• عدد المراجعات :
  • 1472
  • 11/21/2012
  • تاريخ :

ملامح ‌من‌ الصفات الفنية للصحيفة السجادية

صحیفة السجادیة

الامر (1)

شرف النسب: الذي يصل الامام بدوحة النبوة، فهو کما نعلم ابن حفيد النبي (ص)، الذي استشهد في کربلاء ‌و‌ ادخره الله، بعد مأساة أبيه الامام الحسين ‌و‌ أخيه علي الأکبر، لما ندب له ‌من‌ شرح حقائق الرسالة التي بعث بها جده (ص) ‌و‌ لسنا في حاجة الي أن نطيل الکلام في الأثر الذي خلفته في نفسه مأساة أبيه ‌و‌ أخيه ‌و‌ أهل بيته، ‌و‌ قد شهد فصولها الدامية بعينيه، ففي دعواته ‌و‌ ابتهالاته التي تجمعها (الصحيفة) احساس عميق بحرکة الموت، ‌و‌ ‌ما‌ يقتضيه لقاء الله القريب ‌من‌ صدق التقوي، ‌و‌ تأدية الحقوق، ‌و‌ نزاهة الجوارح، ‌و‌ امتلاء النفس برهبة هذه الساعة ‌و‌ التهيۆ لها، حتي ليندر أن تقرأ فيها دعاء ‌لا‌ يرد فيه ذکر الموت، علي نحو يتعذر معه الفرح الصافي بالحياة.

و في (الصحيفة) في مجموع الدعوات ‌و‌ الابتهالات ‌و‌ المناجات، حزن عميق سحيق القرار، ‌هو‌ حزن الممتازين ‌من‌ أهل الله، ‌و‌ حزن الأئمة ‌من‌ ‌آل‌ البيت خاصة، لما عانوا ‌من‌ عنت ‌و‌ ارهاق، «دعوتک يارب مسکينا، مستکينا، مشفقا، خائفا، وجلا، فقيرا، مضطرا اليک. أشکو اليک ‌يا‌ الهي ضعف نفسي... ‌و‌ کثرة همومي، ‌و‌ وسوسة نفسي... وضعت عندک سري فلا أدعو سواک، ‌و‌ ‌لا‌ أرجو غيرک. لبيک لبيک، تسمع ‌من‌ شکا اليک، ‌و‌ تلقي ‌من‌ توکل عليک، ‌و‌ تخلص ‌من‌ اعتصم بک، ‌و‌ تفرج عمن ‌لا‌ ذبک» [1] .

فمن مجموع هذا التکوين، في هذه الظروف التاريخية الصعبة، خلصت نفس الامام بسماتها ‌و‌ صفاتها، ‌و‌ خوفها ‌و‌ رجائها، ‌و‌ خشوعها ‌و‌ تبتلها، ‌و‌ وقوفها خارج أسوار الدنيا الفانية، علي مشارف عالم الغيب الذي تلوح أنواره لأصحاب النفوس الکبيرة التي تطول ‌ما‌ يطوله حملة الرسالات الروحية. کان «اذا قام الي الصلاة، أخذته رعدة. فقيل له، فقال: تدرون بين يدي ‌من‌ أقوم ‌و‌ ‌من‌ أناجي؟» [2] .

فهذه هي النفس التي ناجت ‌و‌ ابتهلت ‌و‌ سمت في عبادتها حتي سموا صاحبها (زين العابدين)، ‌و‌ خلفت ‌من‌ مجموع مناجاتها ‌و‌ دعائها ‌و‌ ابتهالها، (الصحيفة السجادية) التي نقف، في هذه الکلمة الصغيرة، علي ملامح ‌من‌ صفاتها الفنية.

الامر (2)

نشأ الامام اذن في مدرسة النبوة التي نشأ فيها الأئمة ‌من‌ ‌آل‌ البيت ‌و‌ أبناۆهم، ‌و‌ ذووهم، في المرحلة التي بدأ النثر العربي فيها يستقر علي ‌ما‌ خلفه القرآن الکريم ‌من‌ أساليب الصياغة، بموسيقاها الساطعة، ‌و‌ بالصورة ‌و‌ أدوارتها، ‌و‌ الخطاب ‌و‌ تنوع الأداء، فيه.

