• عدد المراجعات :
  • 682
  • 6/5/2011
  • تاريخ :

أَدلة الأَشاعرة على كون القرآن غير مخلوق

الورد

إستدلَّ الأَشعري بوجوه.

 

الدليل الأوّل :

قوله سبحانه " إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " (1).  قال الأشعري:  ممّا يدل من كتاب الله على أنَّ كلامه غيرمخلوق قوله عز وجل: "إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " (2).

فلو كان القرآن مخلوقاً لوجب أنْ يكون مقولا له « كن فيكون» ،  و لو كان الله عز وجل قائلاً للقول « كن» لكان للقول قول ، و هذا يوجب أَحد أمرين: إِمّا أَنْ يؤول الأَمر إلى أَنَّ قول الله غير مخلوق ، أو يكون كل قول واقعاً بقول لا إلى غاية ، و ذلك محال ، و إذا استحال ذلك صحَّ و ثبت أنَّ لله عزّ وجل قولاً غير مخلوق (3).

يلاحظ عليه :

أوّلاً : إنَّ الإِستدلال مبني على كون الأمر بالكون في الآية و نظائرها أمراً لفظيّاً مؤلفاً من الحروف والأصوات. و أنَّه سبحانه كالسلطان الآمر ، فكما أنَّه يتوسل عند أمرِهِ وزراءه و أعوانه باللفظ ، فهكذا سبحانه يتوسّل عند خلق السَّموات و الأرض باللفظ و القول ، فيخاطب المعدوم المطلق بلفظة « كن ».

و لا شكّ أَنَّ هذا الإِحتمال باطل جداً ؛ إذ لا معنى لخطاب المعدوم .و ما يقال في تصحيحه بأنَّ المعدوم معلوم لله تعالى فهو يعلم الشيء قبل وجوده ، و أَنَّه سيوجد في وقت كذا ، غير مفيد ؛ لأنّ العلم بالشيء لا يصحح الخطاب ، و إنْ كنت في شكّ من ذلك فلاحظ النّجار الذي يريد صناعة الكرسي بالمعدات و الآلات ، فهل يصح أنْ يخاطبها بهذا اللفظ ، هذا و إنْ كان بين المثالِ و المُمَثَّل له فَرْق أو فُروق.

و إِنَّما المراد من الأمر في الآية ، كما فهمه جمهور المسلمين ، هو الأمر التكويني المُعبّر عن تَعَلُّق الإِرادة القطعية بإيجاد الشيء ، و المقصود من الآية أنَّ تعلق إرادته سبحانه يعقبه وجوده ، و لا يأبى عنه الشيء ، و أنَّ ما قضاه من الأُمور و أَراد كونه ؛ فإنّه يتكون و يدخل في حيز الوجود من غير امتناع و لا توقف ، كالمأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل ، لا يتوقف و لا يمتنع ، و لا يكون منه الإِباء.

و بذلك تقف على الفرق بين الأمر التكليفي التشريعي الوارد في الكتاب و السنَّة ، و الأمر التكويني . فالأَوّل يخاطَب به الإِنسان العاقل للتكليف ، و لا يخاطب به غيره فضلاً عن المعدوم ، و هذا بخلاف الأَمر التكويني ؛ فإِنَّه رمز لتعلق الإِرادة القطعية بإيجاد المعدوم.

 

و هذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يفسّر الأَمر التكويني بقوله:

«يقول لِمَا أراد كونَه كُنْ ، فَيكونُ ،  لا بصوت يَقْرَعُ ، و لا بِنداء يُسمَع ، و إنَّما كلامُهُ سُبْحانَه فعلٌ منه ، أنْشَأهُ وَ مَثَّله ، لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبلِ ذلِكَ كائناً ، و لَو كانَ قديماً لَكانَ إِلهاً ثانياً» (4).

