• عدد المراجعات :
  • 1719
  • 9/14/2011
  • تاريخ :

الزهد والمعنوية

نهج البلاغه

ومن فلسفة الزهد: إيجاد المعنوية في روح هذه الحياة المادية . ومن الواضح أنّا لا نقصد هنا الماديين في هذه الحياة ، إذ من البديهي أن الزهد في الدنيا وثرواتها وجمالها ، والإعراض عن عبادة أموالها ، وترك التقيد بلذائذها . . لا يجد لنفسه عند أصحاب النظرة المادية أي معنى قط .

إنما الحديث هنا مع من يرى لهذه الحياة المادية شيئاً من المعاني أيضاً . فنقول لهؤلاء:

إن من الواضح البديهي لدى هؤلاء أن الإنسان ما لم يتحرر من قيود المادة وأغلالها . وما لم يحترز عن إغوائها وأهوائها ، وما لم يفطم طبيعته عن ألبانها .

وأخيراً ما لم يكن يحسن جعل الدنيا وسيلة لا غاية . . لا يتهيأ صعيد قلبه لتلقي الفيوضات الإلهية ، والإشراقات الربانية ، والإحساس المقدس ، والشعور الطاهر ، والفكر النيّر . . وأخيراً العقل السليم إلى جانب العاطفة الرحيمة . ولهذا قيل: إن الزهد شرط أساس لإفاضة المعرفة ، وله بها علاقة وثيقة .

ومن الواضح أيضاً أن عبادة الحق والحقيقة - بكل ما لهما من المعاني الواقعية - والتلذذ في طاعتهما ، وذكر الله الحق المطلق في كل حال ، والأنس بالخالق ولطفه حين خدمة المخلوق . .

يتنافى مع عبادة النفس والنفيس ، والتقيد باللذة ، والوقوع في أسار المادة وزخرفها وزبرجها .

بل وفوق هذا نقول: ليست عبادة الله هي التي تستلزم نوعاً من الزهد في الدنيا فقط ، بل أن الالتزام والغرام بأية عبادة أو ريادة ، في دين أو مذهب ، أو فكرة أو مبدأ ، أو قومية أو وطنية . . تستلزم نوعاً من الزهد والإعراض عن الشؤون المادية أيضاً!

إلا أن الفرق بين العلوم والفلسفات والتعشق للخيال ، وبين الصحيح من العبادات ، وهو: أن العبادة ، بما أن مقرّها القلب أو الفكر فهي لا تقبل الضرّة أو الرقيب .

لا مانع من أن يتعبد العالم أو الفيلسوف بدراهم المادة ثم يجول بفكره في المسائل الفلسفية أو المنطقية أو الطبيعية أو الرياضية .

ولكن لا مجال في فكر هذا الفيلسوف أو قلب هذا العالم للتعبد والالتزام بتضحية من تلك التضحيات الإنسانية ، أو المبدئية أو المذهبية ، بل وحتى القومية منها الوطنية . . فضلاً عن محبة الخالق في خدمة المخلوق .

ولهذا نقول أن إبعاد القلب عن التقلب بالمادة العمياء ، وإخلائه عن أصنام الذهب والفضة الغراء ، شرط ضروري للتربية المعنوية في الإنسان .

وقد قلنا أنه لا ينبغي الخلط بين التحرر عن قيد الذهب والفضة وعدم الاعتناء بكل ما يتبدل بهما ، وبين الرهبنة والفرار عن المسؤولية ، بل أن المسؤولية والعهود إنما تجد حقيقتها في ظل هذا الزهد ، ولا تظل ألفاظاً جوفاء وادعاءات فارغة لا ضمان لها .

ولقد اجتمع الزهد والإحساس بالمسؤولية في شخصية الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقد كان أكبر زاهد في العالم ، وكان يحمل في صدره أكثر القلوب إحساساً بالمسؤولية الاجتماعية .

إنه ( عليه السلام ) من ناحية كان يقول: ( ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى ) .

