تفسیر القرآن الکریم؛ سورة المائدة (5) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم؛ سورة المائدة (5) - نسخه متنی

محمود الشلتوت

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تفسير القرآن الكريم

سورة المائدة

آيات التفسير ـ مراعاة حق القطرة بالنهي عن تحريم الطيبات ـ عمارةالكون تقتضي خلق الانسان روحياً مادياً معاً ـ النظرة تأبي ما ننافيها ـ نزوع أهل الاديان السابقة إلي مقاومة الفطرة: الرهبانية ابتداع من المسيحين ـ خطر الماديةالمتحللة ـ توسط الإسلام ـ سبب نزول آيات التفسير ـ إعطاء النفس حقها المشروع لا ينافي تقوى الله ـ حرمان النفس من الطيبات بقصد تهذيبها استظهار وتزيد على الله ـ توسطالإسلام أصل إصلاحي عظيم الاثر في البشر ـ (شبه لدعاة التزهد و التقشف: سير الصالحين و الراشدين. أثر الترف في إفساد الأمم. حملة القرآن على أهل الترف) ـ (الجواب عن هذهالشبه. الولاة قادة و قدوة. الأمم تدعي إلي التقشف في بعض ظروفها كعلاج و استعداد ـ القرآن إنما حمل على المسرفين في ترفهم) ـ أحكام الحلف و مناسبة ذكرها في هذا الموضع ـحكمة الإسلام في تشريع الكفارات لمس تورط باليمين أو الخطأ أو الالتزام ـ الإسلام يؤثر فعل الخير و البر على التمسك باليمين المنافى لهما ـ التفرقة بين اللغو و ما عقدتعليه العزائم ـ الكفارات من أعظم أبواب البر ـ وجوب حفظ الايمان و ما يوحي به الأمر بذلك .

آيات التفسير: نستعين الله تعالى ونتابع والكلام على الآيات الكريمة التيجاءت في سورة «المائدة» مصدرة بالنداء الالهى للمؤمنين، وقد انتهى ما أردناه من الكلام على تسع من هذه الآيات، و هذا هو النداء العاشر:

 

قالالله تعالي:

«يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين و كلو مما رزقكم الله حلالا طيبا و اتقوا الله الذي أنتم بهمؤمنون لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان. فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجدفصيام ثلاثة أيام، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم، واحفظوا أيمانكم، كذلك يبين الله لكم اياته لعلكم تشكرون».

مراعاة حق الفطرة بالنهي عن تحريم الطيبات:

هذا أحدالعقود التي جاءت بها السورة، و أمرت في أولها بالوفاء بها، و موضوعه مبدأ من أهم المبادى ء الاسلامية التي جعل الله المسلمين بها أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس، ذلكالمبدأ هو مراعاة حق الفطرة الانسانية، والنهي عن سلوك السبيل التي سلكها أهل الاديان السابقة ،أو بعض الفلاسفة، من تعذيب النفس و حرمانهامن الاخذ بما يلاثم الفطرة، ويحقق المتاع الجسمي الطبيعي، إيثاراً لنهذيبها، و ميلا إلي تقوية الجانب الروحي فيها، فالقرآن الكريم يبطل هذا في قوة و حزم، و ينهى المؤمنين عنه في عقد بجعله في سورة«العقود» و يصف ما أحله للناس بأنه طيبات، إيحاءً لهم بأن إحلاله إنما كان لطيبه، و طيبه يدل على خلوة مما يؤذى النفس مادياً أو معنوياً، و اشتماله على ما يفيدها فيكليهما، ثم يشعرهم إشعاراً قوياً ـ حين ينهاهم عن الاعتداء، و ينفي حب الله للمعتدين ـ بأن في هذا خروجا من الانسان عن حده، و تجاوزاً لدائرة فطرته وإنسانيته، و تمرداًعلى الالوهية ذات الدقة في التشريع، و الحكمة في التحليل و التحريم، ثم يأمرهم أمراً صريحاً بالاكل مما رزقهم الله من الطيبات، غير رمكتف بفهم ذلك من النهي السابق، ويؤكد هذا كله بأمرهم بتقوى الله الذي هم به مؤمنون، مشيراً لهم بهذا إلي أن ذلك من مقتضيات الايمان، ثم يلحق ذلك ببيان السبيل التي بها

 

يتخلص من لزم نفسه بتحريم شيء مما أحله الله، مبيناً حكم اليمين و حكم الكفارة مستوفياً بذلك أمر هذه الالتزامات في مختلف أحوالها.

عمارة الكون تقتضي خلق الانسانروحياً مادياً معاً:

اقتضت حكمة الله تعالي أن يكون الانسان مركبا من روح و جسم، حتي يكون صالحا للماديات و المعنويات، و لم يجعله كالملائكة روحانيا صرفا، لان عمارةهذا الكوكب الذي نعيش عليه تقتضي هذا اللون من الخلق المزدوج الطبيعة، تقتضي «المادية» لان الكون مشحون بالمادة، فلو كان سكانه رحانيين لما انتفعوا بها، و لما التفتواإليها، ولظلت معطلة ساذجة يتفاعل بعضها تفاعلا يؤدى به إلي الفناء، و بعضها تفاعلا يؤدى به إلي التوالد الساذج الذي لا تلبث ثمراته أن تلتحق بأصوله فتهمل و تعطل فلايتحقق المقصود من إثارة الارض وعمارتها، و تقتضي مع ذلك «الروحية» لان سكان هذا الكوكب لو كانوا ماديين صرفا، و لم تكن لهم «معنويات» يدركونها و يقصدون إليها و يتمتعونبها ولما أدركوا الخالق، و عرفوا حقه، و توجهوا إليه بالعبادة، و لما كانت الحياة إلا ظلمات مادية لا يتخللها أي ضوء من أضواء العقل و الروح التي هي من غير شك سر الانسانيةو قوامها.

