الرضي، كما أنّه حذف من آخر الخطبة ما يبيّن مقصود الإمام الذي لا صلة له بما يرتئيه المستدلّ. وهو قوله:


ولعمري ـ يا معاوية ـ لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان، ولتعلمنّ أنّي كنت في عزلة عنه، إلاّ أن تتجنّى فَتَجَنَّ مابدا لك ّ والسلام (2).


وليس فضيلة الشيخ أوّل من استدلّ بهذا الكلام على أنّ بيعة المهاجرين والأنصار طريق إلى الإمامة




1 . تأمّلات في نهج البلاغة: 16 .


2 . نهج البلاغة: قسم الرسائل: 6 .


( 63 )


والخلافة، بل استدلّ شيوخ المعتزلة به على مقاصدهم، ولكنّهم ـ سامحهم الله ـ غفلوا عن الظروف الّتي أدلى بها الإمام ـ عليه السَّلام ـ كلامه هذا .


كما غفلوا عن مخاطَبه، وتصوّروا أنّ الإمام يُدلي بقاعدة كلامية عامّة حول الإمامة، مفادها انّ الشورى حق للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك إماماً ولله فيه رضا.


وهذا التفسير لكلام الإمام ـ عليه السَّلام ـ مرفوض جدأً، إذ ليس الإمام بصدد تبيين قاعدة كلامية، بل هو بصدد الاحتجاج على خصم عنود لدود بايع الخلفاء السابقين الذين استمدوا شرعية خلافتهم من بيعة المهاجرين والأنصار ولكنّه لم يبايع عليّاً وخالفه ونازعه.


فالإمام يحتجّ على هذا الشخص «بأنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، لأنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد».


( 64 )


فهذا النوع من الاحتجاج هو الجدل الذي دعانا إليه الذكر الحكيم وقال:


(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جَادِلْهُمْ بِالتي هِيَ أَحْسَنُ) (1) .


فالاستدلال بالبرهان هوالدعوة بالحكمة، كما أنّ الدعوة بالنصائح هي الدعوة بالموعظة الحسنة، والاستدلال على الخصم بعقائده وأفكاره وأعماله هو الجدال بالتي هي أحسن .


فالإمام ورد من الطريق الثالث فاحتج على الخصم بما هو موضع قبوله، فلذلك بدأ رسائله بقوله:


«فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام لأنّه بايعني القوم» (2).




1 . النحل: 125 .


2 . إنّ قوله: «فانّ بيعتي بالمدينة» وان لم يكن موجوداً في نسخة «نهج البلاغة» لكنه جاء فى سائر المصادر. لاحظ كتاب صفين: 29 لنصر بن مزاحم .


( 65 )


وختمها بقوله: «ولعمري يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّي أبرأ الناس من دم عثمان، ولتعلمنَّ أنّي كنت في عزلة عنه، إلاّ أن تتجنّى فتجنَّ ما بدا لك والسلام».(1)


والرسالة طويلة لخّصها الرضي، لأنّه يقتصر على الموضع البليغ من كلامه ومن قرأ كتاب الإمام إلى خصمه بتمامه لوقف على أنّ الإمام اتّخذ موقف المجادل الذي يحتجّ على خصمه بمقبولاته وأفكاره ، ولا يعدّ مثل ذلك دليلاً على أنّه من مسلّماته ومقبولاته .


وها نحن نذكر ما تركه الرضي من الرسالة ليكون دليلاً على صدق ما بيّناه قال الإمام في ذيل كلامه السابق:


«وإنَّ طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي، وكان نقضهما كردِّهما، فجاهدتهما على ذلك حتّى نجا الحق




1 . نهج البلاغة: قسم الرسائل: 6 .


( 66 )



وظهر أمر الله وهم كارهون. فادخُلْ فيما دخل فيه المسلمون ; فإنَّ أحبَّ الأُمور إليَّ فيك العافية، إلا أن تتعرض للبلاء. فإن تعرضت له قاتلتك واستعنت اللهَ عليك. وقد أكثرتَ في قتلة عثمان فادخلْ فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكم القوم إليّ أحملك وإيّاهم على كتاب الله. فأمّا تلك التي تريدها فخُدعة الصبيِّ عن اللبن. ولعمري لئن نظرتَ بعقلكَ دون هَواك لتجدنِّي أبرأَ قريش من دم عثمان. واعلم أنّك من الطلقاء (1) الذين لا تحلُّ لهم الخلافة، ولا تعرض فيهم الشُّورى. وقد أرسلتُ إليك وإلى من قِبلك جرير بن عبد الله، وهو من أهل الإيمان والهجرة. فبايعْ ولا قوة إلاّ بالله» .




1 . الطلقاء: جمع طليق، وهو الأسير الذي أطلق عنه إساره وخلّى سبيله. ويراد بهم: الذين خلّى عنهم رسول الله يوم فتح مكة وأطلقهم ولم يسترقهم .


( 67 )



6


وصف الخليفة بأعلى الصفات


يقول الشيخ:


وفي النهج عن علي ـ عليه السَّلام ـ : «لله بلاء فلان لقد قوّم الأود، وداوى العمد، وأقام السنّة، وخلّف البدعة، وذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها واتّقى شرها، أدّى لله طاعته واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة، لا يهتدي إليها الضال، ولا يستيقن المهتدي»(1).


ثم قال: لقد وصف الإمام عمر بن الخطاب من الصفات بأعلى مراتبها وناهيك بها (2).




1 . نهج البلاغة، الخطبة 223، شرح محمد عبده .


2 . تأمّلات في نهج البلاغة: 18 .


( 68 )



تنبيه:


قبل مناقشة كلام الشيخ نذكر بعض التصرفات التي جـاءت في نقل الكلام، وهي أُمور :


1 ـ بلاء فلان، وفي النهج «بلاد فلان» .


2 ـ «خلّف البدعة» وفي النهج «خلّف الفتنة».


3 ـ «اتقى شرها» وفي النهج «سبق شرَّها».


4 ـ «لا يهتدي إليها الضال» وفي النهج «لا يهتدي فيها الضال».


ولعل النسخة المتوفرة عند الشيخ كانت على غرار ما كتب. ولكن الأولى والأصح لا يخفى على من له إلمام بالكلام الفصيح .


تفسير مفردات الخطبة:


1 ـ يقال: لله بلاد فلان: يراد البلاد التي أنشأته وانبتته، وربّما يقال: «لله در فلان» ويراد: لله الثدي الذي أرضعه. ولو كانت النسخة لله بلاء فلان فهي بمعنى لله ما صنع .


( 69 )


2 ـ «الأوَد»: العوج.


3 ـ «العَمدَ»: انفضاخ سنام البعير. والمراد في المقام «العلّة».


4 ـ أصاب خيرها: خير الولاية.


5 ـ سبق شرّها: مات قبل استفحاله.


6 ـ واتّقاه بحقه: أي بادر حقه والقيام به (1).


المناقشة:


اختلف شرّاح نهج البلاغة في المكنّى عنه بهذا الكلام ولهم فيه آراء :


1 ـ ذهب قطب الدين الراوندي إلى أنّه ـ عليه السَّلام ـ مدحَ به بعض أصحابه بحسن السيرة. وانّ الفتنة هي التي وقعت بعد رسول الله من الاختيار والإثرة.


2 ـ وذهب ابن أبي الحديد إلى أنّ المكنّى عنه هو




1 . شرح النهج: 12 / 5 ـ 6 .


( 70 )


عمر بن الخطاب قال: وقد وُجدتْ النسخةُ التي بخط الرضي أبي الحسن جامع نهج البلاغة وتحت «فلان» «عمر» حدثني بذلك فخار بن معد الموسوي .


