• عدد المراجعات :
  • 2239
  • 5/15/2011
  • تاريخ :

هل الجنة والنار مخلوقتان؟

الورد

إنّ الله سبحانه وعد المتقين بالجنة وأوْعد العاصين بالنار، فهل هما مخلوقتان الآن، أم لا؟

الجواب

ذهبت المعتزلة غير أبي على الجبّائي والخوارج وطائفة من الزيدية، إلى الثاني وذهبت الإمامية والأشاعرة إلى أنّهما مخلوقتان.

قال الشيخ المفيد: "إنّ الجنة والنّار في هذا الوقت مخلوقتان وبذلك جاءت الأخبار، وعليه إجماع أهل الشرع والآثار"1.

وقال التفتازاني: "جمهور المسلمين على أنّ الجنة والنار مخلوقتان الآن خلافاً لأبي هاشم والقاضي عبد الجبار، ومن يجري مجراهما من المعتزلة حيث زعموا أنّهما إنّما يُخْلَقان يوم الجزاء"2.

والظاهر من السيد الرضي، أنّهما غير مخلوقتين الآن، قال:" والصحيح أنّهما تخلقان بعد"3.

 

أدلة القائلين بخلقهما

استدل على كون الجنة والنار مخلوقتان، بوجوه

الوجه الأول: قصة آدم وحواء، وإسكانهما الجنة، وأكلهما من الشجرة، وخصفهما عليهما من ورق الجنة، ثم إخراجهما منها، على ما نطق به الكتاب والسنة، وانعقد عليه الإجماع قبل ظهور المخالفين. وحملهما على بستان من بساتين الدنيا، ليس عليه دليل4.

يلاحظ عليه: إنّ حمله على غير جنة الخلد الّتي هي قرار المآب وجنة الثواب، ليس أمراً بعيداً، والجنة في أصل اللغة يعبر بها عن الرياض، والمنابت، والأشجار، والحدائق، والكروم المعروشة، والنخيل.

وعلى هذا قوله سبحانه: "وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ"(الكهف:39). وقوله سبحانه: "لَقَدْ كَانَ لِسَبَأ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِين وَشِمَال كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ"(سبأ:15).

ويمكن أنْ يؤيّد ذلك بأنه لو كانت جنّة الخلد، لما خرج منها، قال سبحانه: "أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"(المؤمنون:10ـ11).

وهذا، وإنْ كان يُمكن حَمْلُه على مَنْ دَخَلَها بَعْدَ دارِ الدنيا، وهو غَيْرُ متحقق في آدم، ولكنه احتمال في مقابل احتمال. وكما لا يمكن الاحتجاج على كونهما مخلوقين بما ورد في جنة آدم، كذلك لا يمكن الاحتجاج عليه بما ورد من كون الشهداء أحياءً عند ربهم يرزقون: "وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَوَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"(آل عمران:169)، أو بما وَرَدَ من أنّ آل فرعون يُعْرَضون على النار غُدُوّاً وعشياً: "النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ"(غافر:46)، لأنهما راجعان إلى الحياة البرزخية والتنعيم والتعذيب فيهما، غيرهُما في الآخرة.

الوجه الثاني: الآيات الصريحة في كونهما مخلوقين، كقوله سبحانه: "وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى"(النجم:13ـ15)، وكقوله في حقّ الجنة: "أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ"(آل عمران:133)، و"أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ"(الحديد:21)، و"وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ"( الشعراء:90). وفي حق النار: "أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ"(آل عمران:131)، و"بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ"(الشعراء:91). وحملها على التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي مبالغةً في تحققه، مثل "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ"(الكهف:99) و"وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ"(الأعراف:44)، يحتاج إلى دليل5.

وهذا الاستدلال أمتن من سابقه، ومع ذلك فالاعتقاد بكونهما مخلوقتين الآن يتوقف على كون دلالتهما على المقصود قطعية، وهو غير حاصل، لما عرفت من الاحتمال الآخر6.

نعم، بعض هذه الآيات لا يحتمل إلا المعنى الأول، مثل قوله: "عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى"، إذ لم ير التعبير عن الشيء الّذي سيتحقّق غداً، بالجملة الاسمية.

الوجه الثالث: إنّ الله تعالى رَغّب المُكَلّفين بالجنة، ورهّبَهم بالنار، فكيف يصح الترغيب بجنة لم يخلقها، والترهيب بنار لم يخلقها7. وهذا الوجه ضعيف جداً، لأنّ الجنّة الموصوفة، لمّا كانت مقدورة له تعالى، ومثلها النار، صحّ الترغيب والترهيب، كما رغب المكلفين في ثواب لم يوجد بعد، لأنّ وعده صادق وأمره واقع8.

