• عدد المراجعات :
  • 4857
  • 4/11/2006
  • تاريخ :

المثل الأول: المنافقون

المنافقون

المثل الاول لموضوع بحثنا هو ما ورد في الآيات 17 و 18 من سورة البقرة: ( مَثَلُهُم كَمَثَلِ الَّذي اسْتَوقَدَ نَاراً فلمَّا أضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَب الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكهُم في ظُلُمَات لا يُبْصُرون صُمٌ بُكُم عُميٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) .

تصوير البحث

تحدثت الاية عن المنافقين الذين تستروا بستار النفاق; الا ان التمزق كان عاقبة هذا الستار، والخزي هو عاقبة المنافقين انفسهم.

ان المنافق شُبّه هنا بانسان ضلّ وحيداً في صحراء يسعي للحصول علي طريق لانقاذ نفسه من خلال استيقاد النار، إلاّ أنّ ذلك لم ينفعه ولا زال في حيرة من أمره.

الشرح والتفسير

دُوّن تفسيران للآية الشريفة:

التفسير الأول: إنَّ مثل المنافقين مثل الذين يضلون في صحراء ظلماء ومخوفة. افرضوا أنّ مسافراً تخلف وحيداً عن قافلته في صحراء ظلماء، فهو لا يملك نوراً ولا ضوءاً ولا دليلا يرشده، ولا يعرف الطريق ولا يملك بوصلة. فهو يخاف قطاعي الطرق والحيوانات المفترسة من جهة، ويخاف الهلاك من الجوع والعطش من جهة أخري. وهذا يدفعه للتفكير بجدية

بطريق والسعي الأوفر للخلاص مما هو فيه. فيجد حطباً بعد البحث المتوالي فيستوقد ناراً ثم يأخذ بشعلة نار بيده، إلاّ أنّ الريح تطفئ الشعلة فيبادر إلي جمع حطب آخر ليوقد ناراً أخري إلاّ ان بحثه هذا لا يؤدي به إلا إلي ضلال آخر وانحراف عن الطريق تارة اخري.

إنَّ المنافقين كهذا المسافر فهم قد ضلوا الطريق. انهم يعيشون في ظلمات في حياة مضيئة. تخلفوا عن قافلة الانسانية والايمان. ولا دليل لهم علي الطريق، لأنّ الله سلب عنهم نور الهداية، وتركهم في ظلمات.

للمنافقين شخصيات مزدوجة، ظاهرها مسلمة وباطنها كافرة; ظاهرها صادقة وباطنها كاذب; ظاهرها مخلص وباطنها مرائي، ظاهرها أمين وباطنها خائن، ظاهرها الصداقة وباطنها العداوة و.. انهم يصنعون من ظاهرهم إنارة خادعة. يتظاهرون بالاسلام وينتفعون بمزايا الإسلام; فذبيحتهم حلال واعتبارهم وعرضهم محفوظ وأموالهم محترمة، ويتمتعون بحق الزواج من المسلمين و.. انهم يتمتعون بمنافع مادية ودنيوية قليلة يحصلون عليها من خلال تلك النار التي استوقدوها، إلا ان هذه النار تخمد بعد الموت ( ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ )ويتركهم الله آنذاك في ظلمات القبر والبرزخ والقيامة وحينئذ يدركون ان لا فائدة في اسلامهم الظاهري وايمانهم الريائي.

النتيجة هي أن في الآية أو المثل تشبيهاً، المنافقون هم المشبهون والمسافر المحتار في الصحراء هو المشبه به ووجه الشبه هو الحيرة والضلالة وأن لا أثر لسعيه الظاهري.

التفسير الثاني: فيما يخص التفسير الأول ينبغي التذكير هنا بان الاضاءة الظاهرية لتلك النار والظلمات التي تلحق تلك الإضاءة لا تختص بعالم القيامة المعنوي; بل إنّ لها نتائج في هذه الدنيا كذلك.

لا يتمكن المنافق اخفاء نفاقه للابد فانه سيفتضح في النهاية; وهذا يحصل فيما لو وجد نفسه أو مصالحه عرضة للخطر والفناء، فانه يفصح عن خلده القذر آنذاك كما افصح المنافقون في صدر الإسلام عن بواطنهم في الحروب والحوادث المختلفة؟!