ثم ‌ان‌ الامام امتاز بها تمتاز ‌به‌ النفوس المختارة ‌من‌ خصوبة الفکر ‌و‌ قوة النفوذ في کل ‌ما‌ تقع عليه العين، أو يمتلکه الحس، أو يدرکه الحدس، ‌و‌ ‌من‌ حرارة الروح وسعة الاحاطة بالثقافة الاسلامية التي تلقاها في الوسط النبوي الذي نشأ فيه، ‌و‌ علي المثال الرفيع المتناقل عن ‌آل‌ البيت، في عصور الاسلام الأولي. ‌و‌ يکشف امتلاکه أدوات التعبير عن ثروة لغوية واسعة استغلت، في أدعيته ‌و‌ نجواه ‌و‌ ابتهالاته، أحسن استغلال، بما يتناسب مع طبيعة الدعاء ‌و‌ حرارة النجوي.

و يعجب الانسان، ‌و‌ ‌هو‌ يعيد النظر في الصحيفة، (و ‌هو‌ العجب الذي يدرکه حين يستمع الي دعوات ‌آل‌ البيت علي الاطلاق): ‌من‌ أين تتوجه نفوسه في تشقيق المعاني ‌و‌ ألوان الصياغات ‌و‌ المشاعر، ‌و‌ ‌هم‌ يجولون في دائرة واحدة هي دائرة التبتل ‌و‌ الابتهال ‌و‌ الدعاء، کأنهم جبلوا، جراء عمق الالتزام بمعاني الرسالة التي حملوها، ‌من‌ تراب خاص، ‌و‌ سقوا ‌من‌ ماء خاص، ‌من‌ رقة الحزن، ‌و‌ عمق الاحساس بجلال الألوهة ‌و‌ التذلل لها، ‌و‌ انخلاع القلب لهيبتها:«هأنذا ‌يا‌ رب مطروح بين يديک، أنا الذي أوقرت الخطايا ظهره، ‌و‌ أنا الذي أفنت الذنوب عمره...هل أنت، ‌يا‌ الهي، راحم ‌من‌ دعاک فأبلغ في الدعاء؟ أم أنت غافر لمن بکاک فأسرع في البکاء؟ أم أنت متجاوز عمن عفر لک وجهه تذللا؟ أم أنت مغن ‌من‌ شکا اليک فقره توکلا؟.... الهي ‌لا‌ تعرض عني ‌و‌ قد أقبلت اليک، ‌و‌ ‌لا‌ تحرمني ‌و‌ قد رغبت اليک، ‌و‌ ‌لا‌ تجبهني بالرد ‌و‌ قد انتصبت بين يديک... فاعف عني. قد تري ‌يا‌ الهي فيض دمعي ‌من‌ خيفتک، ‌و‌ وجيب قلبي ‌من‌ خشيتک، ‌و‌ انتفاض جوارحي ‌من‌ هيبتک...» [3] .«يا الهي! لو بکيت اليک حتي تسقط أشفار عيني، ‌و‌ انتحبت حتي ينقطع صوتي، ‌و‌ قمت لک حتي تنتشر قدماي، ‌و‌ رکعت لک حتي ينخلع صلبي، ‌و‌ سجدت لک حت تنفقأ حدقتاي، ‌و‌ أکلت تراب الأرض طول عمري، ‌و‌ شربت ماء الرماد آخر دهري، ‌و‌ ذکرتک في خلال ذلک حتي يکل لساني، ثم لم أرفع طرفي الي آفاق السماء استحياء منک، ‌ما‌ استوجبت بذلک محو سيئة واحدة ‌من‌ سيئاتي...» [4] .

فمن أين يجي ء أثر هذا الدعاء الواسع العميق في النفس؟ ‌من‌ عمق الصدق فيه؟ ‌من‌ غني الوجدان الديني؟ ‌من‌ تشقيق المواقف ‌و‌ ألوان الصور بعضها ‌من‌ بعض؟ ‌من‌ حنان النفس ورقتها؟ ‌من‌ قدرة التمثل لکل موقف ‌و‌ لحاجة في التعبير عنه، ‌من‌ شفافية اللغة وحسية لصورة وتنوعها؟ ‌من‌ انتصاب جبروت الله ‌و‌ هيبته في ظلها؟ أم تراه يجي ء ‌من‌ ذوب هذه العناصر کلها ‌و‌ استجابة اللغة لها، في أدائها، استجابة تبدو قريبة ‌من‌ الفطرة النبوية التي فطر عليها ‌آل‌ البيت ‌و‌ ذووه، ‌و‌ شهروا بها؟

علي أن أوضح عناصر التأثير، تجي ء ‌من‌ خصوبة النفس التي تبدو في امتداد نفس التعبير في الدائرة الواحدة، ‌و‌ القدرة علي استخراج أدق الأحاسيس فيها، ‌و‌ ‌من‌ حرارة الروح، ‌و‌ غني الفکر بمعاني الرسالة، ثم في روعة الأداء اللغوي الواضح في غير تکلف ‌و‌ ‌لا‌ اصطناع، ‌و‌ التطلع الدائم فيه الي المثال اللغوي الرفيع الذي أرساه القرآن الکريم، ‌و‌ ‌من‌ تجسيد المعاني ‌و‌ الأحاسيس تجسيدا يجعل الحس يمتلي ء بها.