نعم، هناك روايات لا يمكن العدول عنها، لتضافرها روى الصدوق في الأمالي والتوحيد عن الهَرِوي، قال: قلت: للرضا عليه السَّلام: يابن رسول الله، أخبرني عن الجنّة والنار أهما اليوم مخلوقتان؟ فقال: نعم، وإنّ رسول الله قد دخل الجنة ورأى النار، لما عرج به إلى السماء. قال: فقلت له: فإنّ قوماً يقولون إنّهما اليوم مقدّرتان غير مخلوقتين. فقال عليه السَّلام: ما أُولئك منّا ولا نحن منهم، من أنْكر خلق الجنة والنار، فقد كذّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذّبنا9.

 

أدلة النافين لخلقهما

استدل النافون لخلقهما بوجوه

1- إنّ خلق الجنة والنار قبل يوم الجزاء، عبث، لا يليق بالحكيم تعالى.

2- إنّهما لو خلقتا لهلكتا، لقوله تعالى: "كُلُّ شَيءْ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ"(القصص:88) واللازم باطل، للإجماع على دوامهما، وللنصوص الشاهدة بدوام أُكُل الجنة وظلّها.

3- إنّهما لو وجدتا الآن فإما في هذا العالم، أو في عالم آخر، وكلاهما باطل، أمّا الأوّل فلأنه لا يتصور في أفلاكه، لامتناع الخرق والالتئام عليها، ولامتناع حصول العنصريات فيها، ولأنّها لا تسع جنّة عرضها كعرض السماء والأرض.

وأما الثاني، بأن يكونا فوق محدد الجهات10، فلأنّه يلزم أن يكون في اللامكان مكان، وفي اللاجهة جهةٌ11.

يلاحظ على الأول: أنّ الحكم بالعبثية يتوقف على العلم القطعي بعدم ترتب غرض عليه، ومن أين لنا بهذا العلم؟

ويلاحظ على الثاني: أنّه ليس المراد من (هالك) هو تحقق انعدامه وبطلان وجوده، بل المراد أنّ كل شيء هالك في نفسه، باطل في ذاته، لا حقيقة له إلا ما كان عنده ممّا أفاضه الله عليه. والحقيقة الثابتة في الواقع الّتي ليست هالكة باطلة من الأشياء هي صفاته الكريمة، وآياته الدالة عليها فيهما جميعها ثابتة بثبوت الذات المقدسة، هذا بناء على كون المراد بالهالك في الآية، الهالك بالفعل.

وأما إذا أُريد من الهالك ما يستقبله الهلاك والفناء، بناء على ما قيل من أنّ اسم الفاعل ظاهر في الاستقبال، فهلاك الأشياء ليس بمعنى البطلان المطلق بعد الوجود، بأنْ لا يبقى منها أثر، فإنّ صريح كتاب الله ينفيه، فإن آياته تدل على أنّ كل شيء مرجعه إلى الله وأنّه المنتهى وإليه الرجعى، وهو الّذي يُبدىءُ الخلق ثم يعيده.

وإنّما المراد بالهلاك على هذا الوجه، تَبَدُّل نشأة الوجود، والرجوع إلى الله، المعبر عنه بالانتقال من الدنيا إلى الآخرة، والتلبس بالعود بعد البدء، وهذا إنما يشمل ما كان موجوداً بوجود بدني دنيوي، وأما نفس الدار الآخرة، وما هو موجود بوجود أُخروي كالجنة والنار، فلا يتصف بالهلاك بهذا المعنى. قال سبحانه: "مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مَا عِنْدَ اللهِ بَاق"(النحل:96).

وقال سبحانه: "وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ"(آل عمران:198). وقال سبحانه: "وَإِنْ مِنْ شَيءْ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ"(الحِجْر:21). وكذا اللوح المحفوظ، كما قال سبحانه: "وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ"(ق:4). فهذه الآيات تعرب عن عدم شمول الآية إلا لما له وجود دنيوي، فيتبدل إلى وجود أُخروي، لا ما كان موجوداً بوجود أُخروي من بدء الأمر.

ويلاحظ على الثالث: أنّه مبني على التصوير البَطْلَمْيوسي للعالم، وقد أبطل العلم أصله، فيبطل ما فرع عليه، فإن الكون وسيع إلى حد لا تحيط به الأرقام والأعداد النجومية.

