• عدد المراجعات :
  • 2094
  • 12/10/2003
  • تاريخ :

إسلامية المعرفة عند السيد محمد باقر الصدر


 أصبح السيد محمد باقر الصدر مؤسس حزب الدعوة الإسلامية أهم الأحزاب الإسلامية الشيعية في العراق، موضع اهتمام ودراسة من جديد. ويحاول المؤلف في هذا الكتاب دراسة فكر السيد الصدر والتعرف على إنجازاته المعرفية، وتجاوز الكتابات التي ركزت على بطولة الصدر وشهادته وعظمة شخصيته.

وهذا العرض لكتاب هو أساسا دراسة للإنتاج الفكري والعلمي للصدر سيجعله من الدرجة الثالثة لأنه سيقدم الصدر ليس من خلال كتبه مباشرة وإنما من خلال وسيط يدرسها، ولذلك فإن المقالة ستكون محكومة بالدراسة التي أجريت على فكر الصدر وفلسفته.


تيار إسلامية المعرفة

مرت حركة تجديد الفكر الإسلامي بثلاث مراحل:

1 - الفكر الإسلامي النهضوي الذي تشكل في منتصف القرن التاسع عشر وامتد إلى العقود الأولى من القرن العشرين. ومن أعلامه: جمال الدين الأفغاني، وخير الدين التونسي، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وهبة الدين الشهرستاني، ومحمد حسين كاشف الغطاء، ومحسن الأمين.

2 – الفكر الإسلامي المعاصر، وقد ارتبط بالواقع الذي تشكل بعد نهاية الخلافة العثمانية ثم قيام الدول القطرية، وامتد حتى سبعينات القرن العشرين. ومن أعلامه: حسن البنا، وسيد قطب، ومالك بن نبي، وعلي شريعتي، ومحمد باقر الصدر.

3 – الفكر الإسلامي الحالي، ويؤرخ له ببداية الثمانينات، وقد ارتبط بالصحوة الإسلامية التي قامت في العالم الإسلامي. ومن رواده: حسن الترابي، وراشد الغنوشي، ومحمد حسين فضل الله، ومحمد مهدي شمس الدين.

وكان تيار إسلامية المعرفة هو أبرز تيار فكري في المرحلة الحالية، ويتميز خطابه بأنه منهجي معرفي. وقد قامت له مؤسسة مستقلة تحمل اسمه وهي "المعهد العالمي للفكر الإسلامي". وقد كان لإسهامات د. إسماعيل الفاروقي ثم د. عبد الحميد أبو سليمان الدور الأساسي في بلورة هذه المدرسة.


مفهوم إسلامية المعرفة

تقوم الدعوة إلى إسلامية المعرفة على عملية الاسترجاع النقدي للتراث والمعرفة الإنسانية بمنهج معرفي إسلامي، وتفكيك المعرفة القائمة وإعادة تركيبها بناء على فهم واستيعاب للعلوم الاجتماعية والطبيعية.

فإسلامية المعرفة هي نشاط معرفي تمثل إعادة صياغة جهود حركات ودعوات الإصلاح والتجديد والاجتهاد التي سادت في القرنين الأخيرين. وفي هذا السياق يأتي أيضا مصطلح التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، وهو مشروع  يقوم على "تأسيس تلك العلوم على ما يلائمها في الشريعة الإسلامية من أدلة نصية أو قواعد كلية أو اجتهادات مبنية عليها، وبذلك تستمد العلوم الاجتماعية أسسها ومنطلقاتها من الشريعة الإسلامية، ولا تتعارض في تحليلاتها ونتائجها وتطبيقاتها مع الأحكام الشرعية. ولا يعني ذلك بطبيعة الحال أن تدخل العلوم الاجتماعية في إطار العلوم الشرعية، وإنما المهم ألا تتعارض معها".


إسلامية المعرفة عند الصدر

نشأ الصدر في بيئة النجف العلمية، وكانت في ذلك الوقت تسودها رؤية انسحابية، وتتعامل مع التراث بعقلية المتلقي المستسلم. ولكنه خرج على هذه القاعدة وأسس حزب الدعوة الإسلامية عام 1957 وكان عمره 24 عاما، وأنشأ بيئة علمية نقدية قائمة على المراجعة.

وأفاد الصدر كثيرا من منهجية القرآن المعرفية التي تتميز بالبنائية، فكان يضع المفردات في إطارها العلائقي ويبحث عن الوشائج البينية للحقول والمعارف، ويعمل على اكتشاف الناظم المنهجي فيما بينها، وهو بذلك ينتقل في الفهم والفقه من الفتوى إلى النظرية ومن فقه الأحكام إلى فقه النظريات.

وحينما أراد أن يقنن عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام، أكد أنه لا يجدي في هذه الحالة عرض المفردات فحسب لاكتشافنا المذهب، وإن اكتفت بحوث كثير من الإسلاميين بهذا القدر، بل يتحتم إنجاز عملية تركيب بين المفردات أي دراستها بوصفها جزءا من كل، وذلك لأجل الوصول إلى القاعدة العامة التي تشع من خلال الكل أو من خلال المركب.