الفطرة تأبي ما ينافيها:

خلق الانسان ـ لهذا الحكمة البالغة ـ على هذا النحو الجامع بين المادية و الروحية، فكان لابد من الاعتراف بحقوق فطرته و ميوله وعواطفه، لابد من الاعتراف بأنه إنسان يشتهي أن يأكل ويشرب و يلبس و يتزوج و يجتمع و يغدو و يروح و يسافر و يقيم، و لابد من الاعتراف بحقه في ألا يقف من هذه الاشياء عند حدالضرورة، فلا يأتيها إلا بقدر، و لا يزاولها إلا في حدود ضيقة، فإنه بحكم بشريته طموح نزاع إلى المعرفة و التوسع و إلى أن يكشف الاسرار، و يعرف الاسباب، و ينتقل من معلومإلي مجهول، و يركب الاخطار، و يتعرض

 

للمغامرات، كل هذا من طبعه و مما فطر عليه، فلا يمكن أن يلزم بما ينافر هذا الطبع، و يجافي هذه الفطرة،لا يمكن أن يلزم بالقبوع في كهف أو مغارة أو جبل من الجبال، لا يأكل إلا من أعشابها، و لا يشرب إلا ما يشتفه من رمالها، أو يلتقطه من نداها أو مطرها، لا يمكن أن يكبل نشاطهالانساني، و تقيد إمكانياته البشربة، و استعداداته الطبيعية بقيد ينافيها و

يبطلها ويذهب بللغالية المقصودة منها، لا يمكن أن يقال له «جع» و قد خلقت له معدة و أمعاءو جهاز كامل يقتضي أن يأكل، و لا يمكن أن يقال له «اكتف بالضرورى من الغذاء» و قد خلقت غدده و أجهزته الهضمية و ما يتصل بتقويمة وبنيته خلقاً يستدعي أن يتوسع في دذلك، و أنيترفه أحيانا، و أن يتمتع متاعا حسنا يشرح به صدراً و يقر به عينا، ويعرف معه نعمة الله عليه، و لا يمكن أن يقال له: انقطع عن الاجتماع، و أنت مدني بالطبع، و لا اهجرالنساء، وهكذا فالفطرة تأبي كل ما ينافيها، و هي الباقية في الانسان الراسخة فيه، و كل ما سواها فهو طارىء عليها، متأثر بها، لا يستطيع أن يزبلها، و لا يقوى على أنيحيلها.

نزوع أهل الاديان السابقة إلي مقاومة الفطرة:

نزع أهل الاديان السابقة إلي الخروج بالانسان عن هذا النطاق الذي ضربته عليه الفطرة «فطرة الله التي فطرالناس عليها» فكان منهم من آثرالجانب الروحي و رمي إلي فك أسر الانسان من قيود المادة، و انتزاعه من العواطف و الميول و النزعات و الشهوات التي ركبت فيه، و كانت طباعالازمة له، و من هنا كان التزهد و التبتل و الترهب و التخلى و التقشف، و مكابدة الحرمان في المأكل و المشرب و الملبس و الشهودة الجنسية.

الرهبانية ابتداع من المسيحيين:

و إذا قلت في هذا المقام: نزع أهل الاديان السابقة، فإنى أريد أن يفهم القارى ء من هذا أن الاديان السابقة نفسها لم تكن تفرض على الناس ابتداء أن يكون متبتلينرهبانيين، و إنما كانوا هم أنفسهم يبتدعون ذلك نزولا على معان فلسفية نبتت في أذهان بعضهم، ظناً منهم أنهم بذلك يرفعون من قيمة الانسان، يقوون من صلته بعالم السمو والكمال، و ما دروا أنهم بذلك يصادمون فطرة الله، و يغفلون عما في هذه الفطرة نفسها من حكمة، حيث تعيين المادة أبلغ العون على إدراك المعاني الروحية، و تقوى بأساليهاالمختلفة، و من حيث يشعر الانسان أو لا يشعر، رغبة الانسان في التعلق بالمعنويات، و النزوع إلي السمو بها و اكتناه لذاتها و عرفان أسرارها، و في القرآن الكريم إشارة إلىذلك حيث يقول الله عزو جل «و رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها». قال المفسرون، معناه: أحدثوها وجاء

وابها من عندأنفسهم، وما فرضناها نحن عليهم، و الاستثناء في قوله عزو جل «إلا ابتغاء رضوان الله، منقطع، و المعنى: ولكنهم ابتغوا رضوان الله بتلك الرهبانية فلم يرعوها حق رعايتها، والرهبانية المشار إليها هي ما حملوا أنفسهم عليه من المشاق في ا لامتناع من المطعم والمشرب و الملبس و النكاح، و التعبد في الجبال، فهذه الاية مفيدة للمعنى الذي ذكرناهمن أن الله تعالي لم يشرع هذه الرهبانية في دين الذين ترهبوا، و إنما هم الذين أحدثوها، و أن إحداثهم إياها كان فلسفة منهم ترمي إلي غاية هي في نفسها شريفة، و هي ابتغاءرضوان الله، ولكن الوسائل لا تقبل إلا إذا كانت مشروعة غير مناهضة لمبادىء الفطرة القويمة، كما تفيد أن هؤلاء الذين ابتدعوها لم يرعوها حق رعايتها، و عندى أن ذلك لانهم ـبحكم بشريتهم ـ لم يطيقوها و لم يقدروا على التزامها، و هذا شأن كل التزام ينافي الطبيعة، و يخالف الفطرة، و إن السر أعظم السر في خلود الشريعة الاسلامية لفى إتياتها علىحكم الفطر، و عدم منافرتها للطبائع ا لانسانية.