ألم نرَ بأم اعيننا في الثورة الاسلامية وخلال النهضة التي سبقتها كم من المنافقين كشفوا بمرور الزمن عن بواطنهم النتنة وأزالوا نقاب النفاق عمّا في دواخلهم وافتضحوا في هذه الدنيا

- أعاذنا الله من شرور أنفسنا - وعلي هذا; فان ( ذَهَبَ الُله بِنُورِهِم ) لا يختص بالاخرة والقيامة بل انه أمر يتحقق في هذا الدنيا كذلك.

خطابات الآية

1- أقسام المنافقين

ان المنافق ليس شخصاً بالضرورة، بل يمكن ان يكون جماعة أو منظمة أو حزب بل وحتي حكومة دولة ما. لقد شاهدنا افتضاح بعض الدول التي تتقمص بالاسلام ظاهراً وتشترك في المجالس والمؤتمرات الاسلامية. وذلك إثر اتضاح العلاقة بينها وبين أكبر أعداء الإسلام أي اسرائيل الغاصبة، وافشاء أمر العقود المبرمة بينها وبين اسرائيل ما خفي منها وما ظهر. فان ضوء نار ادعاءاتها اخذت بالخمود وثبتت ازدواجيتها ورياءها.

نعم; ان ذلك هو عاقبة النفاق ، «

فاعْتَبِرُوا يَا أوِلي الأَبْصَار».

2- صور النفاق

من الأمور التي تستنتج من البحث الاجمالي السابق هو صور النفاق المختلفة وهي كالتالي:

أ - النفاق في العقيدة: وذلك مثل الذي يدعي بلسانه الإسلام، الا انه لا يعد مسلماً، أو أنه يتظاهر بالايمان لكنه لا يحسب من زمرة المؤمنين.

ب - النفاق في الكلام: وهو كالذي ينطق بكلام لا يعتقد به. وعلي هذا، فان الكاذب منافق لأنه لا يتطابق قلبه مع لسانه.

ج - النفاق في العمل: وهو مثل الذي يتضاد ويختلف عمله مع نيته وباطنه، كالذي يتظاهر بالصلاة أو الامانة لكنه في الواقع لا يصلي وخائن، (1)

3- علائم النفاق

يحكي

الرسول(صلي الله عليه وآله) في رواية له عن علائم المنافق حيث يقول: ( ثلاث من كن فيه كان منافقاً وان صام وصلي وزعم انه مسلم، من إذا أؤتمن خان، و إذا حدث كذب و إذا وعد اخلف... ) .

الأولي: الخيانة، ان الخائن منافق وذلك لانه يتظاهر بالأمانة وهو في الواقع خائن. وعلي هذا لا يمكننا أن نأتمنه بيت المال. قد يكون البعض امناء تجاه الأموال القليلة إلا انهم يفصحون عن واقعهم الخائن عند ائتمانهم علي الأموال الطائلة.

الثانية: الكذب، ان الكاذب منافق وذلك لانه يبطِّن نوايا قذرة ومخالفة للحقيقة والواقع من خلال تملقه الكلامي، رغم انه يصلي ويقرأ دعاء الندبة والتوسل وغيرهما.

الثالثة: خلف الوعد، ان الذي يخلف الوعد منافق، وذلك لأنَّ الوفاء بالوعد ضروري من الناحية الاخلاقية ومن الناحية الفقهية قد يكون واجباً أحياناً، ( 2 ) وخلاصة الكلام هنا ان كل نوع من الأزدواجية يعدّ نفاقاً.

4 - نبذة من تاريخ المنافقين

لم تخل المجتمعات البشرية من المنافقين ابداً، ويمكن ان يقال ان النفاق وجد منذ ان بدأ الإنسان حياته علي الكرة الأرضية، وعداء المنافقين للبشرية اتضح منذ ذلك الحين.

إذا عد المنافقون اخطر أعداء المجتمعات البشرية فذلك بسبب انهم يتقمصون قميص الاصدقاء ويبطنون العداء.

ان مقارعة الأعداء هي احد صفات المجتمعات البشرية، وهي آلية تفقد فاعليتها عند المنافق، وذلك لانه يظهر نفسه صديقاً، ولهذا كان ألد الأعداء، ولأجل ذلك كانت التعابير القرآنية في حقه شديدة جداً.

المنافقون في القرآن

كلما قلنا سابقاً، فإنَّ القرآن أشار إلي المنافقين بتعابير شديدة نشير إلي بعض منها هنا:

أ - يقول الله في الآية 4 من سورة المنافقين: (هُمُ العَدُوُّ فاحْذَرْهُمْ ) .

