• عدد المراجعات :
  • 7104
  • 12/10/2012
  • تاريخ :

دروس من حياة يونس (ع) -2

القرآن الحکيم

فقال: {أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.. أي أن هناك تهليلا، وتسبيحا، واعترافا بالظلم.. فهذه ثلاثة عناصر في هذا الذكر اليونسي:

أولا: التهليل.. قال: {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ}.. أي يا رب أنا لمن ألجأ؟.. فأنت الإله، وأنت الرب، وأنت الموَحَّد!.. وأنت الإله الذي يُرجع إليك في الأمور كلها.. فالتوحيد هو الذي ساقني إليك يا رب؛ ولولا أنك أنت الموحَّدُ، والمسبَّحُ، والمعبودُ في كل مكان وفي كل زمان؛ لما توجهتُ إليك.

وثانياً: التسبيح.. وقال: {سُبْحَانَكَ}.. أي أنزهك من كل نقص أو عيب.. فأنت حكيم في صنعك: إذ أرسلت العذاب على القوم في وقته.. ورفعت العذاب عن قومي في وقته.. وابتليتني ببطن الحوت، فهو أمرك.. فأنت الذي رأيت ذاك جميلاً -في عصر واحـد، وفي أرض واحدة، هۆلاء القوم يرفع عنهم العذاب، وهذا العبد الصالح ينزل عليه ما يشبه العذاب- فأنت المنزّه.

ولهذا فإن على أحدنا إذا ابتليَ ببلية، فالخطوة الأولى بعد التوحيد والتهليل، أن لا ينسب النقص والظلم إلى الله عز وجل من حيث لا يشعر.. فعندما تتمنى خلاف ما أنت فيه فقد اتهمت الله، وبمجرد أن تقول: لو كان كذا لكان هو الأفضل، في قبال المشيئة الإلهية، فكأنك تقول: يا رب أنت غير حكيم، وأنت غير رۆوف، وأنت غير لطيف بعبادك.. نعم، في مقام العمل، أنت اتهمت الله عز وجل، إما في علمه، وإما في حكمته، وإما في رأفته.

ثالثا: الاعتراف بالظلم.. فبعد أن هلل، وسبّح الله عز وجل، قال أيضا: {إني كنتُ من الظالمين}.. إن حسنات الأبرار، سيئات المقربين.. فظلم النفس أعم من المعصية؛ أي حرمانها من الامتياز.. فنبي الله آدم بأكله من الشجرة، حرم نفسه من امتياز العيش في الجنـة، فهذا ظلم لنفسه.. وكذلك يونس هذه الفترة لم يكن في قومه، ولو كان في القوم لكان مأجوراً.. وهو يسيح في البراري، ويركب السفينة، لا قوم له، ولا دعوة له.. نعم، هنا ظلم لنفسه.

ومن منا لم يظلم نفسه بهذا المعنى؟.. فمن منا يدّعي أنه في لحظة من اللحظات، كان يقوم بأفضل ما يمكن القيام به من وظائف العبودية؟.. وإن كنا نصلي، ونقرأ القرآن، ونجاهد، ونسبّح.. ولكن من قال أن هذا هو العمل الأفضـل؟.. ومن أين لك هذا؟.. فإذاً، من الممكن أن لا يعيش الإنسان من بلوغه إلى وفاته دقيقة أو لحظة قد عمل بتكليفه الواقعي، فهذا هو ظلم النفس.. فقد حرمتُ نفسي الألف درهم، لأقنع بالدرهم الواحد.. فأنا فائز، ولكن ظالم لنفسي.

وعليه، فإذا علمنا الظلم بهذا المعنى، فمن منا لم يظلم نفسه؟.. فكيف إذا اشتغل بالحرام؟.. وكيف إذا اشتغل بالمكروه؟.. وكيف إذا اشتغل بالمباح؟.. كل ذلك من مصاديق الظلم!.. فإذا اشتغل وهو لا يعلم أنها الطاعة المتعينة، فهو ظالم.. فكيف إذا اشتغل بما هو دون الطاعة، من المباحات والمستحبات والمكروهات؟..