وفي ذلك عبرة يجب أن ينتفع بها واضعو القوانين، و منظمو النظم، فإنما ينزل الناس على حكمها راضين، ويستمرون علىاحترامها في السر والعلن، إذا كانت تنظيما للفطرة، و تحقيقاً للمصلحة، أما إذا كانت تجا في طبائع الناس، و تناهض

 

سنن الحياة، و لا تعترفبواقع الفطر، فإنها مقضي عليها بالزوال مهما دعمتها القوة، و أيدها السلطان .

خطر المادية المتحللة:

و كما نزعت طائفة من أهل الاديان إلي هذا الجانب، و هم غالباًمن أتباع المسيحية، نزعت طائفة أخرى إلي الجانب المادى وهم غالبا من أتباع اليهودية، و لا نطيل في تتبع مذهبهم المادى، فهو معروف و له أنصاره الذين يريدون للانسان حياةمطلقة من كل قيد، غير مقيدة بأى نظام، تستبيح كل شيء مادام في قدرة الانسان أن يفعله، و مادام يحقق له شهواته في أوسع نطاق، و يمكنه من أن ينفق كل لحظة من لحظات حياته فيصورتها الواقعية أو الوجودية كما يقولون، و حسبنا أن جميع أرباب العقول لا يرون في هذا المذهب إلا هوساً و جنونا، بل خطراً داهما لو تعرض له العالم لهبت عليه ريح الفناء.

توسط الإسلام:

و الإسلام دين الفطرة والتوسط، فهو لا يرضي بأن يكون أمر الإنسان معلقاً بهذا الجانب أو ذاك، لا يرضي بأن يتركه في ظلمة المادية غارقا في شهواته ولذته، غير مستمسك بما يرتفع به ويسمو على الحيوان المشارك له في ذلك، و لا يرضي بأن يكله إلي هذه الرهبانية الزاهدة في الحياة، الهاربة من العمل و السعى، المحاولة تعطيلسنة الله في الخلق، و لكنه يطلب إلي الناس

 

أن يكونوا وسطا بين هؤلاء و هؤلاء، و هذا هو الاعتدال الذي ذكره القرآن الكريم في غير موضعبعبارات محكمة سارت مسير الامثال، و أفصحت عن مبدأ الاتزان و القسط في كل شيء أحسن إفصاح: «كلوا و اشربوا و لا تسرفوا». «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات منالرزق» «و الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا وكان بين ذلك قواما». «ولاتجعل يدك مغلولة إلي عنقك و لا تبسطها كل البسط».

و مما جاء على مبدأ التوسط، و الاعترافبالفطرة و الواقع أن الإسلام

 

اعترف بالحرب كضرورة بشرية «و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض» و لكنه مع هذا نهي عن ا لاعتدابهاأو فيها، و حث على الانصاف و العدل حتي مع البغض و الشنآن «فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين».

«فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم و اتقوالله».

و مما جاء على هذا المبدأ أيضاً مبدأ التوسط آية التفسير التي نحن الآن بصددها «يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين»...الخ.

*  *  *

سبب نزول آيات التفسير:

ذكروا في سبب نزول هذه الايات روايات كثيرة لا تختلف معانيها كثيرا، وكلها تفيد أن الإسلام يأبى للناس أن يقصدوا إلي ما كانيقصد إليه أهل التبتل و الرهبانية، و يريدهم على أن يأخذوا بحظ بشريتهم من الحياة و المادة في قصد و اعتدال.

و نحن نسوق بعض هذه الروايات على شهرتها و كثرة ذكرها في كتبالتفسير و الحديث، تسهيلا و تقريباً و تكميلا، و ليكتفي بها من شاء.

فمن ذلك ما خرجه مسلم عن أنس أن نفراً من أصحاب النبي صلي الله عليه و آله و سلم سألوا أزواج النبيصلي الله عليه و سلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، و قال بعصهم: لا آكل اللحم، و قال بعضهم: لا أنام على الفراش ـ فبلغ ذلك رسول الله صلي الله عليه و سلم ـفحمد الله و أثني عليه فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا و كذا؟ لكني أصلي و أنام و أصوم و أفطر و أتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».

وأخرجه البخارى عن أنس أيضا ولفظه قال: جاء ثلاثة رهط إلي بيوت أزواج النبي صلي الله عليه و سلم يسألون عن عبادته، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها

 

فقالوا: و أين نحن منالنبي صل الله عليه و سلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر! قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، و قال آخر: أنا أصوم الدهر و لا أفطر، و قال آخر: أنا اعتزلالنساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلي الله عليه و سلم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا و كذا؟ أما و الله إني لاخشاكم الله و أتقاكم له، لكني أصوم و أفطر، و أصلي و أرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».