وثانياً : نحن نَختارُ الشِقّ الثاني ، و لا يلزم التسلسل . و نلتزم بأنَّ هنا قولاً سابقاً على القرآن هو غير مخلوق أوجد به سبحانه مجموع القرآن و أَحدثه حتى كلمة « كن » الواردة في تلك الآية و نظائرها . فتكون النتيجة حدوث القرآن و جميع الكتب السماوية و جميع كَلِمِه و كلامه إِلاَّ قولاً واحداً سابقاً على

الجميع . فينقطع التسلسل بالإِلتزام بعدم مخلوقية لفظ واحد.

ثالثاً : كيف يمكن أنْ تكون كلمةُ «كن» الواردة في الآية و أَمثالها قديمةً . مع أنّها إخبار عن المستقبل فتكون حادثة . يقول سبحانه مخبراً عن المستقبل " إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" ؛ و لأَجل ذلك التجأ المتأخرون من الأَشاعرة إلى أَنَّ لفظ « كن » حادث ، و القديم هو المعنى الأَزلي النفساني (5).

الدَّليل الثاني: 

قوله سبحانه: "إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ"(6).

قال الأشعري: فـ « الخلق » جميع ما خلق داخل فيه ، و لما قال :« والأمر» ذكر أَمراً غير جميع الخلق ،  فدّل ما وصفناه على أنَّ أَمر الله غير مخلوق ، و أَمّا أَمر الله فهو كلامه .  و باختصار: إِنَّه سبحانه أَبان الأَمر من الخلق ، و أمرُ الله كلامه ، و هذا يوجب أنْ يكون كلام الله غير مخلوق  (7).

يلاحَظُ عليه : إِنَّ الإِستدلال مبني على أَنَّ «الأَمر» في الآية بمعنى كلام الله ، و هو غير ثابت بل القرينة تدل على أَنَّ المراد منه غيره ، كيف و قد قال سبحانه في نفس الآية:" وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ " ، و المراد من اللفظين واحد ، و الأوّل قرينة على الثاني ، و هدف الآية هو أنّ الخلقَ - بمعنى الإِيجاد - و تدبيرَه كلاهما من الله سبحانه ، و ليس شأنه سبحانه خلق العالم و الأَشياء ، ثمّ الإِنصراف عنها ، و تفويض تدبيرها إلى غيره حتى يكون الخلق منه و التدبير على وجه الإِستقلال من غيره ، بل الكل من جانبه سبحانه. فالمراد من الخلق إِيجاد ذوات الأَشياء ، والمراد من الأَمر النظام السَّائد عليها ، فكأَنَّ الخلق يتعلق بذواتها ، و الأَمر بالأوضاع الحاصلة فيها ،و النظام الجاري بينها ، و يدّل على ذلك بعض الآيات التي تذكر « تدبيرالأمر» بعد الخلق.

يقول سبحانه: "إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ " (8).و قال تعالى: "اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي ِلأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ" (9).فليس المراد من الأَمر ما يقابل النهي ، بل المراد الشؤون الراجعة إِلى التكوين ، فيكون المقصود أَنَّ الإِيجاد أَوّلاً ، و التصرف و التدبير ثانياً منه سبحانه ، فهو الخالق المالك ، لا شريك له في الخلق و الإِيجاد ، و لا في الإِرادة و التدبير.

 

الدليل الثَّالث :

قوله سبحانه: "إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ " (10).

قال الأشعري : « فمن زعم أَنَّ القرآن مخلوق ، فقد جعله قولاً للبشر، وهذا ما أَنكره الله على المشركين » (11).

يلاحظ عليه : إِنَّ من يقول بأَنَّ القرآن مخلوق لا يريد إِلاّ كونه مخلوقاً لله سبحانه ، فالله سبحانه خلقه ، و أَوحى به إلى النبي ، و نزّله عليه مُنِّجماً على مدى ثلاث و عشرين سنة ، و جعله فوق قدرة البشر ، فلن يأتوا بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيراً.نعم ، كون القرآن مخلوقاً لله سبحانه لا ينافي أَنْ يكون ما يقرؤه الإِنسان مخلوقاً له ؛ لبداهة أنَّ الحروف و الأصوات التي ينطق بها الناس مخلوقة لهم ، و هذا كمعلقة امرئ القيس و غيرها ، فأصلها مخلوق لنفس الشاعر ، ولكن المقروء مثال له ، و مخلوق للقارئ  .