فيتحدث الصدر عن الظاهرة الكونية والظاهرة التاريخية، وكيف يمكن بحث العلاقة بينهما من خلال الظاهرة القرآنية، ويقترح منهجا خاصا لإنجاز هذه المهمة تمثل في "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" في مقابل التفسير التجزيئي.

ويرى مؤلف الكتاب حسن العمري أن سيادة النزعة التجزيئية على مسارات الفكر الإسلامي هيأ لحاكمية عقلية الصراع والتناحر التي أفرزت نتائج خطيرة مازلنا نعيش تبعاتها حتى اللحظة الراهنة، ويستشهد بمقولة الصدر بأنه "كان يكفي أن يحد هذا المفسر أو ذاك آية تبرر مذهبه لكي يعلن عنه ويجمع حوله الأنصار والأشياع، كما وقع في كثير من المسائل الكلامية كمسألة الجبر والتفويض والاختيار مثلا، بينما كان بالإمكان تفادي كثير من هذه التناقضات لو أن المفسر التجزيئي خطا خطوة أخرى ولم يقتصر على هذا التجميع العددي".

والفرق بين الحالتين هو الفرق بين التكديس والتركيب، فأفضل نتيجة للعملية الأولى هي كومات متناثرة من الأفكار والجمل، في حين تنجز العملية الثانية بنائية متماسكة ذات معمار مشدود بعضه إلى بعض كبنائية الكون التي يحكمها النظام والترابط الوثيق.

ولم يكن الصدر يتعامل مع الإسلام كموضوع للبحث والدراسة، بل كان ينطلق منه كذات عقائدية ومعرفية صالحة لقيادة البشرية كما يقول في كتابه "فلسفتنا"، فهو يرى أن الأمة المنبتة عن تاريخها لا تنجز حضارة ولا تبقي ذاتها، ويقول في كتاب "اقتصادنا" إن "الأمة بحكم حساسيتها الناتجة عن عصر الاستعمار لا يمكن بناء نهضتها الحديثة إلا على أساس قاعدة أصيلة، ولا ترتبط في ذهن الأمة ببلاد المستعمرين أنفسهم، فإن شعور الأمة بأن الإسلام هو تعبيرها الذاتي وعنوان شخصيتها التاريخية ومفتاح أمجادها السابقة، يعتبر عاملا ضخما جدا لإنجاح المعركة صد التخلف وفي سبيل التنمية، إذا استمد لها المنهج من الإسلام واتخذ من النظام الإسلامي إطارا للانطلاق".

ولم يكن خطابه تعبويا تحريضيا ضد الغرب كما كان سائدا في خطاب الحركيين الإسلاميين وإنما كان منهجيا مؤسسا من خلال رؤية معرفية متكاملة، فبدأ بقراءة المذاهب والمناهج الغربية الوافدة وتحليلها وتفكيكها ونقضها، وبالتالي رد الغرب إلى حدوده الطبيعية التي ولد فيها، وبيان أن منظومة معارفه هي نتاج بيئته وتاريخه الخاص، بما يكتنف هذا التاريخ من منعطفات وما يتحكم به من مسار خاص انحرف عن هدي السماء وارتكس في أوحال المادية، ودراسة فكره على أنه جزء منه، وأنه محكوم بتاريخه هذا وليس خارج التاريخ.


إنجازاته في حقل إسلامية المعرفة

تقع إنجازات الصدر في ثلاثة حقول معرفية هي: الفلسفة والمنطق، والمذهبية الإسلامية "الاقتصاد الإسلامي"، والمنهج المعرفي القرآني "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم".


الفلسفة:

ألف الصدر كتابين في الفلسفة هما: "فلسفتنا" وهو دراسة موضوعية في معترك الصراع الفكري القائم بين مختلف التيارات الفلسفية، وبخاصة الفلسفة الإسلامية والمادية الديالكتيكية (الماركسية)، و"الأسس المنطقية للاستقراء" وهو دراسة جديدة للاستقراء تستهدف اكتشاف الأساس المنطقي المشترك للعلوم الطبيعية وللإيمان بالله.


الاقتصاد الإسلامي:

في كتابه "اقتصادنا" يعد الصدر اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام الخطوة الأولى على طريق بناء مجتمع يتبناها ويطبقها حتى تستأنف الأمة مسيرتها الحضارية. وقد بدأ الصدر كتابه بعرض للاقتصادين الاشتراكي والرأسمالي، وبعدما أتم عملية التفكيك المعرفي لكليهما مؤكدا أن كلا منهما لا يصلح كنظام اقتصادي للبشرية بحكم انطلاقه من منطلق خاطئ، ثم عرض الاقتصاد الإسلامي بخطوطه العامة، وعملية اكتشاف المذهب، ثم طبق ذلك على أحكام الاقتصاد الإسلامي من خلال مسألتي الإنتاج والتوزيع.