ومن ناحية أخرى ، كان يسهر الليل كله لحيف قليل في العدالة مع مظلوم ، ولا يرضى أن ينام مبطاناً ويقول: ( ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع ) وقد كان بين زهده ذاك وإحساسه هذا الرهيف علاقة وثيقة .

إن علياً ( عليه السلام ) بما أنه كان زاهداً لا طمع له ، ومن ناحية أخرى كان قلبه مليئاً من حب الله ، وكان يرى العالم من الذرة إلى الذرى مسؤولية مترابطة أمام الخالق العظيم ، لذلك كان يشعر بمسؤولية كهذه أمام تعدي حدود الحقوق والواجبات الاجتماعية . ولو كان شخصية ثرية متنعمة متنفذة ، لكان من المحال أن يشعر بمثل هذه المسؤولية .

وقد صرحت الروايات والأحاديث الإسلامية بهذه الفلسفة للزهد ، وأكد عليها الإمام ( عليه السلام ) في نهج البلاغة .

جاء في الحديث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ): (  . . . وكل قلب فيه شك أو شرك فهو ساقط ، وإنما أرادوا الزهد لتفرغ قلوبهم للآخرة . . ) .

إن الإمام الصادق ( عليه السلام ) - كما نراه في هذه الرواية - يعدّ عبادة الهوى بجميع أنواعها واللذائذ شكاً في الله أو شركاً مع الله ، ويقول: إنما أراد الإسلام الزهد للمسلمين لتفرغ قلوبهم من كل ما سوى الله فترغب إلى الآخرة .

ولهذا نرى علياً ( عليه السلام ) حينما يسأل عن إزاره الخَلِق المرقّع يقول:

( يخشع له القلب ، وتذل به النفس ، ويقتدي به المؤمنون ) .

ويقصد بذلك أن المؤمنين الذين لا يجدون لأنفسهم إزاراً أحسن من هذا الإزار الخلق المرقّّع ، سوف لا يجدون فيه فورة حقد على المجتمع ، أو شعوراً بعقدة الحقارة في النفس ، وذلك لأنهم يجدون إمامهم قد اكتفى من دنياه بإزار كإزارهم .

ثم يقول ( عليه السلام ): (  . . . إن الدنيا والآخرة عدوّان متفاوتان ، وسبيلان مختلفان ، فمن أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها ، وهما بمنزلة المشرق والمغرب وماشٍ بينهما ، كلما قرب من واحد بعد من الآخر . وهما بعد ضرّتان ) .

ولذلك أيضاً نراه يقول في نهاية كتابه إلى عامله على البصرة ( عثمان بن حنيف ):

(  . . . وأيم الله! يميناً - أستثني فيها بمشيئة الله - لأروّض نفسي رياضة تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً ، وتقتنع بالملح مأدوماً .

ولأدعنّ مقلتي كعين ماء نضب معينها ، مستفرغة دموعها . أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك وتشبع الربيضة من عشبها فتربض ، ويأكل علي من زاده فيهجع؟! قرّت إذاً عينُه! إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهية الهاملة والسائمة المرعية ) .

ثم يقول ( عليه السلام ): (  . . طوبى لنفس أدّت إلى ربها فرضها ، وعركت بجنبها بؤسها ، وهجرت في الليل غمضها ، حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها وتوسّدت كفّها ، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم ، وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم ( أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) . . ) .

وقد ذكرنا هذين المقطعين من كتاب الإمام ( عليه السلام ) متتاليين ، إذ بهما معاً تتضح لنا العلاقة بين الزهد والمعنوية .


عظمة النفس و الغيرة في نهج البلاغة

الفصاحة والجمال في نهج البلاغة

بلاغة الإمام علي عليه السلام

عقله الجبار ينظم عاطفته

ماهي التقوى؟

التغيير الفردي والاجتماعي في نهج البلاغة

الفضيلة مصدر القيمة الاجتماعية  نهج البلاغه

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)