• عدد المراجعات :
  • 1702
  • 5/24/2011
  • تاريخ :

التفاخر والكفر بالنعمة

القرآن

"وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أنَا أكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أشْرِكُ بِرَبِّي أحَدًا وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا وَأحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا".

 

القصة

افتخر بعض الكافرين بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين، فضرب الله سبحانه ذلك المثل يبيّن فيه أنه لا اعتبار بالغنى المؤقت وأنه سوف يذهب سدى، أما الذي يجب المفاخرة به فهو تسليم الإنسان لربه وإطاعته لمولاه. وحقيقة ذلك التمثيل أن رجلين أخوين مات أبوهما وترك مالا وافراً فأخذ أحدهما حقه منه وهو المؤمن منهما فتقرب إلى الله بالإحسان والصدقة، وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعا بين الجنتين فافتخر الأخ الغني على الفقير، وقال: "أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا"، وما هذا إلا لأنه كان يملك جنتين من أعناب ونخل محيط بهما، وبين الجنتين زرع وافر، وقد تعلقت مشيئته بأن تأتي الجنتان أكلها ولم تنقص شيئا وقد تخللها نهر غزير الماء وراح صاحب الجنتين المثمرتين يفتخر على صاحبه بكثرة المال والخدمة. وكان كلما يدخل جنته يقول: ما أظن أن تفنى هذه الجنة وهذه الثمار أي أنّها تبقى أبداً وأخذ يكذّب بالساعة، ويقول: ما أحسب القيامة آتية، ولو افترض صحة ما يقوله الموحدون من وجود القيامة، فلئن بعثت يومذاك، لآتاني ربي خيرا من هذه الجنة، بشهادة إعطائي الجنة في هذه الدنيا دونكم، وهذا دليل على كرامتي عليه. هذا ما كان يتفوه به وهو يمشي في جنته مختالا، وعند ذاك يواجهه أخوه بالحكمة والموعظة الحسنة. ويقول: كيف كفرت بالله سبحانه مع أنك كنت ترابا فصرت نطفة، ثم رجلا سويا، فمن نقلك من حال إلى حال وجعلك سويا معتدل الخلقة ؟ ورغم أنه ليس في عبارته إنكار للصانع صراحة، بل إنكار للمعاد، إلا أن إنكار المعاد يلازم إنكار الرب. فإن افتخرت أنت بالمال، فأنا أفتخر بأني عبد من عباد الله لا أشرك به أحدا. ثم ذكره بسوء العاقبة، وأنك لماذا لم تقل حين دخولك البستان ما شاء الله، فإن الجنتين نعمة من نعم الله سبحانه، فلو بذلت جهدا في عمارتها فإنما هو بقدرة الله تبارك وتعالى. ثم أشار إلى نفسه، وقال: أنا وإن كنت أقل منك مالاً وولداً، ولكن أرجو أن يجزيني ربي في الآخرة خيراً من جنتك، كما أترقب أن يرسل عذاباً من السماء على جنتك فتصبح أرضا صلبة لا ينبت فيها شيء، أو يجعل ماءها غائرا ذاهبا في باطن الأرض على وجه لا تستطيع أن تستحصله. قالها أخوه وهو يندد به ويحذره من مغبة تماديه في كفره وغيه ويتكهن له بمستقبل مظلم. فعندما جاء العذاب وأحاط بثمره، ففي ذلك الوقت استيقظ الأخ الكافر من رقدته، فأخذ يقلب كفيه تأسفا وتحسرا على ما أنفق من الأموال في عمارة جنتيه، وأخذ يندم على شركه.

لقد أورد القرآن الكريم هذه القصة لبيان العبرة منها لهذا الإنسان الذي يعيش في هذه الحياة الدنيا فتأخذه بمفاتنها إلى حيث لا يكون مصيره إلا الخسران والضياع.