وخرج الامام أحمد في مسنده عن أبي أمامة الباهلى رضى الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه و سلم) في سرية منسراياه، قال: فمر رجل بغار فيه شيء من الماء فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء، و يصيب ما حوله من البقل، و يتخلي من الدنيا، قال: لو أني أتيت إليالنبي صلي الله عليه و سلم فذكرت له ذلك، فإن

أذن لي فعلت، و إلا لم أفعل ; فأتاه فقال: يا نبي الله إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء و البقل، فحدثتني نفسي بأن أقيمفيه و أتخلي من الدنيا. قال: فقال له النبي صلي الله عليه و سلم: إني لم أبعث باليهودية و لا النصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة، والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة فيسبيل الله خير من الدنيا و ما فيها، و لمقام أحدكم في الصف خير من صلاة ستين سنة»(1)

وهناك روايات كثيرة غير هذه.

إعطاء النفس حقها المشروع لا ينافي تقوى الله:

ويؤخذ مما روينا أن النبي صلي الله عليه و سلم أرشد الرهط الثلاثة إلي أن نهيه عن التبتل و الانقطاع، و أمره بتوفية النفس حقها من حظوظ الحياة في اعتدال و ما شرحه من سنته فيالمداولة بين ذلك و بين العبادات ـ كل ذلك لا يتنافى مع التقوى و الخشية من الله، فإنه صلي الله عليه و سلم أتقاهم و أخشاهم، و مع ذلك لا يفعل ما يعفلون و لا يرضي به سنةلامته.

 

حرمان النفس من الطيبات بقصد

تهذبيها استظهار وتزيد على الله:

و في ذلك إشارة إلى معنى رفيع، هو أن التقوى و الخشية في واقعهاالصحيح تستدعيان الاخلاص في تنفيذ ما أمر به الله أو نهي عنه، و أن إضافة شيء إلي ذلك تحقيقاً لهوى نفس ـ و لوكان هوى في مظهر دينى أوزهداً في متاع ابتغاء رضوان الله ـ إنماهو تزيد غير مقبول، و خروج على سنة المشرّع، و كأنه استظهار على الله جل علاه، لان فاعل ذلك كأنه يقول لربه: لقد شرعت لي التمتع بالحلال، و الا كل من الطيبات، و تناول ماتقتضيه بشربتي، و ما يصلح عليه جسمي، و تقوى به نفسي، و لكني لا أرى ذلك كافياً ياربي، فأطلب ما هو فوقه زيادة في ا بتغاء رضوانك، فأجوع، و

ـــــــــــ


1-الغدوة المرة من الغدو، و هو سير أول النهار، نقيض الروحة التي هي المرة من الرواح.

أعرى، و أتبتل، و أنقطعء... الخ، و لا شك أن هذا اعتداء و خروج على سنةالشريعه، ولذلك عد الأمر في قوله تعالى: «و كلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا» للوجوب لا للإباحة، إذ هوتصريح بأن النهي الوارد في الاية السابقة «لاتحرموا بالطيبات فعلا، والخروج عملا من مظهر الممتنع عنها بالتزام، و إيثار للحرمان.

و مما يساعد على فهم هذا ما ذيلت به الاية من قوله تعالي: «و اتقوالله الذي أنتم به مؤمنون» و في ذلك يقولالعلامة الطبرسي صاحب تفسير مجمع البيان: «هذا استدعاء إلي التقوى بألطف الوجوه، و تقديره: أيها المؤمنون بالله لا تضيعوا إيمانكم بالتقصير في ا لتقوى» فتكون عليكمالحسرة العظمى و اتقو في تحريم ما أحل الله لكم، و في جميع معاصيه من به تؤمنون و هو الله تعالي، و في هاتين الايتين دلالة على كراهة التخلى و التفرد و التوحش و الخروج عماعليه الجمهور في التأهل و طلب الولد، و عمارة الارض، و قد روى أن النبى (صلى الله عليه و سلم) كان يأكل الدجاج والفالوذج، و كان يعجبه الحلواء و العسل، و قال: إن المؤمنحلو يحب الحلاوة، و قال: إن فى بطن المؤمن زاوية لا يملؤها إلا الحلوا. و روى أن الحسن كان يأكل الفالوذج، فدخل عليه فرقد السبخي، فقال: يا فرقد ما تقول

 

في هذا فقال فرقد لا آكله و لا أحب أكله، فأقبل الحسن على غيره كالمتعجب، و قال: لعاب النحل بلباب البر مع سمن البقر هل يعيبه مسلم!

و يقول الطبرى في هذاأيضاً: «لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم و الملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك بهابعض العنت والمشقة، و لذلك رد النبي صلي الله عليه و سلم التبتل على ابن مظعون، فثبت أنه لا فضل في ترك شى ء مما أحله الله لعباده، و أن الفضل و البر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه، وعمل به رسول الله صلى ا لله عليه و سلم، و سنه لامته، و اتبعه على منهاجه الائمة الراشدون، إذ كان خير الهدى هدى نبينا محمد صلي الله عليه و سلم، فإذا كان كذلك تبين خطأ منآثر لباس الشعر و الصوف على لباس القطن و الكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله، و آثر أكل الخشن من الطعام، و ترك اللحم و غيره

حذراً من عارض الحاجة الى النساء فقد ظنخطاً،

وذلك أن الاولي بالانسان صلاح نفسه و عونه لها على طاعة ربها، و لاشي ء أضر للجسم من المطاعم الرديئة لانها مفسدة لعقله، و مضعفة لادوائه التي جعلها الله سبباإلى طاعته، و قد جاء رجل إلي الحسن البصرى ; فقال: إن لي جاراً لا يأكل الفالوذج، فقال: و لم؟ قال: يقول لا يؤدى شكره ; فقال الحسن: أفييشرب الماء البارد؟ فقال: نعم، فقال: إنجارك جاهل، فإن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذج».

