تفسیر القرآن الکریم؛ سورة المائدة (7) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم؛ سورة المائدة (7) - نسخه متنی

محمود الشلتوت

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تفسير القران الكريم

سورة المائدة

عود على بدء في نداءات السورة: الوفاء بالعقود أصل من أصولالاجتماع المقومات المادية والمعنوية للأمة ـ الصلاة والتطهر شعيرتان من شعائر الإسلام ميثاق الإيمان يقتضي للمؤمنين أن يكونوا «قوامين لله»: على «القوامية لله» تبنيعظمة الأمة ـ القسط صمام الإمن في كل مجتمع ـ العدل ميزان لا يتأثر بالحب ولا بالشآن ـ البغض في الله لا يبرر الانحراف عن العدل ـ سوابق الفضل والإحسان، مدد للايمان ـ لاسبيل للفلاح إلا ابتغاء الوسيلة إلى الله آيات النهي عن موالاة للمؤمنين للكافرين في هذه السورة ـ لا موالاة للأعداء، ولكن بر وقسط ولو سلف منهم الا أيناء ـ العداواتليست دائمة .

استطراد للعبرة: المسلمون أولي بالبر والقسط فيما بينهم ـ جناية التعصب على الأخوة الإسلامية .

لا ولاية بين الحق والباطل ـ لا رابطة بين منافق ومنافقـ دلالة التعبير بلفظ: «الاتخاذ» .

بواعث اتخاذ الكافرين أولياء: ملاحظة المصالح الخاصة ـ قصة حاطب بن أبي بلتعة ـ لماذا لم يحكم عليه الرسول بالكفر ـ عبرة المؤمنين منهذه القصة ـ مصانعة الأعداء لاحتمال تغلبهم ـ ابتغاء العزة والسلطان عندهم ـ اتقاء شرهم .

عود على بدء في نداءات السورة :

تقدم الكلام عن ست آيات من الآيات التيجاءت في سورة المائدة مبدوءة بنداه المؤمنين، ونتكلم اليوم عن ثلاث أخرى من هذه الآيات موضوعها :

تحريم اتخاذ المؤمنين أولياء من أعدائهم، ينصرونهم أويستنصرون بهم على قومهم، وبيان أن تولى المؤمن للكافر مناف لعقد الإيمان، مخرج من ربقته .

وقبل أن نتكلم عن هذه الآيات نذكر أن جميع ما جاء في هذه السورة من الآياتالمبدوءة بنداء المؤمنين، قد تضمن موضوعات هامة لها قيمتها في تكوين الأمة تكوينا قويا صالحاً في دينها وشعائرها وأسس حكمها ومعاملتها لمخالفيها، ولكي نبين ذلك، ونربطبه حديث اليوم، نعود إلى النداءات السابقة لنعرضها عرضاً يسيراً، ونستذكر موضوعاتها التي تحدثت عنا :

فالنداء الاول: وهو قوله تعالى: يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود،هو أعمها وأشملها، وهو بمثابة العنوان لكل ما جاء بعده من النداءات التي هي في الواقع تفصيل لإجماله، وتفريع على قاعدته وأصله .

الوفاء بالعقود أصل من أصول الاجتماع:

والوفاء بالعقود أصل من أصول الاجتماع، وركن من أركان الحضارة الراقية المهذبة التي تنشد الاستقرار والطمأنية، فلا غرو أن يكون له هذه الأهمية في التشريعالإسلامي، وأن تبدأ به السورة التي كانت من أواخر ما نزل من القرآن، والتي أتمت على المسلمين قواعد المجتمع الصالح الرشيد، حتى جاء فيها قوله تعالى: «اليوم يئس الذينكفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون، اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» .

المقوّمات المادية والمعنوية للأمة:

وقد أتبع هذا الأمرالإجمال بيان ما أحل الله للمؤمنين من الطيبات، وما حرم عليهم من الخبائث، في الطعام والصيد والنساء وجاء النص فى هذا البيان على حل طعام أهل الكتاب ،وحل التزوج مننسائهم لما عسى أن يقوم بالأذهان من حرمة ذلك «اليوم أحل لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتواالكتاب من قبلكم إذا إتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان».

ولا شك ان طبيعة الاجتماع البشري تفرض تظيم هذه الناحية التي يتهيأ بها للناس أنيعرفوا الأساس فيما لهم أن يتناولوه أو يمتنعوا عنه مما يقيم بنيتهم، وبلى نداء طبيعتهم، ويحفظ حياتهم.

