• عدد المراجعات :
  • 641
  • 9/6/2011
  • تاريخ :

الدين والسياسة وكفاءة الحكومة الدينية (3)

جمهورية الاسلامية

بخصوص تقييم الآثار العملية لإسهام الدين في السياسة ونظام الحكومة في ايران بعد انتصار الثورة الاسلامية وضمن اطار الجمهورية الاسلامية ، من الضروري دائماً استحضار نقطتين : الأولى الأرضية الاجتماعية الرصينة العميقة للدين الاسلامي والمذهب الشيعي في ايران . والثانية أحقية الدين الاسلامي . الجدير ذكره انّه على الرغم من عدم امكانية انكار وجود بعض الخرافات والعقائد المنحرفة المحسوبة على الاسلام ، بيد أن أحقية الاسلام كدين إلهي تخولنا التحدث عن علاقة المخلوق بالخالق . وهي علاقة شعر بها الايرانيون في شتى أطوار حياتهم فدفعتهم دوماً نحو الدين ونحو المحافظة المستمرة على هذه العلاقة واستحضارها أثناء المبادرة إلى أي فعل أو نظر . وبالتالي فمن الواجب عند فحص سلوك الايرانيين وتحليله أخذ هذا المتغير المهم بنظر الاعتبار . لقد كان للدين وعلماء الدين دور حاسم في توجيه الجماهير الايرانية صوب الثورة على النظام الشاهنشاهي ، وقد اعتمد قائد الثورة الاسلامية على العامل الديني في تكريس حقوق الشعب بعد انتصار الثورة الاسلامية ، واتاحة الفرصة لمساهمة أكيدة للنساء والرجال الايرانيين في مختلف الصعد ، ومنها على سبيل المثال الحرب المفروضة التي تحولت بفضل العامل الديني إلى ملحمة دفاع مقدس أنتجت قوات مثل «التعبئة» وأهدت الثقافة التعبوية كمفخرة خالدة ، بينما لم يكن بالمقدور طبق كل المعايير والقواعد المعروفة ادارتها والسيطرة عليها . كما استطاعت هذه الملحمة في عالم تسير فيه «الشجاعة» حسب ثقافة قوته العظمى صوب الضمور والاضمحلال [1] ، أن تربي أفراداً شجعاناً يصنعون التاريخ ، وتبشر بعالم جديد يقوم على أساس العدل . إن إحياء ثقافة الاستشهاد أو روح عدم الفزع من الموت على حد تعبير الشهيد بهشتي ، أدى إلى اضطراب المعادلات المألوفة القائمة على المصالح المادية والأموال فقط ، وخلقت قوة جديدة تدعمها الحكومة الدينية والقيادة الدينية العارفة بحقيقة الدين .

إن استعادة استقلال البلاد وانهاء اطماع ونهب الأجانب لخيرات الشعب ، مما جرى التشديد عليه في الدستور ، وتحقق على المستوى العملي فعلاً ، واليوم فإن إيران تجرب عهداً جديداً لكنه صعباً بفضل التعاليم الدينية ورصيدها التنفيذي ، والحكومة الدينية المتمثلة في اطار نظام الجمهورية الاسلامية . انّه عهد تنكرس فيه القدرات الفتية للجمهورية الاسلامية باضطراد ، ولهذا تواجه تحديات حقيقية من قبل القول الكبرى والمستكبرة في العالم . وبكلمة أخرى ، فإنّ القوى الكبرى ، أُرغِمت على قبول ايران الاسلامية وحكومتها الدينية كمنافس قوي ، فراحت تضع المخططات للتأقلم معها أو القضاء عليها . عموم تدل هذه الحالات على وجود نعمة «الثقة بالنفس» في ايران الثورة ، وإن بوسع هذه السيمياء معالجة وتذليل جميع الصعوبات . ومن الأمثلة على ذلك احراز تقدم ملحوظ في التقنية النووية والقدرة على انتاج وتكثير وتجميد خلايا الانسان الجنينية .

والملفت للانتباه إلى جانب هذه الأمور ، هو صناعة مفهوم القيادة ، وتقديمه عملياً على مدى عشرة أعوام من ادارة الحكومة بملاحظة تعاليم الدين الاسلامي وقيمه . إن هذا واقع لا ينكر وقد اعترف به حتى الأعداء ، وتكمن أهميته الكبرى في خلق «الايمان» بـ «امكانية» التحرك نحو السلطة وامتلاكها في سبيل ترشيد الانسان وتساميه وتطبيق العدالة . بتعبير آخر ، يمكن الاقتراب من السلطة من دون التلوث بالفساد ، وليس هذا وحسب بل واستخدامها فى سياق تحقيق العدالة والحرية . هذا في حين يرى ويعترف المفكر الفرنسي العميق والذكي الكسي دوتوكويل «إن مما لا يمكن اخفاؤه أنّ المؤسسات والأعراف الديمقراطية تثير الحسد بشدة في قلب الانسان» [2] . ويعتقد أن «إن عامة الناس لا تتاح لهم أبداً الفرصة والوسيلة لمثل هذا الاختبار ] سلسلة دراسات مستفيضة ومعارف منوعة [ فهم يخدعون دائماً بالضرورة . فالنصابون يعرفون أفضل من غيرهم أسرار اجتذاب الجماهير وارضائهم ، بينما يخفق معظم أصدقاء الجماهير الحقيقيون في هذا الطريق» .