 

الدروس المستفادة من هذه القصة

لقد أورد القرآن الكريم هذه القصة لبيان العبرة منها لهذا الإنسان الذي يعيش في هذه الحياة الدنيا فتأخذه بمفاتنها إلى حيث لا يكون مصيره إلا الخسران والضياع. وذكر بعض المفسرين أن الذي يتضمنه المثل قصة مقدرة مفروضة فليس من الواجب أن يتحقق مضمون المثل خارجا، وذكر آخرون أنه قصة واقعة، ويرى السيد الطباطبائي أن التدبر في سياق القصة بما فيها من كونهما جنتين اثنتين وانحصار أشجارهما في الكرم والنخل ووقوع الزرع بينهما وغير ذلك يؤيد كونها قصة واقعة وفي هذه القصة دروس عديدة:

 

ظلم النفس من أعظم أنواع الظلم

وصف الله عز وجل صاحب الجنة بأنه ظالم لنفسه، وهذا من أعظم أنواع الظلم والمراد من ظلم النفس هنا حملها على الكفر بارتكاب المعصية والإخلال بالواجب، أو إنكار ما يجب الاعتقاد به. وإنما ورد التعبير عن العاصي بأنه ظالم لنفسه لأنه يوجب لها العذاب الدائم في نار جهنم.

وقد ورد في الآيات الكريمة التي حكت لنا هذه القصة بعض مظاهر ظلم النفس من قبل صاحب الجنتين، هذه المظاهر التي تدرج ذلك الرجل في الوقوع فيها واحدة بعد أخرى. والتي قد تحصل مع كل صاحب دنيا متعلق بها:

 

أ ـ أكفرت بالذي خلقك من تراب

إن الإنسان عندما يرى انه حر التصرف في ماله لا أحد يمنعه من التصرف به يظن انه ملكه الخاص به وانه لا مالك فوقه لهذا المال، فينسى الله عز وجل وهذا ما يؤدي به أولا إلى الشرك بالله عز وجل وذلك لأنه في المرحلة الأولى يظن نفسه انه شريك مستقل بالتصرف في هذا المال، ثم تزداد وسوسة الشيطان له فيجد أن شريكه الآخر ليس له التصرف في هذا المال فيؤدي الأمر به إلى الكفر وإنكار وجود مثل ذلك الشريك لأنه يتصرف بما يشاء.

والطريق الذي يمكن للإنسان أن يتخلص به من هذه الحالة هو أن يرجع إلى نفسه لينظر ويتدبر أصل خلقته وأنه خلق من تراب ثم من نطفة فهو لم يكن شيئاً والله هو الذي سوّاه رجلاً.

 

ب ـ أكثر مالاً وأعز نفراً

يبدأ الإنسان بعملية مقارنة بين ما عنده وما يملكه هو وما عند غيره فيجد أن ما عنده عظيم ويحتقر ما عند غيره وينعكس ذلك في فعله وقوله، وهذا ما أدى به إلى أن يقول لصاحبه أنا أكثر مالاً وأعز نفراً.

وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه و اله و سلم : "إن لإبليس كحلاً ولعوقاً وسعوطاً، فكحله النعاس، ولعوقه الكذب، وسعوطه الفخر"1.

ويتحدث الإمام الخميني عن أسباب الكبر فيقول: "للكبر أسباب عديدة ترجع كلها إلى توهم الإنسان الكمال في نفسه، مما يبعث على العجب الممزوج بحب الذات، فيحجب كمال الآخرين ويراهم أدنى منه ويترفع عليهم قلبيا أو ظاهريا"2

وطريق علاج حالة التكبر هذه أن يتدبر الإنسان بأن هذه النعمة قد تنتقل في يوم من الأيام إلى من يتكبر عليه فإن النعم لا تدوم.

وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "عجباً للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة، ثمّ هو غداً جيفة" 3.

 

ج ـ ما أظن أن تبيد هذه أبداً

في الإنسان نزعة وميل فطري نحو التعلق بالأمور التي تبقى ولا تفنى، ولمّا كان هذا الشخص متعلقاً بجنّته هذه أراد أن يبرر لنفسه هذه القناعة بأن قام بإنكار كونها ممكنة الفناء والزوال. وهكذا الإنسان عندما ينعم عليه بالنعم المادية يغفل عن كون هذه النعم مصيرها إلى الفناء والزوال فيتعلق بها ويظن أنها باقية على الدوام.