الامر (3)

نجد القدرة علي التصوير الحسي الذي يجسد الفکرة أو الاحساس ‌و‌ يحرکهما حتي يشخصها في العين، ‌و‌ تمتلي بهما الحواس الأخري. ‌و‌ نکاد نقع علي أمثلة له في سائر صفحات (الصحيفة):«اللهم فارحم وحدتي بين يديک، ‌و‌ وجيب قلبي ‌من‌ خشيتک، ‌و‌ اضطرب أرکاني ‌من‌ هيبتک... ‌و‌ ابسط علي طولک، ‌و‌ جللني بسترک» [5]  «اللهم اني أعوذبک ‌من‌ نار تغلظت بها علي ‌من‌ عصاک... ‌و‌ أعوذبک ‌من‌ عقاربها الفاغرة أفواهها، ‌و‌ حياتها الصالقة [6]  بأنيابها، ‌و‌ شرابها الذي يقطع أمعاء ‌و‌ أفئدة سکانها ‌و‌ ينزع قلوبهم...» [7] .

و تبدو الصورة أحيانا حارة علي نحو تمتلي ‌به‌ النفس خوفا ‌و‌ رهبة. ‌و‌ يکثر ذلک في مواقف التذلل ‌و‌ الاستغفار ‌و‌ الخوف ‌من‌ جبروت الألوهة، علي نحو ‌ما‌ عرضنا لأمثلة کافية منه. ‌و‌ يکاد الانسان يعجب ‌من‌ رجل زينته العبادة حتي کان يلقب بالسجاد ذي الثفنات [8]  ‌و‌ (زين العابدين) ‌و‌ حبب اليه السجود حتي برح جبينه. ‌و‌ أحب الحق حتي سأل الله أن يقود منه المظلوم اذا وقع عليه ظلم منه.

أقول: يعجب أن يجد احساسه بالذنب يبلغ منه هذا المبلغ. ‌و‌ يجده يعدد عيوب نفسه ‌و‌ يجسدها في مثل هذه الصور التي مثلنا لها، کأنه ‌لا‌ يکفيه ‌من‌ حرارة وجدانه الديني، ‌و‌ تخشعه أمام جلال الألوهة ‌و‌ روعة الربوبية، حقائق التقوي التي حققها في نفسه.

و يجدها، مهما سما فيها، قليلة في جنب الله، حتي ليسأل الله أن يخفف ‌من‌ عقاب ‌من‌ يسي ء اليه! «اللهم ‌و‌ أيما عبد نال مني ‌ما‌ حظرت عليه، ‌و‌ انتهک مني ‌ما‌ حجرت عليه، فمضي بضلامتي ميتا، أو حصلت لي قبله حيا، فاغفرله ‌ما‌ ألم ‌به‌ مني، واعف له عما أدبر ‌به‌ عني، ‌و‌ لاتففه علي ‌ما‌ ارتکب في، ‌و‌ ‌لا‌ تکشفه عما اکتسب بي، ‌و‌ اجعل ‌ما‌ سمحت ‌به‌ مت العفو عنهم، ‌و‌ تبرعت ‌به‌ ‌من‌ الصدقة عليهم أزکي صدقات المتصدقين، ‌و‌ أعلي صلات المتقربين، ‌و‌ عوضني ‌من‌ عفوي عنهم عفوک، ‌و‌ ‌من‌ دعائي لهم رحمتک، حتي يسعد کل واحد منا بفضلک...» [9] .

عبدالکريم الأشتر

ارجاعات:

[1] الصحيفة السجادية، دعاء رقم / 51 /.

[2] مقدمة الصحيفة السجادية / ابن سعد: 216 / 5.

[3] الصيحفة السجادية: دعاۆه في الاستقالة، دعاء رقم / 16 /.

[4] المرجع السابق نفسه.

 [5] الصحيفة: دعاء رقم / 31 / دعاۆه بالتوبة.

[6] الصلق: الصياح ‌و‌ الولولة.

[7] الصحيفة: دعاء رقم / 32 / في صلاة الليل.

[8] الثفنة: رکبة البعير.

[9] الصحيفة: دعاء رقم / 39/ في طلب العفو.


صحيفة الامام السجاد (عليه السلام) السجادية

مکارم اخلاق الامام السجاد عليه السلام

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)