والنداء الثاني، وهو قوله تعالى «يأيها الذين آمنوا لا تحلواشعائر الله» الخ هو أمر للأمة بأن تحتفظ بمظهرها ومميزاتها وما جرى فيها مجري الخصائص، فلا تنتهك شيئاً من ذلك، ولا تتهاون فيه، فإن تهاون الأمة في شعائرها، وتفريطها فيالطابع الذي تمتاز به، من شأنه أن يدفعها إلى التحلل، ويقضي بها إلى الانهيار، ويظهرها أمام الأمم الأخرى بمظهر الهازل المستهتر الذي لا يتورع أن يهدم بيده أساس بيتهونظام عيشه، كما أن من شأنه ; أن يسقط هيبتها، ويهوّن من عظمتها، ويجرّي عليها غيرها، ولذلك نرى الأمم إن تهاونت في شيء مما يتصل بها فلن تهاون فيما يعد شعاراً لها،ومظهراً من مظاهر كرامتها وعزتها، وربما قامت الحرب الضرّوس من أجل راية أهينت ،أو شارة احتقرت، أو نحو ذلك مما له مساس بكرامة الأمة، واعتداء على هيبتها .

ومما ينبغيأن نلتفت إليه أن هذين النداءين قد جاءا في السورة متداخلين مندمجين اندماجا ربما أوحي بأنه لا انفصال بين ما هو من مقومات الأمة في حياتها المادية، وما هو من مقوماتها فيحياتها المضوية، فالشعار والمظهر، كالمأكل والمشرب وسائر ضروريات الطبيعة، كل ذلك لابد منه في حياة الاستقرار والطمأنينة .

ومما ينبغي أن نلتفت إليه أيضاً أن الله ـجلت حكته ـ فدأكه في تضاعيف هذين النداءين، وجوب احترام الشعائر، والوفاء لها، بالهي عن الانسياق وراه بواعث الرغبة البشرية في الانتقام متى تعارض ذلك مع الوفاء لشعيرةمن الشعائر، كشعيرة تأمين الشهر الحرام، والبيت الحرام، وذلك قوله تعالى: «ولا يجر منكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، وتعاونوا على البر والتقوى،ولاتعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب».

الصلاة والتطهر شعيرتان من شعائر الإسلام :

والنداء الثالث، وهو قوله تعالى: «يأيهاالذين آمنوا إذاقمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم» الخ، هو تنظيم للوسيلة إلى أهم عبادة كلمها الله المؤمنين، وهي الصلاة، والوسيلة إليها هي التطهر، والصلاةشعيرة من شعائر الإسلام، من أقامها فقد أقامه، ومن هدمها فقد هدمه، ووسيلتها التي فرضها الاسلام على هذا النحو في الغسل والوضوء والتيمم لا توجد عند غير المسلمين، فهيأيضاً من المظاهر المميزة للأمة الإسلامية، وهي من العقود التي يأمر الله عباده بالوفاء له بها، ويحذرهم من استقالها، ويذكرهم في شأنها بنعمته عليهم، وميثاقه الذيواثقهم به «ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون. وإذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا،واتقوا الله، إن ألله عليم بذات الصدور» .

والنداء الرابع هو قوله تعالى: «يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجر منكم شنآن قوم على الا تعدلوا،اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله أن الله خبير بما تعملون» .

ونحب أن نخص هذا النداء بكلمة فيها شيء من البسط لبيان أهميته في تقوية كيان الأمة، وضرورته في حفظسياجها .

ميثاق الايمان يقتضي المؤمنين أن يكونوا «قوامين لله»:

وأول ما ننبه إليه في ذلك أنه جاء كسائر الداءات الأخرى، تفصيلاً لعقد من العقود التي أمرالمؤمنين بالوفاء بها في أول هذه السورة، فميثاق الإيمان الذي واثق الله به المؤمنين، يقتضي أن يكونوا «قوامين لله» .

على (القوامية لله) تبني عظمة الأئمة :

والقوّام: هو المبالغ في القيام بالشيء، المضطلع به إضطلاعا قويا، فهو شديد الحرص عليه، شديد الوفاء له، شديد الغيرة على تمامه وصلاحه .