3 ـ يظهر من الطبري أنه ليس من كلام الإمام ، بل هو من كلام «ابنة أبي حثمة». وأنّ الإمام صدّقها في كلمتين «ذهب بخيرها، نجا من شرها» أي ذهب بخير الولاية ونجا من شرها الّذي ابتلي به عثمان. روي عن صالح بن كيسان عن المغيرة بن شعبة قال: لما مات عمر ـ رضى الله عنه ـ بكتْه ابنةُ أبي حثمة فقالت: واعمراه، أقام الأود، وأبرأ العَمدَ، أمات الفتن، وأحيا السنن، خرج نقيّ الثوب، بريئاً من العيب.


قال: وقال المغيرة بن شعبة لمّا دفن عمر أتيت علياً ـ عليه السَّلام ـ وأنا أُحبُّ ان أسمع منه في عمر ـ رضى الله عنه ـ شيئاً، فخرج ينفض رأسه ولحيته وقد اغتسل وهو ملتحف بثوب لا يشك أنّ الأمر سيعود إليه، فقال: يرحم الله ابن الخطاب لقد صدَقَتْ ابنة أبي حثمة: لقد ذهب بخيرها ونجا من


( 71 )


شرها. أما والله ما قالت ولكن قُوّلت (1).


والظاهر طروء النقص على عبارة الطبري، إذ كيف ارتجل الإمام بكلامه وقال: رحم الله ابن الخطاب من دون أن يتكلم المغيرة بن شعبة بكلام حول عمر، وهذه قرينة على أنّ المغيرة عندما واجه علياً أخبره بما سمعه من ابنة أبي حثمة، فَحلفَ الإمام بأنّها ما قالت ولكن قوّلت .


ويريد أنّ الكلام لم يكن من إنشائها، بل من إنشاء شخص آخر، وقد علّمه إيّاها لكي تندب به الخليفة. ولعلّه ـ عليه السَّلام ـ يشير بذلك إلى التواطؤ الّذي كان بينها وبين المغيرة، وسيوافيك أنّها كانت نادبة.


ولقد كان للخليفة يد بيضاء على المغيرة بدرء الحد عنه لمّا اتّهم بالزنا في عصر الخليفة وهو أمير على الكوفة، فقد شهد عليه بالزنا: أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد، وقالوا بأنّهم رأوه يولجه ويخرجه، فلمّا قدم الرابع (زياد




1 . تاريخ الطبري: 2 / 575 ط دار الكتب العلمية، بيروت .


( 72 )


بن أبيه) للشهادة، حاول الخليفة أن يدرأ عنه الحدّ بالشبهة، فخاطبه بقوله: إنّي لأرى رجلاً لم يخز الله على لسانه رجلاً من المهاجرين...(1).


ولقد جازاه المغيرة بما قام به بعد وفاته.


وقال ابن شبّه (2): بلغنا انّ عبد الله بن مالك بن عيينة الأزدي حليف بني المطلب، قال: لمّا انصرفنا مع عليّ ـ رضى الله عنه ـ من جنازة عمر ـ رضى الله عنه ـ دخل فاغتسل، ثم خرج إلينا فصمت ساعة، ثم قال: «لله بلاء نادبة عمر قالت: واعمراه أقام الأود، واعمراه، ذهب نقيّ الثوب، قليل العيب، واعمراه أقام السنّة وخلّف الفتنة. ثم قال: والله ما درتْ هذا ولكنها قوَّلَته، وصدقت والله أصاب عمر خيرها وخلّف شرها....(3)




1 . سير أعلام النبلاء: 3 / 28 رقم الترجمة 7 ; الأغاني: 14 / 146 ; تاريخ الطبري: 4 / 207 ; الكامل: 2 / 228 .


2 . أبو زيد عمر بن شبّه النميري البصري: (173 ـ 262 هـ) .


3 . تاريخ المدينة المنورة: 3 / 941 ـ 942، تحقيق فهيم محمد شلتوت .


( 73 )


بالله عليك يا صاحب الفضيلة، هل يصحّ الاستدلال بكلام لم يُعرف قائله، وهل هو من نسج المغيرة أو من نسج غيره؟! وقد أُلقي إلى النادبة توخيّاً لمصالح معينة، وخلافاً لنهي عمر عن ندب الموتى .


ومن المحتمل جداً أن يكون تكرار الإمام لكلام النادبة من باب إظهار التعجب منه، إذ سيرة الخليفة لم تكن تنسجم ومضامين ذلك الكلام.


وفي نهاية المطاف نقول: إنّ حياة الخليفة كانت مزيجاً من الإيجابيات والسلبيّات، ومن أبرز صفاته أنّه لم يكن مستأثرا ببيت المال، ولا مُسلّطاً بني عدي على رقاب الناس، ولا مترفعاً على المهاجرين والأنصار، إلى غير ذلك من الصفات البارزة الّتي تعد من سمات خلافته; مقابل خلافة عثمان الّذي استأثر ببيت المال، وحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، وسلّم الأُمور بيد مروان بن الحكم اللعين بن اللعين على لسان رسول الله (1)، إلى غير




1 . المستدرك للحاكم : 4 / 481 .


( 74 )


ذلك من الأُمور الّتي أثارت غضب المهاجرين والأنصار ومن تبعهم من سائر البلاد، فقِتل في عقر داره بمرأى ومسمع منهم .


فلو صحّ صدور هذا الكلام من الإمام وأغمضنا النظر عمّا حوله من الشكوك والإبهامات، فقد صدر منه لغاية إلايعاز إلى الحكم الّذي سوف يُبتلى به المسلمون ولذلك وصفه بقوله «وخلّف الفتنة» وهي الّتي رافقت خلافة عثمان، فقد كان مشغوفاً بحب بني أبيه، آل أُمية وتفضيلهم على الناس، وقد تنشّب ذلك في قلبه وكان معروفاً به من أوّل يومه، ولذلك قال عمر بن الخطاب لابن عباس: لو وليها عثمان لحمل آل أبي معيط على الناس، ولو فعلها لقتلوه.(1)


وبكلمة قصيرة: إنّ المدح والتنزيه نسبيّان، وليسا بمطلقين، يعلم ذلك من التدبّر في كلامه ـ عليه السَّلام ـ .




1 . انساب البلاذري: 5 / 16 وقد رويت كلمة الخليفة بصورة مختلفة لاحظ الغدير: 8 / 289 .


( 75 )



7


مدح عثمان على لسان الإمام


يقول الشيخ:


جاء في «نهج البلاغة» على لسان عليّ بخصوص عثمان رضي الله عنهما:


«والله ما أدري ما أقول لك؟ ما أعرف شيئاً تَجْهله، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه، إنّك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنُخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلِّغكه، وقد رأيتَ كما رأينا وسمعتَ كما سمِعنا وصحبت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ كما صحبنا، وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب بأولى بعمل الحق منك، وأنت أقرب إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وشيجة رحم منهما وقد نلت من صهره ما لم ينالا» .


( 76 )


فانظر هذا المدح والثناء على عثمان من علي رضي الله عنهما وانظر إلى قوله: «وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب، بأولى بعمل الحق منك» فهذه شهادة على أنّ أبابكر وعمر رضي الله عنهم كانا على الحق وعملا به وليسا بأولى من عثمان ـ رضى الله عنه ـ في ذلك، فهو لعمل الحق أهل.(1)


المناقشة:


إنّ فضيلة الشيخ ذكر كلام الإمام مبتوراً وقد حذف صدره، كما حذف ذيله، مع أنّ صدر كلامه وذيله يشهدان بوضوح أنّ الإمام بصدد بذل النصح للخليفة بُغية معالجة المشاكل التي حاقت بالخلافة قبل ان تستفحل الفتنة الّتي أودت بحياته، وما وصفه بكونه «أقرب إلى رسول الله وشيجة رحم منهما وقد نال من صهره مالم ينالا» إلاّ لأجل تشجيعه على إخماد نار الفتنة، وتنشيط عزمه، على إقامة السنّة وإماتة البدعة الّتي غطت حياة الخلافة في عصره.




1 . تأمّلات في كتاب نهج البلاغة: 20 .