*  *  *

توسط الإسلام أصل إصلاحي عظيم الاثر في البشر:

هذا أصل من أصول الإسلامالإصلاحية، و به ضمن الله لامة الإسلام صفات الحياة و التدرج في مراقى الحضارة والمدنية، و السعي إلي الانتفاع بكل ما في هذا الكون من منافع سخرها الله للإنسان في رقابةمن تقوى الله و خشيته

 

يتحقق بها الاعتدال و عدم الاسراف في اتباع الشهوات، و عبادة المادة، و الاشتغال بها إلى درجة الفناء فيها، و بهذاكانت الامة الاسلامية أمة وسطا، و صلحت لان تكون شهيدة على الناس. أي أن تكون مقاييسها هي المقاييس الصحيحة، و سنتها هي السنن القويمة، وذلك أن الأمم إذا صلحت واستقامت واعتدلت كانت نموذجا لغيرها من الأمم في أفعالها و أقوالها، و مايعد صلاحا و ما يعد فساداً، و اليوم، و قد تأثر الناس بالقوة و المال والعزة و لامنعة، أصبحت الدول الغربيةسواء في أوربا أو في أمريكا هي الدول التي يحتكم إليها في المقاييس و الصلاح و الفساد، و العدل والظلم، فكأنهم هم الشهداء على الناس، و ما ذلك إلا بأن المسلمين تنحوا عنمركزهم العالمي الذي بوأهم إياه دينهم في سالف الزمان.

و لقد كان لهذا الاصل الاسلامي فضل على الانسانية عظيم، لانه لفتها عما أراد أن يجره إليها أهل الرهبانيةوالانقطاع، و سلك بها سبيل العمل و النشاط و السعي الدائب لعمارة الكون، و كشف ما أودعه الله من أسرار في ا لارض و الجو و

والمساء.

و لو أن الإسلام صادم العرببتقرير ميله إلي الرهينة و التزهد و طلب إليهم أن يأخذوا أنفسهم بالحرمان و التعذيب و تحريم الطيبات، لما استطاع أن يمد رواقه على العالم، ولكان قصاراه أن يربي من هؤلاءالعرب جماعة بخيم عليها الكسل، و يعوقها الضعف و التراخي عن كل عمل،

جماعة لا تنفع بهم الانسانية في قليل و لا كثير، و لم يكن يطول بهم الزمن حتي ينقرضوا و يبيدوا ويصبحوا أثراً بعد عين، و خبراً يذكر في القصص و ما يتسلى به الناس.

ففضل الإسلام اذن بهذا الاصل عظيم، فقد عرس في العالم غراسه، واقتلع ما كان قد نبت في الناس من بذورالرهبانية والتخلي، و من هنا تخلت المسيحبة عن ميراثهاالذي كان ثقلا عليها، و آصاراً و أغلالا في أعناقها، فخرجوا بأنفسهم يبتغون الحياة، و لم يبق فيهم إلا هذا النوعالمعروف بالاديرة، و هو أشبه بملاجيء

 

يلجأ إليها العاجزون، و يفر إليها الهاربون من الكفاح، و لا يحفظه الآن إلا ما رصد عليه في قديمالزمان من الاموال و الثمرات، و ما أشبه بالتكايا التي كان ينقطع فيها فريق من المسلمين ساروا وراء من كانوا قبلهم شبراً بشبر، و ذراعا بذراع، حتي دخلوا هذه الخرائب التىلاتصلح إنسانا في مادته و لا في روحه، و إنما هي مغاور و كهوف للإنسان المستأنس، و قبور للأحياء الاموات.

و هكذا كان المسلمون في أولهم دعاة عمل وسعى وجد و نشاط، فسارالمسيحيون و راءهم و أخذوا في العمليات بأصولهم وقواعدهم، و كان المسلمون في آخرهم أهل تقليد و اقتباس من الذين كانوا من قبل يوجهونهم و يقودونهم إلي الصلاح و الحياةالصحيحة.

*  *  *

شبه لدعاة التزهد و التقشف:

سير الصالحين و الراشدين. أثر الترف في إفساد الأمم. حملة القرآن على أهل الترف.

قد يتساءل بعض الناس في هذاالمقام عما ورد في تاريخ من أخبار الولاة الصالحين، و الائمة الراشدين الذين كان شعارهم الزهد و التقشف و مشاركة الرعية في لاوائها و بأسائها و ضرائها ; و بالتالىيتساءءلون عما عسى أن يدعو إليه قادة الأمم و موجهوها في كثير من الظروف من دعوة التقشف و التخلف و اتجاه أفراد الامة و لو كانوا من أغنيائها و قادريها إلي التخلي عن مظاهرالترف و كثير من المباحات و الطيبات، حتي تستغني بما لديها و لا تقع تحت ضغط أعدائها و المتربصين بها.

قد يتساءل عن ذلك بعض الناس، و قد يذكرون أن الأمم المترفة الناعمةالتي ركنت إلى بُلهنية العيش، و استلانت متاع الحياة، قد استرخت و أصيبت بالضعف و الكسل، و كلت عن مكابدة الصعاب و المشاق حتي استولي عليها أعداؤها، أو أدركها الهزالفعاشت عيشة لا خير فيها، و لا سمو و لا كمال.

 

قد يتساءلون عن ذلك، و يذكرون فيه آيات من الكتاب الكريم من مثل قوله تعالي: «أمرنا مترفيها».«إلا قال متروفوها إنا بما أرسلتم به كافرون» «ارجعوا إلي ما أترفتم فيه و مساكنكم».«إنهم كانوا قبل ذلك مترفين».

الي غير ذلك.