ويتحدث العلامة الطباطبائي عن ذلك فيقول:"هذا حال الإنسان، فان نفسه لا تتعلق بالشيء الفاني من جهة أنه متغير يسرع إليه الزوال وإنما يتعلق القلب عليه بما يشاهد فيه من سمة البقاء كيفما كان فينجذب إليه ولا يلوي عنه إلى شيء من تقادير فنائه، فتراه إذا أقبلت عليه الدنيا اطمأن إليها وأخذ في التمتع بزينتها والانقطاع إليها واعتورته أهواؤه وطالت آماله كأنه لا يرى لنفسه فناء، ولا لما بيده من النعمة زوالا ولا لما ساعدته عليه من الأسباب انقطاعا، وتراه إذا أدبرت عنه الدنيا أخذه اليأس والقنوط فأنساه كل رجاء للفرج وسجل عليه انه سيدوم ويدوم عليه الشقاء وسوء الحال"4.

وطريق علاج هذه الحالة أن يفكر الإنسان بالأسباب التي قد تؤدي إلى زوال ما عنده مهما كان عظيماً، فصاحب الجنة غفل عن أنّ إعصاراً واحداً قد يدمّر جنّته هذه فيجعلها ركاماً.

الخطوة الثالثة التي يخطوها هذا الإنسان في طريق الضلال، وهي نتيجة حتمية للخطوات السابقة، هو الذهاب إلى إنكار الآخرة، لان الإيمان بالآخرة لا يجتمع مع الإيمان بأن هذه الدنيا خالدة باقية، فينكر الآخرة.

 

دـ ما أظن الساعة قائمة

الخطوة الثالثة التي يخطوها هذا الإنسان في طريق الضلال، وهي نتيجة حتمية للخطوات السابقة، هو الذهاب إلى إنكار الآخرة، لان الإيمان بالآخرة لا يجتمع مع الإيمان بأن هذه الدنيا خالدة باقية، فينكر الآخرة. وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه و اله و سلم :"من أصبح وأمسى والآخرة أكبر همه جعل الله الغنى في قلبه وجمع له أمره ولم يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه، ومن أصبح وأمسى والدنيا أكبر همّه جعل الله الفقر بين عينيه وشتت عليه أمره ولم ينل من الدنيا إلا ما قسم له"5.

 

الإنسان بين الخوف والرجاء

على الإنسان أن يعيش بين الخوف والرجاء. فمهما فعل من الصالحات فان ذلك لا يحتم له الجنة. فكيف بمن لم يملك من هذه الدنيا سوى المال والأمور الفانية الزائلة.

وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام : "ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفا كأنه يشرف على النار، ويرجوه رجاء كأنه من أهل الجنة"6.

وعنه عليه السلام : "كان أبي عليه السلام يقول: إنه ليس من عبد مؤمن إلا في قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا"7.

وعن الإمام علي عليه السلام : "إن استطعتم أن يشتد خوفكم من الله وأن يحسن ظنكم به فاجمعوا بينهما، فإن العبد إنما يكون حسن ظنه بربه على قدر خوفه من ربه، وإن أحسن الناس ظنا بالله أشدهم خوفا لله"8.

ويقول الإمام الخميني في كتاب الأربعون حديثا: "إن الإنسان عندما يدرك منتهى قصوره في النهوض بالعبودية، ويرى صعوبة وضيق طريق الآخرة، يتولد فيه الخوف بأعلى درجة، وعندما يجد ذنوبه ويفكر في أناس كانت عاقبة أمرهم الموت من دون إيمان وعمل صالح يشتد فيه الخوف. والرجاء المحبوب يدفع الإنسان نحو العمل واكتساب الآخرة".

--------------------------------------------------------------------------------

الهوامش:

1-العلامة المجلسي، بحار الأنوار:ج70، ص 234.

2-الأربعون حديثا: الحديث الرابع، ص88.

3-الكافي، الشيخ الكليني، باب الفخر والكبر، ج 2، ص 328.

4-الطباطبائي ـ محمد حسين ـ الميزان في تفسير القرآن ج13، ص311.

5-العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 70، ص104.

6-العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 7، ص311.

7-الكليني، الكافي، ج2، ص67.

8-نهج البلاغة، من عهد له إلى محمد بن أبي بكر لما ولاه مصر.


مواضع عِبر في قصة الطوفان أغفلتها التوراة

مقايسة قصّة الطوفان في التوراة و في القران

موقف اليهود من دعوة المسيح(عليه السلام)

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)