( 77 )


ولأجل إيقاف القارئ على مقاصد الإمام في كلامه هذا نأتي بنصّ كلامه مشفوعاً بمقدّمة الرضي:


ومن كلام له ـ عليه السَّلام ـ لعثمان بن عفّان. قالوا:


لمّا اجتمع الناس إلى أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ ، وشكوا إليه ما نقموه على عثمان، وسألوه مخاطبته عنهم واستعتابه لهم، فدخل ـ عليه السَّلام ـ على عثمان، فقال:


«إنَّ النَّاسَ وَرَائي وقدِ اسْتَسْفَرُوني بينكَ وبينهمْ ; وَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ! مَا أَعْرِفُ شَيْئاً تَجْهَلُهُ، وَلاّ أَدُلُّكَ عَلَى أَمْر لاَ تَعْرِفُهُ !


إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ ; مَا سَبَقْنَاكَ إلى شَيء فَنُخْبرَكَ عَنْهُ، وَلاَ خَلَوْنَا بِشَيء فَنُبَلِّغَكَهُ; وَقَدْ رَأَيْتَ كَمَا رَأَيْنَا، وَسَمِعْتَ كَمَا سَمِعْنَا، وَصَحِبْتَ رَسُول اللهِ ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ كَمَا صَحِبْنَا. وَمَا ابْنُ أَبي قُحَافَةَ وَلاَ ابْنُ الخَطَّابِ بِأَوْلَى بِعَمَلِ الحقّ مِنْكَ، وَأَنْتَ أَقْرَبُ إلى رَسُولِ اللهِ ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وَشِيجَةَ رَحِم مِنْهُمَا، وَقَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِهِ مَا لَمْ يَنَالاَ; فَاللهَ الله في نَفْسِكَ،


( 78 )


فَإنَّكَ وَاللهِ مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمىً، وَلاَ تُعَلَّمُ مِنْ جَهْل; وَإنَّ الطُّرُقَ لَوَاضِحَةٌ، وَإنَّ أعلامَ الدِّينِ لقائمةٌ.


فَاعلَمْ أنَّ أفضل عباد الله عند اللهِ إمامٌ عادلٌ; هُدِيَ وهَدَى، فأقام سُنَّةً معلومةً، وأمات بدعةً مجهولةً; وإنَّ السُّننَ لنيرةٌ لها أعلامٌ، وإنَّ البدع لظاهرةٌ لها أعلامٌ; وإنَّ شرَّ الناس عند اللهِ إمامٌ جائرٌ ضلَّ وضُلَّ به ; فأمات سنَّةً مأخوذةً، وأحيا بدعةً متروكةً! وإنِّي سمعتُ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ يقولُ: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر، وليس معه نصيرٌ ولا عاذرٌ، فيلقى في نار جهنَّمَ، فيدور فيها كما تدور الرَّحى ; ثمَّ يرتبط في قعرها.


وإنِّي أنشدك الله أن لا تكون إمام هذه الأُمَّة المقتول! فإنَّهُ كان يقال: يقتل في هذه الأُمَّة إمامٌ يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويُلبِس أُمورها عليها، ويبثُّ الفتن فيها، فلا يبصرون الحقَّ من الباطل; يموجون فيها موجاً، ويمرجون فيها مَرجاً. فلا تكوننَّ لمروان سيِّقةً يسوقك


( 79 )


حيث شاء بعد جَلال السِّنِّ، وتقضِّي العمر».


فقال له عثمان ـ رضى الله عنه ـ :


كَلِّم النَّاس في أَنْ يؤجِّلوني، حتَّى أخرج إليهم من مظالمهم.


فقال ـ عليه السَّلام ـ :


«ما كان بالمدينة فلا أجل فيه ; وما غاب فأجله وصولُ أمرك إليه» .(1)


أقول: إنّ من أمعن في خطبة الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ وأحاط بالظروف الحرجة التي صدرت فيها، يقف على أنّ الإمام ـ عليه السَّلام ـ ليس بصدد مدح الخليفة وتنزيهه عمّا نقم عليه الناس ، وإنّما كان يتوخّى تحقيق هدفين:


الأوّل: إعادة الخلافة الإسلامية إلى مسارها الصحيح بعد أن زاغت عنه بممارسة الجهاز الحاكم




1 . نهج البلاغة، الخطبة 159 ; شرح النهج: 9 / 261 ـ 262 .


( 80 )


للأعمال المنافية لأهدافها الكبرى، كالاستئثار بأموال المسلمين، وتعيين أغلمة بني أُمية وشبابها المترف في الولايات والأعمال، وتوطيد السبل لطغيانهم واستطالتهم على الناس، وغير ذلك من الأُمور الّتي فتحت باب الفتن والجور على مصراعيه .


فكان في نيّة الإمام بكلامه هذا أن يقوم الخليفة بتغيير الوضع السائد، بعزل ولاة الجور وإعطاء أزمّة الأُمور إلى الصالحين من الأُمّة، وتقسيم بيت المال على المسلمين بالعدل والإنصاف.


الثاني: إنقاذ الخليفة من القتل بيد الثائرين من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم من سائر الأمصار الإسلامية، ولم يكن من مصلحة الإسلام قتل الخليفة، ولذلك كان الإمام ـ عليه السَّلام ـ يخاطب عثمان بقوله: «وإنّي أنشدك الله أن لا تكون إمام هذه الأُمّة المقتول».


هذان هما الهدفان اللّذان كان الإمام ـ عليه السَّلام ـ يتوخّاهما، ويدلّ على ما ذكرنا، الأُمور التالية:


( 81 )


1 ـ انّ الإمام ـ عليه السَّلام ـ كان يندِّد بأعمال عثمان وينقم عليه في غير موقف من مواقفه، فيقول عند بيان الدافع الحقيقي وراء قتل عثمان:


«اسْتَأْثَرَ فَأسَاءَ الأَثَرةَ، وَجَزِعْتُمْ فَأسَأْتُمُ الجَزَعَ، وَللهِ حُكْمٌ وَاقِعٌ في المُسْتَأْثِرِ والجَازِعِ» .(1)


2 ـ لما سيّر عثمان أبا ذر ذلك الصحابي العظيم لتنديده بأعمال عثمان وولاته، خرج عليّ يشايعه، وقال له:


«يَا أَبَا ذَرِّ، إنَّكَ غَضِبْتَ للهِ فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ. إنَّ القَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ، وَخِفتَهُمْ عَلى دِينكَ، فَاتْرُك في أيْديهمْ ما خَافُوكَ عَلَيه واهْرُبْ بِمَا خِفْتَهُم عَلَيْه، فَمَا أحْوَجَهَم إلى مَا مَنَعْتَهمْ وَمَا أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ ».(2)


فمع هذه العبارات الواضحة، كيف يُنتظَر من الإمام بعد ذلك أن ينزّه الخليفة عمّا نُقم عليه، ويبالغ في إطرائه




1 . نهج البلاغة: الخطبة 29، شرح محمد عبده .


2 . نهج البلاغة: الخطبة 126، شرح محمد عبده .


( 82 )


والثناء عليه، وكأنّه لم يجترح آثاماً، ولم يُحدث أحداثاً، أو يُبدع بدعاً؟!


3 ـ روى الطبري عن الواقدي، أنّ عبد الله بن محمد حدّثه عن أبيه، قال: لما كانت سنة 34 هـ، كتب أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ بعضهم إلى بعض أن أقدموا، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد وكثر الناس على عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، وأصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ يرون ويسمعون ليس فيهم أحد ينهى ولا يذب إلاّ نفير: زيد بن ثابت وأبو أسيد الساعدي وكعب بن مالك وحسان بن ثابت، فاجتمع الناس وكلّموا علي بن أبي طالب، فدخل على عثمان، فقال: «الناس ورائي وقد كلّموني فيك، والله ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئاً تجهله، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه، إنّك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلّغك، وما خُصِّصنا بأمر دونك...»(1).