الجواب عن هذه الشبهه:

الولاةقادة و قدوة. الأمم تدعي إلي التقشف في بعض ظروفها كعلاج و أستعداد. القرآن إنما حمل على المسرفين في ترفهم:

و الجواب عن هذه الاسئلة سهل، فأما أخبار الولاة الصالحين والائمة الراشدين الذين كانوا يأخدون أنفسهم بالتقشف، فإنما كان ذلك منهم مشاركة لاوساط الناس، و قدوة للفقراء و ذوى الحاجة من الامة، و إن من حسن الساسية، و مما يجلب محبةالرعية و طاعتها أن يكون الراعي زاهداً غير متكالب على المتاع، و لا متناول منه من مايعجز عنه الاوساط

من رعيته، و هؤلاء كانوا قادة للامة يأخذون من أموالها ما يكفللهم معاشهم، و يغنيهم عن الصفق في االسواق، فكان لهم من بيت المال مثل ما لغيرهم من أمثالهم لا يزيدون ولا ينقصون، و لم يكن لكثير منهم مال خاص يمكنه من الانفاق عن سعة، والله سبحانه و تعالي يقول: «لينفق ذو سعة من سعته، و من قد رعليه رزقه فلينفق مما آتاه الله» هذا و لم يرو عن أحد منهم أنه ترهب أو اعتزل الحياة، أو جانب النساء، فكل ما فيالأمر هوالفرار من زهرة المال و الترف الذي من شأنه ألا يصل اليه حميع أفراد الرعية، و أن يحملهم على التطلع و التساؤل والمطالبة بمثله فهذا مقام آخر غير مقام الحرمانوالتبتل و الخروج من حياة العمل و الجد بالانقطاع عن الدنيا، و تحريم ما أحل الله قولا أو فعلا، و شتان بين المقامين.

وأما أمر الأمم و ما قد تدعو إليه ظروفها من ملابسةبعض المشاق، و ترك بعض المتاع، و التخلي عن بعض ما أحل الله من الطيبات، فهذا من قبيل العلاج الذي تحتاج إليه الامة في بعض الاحيان، و يترتب عليه صلاح أمرها في بقائها

 

أو في توفير أسباب قوتها و منعتها، و مثله كمثل المريض الذي توصف له الحمية عن بعض ما يحل له و هو صحيح، فليس ذلك مما نحن فيه، و قد عرفنا فيحياتنا الحاضرة أُمماً توقف صلاحها على هذه الخطة فقام أفرادها بتنفيذها و تطبيقها على أنفسهم و أهليهم و مناهجهم في الحياة حتى كان شعبها كله كأنه فرق متضامنة متعاونةفي جيش واحد له خطة واحدة، و هدف واحد.

و هذان أيضا مقامان مختلفان شتان ما بينهما.

أما الأمم المترفة التي ضربها الله للناس مثلا، و أنبأ أن ترفها كان سبب هلاكها وفنائها و عذاب الله الذي حق عليها، فإنما هي الأمم التي انغمست في النعيم انغماساً كلياً، و لم ترع جانب الروح، فهى الأمم المادية التي لم تقف ماديتها عند حد، أمم الشهواتوالفناء فيها، و الانحلال بها، والإسلام ليست دعوته إلي المادية دعوة إلي الاباحية و الاسراف و الخروج عن الحد، و لكنه يدعو إلي التوسط بين مطالب الجسم و مطالب الروح «وكان بين ذلك قواما».

*  *  *

أحكام الحلف و مناسبة ذكرها في هذا الموضع:

اتصل بهذا النداء الإلهي الذي وضع للمؤمنين أساس معرفة حق الفطرة، و النزول على مقتضياتهـ اتصل بهذا النداء بيان لاحكام الايمان التي يحلفها الناس و يلزمون أنفسهم بها أمورا في حياتهم، وهو اتصال مناسب من جهة المعنى، فإن الذين نهوا عن تحريم ما أحل الله، وأمروا بتناول ما أباحه من الطعام، كانو قد التزموا ذلك، و كان لبعضهم ايمان على التزامه، و قد ورد في بعض الروايات و هي ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت«يأيها الذين آمنوا لا تُحرموا طيبات ما أحل الله لكم» في القوم الذين كانوا حرموا النساء و اللحم على أنفسهم ; قالوا يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفناها عليها،فأنزل الله تعالى: «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم».

فلذلك الارتباط بين تحريم الناس على أنفسهم ما أحله الله لهم، و بيان أسلوب

 

التخلص من هذا التحريم، ذكرت أحكام الايمان و الكفارة، و مباحث الايمان و الكفارة مبسوطة في كتب الققه، و فيها تفصيلات كثيرة للعلماء، و حسبنا أن تذكر هنا هذه المسائل:

حكمة الإسلام في تشريع الكفارات

لمن تورط باليمين أو الخطأ أو الالتزام:

إن الإسلام يقف في هذه المسألة أيضاـ كدأبه في جميع تشريعاته ـ موقفاً ملائماً للفطرة،ذلك أن الانسان قد يتأثر في وقت من الاوقات بدافع من حماسته و انفعاله في حال الرضا أو الغضب، فتصدر منه يمين حاسمة يلتزم بها أمراً من الامور، ثم تهداً حماسته، و يزولانفعاله، و يعود إلي حالته الطبيعية، فربما تبين له شططه أو ارتكابه ما يخالف البرو الخير بإقدامه على هذه اليمين، فلو فرضنا أن التشريع الإلهي كان ملزماً له بما التزم،مضيقا عليه فيه، لا سبيل إلي انفكاكه منه ; فلا شك ذلك يكون سبباً في عنت كبير، و مشقة بالغة، لا يطيقها عادة، و يظل المرء آسفاً على مات بدر منه، فإن