وعلى ذلك يمكن أنْ تكون الجنة والنار في ذلك الفضاء الواسع الّذي لا يحيط بسعته إلا الله سبحانه، وليس علينا تعيين مكانهما بالدقة، كيف والله سبحانه يقول: "عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى"(النجم:14ـ15)، فلمّا كان المراد من جنة المأوى، الجنة الموعودة، فهي عند سدرة المنتهى، وقد سئل ابن عباس عن سدرة المنتهى، فقال: "إليها ينتهي علم كل عالم، وما وراءها لا يعلمه إلاّ الله"12. فإذا كانت سدرة المنتهى هي منتهى علم البشر، فلن يصل علمهم إلى الجنة الموعودة الّتي هي عندها، ولا يمكن لأحد تعيين مكانها، بل غاية ما يمكن قوله هو أنّهما مخلوقتان موجودتان في هذا الكون غير المتناهي طولاً وعرضاً.

وأما قوله سبحانه: "سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَة مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ"(الحديد:21)، فليس المراد من العَرْض فيه ما يضاد الطول، بل هو بمعنى السعة، والآية بصدد بيان سعة الجنة كما لا يخفى.

نعم، يستفاد من ظاهرها أنّها ليست في السماء الّتي يراد منها السيارات والكواكب والمجرّات الظاهرة. وممّا يؤيد ذلك أنّ النظام السمائي السائد على الكون المشاهد، يتلاشى عند قيام القيامة لقوله سبحانه: "يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْق نُعِيدُهُ وَعْدًاَ عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ"(الأنبياء:104) فلو كانت الجنة والنار فيها، للزم تلاشيهما واندثارهما عند قيام القيامة.

ويمكن أن يقال إنّ الجنة والنار كسائر الموجودات الإمكانية، تتكاملان وتتسعان، ويؤيّده ما رُوِيَ عن النبي أنّه قال: "ليلةَ أُسرِيَ بي، مَرّ بي إبراهيم، فقال: مُرْ أُمَّتَكَ أنْ يُكْثِروا من غرس الجنة، فإن أرضها واسعة وتربتها طيبة، قلت: وما غرس الجنة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله"13.

هذا كله على القول بأنّ الجنة والنار حسب ظواهر الكتاب، موجودتان في الخارج، مع قطع النظر عن أعمال المكلف، وأنّهما معدّتان للمطيع والعاصي، وأما على القول بأنّه ليس لهما وراء عمل الإنسان حقيقة، وأن الجنة والنار عبارة عن تجسم عمل الإنسان بصورة حسنة وبَهيّة، أو قبيحة ومرعبة، فالجنة والنار موجودتان واقعاً بوجودهما المناسب في الدار الآخرة، وإن كان الإنسان، لأجل كونه محاطاً بهذه الظروف الدنيوية، غير قادر على رؤيتهما، وإلا فالعمل، سواء كان صالحاً أو طالحاً، قد تحقق وله وجودان وتمثّلان، وكلٌّ موجود في ظرفه.

1آية الله جعفر السبحاني

--------------------------------------------------------------------------------

الهوامش:

1- أوائل المقالات، ص 102.

2- شرح المقاصد، ج 2، ص 218، ولاحظ شرح التجريد للقوشجي، ص 507، والعبارتان متحدتان.

3- حقائق التأويل، ص 245.

4- شرح المقاصد، ج 2، ص 218.

5- شرح المقاصد، ج 2، ص 218-219.

6- وقد اعتمد على هذا الاحتمال السيد الرضي في حقائق التأويل ص 247، وقال: إنّ التعبير بالفعل الماضي، لصحته وتحقق وقوعه، وكأنه قد كان، فعبر عنه بعبارة الكائن الواقع.

7- حقائق التأويل، ص 248.

8- المصدر السابق نفسه.

9- حق اليقين، للسيد شبر، ج 2، ص 204.

10- محدّد الجهات عبارة عن الفَلَك التاسع، وهو الفلك الأطلس الّذي كان يعتقد به بطلميوس ويقول ليس فوقه خلاء ولا ملاء.

11-  لاحظ هذه الوجوه الثلاثة في شرح المقاصد، ج 2، ص 219.

12- الدر المنثور، ج 6، ص 125.

13-.سفينة البحار، مادة غرس، ج 2، ص 312


مشاهد البعث والقيامة (5)

مشاهد البعث والقيامة (4)

مشاهد البعث والقيامة (3)

مشاهد البعث والقيامة (2)

مشاهد البعث والقيامة (1)

 

 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)