{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ}.. لم يقل: "ثم استجبنا له" يبدو أنه ليست هناك فاصلة كبيرة بين هذه الطريقة في الدعاء، وبين استجابة الله عز وجل له.. {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُۆْمِنِينَ}.. فهذه القصة ليست قصة يونس (ع) كقصة تأريخية، وإنما هذه القصة لشق طريق الحياة لكل فرد.. وعلى الإنسان أن يعيش مشاعر يونس (ع)؛ لأنه هو أيضا في ظلمات كثيرة: ظلمات الجهـل، وظلمات زمان الغيبة، وظلمة الانقطاع عن الحجة والولي، وظلمة الشهوات الباطنية، وظلمة المجتمع الذي يعيش فيه.. فكل هذه ظلمات، وهو غارقٌ في هذا البحر.. لذا عليه أن يقول كما قال يونس (ع): {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.. ولا داعي للالتزام بعدد معين، فلو قالَها مرة واحـدة بصدقٍ وإخلاص، لكان من الفائزين.

{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ}.. لقد خرج من بطن الحوت، ومن الطبيعي، إنسان متنقع في الماء، وفي بطن الحوت، فلا بد أن جلده قد رقّ، وحالته حالة غير مرضية.. وهو بعد ذلك في العراء، فلا يعلم ماذا يعمل؟.. ومن أين يأتي المـدد؟.. نعم، يد العناية واللطف، تقلبه من مكان إلى مكان.

{وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ}.. يبدو أن الإنبات كان سريعاً، فورق هذا الشجر ظلله، وجعله في حال راحة.. ولعل تلك الثمرة كانت مناسبة لحالته، إذ خرج من بطن الحوت.

 وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}.. بما أنه كان صادقاً في النية، فتح الله له أبواب التعويض.. فرجع إلى قومه، فاستقبلوه أيما استقبال، بعدما رأوا العذاب، وكُشف عنهم.

{فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}.. فطالما كانت بعض الذنوب، سبباً لأن يكون الإنسان من أولياء الله عز وجل.. نعم، لا تخف من الذنب، ولا تخش المعصية، إذا كانت الإنابة بعد ذلك.. فيونس بعد أن رجع، لم يعوّض الماضي.. بل ترقى أكثر وأكثر.. حيث أنه عاد إلى قومه، فزاول الدعوة الإلهية، وآمن القوم به.. فوصل إلى مرحلة الاجتباء الإلهي.. وهذه قاعدة مهمة في عالم السير إلى الله عز وجل: أن المدبر المعرض الآثم العاصي، إذا رجع إلى ربه بصدق، لا يعوّض الماضي فحسب!.. وإنما يحرز درجات من القرب إلى الله عز وجل، لم يكن ليصل إليها مع طاعة وهو مـدل على ربه، ويمنّ عليه.. نعم، إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.

فإذن، إن ملخص هذه القصة، قصة نبي الله يونس:

أولاً: أن نجعل تحركاتنا على وفق رضا الرب؛ إقداماًو إحجاما.. فلا نجتهد بسرعة، في تشخيص الموضوعات.. بل علينا أن نتأمـل، ونتدبر.

ثانيا: ألا نقطع الأمل بالآخرين، فالناس بين يدي رحمة الله عز وجل.. فأهل نينوى، نجاهم الله من العذاب، بعد توبتهم وإيمانهم.

وثالثاً: في أصعب الظروف، وفي الظلمات علينا أن لا ننسى الالتجاء إلى رب العالمين.. فكيف يمكن للإنسان أن يتنفس في بطن حوتٍ في أعماق البحر؟.. فهذا خلاف قواعد الحياة.. لكن الله عز وجل لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السمـاء!.. إذا أراد جعل النار غير محرقة، وإذا شاء جعل بطن الحوت، وجعل أعماق البحار غير مغرقة.. نعم، الإعجاز لنا، لا لله عز وجـل.. جعل القانون هنا، وسلب القانون هناك.. فهو صاحب القانون، وهو رافع القانون.. فعلينا أن نلتجئ إليه في كل صغيرة وكبيرة، وإن أحاط بنا اليأس من كل جانب.

اعداد :سيد مرتضى محمدي


دروس من حياة يونس (ع) - ١

دروس من حياة نبي الله صالح (ع)

دروس من حياة نبي الله هود (ع)

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)