التزم ما ألزمنفسه إياه في صدق و إخلاص عملا بدينه، و خوفا من ربه، فإن ذلك هو المشقة اللازمة التي لا تطاق، و إن تساهل بدافع من نفسه، متحللا من يمينه دون أن يكون التحلل مشروعا; فإنهحينئذ يكون رافضاً لدينه، خارجا عليه، معذب النفس و الضمير بذلك دائماً و إن اجترأ عليه، و توقح فيه، فلم يكن بد إذن من أن يوجد مخلص تشريعي لهذا المتورط، و من أن يفتح لهباب الرجوع عما تورط فيه، تمشيا مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، و الرحمة التي جعلت من أسس التشريع و كلاهما يقتضى التخفيف و التخليص من المآزق و المضايق .

لهذاكان من محاسن الإسلام شرع الكفارات في الاخطاء و الايمان و الالتزامات التي تنافى الطبيعة، و تجافى ما فطر عليه الناس، فللايمان كفارة، و لقتل النفس خطأ كفارة، و للظهاركفارة... إلي غير ذلك، و في ذلك يقول القرآن الكريم «قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم و الله مولاكم و هوالعليم الحكيم».

 

الإسلام يؤثر فعل الخيرو البر على التمسك باليمين المنافية لهما:

ويتصل بهذا المعني أن الإسلام لا يكتفي بأن يبيح للمرء أن يتحلل من التزامه بما لا خير فيه حين يرى ذلك، بل يوجب عليه هذا ويأمره به على أن يكفر يمينه، و في ذلك يقول النبى (صلى الله عليه و سلم) فى ما صح عنه «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فائت الذي هو خير و كفر عن يمينك» و في لفظ«فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير» و قد جاء هذا الحديث بروايات كثيرة غير هاتين، و في بعضها تقديم التكفير، و في البعض الاخر تقديم فعل ما هو الخير على التكفير، و قد استدلبذلك على جواز الامرين.

فالاسلام لا يحب أن يعوق الخير أبداً، و لا يرضي بأن يكبل ا لناس بأى قيد يحول بينهم و بين الصلاح و الإصلاح، و يتجاوز في هذا عن عقدة اليمين و عنكونه عهداً بين صاحبه و بين الله جل جلاله، و هذه نظرة سامية للخير و فالمصلحة، و تشريع سديد من شأنه أن يفتح المجال أمام العاملين المصلحين.

التفرقة بين اللغو و ماعقدت عليه العزائم:

ثم إن الإسلام لم يعتد في الايمان باللغو، و إنما اعتد بما عقدت عليه العزائم، و قد اختلفوا في اللغو تبعاً لما جاء تفسيراً له في الروايات، فمنهممن قال: هو تحريم ما أحله الله لك كما جاء في الاية السابقة، فعليك أن ترجع عنه و لا كفارة عليك، و منهم من قال: اللغو مثل أن يتبايع الرجلان فيقول أحدهما: والله لا اشتريمنك الا بكذا ويقول الثاني و الله لا أبيعك إلا بكذا، ثم يقبل كل منهما بغير ما حلف عليه، و قيل: هو الحلف في الغضب، و قيل: هو في النسيان، و قيل: هو الايمان التي يجرى بهااللسان في الكلام دون قصد، كأن تقول لصاحبك: لا والله. بلى والله، أو لضيفك: و الله لتأكلن هذه، أو لتقدمن على... الخ.

أما الايمان المعقودة فهي التي تقال مقصودة مصمماعليها في روية و فكر، فهذه هى التي تجب فيها الكفارة.

 

و لا شك أن هذه التفرقة فيها رحمة عظيمة، و فيها «واقعية» كما يقولون، أو نزول على مقتضيالفطرة كما بينا.

الكفارات من أعظم أبواب البر:

ولقد جعل الإسلام الكفارة في اليمين و في غيرها بابا من أبواب البر و الخير والاحسان إلى المجتمع، فهى دائرة بينإطعام الفقير و كسوته، و بين اعتاق الرقبة، و بين الصوم، فالاول ترفيه عن الفقراء و المساكين، و الثاني مَنَّ بالحرية على نفس كانت مستعبدة، و الثالث تهذيب و تطهير منشأنه أن يصلح النفوس و يقربها من الفضيلة.

ولا شك أن أبواب الكفارات و أسبابها التي نجب فيها كثيرة منكررة، فكم من الناس يحلفون كل يوم، و كم من الناس يخطئون كل يوم؟فلو أن الناس عنوا حقا بدينهم، و نفذوا أحكامه في الايمان و الكفارات ; لوجد المجتمع ألوانا من البر والخير تنهال من كل صوب.

وجوب حفظ الايمان و ما يوحي به الأمر بذلك:

و قدنهانا الله جلت حكمته ـ مع تحقيقه لهذه المصالح بتشريع الكفارة و تيسير الخروج من مضايق الايمان ـ عن اتخاذ الايمان ديدنا لنا، و أن نفتحم حماها مجترئين عليهافقال جل شأنه في هذه السورة «و احفظوا أيمانكم». و قال فس

سورة البقرة «و لا تجعلوا الله عرضَة لايمانكم».