والعجب أَنَّ الأشعري و من قبله و من بعدَه لم ينقّحوا موضع النزاع  ، فزعموا أنَّه إذ قيل : « القرآن مخلوق» ، فإنّما يراد منه كون القرآن مصنوعاً للبشر، مع أَنَّ الضرورة قاضية بخلافه ، فكيف يمكن لمسلم يعتنق القرآن ،و يقراً قول البارئ سبحانه فيه: " وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ " (12) ، أن يَتَفَوّه بأنَّ القرآن مخلوق للبشر . بل المسلمون جميعاً يقولون في القرآن نفس ما قاله سبحانه في حقّه ، غير أَنَّ المقروء على ألسنتهم مخلوق لأنفسهم ، فيكون مثال ما نزله سبحانه مخلوقاً للإِنسان ، و كون المثال مخلوقاً لهم ليس دليلاً على أَنَّ المُمَثَّل مخلوقاً لهم ، و الناس بأجمعهم عاجزون عن إيجاد مثل القرآن ، ولكنهم قادرون على إيجاد مثاله . فلاحظ و تدبر.و بذلك تقف على أنَّ أكثر ما استدل به الأشعري في كتاب « الإِبانة » غير تام من جهة الدلالة ، و لا نطيل المقام بإِيراده و نقده .  و فيما ذكرنا كفاية.

بقي هنا نكتة ننبه عليها وهي : إِنَّ المعروف من إِمام الحنابلة أنَّه ما كان يرى الخوض في المسائل التي لم يخض فيها السَلَف الصالح ؛ لأَنّه ما كان يرى علماً إِلاّ علْمَ السَلَف ، فما يخوضون فيه يخوض فيه ، و ما لا يخوضون فيه من أمور الدّين يراه ابتداعاً يجب الإِعتراض عنه ، و هذه المسألة لم يتكلم فيها السلف ، فلم يكن له أن يتكلم فيها ، و المبتدعون هم الذين يتكلمون ، فما كان له أن يسير وراءهم ، و كان من واجبه حسب أصوله أن يتوقف ، و لا يَنْبُس بِبِنْتِ شَفَة .  نعم نقل عنه ما يوافق التوقف - رغم ما نقلنا عنه من خلافه - و أنَّه قال : من زعم أنَّ القرآن مخلوق فهو جهمي ، و من زعم أنَّه غير مخلوق فهومبتدع.

ويرى المحققون أنَّ إِمام الحنابلة كان في أوليات حياته يرى البحث حول القرآن ، بأنَّه مخلوق أَوْ غير مخلوق، بدعة ،  ولكنه بعدما زالت المحنة ، و طلب منه الخليفة العباسي المتوكل ، المؤيد له ، الإِدلاء برأيه ، إِختار كون القرآن ليس بمخلوق ،  و مع ذلك لم يؤثر عنه أنَّه قال : إِنَّه قديم (13).

الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج1 ، ص 213 ـ

------------------------------------------------------------

الهوامش:

(1) سورة النحل: الآية 40.

(2) سورة النحل: الآية 40.

(3) الإِبانة : ص 52 - 53.

(4) نهج البلاغة : الخطبة186.

(5) دلائل الصدق : حاكياً عن الفضل بن روزبهان الأشعري ، ج 1، ص 153.

(6) سورة الأعراف: الآية 54.

(7) الإِبانة : ص 51 - 52.

(8) سورة يونس: الآية 3.

(9) سورة الرعد: الآية 2.

(10)  سورة المدثر: الآية 25.

(11)  الإبانة :  ص 56.

(12)  سورة الانعام: الآية 155. و مثله قوله: { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } (الجاثية: الآية 2(  ، و آياتٌ كثيرةٌ اُخرى.

(13) تاريخ المذاهب الإِسلامية : ص 300.


الماركسية واللاأخلاق

نشأة العرفان و التصوف عند المسلمين

طريقة إثبات الإسلام والشرائع السابقة

علم الكلام و رصد الحركات الإلحادية

ما هو الدّين؟

عقيدتنا في الإسلام

 

 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)