1 . تاريخ الطبري: 3 / 375 ، حوادث سنة 34 هـ .


( 83 )


إنّ الإمام ـ عليه السَّلام ـ باعتباره سفير الناس إلى الخليفة لإطلاعه على تذمّرهم منه ونقمتهم عليه، كان يتوخّى أفضل السبل لإنجاز مهمّته المتمثّلة في نصح الخليفة وإرشاده، وتليين موقفه المتصلّب الرافض لاستعتابهم وتلبية مطالبهم، ولهذا بدأ ـ عليه السَّلام ـ كلامه بهذا الأسلوب الرقيق الّذي يحرّك في النفس نوازع الخير من خلال التذكير بذلك العهد الّذي أظلّتهم فيه رحمة الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وعدله واستقامته وخلقه المعطار.


ثم أعقبه بكلام يحمل في طيّاته تحذيراً شديداً من مغبّة التمادي في سلوك طريق الضلال والإضلال وفي إمامة السنّة وإحياء البدعة .


وقد نجح الإمام ـ عليه السَّلام ـ بهذا الاسلوب ـ الّذي يجمع بين الترغيب والتحذير ـ في تحقيق أهدافه السامية في كبح روح العناد لدى الخليفة، ودفعه إلى استعتاب الثائرين، وآية ذلك النجاح تأثّر الخليفة بكلامه وإقباله


( 84 )


عليه، الأمر الّذي حداه إلى مخاطبة الإمام بقوله: كلِّمِ الناس في أن يؤجّلوني حتّى أَخرُجَ إليهم من مظالمهم.


وعلى ضوء ما تقدّم، يُعلم مغزى كلام الإمام ـ عليه السَّلام ـ وأنه ليس بصدد الحديث عن وفور علم عثمان، وإنّما بصدد لفت نظره وتذكيره بمصاحبته للرسول الأكرم ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ ، من أجل حثّه على مراعاة العدل ومجانبة الظلم والجور والرفق بالرعية وإنصافهم وغير ذلك من الأُمور العامة الّتي ينبغي أن يكون قد وعاها من حديث رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وسيرته العظيمة. وعليه فإن ما استنتجه فضيلة الشيخ من أنّ كل ما يعلمه الإمام يعلمه عثمان، ليس في محلّه، وبعيد عن الصواب، لغفلته أو تغافله عن ملاحظة الظرف الّذي صدر فيه كلام الإمام ـ عليه السَّلام ـ .


ونحن إذا غضضنا الطرف عن مسألة اختصاص الإمام برسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وملازمته له من لدن أن كان وليداً إلى آخر لحظات حياته ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وانتهاله من نمير علمه وبحر عطائه، ولم نأخذ بعين الاعتبار أيضاً مسألة الاختلاف


( 85 )


الطبيعي بين الأشخاص في المواهب والقابليات والملكات، ورجعنا إلى التاريخ، فإنّنا لم نجد فيه من يدّعي المساواة بين علم عثمان وعلم أبي بكر وعمر فضلاًعن المساواة بينه وبين علم علي الّذي شاع فيه القول: إنّه أفصح الناس بعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وأكثرهم علماً وزهداً وتنمّراً في ذات الله تعالى .


قيل لعطاء بن أبي رباح: أكان في أصحاب محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ أعلم من علي؟ قال: لا والله لا أعلم.(1)


وقالت عائشة: علي أعلم الناس بالسنّة.(2)


وقال سعيد بن المسيب: كان عمر يتعوذ من معضلة ليس لها أبو حسن. (3)


أمّا قوله ـ عليه السَّلام ـ : «وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب أولى بعمل الحق منك، وأنت أقرب إلى رسول الله




1 . أسد الغابة: 4 / 22 .


2 . مختصر تاريخ دمشق: 18 / 25 .


3 . أسد الغابة: 4 / 22 ـ 23 ; تهذيب الكمال: 20 / 485 .


( 86 )


وشيجة»، فيمكن بيانه على النحو التالي:


لايشك أحدٌ في أنّ سيرة أبي بكر وعمر في خطوطها العامّة كانت أفضل من سيرة عثمان، ولهذا أراد الإمام بهذا القول أن يحثّه على انتهاج سيرتهما، وأن ينأى بنفسه عن استئثار بني أبيه وأقاربه بالأموال والولايات والمناصب، وأن يعدل في الرعية، ويرفع عنها مظالمها، وهذا لا يعني أنّه ـ عليه السَّلام ـ كان راضياً عن سيرة الشيخين في تفاصيلها، لأنّ هذا المعنى خارج عن موضوع الكلام.


وممّا يؤكد ما نذهب إليه، هو أن الخلافة كانت من علي على طرف الثُّمام(1)، ولكنّه ـ عليه السَّلام ـ رغب عنها بعد أن اشترط عليه عبد الرحمن بن عوف الاقتداء بسيرة الشيخين!!


فلو كانت سيرتهما مستضيئة بالكتاب والسنّة في كلّ تفاصيلها، لما كان هناك مساغ لرفضه ـ عليه السَّلام ـ لهذا الشرط .




1 . جمع الثمامة، نبت، سهل التناول مثل يضرب لكل أمر يسهل تناوله .


( 87 )



8


مدح الإمام وثناؤه على أصحاب النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ


يقول الشيخ :


ورد في «نهج البلاغة» خطبة علي ـ عليه السَّلام ـ والتي تدور حول مدح وثناء على أصحاب النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ ونعرض هنا جزءاً منها:


«لقد رأيت أصحاب محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ فما أرى أحداً منكم يشبههم ، لقد كانوا يصبحون شُعثاً غبراً، وقد باتوا سجّداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأنّ بين أعينهم رُكَبَ المعزى من طول سجودهم، إذا ذُكر الله هملت أعينهم حتى تَبُلَّ جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح


( 88 )


العاصف، خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب» (1).


وقال أيضاً مادحاً أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ : أين القوم الذين دُعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرأوا القرآن فأحكموه، وهيجُوا إلى القتال فَوَلهوا وَلَهَ اللقاح إلى أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً، وصفاً صفاً، بعضٌ هلك، وبعض نجا، لا يُبَشَّرون بالأحياء، ولا يُعَزَّوْنَ بالموتى، مُرْهُ العيون من البكاء، خُمصُ البطون من الصيام، ذُبَّل الشفاه من الدعاء، صُفرُ الألوان من السَّهَر، على وجوههم غبرة الخاشعين، أُولئك إخواني الذاهبون، فحقَّ لنا أن نظمأ إليهم، ونَعضَّ الأيدي على فراقهم» (2).




1 . نهج البلاغة: الخطبة 93، شرح محمد عبده ; شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 7 / 77 .


2 . نهج البلاغة: الخطبة 117، شرح محمد عبده ; شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 7 / 291. ولاحظ تأمّلات في كتاب نهج البلاغة: 21. وقد نقل الكاتب الخطبتين، وفيهما بعض التصحيف، وتمّ تصحيحهما على الأصل .


( 89 )



المناقشة:


أوّلاً: إنّ الإمام ـ عليه السَّلام ـ ليس بصدد الثناء على عامّة أصحاب الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ حتّى يستدلّ بكلامه على عدالة الجميع، إذ أين هذه السمات الواردة في الخطبتين من الأعراب والطلقاء والمرتدّين؟! وانّما يثني على صنف خاص منهم، وهم الذين آمنوا وجاهدوا إبّان ضعف الإسلام وخموله وكانوا أرباب زهد وعبادة وجهاد في سبيل الله، نظراء:


ـ مصعب بن عمير القرشي، من بني عبد الدار.


ـ سعد بن معاذ الأنصاري من الأوس.


ـ جعفر بن أبي طالب.


ـ عبد الله بن رواحة الأنصاري، من الخزرج


ـ عمّار بن ياسر .


( 90 )


ـ أبو ذر الغفاري.


ـ المقداد الكندي .