التفسير الموضوعي للقرآن الكريم:

يرى الصدر أن كون القرآن الكريم منهجا عالميا يلائم العصور والأمكنة فإن ذلك يقتضي بالضرورة التعامل معه من خلال الروح العامة التي تحكم عصره. ويمكن القول إن عقلية الإدراك المنهجي للظواهر الطبيعية والإنسانية هي التي تحكم الإنسان اليوم، وعليه فلابد للمسلم المعاصر أن يتعاطى مع الوحي من خلال هذه العقلية.


البعد العملي لإسلامية المعرفة عند الصدر

يرى الصدر أن النظام المنطقي الذي يستخدم للاستدلال على البنائية الكونية هو ذاته الذي يستخدم للاستدلال على صانعها. وهذا الارتباط المنطقي بين مناهج الاستدلال العلمي والمنهج الذي يتخذه الاستدلال على إثبات الصانع بمظاهر الحكمة قد يكون السبب الذي أدى بالقرآن الكريم إلى التركيز على هذا الاستدلال من بين ألوان الاستدلال المتنوعة تأكيدا للطابع التجريبي والاستقرائي للتدليل على إثبات الصانع.

ومحاولة الصدر هذه لتطبيق الأسس المنطقية للاستدلال على وجود الخالق تعد محاولة تأسيسية لعلم كلام جديد يوحد بين التجربة البشرية والقرآن الكريم، فكانت محاولته متجاوزة لفكر المقاربات والمقارنات ومؤسسة لمرحلة جديدة يطلق عليها د. طه العلواني مرحلة "مجاهدة الدنيا كلها بالقرآن العظيم" من باب "وجاهدهم به جهادا كبيرا" لإثبات عالميته وشموله.

والمقصود هو إعادة فاعلية العقيدة الإسلامية في نفس المسلم، وهذا لا يتم إلا بتفكيك بنية علم الكلام التقليدي وإحالة عناصره إلى جذورها التي استقى منها، ثم النهوض ببناء علم كلام جديد يتجاوز المشكلات الموروثة في الكلام القديم.

فمحاولة الصدر هذه تنقل الدين والخالق من الدائرة الضيقة إلى الدائرة الرحبة من خطاب الفلاسفة إلى خطاب فطري بسيط، وفي هذا تحقيق لخاتمية وعالمية الدين الإسلامي. ويطبق الصدر الأساس المنطقي المشترك للعلوم الطبيعية وللإيمان بالله على أمثلة العلوم الطبيعية أولا، ثم ينقل تطبيقه على مفاهيم العقيدة والإيمان.

وفي مجال الاقتصاد الإسلامي فإن الصدر قبل أن يشرع بالتطبيقات الفقهية للمذهب الاقتصادي في الإسلام يعالج مسألة "خداع الواقع التطبيقي" في عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي.

وهذه النزعة المنهجية تلازم عمل الصدر حتى في أدق التفاصيل، فالحكم الفقهي عنده ليس مفردة ناشزة عن بقية المفردات، بل لا تجد معناها إلا بوضعها في إطارها الكلي وضمن علائقيتها مع بقية المفردات، فهو يرى أن الوقائع لا يمكن تكرارها كما هي لأن عالم الزمان والمكان والشروط الموضوعية التي تحكم أي واقع متحولة ومتغيرة ضرورة، وعليه فإن الإنسان الذي يعيش ذلك الواقع لابد له عن التأثر بخصائصه، فتكون تجربته التطبيقية مقيدة بالروح الحاكمة على ذلك الواقع، وهذا ما يؤكد نسبية الواقع التطبيقي.

ويرى الصدر أنه لابد من المزاوجة بين النصوص والواقع التطبيقي للاقتصاد الإسلامي في عصر النبوة على أن تكون القيمومة والحاكمية للنص الثابت، لأن النصوص التشريعية للنظرية أقدر على تصوير المذهب من الواقع التطبيقي، لأن التطبيق نص تشريعي في ظرف معين، وقد لا يستطيع أن يعكس المضمون الضخم لذلك النص ولا أن يصور مغزاه الاجتماعي كاملا، فيختلف إلهام التطبيق ومعطاه التصوري للنظرية عن المعطى الفكري للنصوص التشريعية نفسها. ومرد هذا الاختلاف إلى خداع التطبيق لحواس الممارس الاكتشافية نتيجة ارتباط التطبيق بظروف موضوعية خاصة.

وفي مجال التفسير الموضوعي للقرآن الكريم يمارس الصدر في بحثه "السنن التاريخية في القرآن" تأسيسا لعلمي التاريخ والعمران البشري من منظور قرآني، فيعرض الآيات القرآنية التي تبرز فكرة السنن التاريخية، منجزا عملية مقارنة فيما بين هذه النصوص، ويستخلص الحقائق المتعلقة بسنن التاريخ، وهي: الاطراد أي الانتظام ونفي العشوائية والمصادفة، وربانية السنن، واختيار الإنسان ودوره في السنن التاريخية، فينفي الوهم الذي وقع فيه بعض الباحثين في السنن وهو الحتمية وانتفاء حرية الإنسان.

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)