لقد أشار القرآن المجيد إلي أعداء المسلمين(3) من خلال آياته الشريفة لكنه لم يستخدم هكذا اسلوب تجاه أيّ من الأعداء. وحسب قواعد اللغة العربية فان الجملة تفيد ان المنافقين هم الاعداء الحقيقيون للانسان.

ب - يقول الله في تتمة الاية: ( قَاتَلَهُمُ اللهُ أنَّي يُؤْفَكُونَ ) أي ينحرفون عن الحق.

إنَّ هذا الخطاب الشديد فريد ولم يستعمله القرآن في مورد اخر.(4)

ج - يقول الله في الاية 145 من سورة النساء: ( إنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْك الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ ولَنْ تَجِدَ لهُمْ نَصِيراً ) وعلي هذا ينبغي تجنب صداقة أعداء الله التي هي من علائم النفاق.

إن (الدرج) أو (الدرجة) ذات معني واحد وهو نفسه الذي في (دَرْك) أو (دَرَك) إلاّ أنّ المفردتين الأوليتين تستخدمان للسّلم بلحاظ الاتجاه إلي الأعلي، بينما تستخدم المفردتان الاخيرتان بلحاظ اتجاه السلم إلي الأسفل. كما أنّ كلا منهما استخدم مرة واحدة في القرآن.(5)

ان (الدرك الاسفل) هو قعر جهنم أو اخفض نقطة فيها، ومن البديهي ان يكون العذاب في هذه النقطة اشد، ومن هنا نستنتج أنّ الله أعدّ أشد العذاب للمنافقين. وهذا يكشف عن مدي حساسية موضوع النفاق وخطر المنافقين في جميع العهود ماضياً وحاضراً.

خطر المنافقين من وجهة نظر رسول الإسلام(صلي الله عليه وآله)

ينقل المرحوم الشيخ عباس القمي (رض) في كتابه القيّم (سفينة البحار) تحت مادة (نَفَق) حديثاً ملفتاً عن الرسول(صلي الله عليه وآله) نأتي به هنا: «

إني لا أخاف علي أمتي مؤمناً ولا مشركاً، أمّا المؤمن فيمنعه الله بايمانه وأما المشرك فيقمعه الله بشركه، ولكني أخاف عليكم كل منافق عالم اللسان، يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون»، (6)

وفقاً لهذه الرواية، إنَّ الرسول(صلي الله عليه وآله) كان قلقاً علي المجتمع الاسلامي من خطر المنافقين، وقلقه لم ينحصر في العهود الماضية وفي الحجاز فحسب; بل ان قلقه شامل لجميع العصور والبلاد الاسلامية وحتي الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

5 - التعبير بـ (النار) في القرآن

هناك نتيجتان تترتبان علي استخدام القرآن لمفردة (نار) لا (نور):

الاولي: ان الدخان والرماد من لوازم النار، والمنافق يبلي الآخرين بما ينجم من مضار عن هذه النار التي اججها بنفسه، المضار التي نتيجتها التفرقة والضغوط التي تفرض علي الناس، هذا مع ان المؤمن ينهل من النور الخالص والمشعل المضيء للايمان.

الثانية: رغم تظاهر المنافقين بنور الإيمان الا ان واقعهم نار، واذا تمتعوا فبشعلة ضعيفة وقصيرة مدتها.(7).

6- النور والظلمات

يقول الله (

وَتَرَكَهُمْ في ظُلُمَات لا يُبْصِرُونَ ).

إنَّ مفردة (ظلمات) استخدمت 23 مرة في القرآن، ولم تستخدم في مورد من الموارد بصيغتها المفردة بل كانت في جميع هذه الموارد جمعاً. أما مفردة (النور) فقد استخدمت 43 مرة في القرآن وفي صيغة المفرد لا الجمع. ويا تري أليس في ذلك خطاب؟

سر هذا يرجع إلي أنّ القرآن يريد بيان ان النور واحد مهما كان نوعه، وهو نور الله (

اللهُ نُورُ السَّمَواتِ والأَرْضِ )،(8) أما نور الايمان ونور العلم ونور اليقين ونور الاتحاد والتلاحم وفكلها ترجع إلي نور واحد، وهو نور الله ولا نور غيره; لذلك لم يستخدم القرآن النور الا بصيغة المفرد.