ـ سلمان الفارسي.


ـ خَبّاب بن الأرتّ ونظرائهم مضافاً إلى جماعة من أصحاب الصُّفَّة وفقراء المسلمين أرباب العبادة الذين قد جمعوا بين الزهد والشجاعة.


فإطراء هؤلاء وهذه سماتهم وصفاتهم لا يكون دليلاً على إخلاص صحابة رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ قاطبة، وسيوافيك أنّ الإطراء على جميع الصحابة لا يعدّ دليلاً على إطراء كلّ واحد واحد منهم .


وثانياً: نحن نشاطر فضيلة الشيخ في أنّه لا يجوز سب المؤمن فضلاً عن سب أصحاب النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ ، الذين رأوا نور الوحي واستضاءوا به خصوصاً من شهد بدراً وأُحداً والأحزاب واتّبعوا النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ طيلة حياته وأحسنوا الصحبة معه.


( 91 )


وللأئمة المعصومين كلمات أُخرى غير ما ذكره فضيلة الشيخ حول الصحابة، منقولة في كتب الشيعة، وهذا هو الإمام زين العابدين ـ عليه السَّلام ـ يقول في دعائه: «اللّهم وأصحاب محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ خاصة الذين أحسنوا الصحبة والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكاتفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته...» (1).


ومع الإيمان بهذا كلّه، فلنا وقفات مع فضيلة الشيخ:


الأُولى: حب الصحابة كرامة للمحب


لا أظن انّ أحداً يؤمن بالله ورسوله ويحب الله ورسوله يبغض الصحابة ويسبّهم، لأنّهم صحابة نبيّهم ، لأنّ الإيمان بالرسول والحب له لا يجتمع مع بغض من أعانه وفدّاه بنفسه ونفيسه قبل الهجرة وبعدها، من غير فرق بين مَن آمن بمكة وعُذِّب وقتل أو مات، وبين مَن




1 . الصحيفة السجادية: الدعاء الرابع .


( 92 )


هاجر إلى المدينة وشارك النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ في غزواته وشايعه في ساعة العسرة كالبدريّين والأُحديّين وغيرهم من الصحابة الذين حفل القرآن الكريم والتاريخ بذكرهم وذكر تضحياتهم، وهذا شيء لا يختلف فيه اثنان من المسلمين، فرميُ الشيعة بسبّ الصحابة فرية ليس فيه مرية، خصوصاً أنّ قسماً من صحابة النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ كانوا رُوّاد التشيّع وأتباع علي ـ عليه السَّلام ـ قبل رحيل الرسول وبعده، ولازموه إلى أن وافاهم الأجل، وقد تكفّل التاريخ بذكر أسمائهم، وعقدنا البحث في سيرهم في كتاب مفرد.


وهذه التهمة أشاعها أعداء أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ لاسيّما الأُمويّين ثم العباسيّين ومن تبعهم، وما ذلك إلاّ لأنّ الشيعة منذ ظهورهم لم يوالوا السلطات الزمنية قط، بل قاموا بوجهها، ولذلك رمتهم السلطات الظالمة بهذه التهمة، وهم منها براء كبراءة يوسف ممّا اتّهم به.


ويشهد على ذلك كلمات الإمام في «نهج البلاغة»،


( 93 )


ودعاء الإمام زين العابدين ـ عليه السَّلام ـ في صحيفته السجادية كما مرت الإشارة إلى ذلك .


الثانية: إنّ النقد الموضوعي لأعمال الصحابة على ضوء الكتاب والسنّة لا يعني سبَّهم، فإنّ سباب المسلم فسوق، كما أنّ دراسة حياة الصحابي وفق المعايير العلمية والّتي قد تنتهي بنتيجة قاسية في حق الصحابي لا تعد سبّاً. وها نحن نذكر أسماء عدد قليل من الصحابة الذين رأوا النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وعاشوا معه وصحبوه ومع ذلك يندّد بهم القرآن الكريم والسنّة النبوية والتاريخ الصحيح.


1 ـ الوليد بن عقبة الفاسق


إنّ القرآن الكريم يحثُّ المؤمنين وفي مقدّمتهم الصحابة الحضور، على التحرّز من خبر الفاسق حتّى يتبيّن، فمن هذا الفاسق الّذي أمر القرآن بالتحرز منه؟ اقرأ أنت ما نزل حول الآية من شأن النزول واحكم بما هو الحق .


( 94 )


قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)(1).


اتّفق المفسرون على أنّ الآية نزلت في حقّ الوليد بن عقبة بن أبي معيط وقد سوّد الرجل صحائف حياته بأعمال سيئة سجلها التاريخ، وقد أمّ المصلّين في مسجد الكوفة وهو سكران، إلى غير ذلك من موبقات الأعمال الّتي تعدّ من مسلّمات التاريخ .


2 ـ أبو الغادية قاتل عمّار


يعرّفه ابن حجر بقوله: أبو الغادية الجهني، اسمه: يسار، سكن الشام، وروي أنّه سمع النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ يقول: إنّ دماءكم وأموالكم حرام، وقال الدوري عن ابن معين: أبو الغادية الجهني قاتل عمار، له صحبة.




1 . الحجرات: 6 .


( 95 )


والعجب أنّ ابن حجر مع ذكره هذا ونقله عن البخاري ومسلم، يقول: إنّه كان متأوّلاً، وللمجتهد المخطئ أجر (1).


وياللعجب يقطر التاريخ ظلماً ودماً باسم الدين والاجتهاد وإصلاح الأُمور!! وكلّما كثر الذنب، ازداد الاجر للمجتهد.


3 ـ مسلم بن عقبة قاتل أهل المدينة


مسلم بن عقبة الأشجعي من صحابة النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ ، ذكره ابن حجر في «الإصابة» برقم 7977، وكفى في حقّه ما ذكره الطبري في حوادث سنة 64 هـ، يقول: ولمّا فرغ مسلم بن عقبة من قتال أهل المدينة وإنهاب جنده أموالهم ثلاثاً، شخَصَ بمن معه من الجند متوجّهاً إلى مكة، فلمّا وصل إلى قفا المشلل نزل به الموت، وذلك في آخر محرم من سنة 64 هـ (2).




1 . الإصابة: 3 / 150، باب الكنى .


2 . تاريخ الطبري: 4 / 381، حوادث سنة 64 .


( 96 )



4 ـ بسر بن أبي أرطأة ذابح ولدي عبيد الله بن العباس


كان من أصحاب الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ ، شهد فتح مصر واحتفظ بها، وكان من شيعة معاوية، وكان معاوية وجّهه إلى اليمن والحجاز في أوّل سنة أربعين وأمره أن ينظر من كان في طاعة علي فيوقع بهم، ففعل ذلك.


وقد ارتكب جرائم كثيرة ذكرها التاريخ، ولمّا كانت تمسّ عدالة الصحابة وكرامتهم أعرض ابن حجر عن استعراضها مكتفياً بالقول: وله أخبار شهيرة في الفتن لا ينبغي التشاغل بها!!


ومن جرائمه الّتي لا تستقال ولا تغتفر ذبحه ولدي عبيد الله بن العباس.


قال الطبري: أرسل معاوية بن أبي سفيان بعد تحكيم الحكمين بسر بن أبي أرطأة فساروا من الشام حتى قدموا المدينة، وعامل علي ـ عليه السَّلام ـ على المدينة يومئذ أبو أيوب الأنصاري ففرّ منهم أبو أيوب. ثم صعد بسر على المنبر ونادى: يا أهل المدينة والله لو لا ما عهد إليَّ


( 97 )


معاوية ما تركت بها محتلماً إلاّ قتلته ـ إلى أن قال : ـ ثم مضى بسر إلى اليمن وكان عليها عبيد الله بن عباس، فلمّا بلغه مسيره فرّ إلى الكوفة واستخلف عبد الله بن عبد المدان الحارثي على اليمن، فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه، ولقي بسر ثَقَلَ عبيد الله بن عباس وفيه ابنان له، فذبحهما(1).