يذهب توكويل إلى أن عالم السياسة يستلزم حيلاً ومخادعات تزهد الأتقياء فيها ، فيعزفون عن المشاركة في ميادين السياسة حفظاً لتقواهم وطهارتهم ، والجماهير عاجزة هي الأخرى عن معرفة المدراء والتنفيذ بين الأفضل ، وبالتالي يتعذر «الانتخاب الجماهيري» و «القيادة المتقية» في الحكومة الجمهورية . من هنا أمكن القول أن أحد أعظم مكتسبات الثورة الاسلامية هو قيادتها ، التي رغم أنها تعد من أسباب الصحوة الثورية واستمرارها ، إلاّ أنّها من ناحية أخرى صنيعة هذا الكفاح الطويل . وهذا على غرار ما كان يؤمن به هذا القائد الكبير من أن : في القيام لله تتأتّى وتحصل معرفة الله [3] .

وعلى هذا ، فقد تمّ تقديم مركباً من القيادة الجماهيرية ومحورية الدين للعالم المعاصر ، يتعارض بصراحة مع الفهم الشائع لـ «القيادة السياسية» ، خصوصاً وإنّ النظرة السلبية للدين بل ومعاداة الدين ، لم تترك أي مجال لنظرة ايجابية للجمع بين القيادة السياسية والدينية ، كمشروع لاستثمار السلطة من أجل حماية مصالح عموم أفراد المجتمع . ويبدو أن استيعاب القيادة الدينية في عالم سياسي يُعرّف بدون عنصر الدين ليس له معادِلاته المناسبة . فحينما يراد تصور القيادة في إطاره ، ستهبط وظيفة القيادة من قمة «الهداية» إلى قاع «السيطرة» ،ولهذا لا يتاح الحديث عن علاقة بين القائد والجماهير ، وإذا ما وجدت شواهد لذلك ، فلن تكون أكثر من مصاديق لخداع الجمهور . ومن المناسب أن نعلم أن مفردة السيطرة (كنترل) في الترمينولوجيا الانگلوساكسونية عادة ما تستخدم بمعنى السلطة والقيادة والادارة وفرض القيود . فمثلاً ، ادارة شؤون البلاد وقيادة الأنشطة الجماعية من مصاديق السيطرة . ففي الرؤية الانگلوساكسونية تعتبر كل أنواع التدخل والتأثير في سلوكيات الآخر وقراراته شكلاً من أشكال السيطرة [4] .

وعلى هذا ، بادرت قيادة الثورة توكّأً على التربية الدينية وجهادها المتواصل ، إلى تأسيس وهداية نظام سياسي جديد ، تمتعت فيه حقوق الشعب ، فضلاً عن الحكام ، بمكانة جد رفيعة . وهذا ما كانت له مصاديقه لا على مستوى الشعارات والخطابات وحسب ، بل وفي الدستور وعلى المستوى العملي أيضاً ، كاقامة الكثير من الانتخابات الحرة في البلاد ، كما أن سلوك ومنهج الإمام الخميني كقائد سياسي ـ ديني للحكومة الايرانية بعد شباط 1979م أدّى إلى استمرارية الثورة الاسلامية حتى بعد وفاته خلافاً لبعض الآراء والتكهنات ، وإلى معالجة موضوع «البديل» المعقد والحساس والصعب جدّاً ، بكل يسر وايجابية وسرعة وسهولة ودقة ، وعلى أساس ذات المسار الذي كان في البداية . فتواصلت القيادة بمعناها الجديد ـ وهو القيادة السياسية إلى جانب معرفة وملاحظة القيود الدينية ـ على شكل مؤسسة قانونية مؤثرة في تطوير نظام الجمهورية الاسلامية وتحقيق أهداف الثورة الاسلامية .

والآن ، من الحري أن نسلط الأضواء شيئاً ما على الأرضيات والتجليات الاجتماعية لعناصر الثقة بالنفس ، والعزة الدينية ، ونماء المعارف العملية ، لنكون قد تلمسنا بنحو أوضح ظواهر التعاون والتماشي بين الحكومة والجماهير . سنتابع هذا الموضوع في الأقسام اللاحقة مشددين على محور «تعميق التدين» في ايران بعد انتصار الثورة الاسلامية .

الهوامش:

[1] ـ لمزيد من الاطلاع راجع مثلاً كتاب «نيويورك، كابل» بقلم : مراد فرهادپور ، و يوسف اباذري ، منشورات طرح نو ، ط1 ، 2002م .

[2] ـ جواد طاهائي ، فكرة الدولة الحديثة ، مؤسسة تنظيم آثار الإمام الخميني ونشرها ، ط1 ، 2002 ، نقلاً عن صحيفه نور ، ج18 ، ص109 (27 / 6 / 62) .

[3] ـ جواد طاهائي ، فكرة الدولة الحديثة ، مؤسسة تنظيم آثار الإمام الخميني ونشرها ، ط1 ، 2002 ، نقلاً عن صحيفه نور ، ج18 ، ص109 (27 / 6 / 62) .

[4] ـ د. ولي الله انصاري، مبادئ الحقوق الادارية، منشورات ميزان، ط1، 1995، ص149.


النشاط الاقتصادي بعد الثورة الاسلامية (1)

نبذة عن النشاط الاقتصادي بعد الثورة الاسلامية (2)

الدين والسياسة وكفاءة الحكومة الدينية (1)

الدين والسياسة وكفاءة الحكومة الدينية (2)

مراجعة للمساعي العلمية بعد انتصار الثورة (1)

الثورة الاسلامية، التصدير والتأثيرات الاقليمية والعالمية (2)

دستور الجمهورية الاسلامية

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)