أمّا النفاق والكفر والاختلاف والتفرقة فهي ليست ظلمة واحدة، بل ظلمات متعددة، هناك ظلمة الجهل وظلمة الكفر وظلمة البخل وظلمة الحسد وظلمة عدم الخوف من الله وظلمة الهوي والهوس وظلمة الوساوس الشيطانية و.. وخلاصة الظلمات متنوعة وليست واحدة، لذلك استخدمت بصيغة الجمع.

7 - خصال المنافقين الثلاث

إنّ المنافقين - حسب هذه الآية (18) - لهم ثلاث خصال:

الأولي: صمّ، وهي صيغة جمع لأصم وتعني عدم السمع.

الثانية: بكم، وهي صيغة جمع لأبكم وتعني أخرس.

والآية تعني أنهم لا يسمعون ولا ينطقون. إنّ الاصم لا يستطيع التكلم رغم سلامة جهاز النطق عنده; لأنَّ الإنسان لا يمكنه ان ينطق بكلمة لم يسمعها ولم يتعلمها، ولذلك جاء القرآن بصفة الاصم قبل صفة الابكم، وهي تعني في النهاية ان المنافقين صمّ وبكم دائماً.

الثالثة: عمي، وهي جمع (أعمي) وتعني فاقد البصر، وعلي هذا فان المنافقين صم بكم وعمي، أي لا اذن لهم يسمعون بها ولا لسان لهم ينطقون به ولا عين لهم يبصرون بها. ومع هذا الحال، كيف يمكنهم معرفة الطريق الصحيح وكيف يمكنهم ادراك انحرافهم وخطأهم؟

إنَّ هذه الحواس والعناصر الثلاثة هي وسائل معرفة الإنسان، فالاذن وسيلة للتعلم، واللسان وسيلة لنقل العلوم من جيل إلي آخر، والبصر هو وسيلة لاكتشاف العلوم والظواهر الجديدة، والذي يفقد هذه العناصر الثلاثة لا يمكنه الخروج من الطريق المنحرف كما لا يمكنه الرجوع إلي طريق الحق . لكن يطرح سؤال هنا وهو: انا نشهد المنافقين يتمتعون بالحواس الثلاث، فلم القرآن ينفيها عنهم؟ 

نقول في الجواب: للقرآن منطقاً خاصاً فينُظر إلي كل شيء في معجم القرآن من حيث الاثار التي تترتب عليه، ووجود الشيء وعدمه يتوقف علي وجود آثاره وعدمها.

وعلي هذا; فالذين يتمتعون بنعمة النظر لكنهم لم يستخدموه لمشاهدة آيات الله والاعتبار من مناظر الدنيا هم في الحقيقة عمي حسب رؤية القرآن. واولئك الذين يتمتعون بنعمة السمع لكنهم لا يصغون لكلام الله ولا صوت المظلومين والمستضعفين فهم صم في منطق القرآن. واولئك الذين يتمتعون بنعمة اللسان لكنهم لا يشغلونه في ذكر الله والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وارشاد الجاهل و.. فهم بكم في معجم القرآن. ووفقاً لهذا المعجم في مقياس اوسع اعتبر بعض الاحياء من الناس أمواتاً، وبعض الاموات احياءً، كمثال علي ذلك يصف القرآن شهداء طريق الحق بأنهم احياء رغم انهم اموات ظاهراً.

( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الّذين قُتِلُوا فِي سَبِيْلِ اللهِ أمْوَاتاً بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ )، (9)

إنَّ الشهداء من وجهة نظر القرآن احياء; وذلك لانهم يحضون بالتأثير الذي يحضي به الإنسان الحي، فانهم يقوّون الإسلام وذكرهم يداعي في الاذهان المعروف والحسنات.

ويقول القرآن في مكان آخر: ( إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ وقُرْآنٌ مُبِينٌ ليُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ القَولُ علي الكَافِرِينَ )، (10)

إنّ الأحياء من وجهة نظر القرآن المجيد وفق هذه الاية هم طائفتان: الاولي: المؤمنون الذين يعيشون حياة قرآنية. الثانية: غير المؤمنين وهم اموات يعيشون بين الأحياء، فإنّ الذين يفقدون الأذن الصاغية أموات حسب رأي القرآن.

وفي النتيجة إنّ المنافقين رغم ما يحضون به من اذن وعين ولسان، يفقدون الآثار الوجودية المترتبة علي هذه الحواس. لذلك عُدّوا صمّاً وبُكماً وعُمياً من وجهة نظر القرآن، فهم إذن (لا يْرجِعُونَ) أي لا يرجعون عن طريق الباطل; وذلك لأنهم يفقدون آليات المعرفة; شأنهم شأن الذي تجتمع فيه صفات الصم والبكم والعمي وقد أخذ بالسقوط، فإنّا لا يمكننا انقاذه أبداً; لأنه لا لسان له ليستنجد ولا اذن له ليسمع تحذيرنا، ولا يملك عيناً ليري بها علائم الخطر قبل أن يسقط.