5 ـ معاوية بن أبي سفيان رأس الفئة الباغية


نحن لا نصف معاوية بالأحاديث الذامّة في حقّه وبينها صحاح وحسان، بل نكتفي بالأمر المتواتر وهو انّه كان يرأس الفئة الباغية الّتي قال النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ في حقّها: ويح عمار تقتلك الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار».(2)




1 . تاريخ الطبري: 4 / 107، حوادث سنة أربعين ; سير اعلام النبلاء: 3 / 409، برقم 65 .


2 . صحيح البخاري، الجهاد: 6 / 30 رقم 2813. ولاحظ الجمع بين الصحيحين للحُميري: 2 / 47 رقم 1794 .


( 98 )


هذه نماذج من الصحابة الذين ألبسهم أهل السنّة ثوب العدالة بل العصمة، فلا تراهم يذكرون شيئاً مما يرجع إلى موبقات أعمالهم .


إنّ القرآن الكريم يذكر من بين الصحابة فئات ويصفهم بأنّهم :


1 ـ المنافقون المعروفون (1).


2 ـ المنافقون المختفون (2).


3 ـ مرضى القلوب (3).


4 ـ السمّاعون (4).


5 ـ خالطو العمل الصالح بغيره (5).


6 ـ المشرفون على الارتداد (6).


7 ـ المؤلّفة قلوبهم (7).




1 . المنافقون: 1 .


2 . التوبة: 101 .


3 . الأحزاب: 12 .


4 . التوبة: 47 .


5 . التوبة: 102 .


6 . الأعراف: 154 .


7 . التوبة: 60 .


( 99 )


8 ـ المولّون أمام الكفّار (1).


9 ـ الفاسقون (2).


ومع هذا التقسيم والتصنيف كيف يمكن أن نصف عامة الصحابة بالعدل والتقى؟! وهذا لا يعني أنّ كلّهم ـ نعوذ بالله ـ كانوا كذلك، بل نقول: إنّ حكمهم حكم التابعين، فالشيعة لا تفرّق بين الصحابي والتابعي، ولا تعدّ وصف أعمالهم بما ثبت في التاريخ الصحيح سبّاً لهم ،ولا تغضّ النظر عن التاريخ الصحيح .


وأمّا ما ورد في القرآن من قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِىَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ)وقوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) .


وقول النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ : إنّ الله اطّلع على أهل بدر ـ انْ كان الخبر صحيحاً ـ فكلّه مشروط بسلامة العاقبة، ولا يجوز أن يخبر الحكيم فرداً غير معصوم بأنّه لا عقاب عليه فليفعل ما شاء.




1 . الأنفال: 15 ـ 16 .


2 . الحجرات: 6 .


( 100 )


وبعبارة أُخرى: كلّ ما ورد من الثناء على المهاجرين والأنصار في الكتاب العزيز فانّما هو ثناء على مجموعهم لا على كلّ فرد فرد منهم وإن تبيّن فسقه وبانت زلّته، وكم له في الذكر الحكيم من نظير:


1 ـ انّه سبحانه أثنى على بني إسرائيل في غير واحد من الآيات وقال: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) (1).


2 ـ وقال تعالى: (وَ لَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) (2).


أفيصح لأحد أن يستدلّ بهذه الآيات على تنزيه كلّ فرد من بني إسرائيل؟!


3 ـ وقال تعالى في حق أُمّة نبيّنا: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة




1 . البقرة: 47 .


2 . الجاثية: 6 .


( 101 )



أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (1).


فالآية تصف الأُمّة المرحومة بأنّها خير أُمّة ولكنّها ليست بصالحة للاستدلال على صلاح كلّ مسلم وفلاحه.


ونحن لم نزل نسمع من كلّ من يحاول إثبات عدالة كلّ صحابي، الاستدلال بهذه الآيات ولكنّهم غفلوا عن نكات:


الأُولى: انّ الآيات نزلت في حقّ المهاجرين والأنصار فأين هي من الأعراب والطلقاء والمرتدّين والمنافقين المندسّين في الصحابة؟!


الثانية: انّها ثناء على مجموعة ولا يخص كلّ فرد فرد منهم ، فإذا أثنى الشاعر على الأُمّة العربية فانّما يريد المجموعة من الأُمّة لا كلّ فرد فرد حتّى أولئك الخونة الذين باعوا الأراضي الإسلامية بثمن زهيد .




1 . آل عمران: 110 .


( 102 )



الثالثة: الإمساك عمّا شجر بين الصحابة من الخلاف


ثم إنّ كثيراً من المحدّثين والمؤرّخين لمّا وقفوا على الموبقات الّتي ارتكبها بعض صحابة النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ بعد رحيله، أسّسوا هنا أصلاً مفاده ضرورة الإمساك عمّا شجر بين الصحابة من الخلاف، وربّما يقولون تلك دماء طهّر الله منها أيدينا فلا نلوّث بها ألسنتنا!! والقول منسوب إلى عمر بن عبد العزيز وربّما ينسب إلى الإمام أحمد بن حنبل.


وأنت خبير بأنّها تغطية وتعمية على الحقائق الثابتة. لماذا أوجبوا الإمساك عمّا شجر بينهم من الخلاف، وهم بين ظالم ومظلوم، وهذه الشريعة الغرّاء تدعونا إلى أن نكون للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً.


على أنّ الكلام المنسوب لعمر بن عبد العزيز أو أحمد بن حنبل يوهم بأنّ تلك الدماء كلّها قد سفكت بغير حق، فكأنّ القاتلين والمقتولين في الحروب الثلاثة:


( 103 )


الجمل وصفين والنهروان كلّهم طغاة وبغاة، يجب أن لا نلوّث ألسنتنا بدمائهم.


هذا غيض من فيض ممّا يمكن أن يقال في الصحابة، ولو أردنا ان نفصّل البحث فيهم ونسرد أسماء من ظهر منهم الظلم والفسق ـ كالحكم بن أبي العاص، وابنه مروان بن الحكم، ووحشي بن حرب قاتل حمزة، وعبد الله بن وهب الراسبي من رؤوس الخوارج وأمثالهمـ لاحتجنا إلى كتاب مفرد، وعند ذاك أذعنت انّ الحقّ مع الشيعة حيث تنظر إلى الصحابة والتابعين بنظرة واحدة، وتكيلهما بكيل واحد ولا ترى دراسة أحوال الصحابة بالمعايير الصحيحة، سبّاً لهم، وذلك اقتداءً بالكتاب العزيز أوّلاً، والسنّة النبوية ثانياً، والسلف الصالح ثالثاً، فإنّ الجميع يحفل بذكر الفضائل والمناقب، كما يحفل بذكر مساوئ الأعمال وقبائح الأفعال.


( 104 )



9


إنّ عليّاً لم يكفّر أحداً ممّن قاتله


يقول الشيخ :


إنّ عليّاً لم يكفّر أحداً ممّن قاتله حتّى ولا الخوارج، ولا سبَّ ذرية أحد منهم، ولا غنم ماله، ولا حكم في أحد ممّن قاتله بحكم المرتدّين كما حكم أبو بكر وسائر الصحابة في بني حنيفة وأمثالهم من المرتدّين، بل كان يترضّى عن طلحة والزبير وغيرهما ممّن قاتلهم، ويحكم فيهم وفي أصحاب معاوية ممّن قاتلهم بحكم المسلمين، وقد ثبت بالنقل الصحيح عند أهل السنّة وغيرهم أنّ مناديه نادى يوم الجمل لا يُتبع مدبر، ولا يُجهز على جريح ولا يغنم مال. واستفاضت الآثار أنّه كان يقول عن


( 105 )


قتلى معاوية: إنّهم جميعاً مسلمون ليسوا كفّاراً ولا منافقين. وهذا ثبت بنقل الشيعة عن نفسها (1).