و حفظ الايمان يقتضي منا ألا نبذلها إلا حيث تكون الحالتقتضيها اقتضاء شديدا كأن توجه إلينا اليمين في حق، أو في دفع باطل أو نحو ذلك، فإن الايمان الشرعية في الإسلام إنما تكون بالله عزوجل، فإذا قال القائل: أقسم بالله فهىكلمة خطيرة لا يجوز له الاقدام عليها إلا إذا كان واثقاً مما سيأتي بعدها، جازما بأنه يقرر الحقيقة في إجمالها أو تفصيلها، و أنه لا يخفى غير ما يظهر، و لا يتلاعببألفاظه، و لا يتخذ منها دريئة له، و إذا تصور المؤمن عظمة الله و جلاله و إحاطته بكل شيء من أحواله ومقاصده و أقواله، فإنه لا يتجرأ على اقتحام هذا الحمى إلا

 

إذا كان على ثقة من نفسه، و على بينة من أمره، و لذلك روى عن بعض الصالحين أنه كان يقف أمام أحد القضاة طالباً حقه من مغتصب لا بينة له عليه، فوجه إليهالقاضي اليمين، فلما سمع هذا التوجيه أصفر وجهه و اضطراب اضطرابا شديداً مع علمه الصدق في نفسه، و أنه على الحق، ثم لم يلبث أن فاضت عيناه بالدمع، فقيل له: ألست محقاً، فمايبكيك، و لم تضطرب هذا الاضطراب؟ فقال: ما بكيت اضطرابا من باطلي، ولكني استحييت أن أجعل الله عرضة ليمييني لعرض من أعراض الدنيا و قد سمعت قوله عزو جل «و لا تجعلوا اللهعرضة لايمانكم» و أشهدكم أني وهبت خصمي حقي إيثاراً لربي!

نعم إن هذه القصة المؤثرة ليست هي المقياس التشريعي في قبول توجيه الايمان أو عدم قبوله، و من حق من يشعربأنه على الحق أن يستوفي باليمين حقه حين توجه إليه، و لا يكون بذلك مضيعاً يمينه، أو جاعلا الله عرضة فيها، و لكنى إنما سقتها لابين مدى الرهبة التي يشعر بها المؤمنالقوى حين توجه إليه يمين باسم الله، فأين هذا ممن يجترىء كاذباً على اليمين، فيقتحم هذا الحمى و هو يعلم أنه حمى الله القوى العزيز؟ و لو لا أن الشعر خيال، و أن الشعراء«يقولون مالا يفعلون» كما قال الله عزوجل، لحسبت أن الله سوف لا يغفر لابن الرومي قوله:




  • وإني لذو حلف كاذب
    و ما في اليمين علىمحرج
    بدافع بالله ما لا يطيق!



  • إذا ما اضطررت و في الحال ضيق
    بدافع بالله ما لا يطيق!
    بدافع بالله ما لا يطيق!



ولكني أحسبها دعابة من دعاباته، غفرالله له.

ثم أقول: كما أن الله تعالي يأمرنا بحفظ اليمين في ألانقدم عليها إلا واثقينمطمئنين، كذلك يقتضى هذا الامر بلفظه أن نحفظها إذا حلفنا، فلا نضيعها، و لا نحنث فيها إلا لغاية يعلم الله من قلوبنا أنها غاية صحيحة مبررة للتحلل من هذا العقد، و ذلك هوالمُعَبّر عنه في الحديث الشريف بقوله (صلى الله عليه و سلم): «فرأي غيرها خيراً منها» فالمؤمن بزن الأمر بميزان الحق لا بميزان الهوى و الرغبة فلا يقدم على الحنث إلاإذا ظن أن الخير فيما سيفعل، و الحقيقة أنه في هذه الحالة

 

لا يسمي حانثا إلا باعتبار الصورة و الظاهر و ما يجب عليه من الكفارة، و إلا فهو فيالحقيقة التي تبدو من تأمل الحكم مطالب بأن يؤثر الخير، و ألا يصرفه عنه يمين حلفها كما قررنا من قبل. و فعل المرء ما هو واجب عليه تحنث لا حنث، و الكفارة كأنها تطهير له،لأنه أقدم على الحلف قبل أن يتدبر موقفه و يعلم ما هو الخير، فلعله كان لو تدبر لم يحلف و لم يعرض يمينه لان تضيع.

هذا ما يوحي به قوله تعالي: «واحفظوا أيمانكم إذاحلفتم» و اندراج المعني ا لثاني في لفظ الاية واضح حيث طلبت منا أن نحفظ أيماننا إذا حلفنا، أي إذا وقعت منا اليمين فعلا فعلينا أن نحفظها من الحنث، و حفظها كما قررنا بألانلغيها إلا و نحن على بصيرة من أن الخير في إلغائها ثم نكفر عنها، أما اندراج المعنى الاول في هذا اللفظ، فتوجيهه أن نفهم «إذا حلفتم» على معني يعم: إذا أردتم الحلف، علىحد: «يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلي الصلاة فاغسلوا» يعني إذا أردتم القيام الي الصلاة. و على هذا يكون التعبير شاملا كأنه قيل: احفظوا أيمانكم ابتداء و انتهاء، حينتقدمون عليها، فلا تقدموا إلا حافظين لها، و حين نحلفونها فعلا; فلا تضيعوها.

*  *  *

هذا هو النداء العاشر من النداءات الالهية للمؤمنين في سورة المائدة، فلننظركيف حفظ الله جل جلاله بهذا التشريع الحكيم جمع تلك المصالح الحيوية، موفقا بينها أتم توفيق، و لنعلم أن هذا ما بدالنا الآن، و هو قليل من كثير، و لكن الجهد محدود، و سبحانمن قال عن كتابه الكريم، و في كتابه الكريم: «إن هذا القرآن يهدى للتى هي أقوم». «كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير»؟

/ 1