8 - منشأ (النفاق)

للنفاق ثلاثة مناشيء:

الأول - العجز عن المواجهة والنزاع المباشر: ان الاعداء عندما يخسرون النزاع ويفقدون القدرة عليه بشكل مباشر، يتقمصون قميص النفاق ليستمروا بالعداء والخصومة. إنّ اعداء الرسول(صلي الله عليه وآله) كانوا يتظاهرون بالعداء له، لكنهم تظاهروا بالاستسلام عندما تغلب الرسول عليهم واستمروا يبطنون الكفر والعداء له وللإسلام وإنَّ أبا سفيان وأمثاله ضلوا منافقين إلي آخر عمرهم ،(11)

ولأجل ذلك كان الإعتقاد بأن النفاق بدأ من المدينة; لأن الإسلام في مكة كان ضعيفاً، وما كان أحد يخافه. لذلك ما كان حاجة للتظاهر بالإسلام وتبطين الكفر الا انا نعتقد ان النفاق بدأ من مكة رغم ان دواعي النفاق في مكة لم تكن الخوف، بل داعي النفاق آنذاك هو توقع البعض مستقبلا زاهراً للإسلام، الأمر الذي يضمن لهم مستقبلا وموقعاً جيداً.

يمكننا مشاهدة هذا الاسلوب من النفاق في جميع الازمنة والثورات منها الثورة الإسلامية في ايران; فان بعض المنافقين هم الأعداء الذين خسروا المعركة ضد الثورة وعيوا النزاع المباشر والعلني.

الثاني - الإحساس بالحقارة الباطنية: ان الشخصيات الضعيفة والجبانة والتي تفقد الشجاعة اللازمة لابراز الاعتراض والتفوه بما يخالف الآخرين، تسعي هذه الشخصيات ان تسلك النفاق منهجاًً لحياتها ولتتجنب المواجهة بل تتظاهر بالاتفاق مع الجميع.

إن المنافق يتظاهر بالإسلام عند المسلمين ويتظاهر بعبادة النار عند عبدة النار، ويتظاهر  بالعلمانية عند العلمانيين; وذلك لضعف الشخصية، فهو لا يتجرأ التفوه بعقيدته الواقعية.(12)

الثالث - حب الدنيا: إنّ النفاق الدولي والعالمي لهذا العصر ينبع من هذا المنشأ . إن سبب الازدواجية في التعامل وانطلاق دعوات لاحترام حقوق البشر من قبل بعض الدول الاستكبارية في موارد، وسكوت ذات الدول في موارد أخري، رغم ما تحصل من انتهاكات وجرائم ضد البشرية، هو حب الدنيا . فالدول تطلق هذه الدعوات متي ما تعرضت مصالحها للخطر وتستخدم هذه الحربة ضد الدول التي تعرض مصالحها للأخطار; إلاّ أنها تتغاضي عن هذه الانتهاكات إذا ما صدرت عن احد صديقاتها التي لا تعرّض مصالحها للخطر، حتي لو كانت الانتهاكات واضحة ولا شبهة فيها ولا تبرير لها.

القرآن المجيد يحكي نماذج بارزة ومؤلمة عن هذه الطائفة من المنافقين في الايات 75 - 77 من سورة التوبة:

( وَمِنْهُم مَنْ عَاهَدَ اللَه لَئِنْ آتينا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَدَّقَنَّ ولنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمّا آتاهُم مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُو بِه وتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فأعْقَبَهُمْ نِفَاقاً في قُلُوبِهِمْ إلي يَومِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) .

هذه الايات نزلت في ثعلبة بن حاطب، وكان من الانصار فقال للنبي(صلي الله عليه وآله): ادع الله ان يرزقني مالا. فقال: «يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه(13) أمّا لك في رسول الله اسوة حسنة؟ والذي نفسي بيده لو أردت ان تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت».

ثم اتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله ادع الله ان يرزقني مالا والذي بعثك بالحق، لئن رزقني الله مالا لاعطين كل ذي حق حقه.(14) فقال(صلي الله عليه وآله): «اللهم ارزق ثعلبة مالا».

فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحي عنها فنزل وادياً من أوديتها، ثم كثرت نمواً حتي تباعد من المدينة فاشتغل بذلك عن الجمعة والجماعة. وبعث رسول الله(صلي الله عليه وآله) اليه المصدق ليأخذ الصدقة فابي وبخل وقال: ما هذه الا اخت الجزية،(15) فقال رسول الله(صلي الله عليه وآله):«يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة»، وأنزل الله الآيات.(16)

أرجع القرآن سبب نفاق ثعلبة إلي بخله وحبه للدنيا وخلفه للوعد. والمدهش أنّ الآية الشريفة اعتبرت نفاق امثال ثعلبة مستمراً إلي يوم القيامة ولا يخرج من قلوبهم إلي يوم يلقون الله. اللهم اجعل عواقب امورنا خيراً.

إذا اردنا ان لا نبتلي بهذا المرض الخطر علينا تجنب مناشيء النفاق والابتعاد عنها، وبخاصة أنا في ليالي شهر رمضان المباركة، علينا ان ننهل من بركة هذه الليالي في الاسحار وذلك باداء صلاة الليل ولو باختصار ومن دون المستحبات جميعها والسجود واللجوء إلي الله والعوذ به من النفاق وجميع الذنوب والرذائل الأخلاقية.

 --------------------------------------------------------------------

الهوامش

1. للمزيد راجع ميزان الحكمة، الباب 3966 الحديث 20599

2. ميزان الحكمة، الباب 3931، الحديث 20577، و في الباب روايات اُخري عدَّت علائم اُخري للنفاق.

3. عدّ القرآن الشيطان والكافرين والمجرمين والمنافقين أعداءً للإنسان; ولأجل المزيد يراجع المعجم المفهرس للقرآن المجيد كلمة (عدو).

4. لقد استخدم القرآن هذا الخطاب في اليهود في الاية 30 من سورة التوبة لكن ينبغي الالتفات إلي ان اليهود كانوا مبتلين بنوع من النفاق.

5. (الدَرْك) استخدمت في الاية المذكورة في النص. اما (دَرَك) فقد استخدمت في الاية 77 من سورة طه عند بيانه لعبور موسي(عليه السلام) والاسرائيليين من نهر النيل للاشارة إلي المسير الذي ينتهي إلي سطح النهر.

6. نهج البلاغة الرسالة 27 وكذا ميزان الحكمة، الباب 3934.

7. للمزيد راجع تفسير الأمثل 1: 96 - 100.

8. النور: 35.

9. آل عمران: 169.

10. يس: 69 و 70.

11. إنَّ الرسول(صلي الله عليه وآله) كان يعلم بحالهم لكن باعتبار ان مواجهتهم العلنية والمباشرة كانت تؤدي إلي نتائج لا يحمد عقباها اجتنب عن منازعتهم ومخاصمتهم وقد قال: «لولا اني اكره ان يقال: ان محمداً استعان بقوم حتي إذا ظفر بعدوه قتلهم لضربت أعناق قوم كثير» وسائل الشيعة ج18، ابواب حد المرتد، الباب 5، الحديث 3.

12. في حديث للامام علي(عليه السلام) اشار فيه إلي هذا المنشأ «نفاق المرء من ذل يجده في نفسَه» ميزان الحكمة الباب 9392، الحديث 20258.

13. مراد الرسول الاكتفاء بالحياة البسيطة والقناعة بها.

14. من الأمور المستفادة من هذه الرواية هو عدم الاصرار علي الطلب. وقد جربت هذه القضية لمرات عديدة، فان عدم الاستجابة قد تكون لصالح الإنسان وهو لا يعلم بذلك كما يقول الله (عَسَي أن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُو خَيْرٌ لَكُم) الأمر صادق حتي بالنسبة إلي الطلبات المعقولة مثل الاصرار علي التوفيق لاداء صلاة الليل فان عدم توفيقه قد يكون لاجل الحول دون ابتلائه بالعجب والرياء.

15. كثير اولئك الذين لا يؤدون ما عليهم من خمس ويبررون عملهم باقاويل مثل: «نحن حصلنا علي هذه الاموال بعرق جبيننا فلماذا نعطيها لغيرنا؟».

16. تفسير الأمثل 7: 124 - 125.


المثل الرابع: الكفارواحوالهم

المثل الخامس: الإنفاق

المثل السادس: الإنفاق مع المنِّ والأذي

 

 

 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)