المناقشة:


ما ذكره فضيلة الشيخ لا غبار عليه، ونحن الشيعة لا نكفِّر أحداً من الصحابة ولا التابعين ولا سائر الفرق ممّن يشهدون بالأُصول الثلاثة:


1 ـ التوحيد .


2 ـ رسالة النبي الخاتم .


3 ـ المعاد.


وهذا هو معيار الإيمان والكفر في كتبهم ونقتصر هنا على كلمتين لعلمين من قدماء الإمامية:


قال ابن ميثم البحراني (المتوفّى 679 هـ) شارح النهج: الكفر إنكار صدق الرسول وإنكار شيء ممّا علم مجيئه به بالضرورة.(2)




1 . تأمّلات في كتاب نهج البلاغة: 23 .


2 . قواعد المرام: 171 .


( 106 )


وقال الفاضل المقداد (المتوفّى 828 هـ) : الكفر اصطلاحاً هو إنكار ما علم ضرورة مجيء الإسلام به (1).


ولو حاولنا أن نذكر نصوص علمائنا القدامى في معيار الإيمان والكفر لطال بنا الكلام في المقام مع أنّ أساس الرسالة قائم على الإيجاز والاختصار .


وها نحن نردف النصّين المذكورين بنصّين آخرين لأشهر مراجع الفتيا بين الشيعة في هذه الأعصار:


قال السيد الطباطبائي: والمراد بالكافر من كان منكراً للأُلوهية أو التوحيد أو الرسالة أو ضرورياً من ضروريات الدين مع الالتفات إلى كونه ضروريّاً بحيث يرجع إنكاره إلى إنكار الرسالة (2).


وقال السيد الإمام الخميني: الكافر: هو من انتحل غير الإسلام، أو انتحله وجحد ما يعلم من الدين ضرورة




1 . إرشاد الطالبين: 443 .


2 . العروة الوثقى، كتاب الطهارة، قسم النجاسات الثامن: الكافر: 24 .


( 107 )


بحيث يرجع جحوده إلى إنكار الرسالة أو تكذيب النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ أو تنقيص شريعته المطهّرة (1).


وعلى ذلك، فأبناء الفرق الإسلامية سنّيّهم وشيعيّهم محكومون بالإسلام ما داموا يستظلّون بخيمة التوحيد والرسالة والاعتقاد بالمعاد ولا ينكرون شيئاً من ضروريات الدين التي ربّما يرجع إنكارها إلى انكار الرسالة .


فأين التكفير الذي يفترى على الشيعة بالنسبة إلى سائر الفرق؟! وقد عرفت أنّ وصف الأعمال ودراسة حياة الصحابي والتابعي لا يمَتُّ إلى السبّ ولا إلى التكفير، ولو كان هناك خطب فانّما هو في كتب الآخرين وأفعالهم، وبما أنّ فضيلة الشيخ من الحنابلة نذكر شيئاً قليلاً من تكفيراتهم المروّعة لطوائف من المسلمين، حتّى يتبيّن الداعي إلى وحدة الكلمة عن مفرّق الجماعة والصفوف!!




1 . تحرير الوسيلة: 1 / 118 .


( 108 )



مسلسل التكفير في كتب الحنابلة:


إنّ فضيلة الشيخ رمى الشيعة تلويحاً بتهمة تكفير البعض، وقد عرفت أنّ الشيعة بريئة من هذه التهمة، وانّ كل من آمن بالأُصول الثلاثة ولم ينكر شيئاً من ضروريات الدين فهو مسلم، والمسلم أخو المسلم من غير فرق بين شيعيّهم وسنّيّهم، ويجب على الجميع الاعتصام بحبل الله والوقوف بوجه كلّ من يتربّص بالإسلام الدوائر.


ولكن أُلفِتُ نظر الشيخ لنكتة مهمة وهي وجود مسلسل التكفير في كتب الحنابلة بالنسبة إلى بعض أئمة المذاهب الفقهية وسائر المسلمين، وها نحن نذكر نماذج لهذا الموضوع :


1 ـ تكفير أبي حنيفة والحنفية:


هذا هو عبد الله بن أحمد بن حنبل (المتوفّى 290 هـ) كفّر في كتابه «السنّة» أبا حنيفة وعرّفه بالنحو التالي: كافر، زنديق، مات جهمياً، ينقض الإسلام عروة عروة، ما


( 109 )


ولد في الإسلام أشأم ولا أضرَّ على الأُمّة منه، وأنّه أبو الخطايا، وأنّه يكيد الدين، وأنّه نبطي غير عربي وأنّ الخمّارين خير من أتباع أبي حنيفة، وأنّ الحنفية أشدّ على المسلمين من اللصوص، وأنّ أصحاب أبي حنيفة مثل الذين يكشفون عوراتهم في المساجد! وأنّ أبا حنيفة سيُكبّه الله في النار، وأنّه أبو جيفة، وانّ المسلم يؤجر على بغض أبي حنيفة وأصحابه... (1)


وربّما يتصوّر القارئ أن التكفير يختصّ بالولد وأنّ الوالد ـ أعني الإمام أحمد ـ منزّه عن هذه الوصمة، ولكنّه لو رجع إلى كتبه المطبوعة باسمه يرى أنّ الولد تبع والده في التكفير .


2 ـ تكفير من قال: القرآن كلام الله:


هذا هو الوالد يقول: من زعم أن القرآن مخلوق فهو




1 . كتاب السنّة: 1 / 184 ـ 210، ولكلامه صلة فمن أراد فليرجع إلى نفس الكتاب .


( 110 )


جهميّ كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله ووقف ولم يقل ليس بمخلوق فهو أخبث من قول الأوّل، ومن زعم أنّ ألفاظنا به وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي، ومن لم يكفّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم (1).


تجد أنّ الإمام يكفّر من قال بأنّ القرآن كلام الله ووقف، بل يراه أخبث ممّن يقول بأن القرآن مخلوق، وحتّى يكفّر من لم يكفّرهم. وعندئذ نسأل فضيلة الشيخ: انّ مسألة خلق القرآن وعدمه أو حدوث القرآن وقدمه، مسألة ليس لها جذور في الكتاب والسنّة وإنّما طُرحت في أيام خلافة المأمون وكانت بصمات يوحنّا النصراني الدمشقي (2) عليها واضحة، أليس اللازم على الإمام أحمد




1 . طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى: 1 / 29 .


2 . وهو من حفدة سرجون بن منصور الرومي النصراني المشرف على الشؤون المالية للدولة الأُموية في عصر معاوية ومن بعده إلى زمن عبد الملك. وقد بسطنا ـ في كتابنا «بحوث في الملل والنحل» ج 3 ـ الكلام في تاريخ مسألة حدوث القرآن وقدمه وأنّها من أين نشأت؟ وكيف دخلت في حوزة الإسلام؟


( 111 )


ـ حسب أُصول المحدّثين والسلفيّين ـ أن لا يخوض في هذه المسألة عند المرور عليها ويسكت عن وصف القرآن بالقدم أو الحدوث؟!


وربما يتصوّر القارئ أن مسلسل التكفير قد انتهى في أوساط الحنابلة بموت الوالد والولد، ولكن المتتبع في التاريخ يرى استمرار التكفير على يد علماء الحنابلة. كابن تيميّة وتلميذه ابن القيم ونذكر من الاخير شيئاً .


3 ـ التكفير عند ابن قيّم الجوزية:


لقد نحا ابن قيّم الجوزية (المتوفّى 751 هـ) منحى أُستاذه ابن تيميّة في تكفير المسلمين فأطلق على المسلمين قاطبة اسم «المعطّلة» وعلى منهجه ومنهج أُستاذه اسم «المثبتة» حيث اختلفا مع سائر المسلمين في مفاد الصفات الخبرية كيد الله، وعين الله، وغيرهما، فالمسلمون على إجراء هذه الصفات على الله سبحانه مع


( 112 )


تجريدها من التشبيه والتجسيم، ولكنّهما يصرّان على إجرائها على الله سبحانه بنفس معانيها اللغوية من دون تجريد عن التجسيم والتشبيه، ولذلك يطلقون على فرق المسلمين من الأشاعرة والمعتزلة والإمامية اسم «المعطّلة».


يقول ابن القيّم في نونيته المعروفة، المشحونة بالتشبيه والتجسيم :





  • لكن أخو التعطيل شر من أخي
    ان المعطَّل جاحد للذات أو
    كمالها هذان تعطيلان



  • الإشراك بالمعقول والبرهان
    كمالها هذان تعطيلان
    كمالها هذان تعطيلان







  • والمشركون أخف في نعراتهم
    وكلاهم من شيعة الشيطان(1)



  • وكلاهم من شيعة الشيطان(1)
    وكلاهم من شيعة الشيطان(1)






1 . شرح نونية ابن القيم: 1 / 27. ولاحظ كتابنا بحوث في الملل والنحل الجزء الرابع .


( 113 )



4 ـ تشبيه الروافض باليهود والنصارى:


إنّ من البحوث الدارجة في كتب الحنابلة هو تشبيه الشيعة أو الروافض حسب مصطلحهم باليهود والنصارى، وهذا هو ابن الجوزي (510 ـ 597 هـ) قد فتح باباً في كتاب «الموضوعات» في تشبيه الروافض باليهود والنصارى، وذكر هناك وجوهاً عشرة تجمعهم، فقال:


1 ـ محنة الرافضة، محنة اليهود قالت اليهود لا يصلح الملك إلاّ في آل داود وقالت الرافضة لا تصلح الإمارة إلاّ في آل علي.


2 ـ وقالت اليهود لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح الدجال وقالت الرافضة لا جهاد حتى يخرج المهدي... (1)


وقد سبقه إلى ذلك ابن حزم الظاهري (المتوفّى




1 . الموضوعات: 1 / 338 ـ 339 .


( 114 )


456 هـ) فذكر نفس الوجوه التي اعتمد عليها ابن الجوزي في «الموضوعات» والظاهر انّ ابن الجوزي أخذها عن ابن حزم (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْض زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)(1).


قل لنا يا صاحب الفضيلة: هل رأيتم شيعياً يُشبّه أخاه السنّيّ باليهود ويختلق له وجوهاً عشرة، كيف يطيب لكم إخراج هذه الكتب وطبعها ونشرها وقراءتها دون أن تؤدّوا واجبكم أمام هذه التهم؟! أفرأيتم شيعياً، يصلّي إلى غير الكعبة، أو ينتحل غير دين الإسلام، أو يختلف في القرآن أنّه كلام الله سبحانه النازل على قلب سيد المرسلين ليكون من المنذرين، أو يختلف في الصلوات الخمس، أو في حج بيت الله الحرام، وما ضاهاها من الأُصول والفروع.


نعم يفارق الشيعة إخوانَهم السنّة في مسائل اجتهادية، فهم مثلاً يمسحون الأرجل مكان غسلها ـ تبعاً لظاهر الكتاب ـ ولا يروْن المسح على الخفين مجزياً،




1 . الأنعام: 112 .


( 115 )


ويجهرون بالبسملة في الصلوات الجهرية، ويقولون بجواز الجمع بين الصلاتين في السفر والحضر من دون عذر ; أخذاً بما روي عنه ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ متضافراً: «جمع رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر»، ويروْن القصر والإفطار في السفر عزيمة لا رخصة، ويقيمون نوافل رمضان (التراويح) فرادى في البيوت عملاً بوصية الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ ، ويصدرون في هذه الموارد ونظائرها عن الكتاب والسنّة.


نعم لولا الدعايات الخادعة، من الأُمويّين والعباسيّين ثم العثمانيّين عبر القرون في تشويه سمعة الشيعة، لعلمتم أنّ الشيعي هو الأخ الذي افتقدتموه طيلة قرون، والتشيّع والتسنّن صنوان من أصل واحد، والاختلاف بين الشيعة والسنّة، ليس بأكثر من الاختلاف بين المذاهب الأربعة. يعرف ذلك من له إلمام بالفقه على المذاهب الخمسة .


( 116 )


وهذا هو ابن جبرين المعاصر ، جلس على منصة الفتيا في السعوديّة وكفّر الشيعة في جواب سؤال رُفع إليه، فقال في جواب السؤال :


أما بعد; فلا يحل ذبح الرافضي ولا أكل ذبيحته، فإنّ الرافضة غالباً مشركون، حيث يدعون علي بن أبي طالب دائماً في الشدة والرخاء حتى في عرفات والطواف والسعي... (1)


سبحان الله تُؤكل ذبيحة اليهودي والنصراني في الحرمين الشريفين، وفي عامَّة بلادهم مع أنّها ذبيحة لم يذكر عليها اسم الله، ولكن لا تباح ذبيحة من آمن بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن كتاباً، وبالكعبة قبلة!!




1 . الجواب المؤرخ: 22 / 2 / 1412 هـ وقد ألّفنا رسالة مفردة في رد ما افترى على الشيعة في هذه الفتيا القصيرة، وطبعت باسم: «القول المبين في الرد على ابن جبرين».


( 117 )


وقد حكى بعض المعاصرين في كتاب له أنّه رأى رسالة عنوانها «بذل المجهود في مشابهة الرافضة لليهود» وأضاف قائلاً :


نشأنا هنا في الخليج عامة وفي المملكة خاصة على أن الشيعة فيهم معظم صفات اليهود والنصارى وأنّهم أسوأ من اليهود والنصارى بخصلتين حتى طبعت في ذلك الكتب ونوقشت الرسائل العلمية! مع أنّ كل هذا أخذناه من ابن تيمية، فقد ذكره ابن تيمية في مقدّمة منهاج السنة معتمداً على رواية مكذوبة من رواية أحد الكذّابين واسمه عبد الرحمن بن مالك بن مغول رواها عن والده عن الشعبي، وهما بريئان من تلك الرواية.


أبعد مسلسلات التكفير والتفسيق هذه، يصح لشيخنا القاضي أن يشتكي الشيعة بتكفيرهم وتفسيقهم الآخرين، فأيّ الفريقين أولى بالإثم، فاقضِ بوجدانك الحرّ؟!!


( 118 )



حرام على بلابله الدوح


قل لنا يا صاحب الفضيلة: أنتم من قضاة المحكمة الكبرى في القطيف ـ حسب العنوان المكتوب على غلاف الرسالة ـ والقطيف جزء من المنطقة الشرقية، يغلب عليها التشيّع من العصور الأُولى إلى يومنا هذا، فلماذا تصادرون الكتب الشيعية، وفي الوقت نفسه، تدخل المجلات الغربية التي رسالتها الدعوة إلى الخلاعة والانحلال الأخلاقي، بوفرة من دون رقابة؟!


أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس


هذا وقد أصبحت الرياض ـ بحمد الله ـ عاصمة للثقافة عام 2000 م، ومع هذا، لا تزال الكتب الشيعية حتى المصاحف المطبوعة في إيران، والصحيفة السجادية تصادر بلا اكتراث من قبل رجال الجمارك، ويُمنع الزائرون من إدخالها .


وقد اقتصرتُ في هذا المقام على بثّ القليل من


( 119 )


الشكوى ، ونحيل الباقي إلى آونة أُخرى .





  • فدع عنك نهباً، صِيحَ في حَجَراته
    ولكن حديثاً ما حديث الرواحل



  • ولكن حديثاً ما حديث الرواحل
    ولكن حديثاً ما حديث الرواحل




اللهم ارزق المسلمين توحيد الكلمة، كما رزقتهم كلمة التوحيد، واجعل الجميع صفاً واحداً أمام الأعداء وأرنا الحقّ ووفّقنا لاتّباعه، وأرنا الباطل وأعنّا على اجتنابه بمنِّك وجودك وإحسانك.

/ 4