إن الناس قد يشتغلون بألوانمن الأعمال، ويهتمون بكثير من الشئون ،

ويقومون بهذا وذاك قياما معتاداً مألوفا لا يكلفهم انبعاثا خاصا، ولا يدفعهم إلى بذل جهود فوق العادة في سبيل تجويدأعمالهم واتقانها، ولكننا نصادف في الأمم، وفي البيئات العامة أو الخاصة، أفراداً يكون اهتمامهم بأعمالهم وما أسند اليهم، أو ما أخذوا أنفسهم بالقيام به، اهتماما علىنحو فريد له شأن يلفت النظر، ويثير الإعجاب، ويبشر بالخير والصلاح. إن أمثال هؤلاء يفنون في أعمالهم فناء كليأً، ولا يدخرون في سبيل إصلاحها وإتمامها سعياً ولا جهدا،ويغارون عليها غيرة شديدة تبعث فيهم نشاطاً عجيبا، وجلداً غريبا، وصبراً يصبح مضرب الأمثال، ترى الواحد منهم لا همّ له إلا أن يحقق النجاح لما اضطلع به من شأن، ولا شيء فينظره يمكن أن يلويه عن ذلك أو يصده، فلا هو بالحريص على غني أو مجد يناله ،ولا هو بالضعيف عن عقبات أو صعاب تعترضه، ولا هو بالاكص على عقبيه إذا طال عليه الأمد، أو تعقدتبين يديه العقد .

هذا هو «القوّام» بالشيء وهذا هوالذي يطلب الله إلى المؤمنين أن يكونوه له، فهو يريدهم أن يكونوا «قوامين لله» مضطلعين بأمره على نحو قوي ظاهر القوة،لا أن يكونوا صوراً ضعيفة هزيلة، يرضون بأيسر الامور، وأدنى الآمال، ولا يبذلون أكرم الجهود، ويتلمسون المعاذير عن ضعفهم وتخاذلهم ،وهذا لون من التربية للشعوب، والعملعلى ايجاد رأي عام قوي فيها، كما يقول علماء الاجتماع، يكون مهيباً محترماً، يوجه إلى الخير العام الذي يصوره هذا التعبير البليغ الجامع: «كونوا قوامين لله» فكل الناسمطالبون بأن يكونوا على هذه الصفة، ذوى شخصيات قوية، مضطلعة بما تضطلع به في ثبات وعزم وشجاعة، واضطلاعها بذلك لله، فهو قصدها، وهو باعثها، وهو ملهمها، وهو غايتها،عندئذ يكون الحاكم «قوّاماً لله»

والمحكوم، قواماً لله، والاصح، قواما لله، والمنتصح «قواما لله» ومثل ذك كل عامل فيما خوّله الله، وعندئذ تكون الأمة بناء قويا، منلبنات قوية، وتكون في حصانة من أن تهضم أو تهدم أو تهزم أو تظلم أو تهمل .

القسط صمام الأمن في كل مجتمع :

هكذا يأمرنا الله تعالى أول أمر في هذا النداء،ثم يأمرنا بعد ذلك بالأمر الثاني، وهو قوله عز وجل: «شهداء بالقسط»، والقسط هو العدل، وهو صمام الأمن في كل مجتمع، والشهادة به إظهاره للحاكم ليحكم به ،وإظهاره من الحاكمبالحكم،فالحكام مطالبون بأن يكونوا شهداء بالقسط، على معني أن يظهروه ويؤيدوه ويحكموا به، والناس مطالبون بأن يكونوا شهداء بالقسط على معني أن يدلوا به إلى من ولوهحكمهم، وأن يظهروه عليه ،ويؤيدوه فيه، ويرضوا به ولا يخرجوا عليه، واقسط في الحكم والشهادة هو أساس الاستقرار والطمأنينة في كل مجتمع، فما دام ميزانه صادقاً، والأيديالتي تمسك به أمينة حفيظة ; فالمجتمع بخير وسعادة، أما إذا اختل ميزانه، أو اعتل من وكل إليه أمره، فهنا الشقاء كل الشقاء، وهنا التزعزع أشد التزعزع، وهنا ضياع الثقة بينالناس بعضهم وبعض ،وبين الحاكمين والمحكومين، وهنا تربص كل فريق بصاحبه، وتحيّن الفرص للإيقاع به، وهنا ـ لذلك كله ـ ضعف الأمة، وطمع أعدائها فيها، ثم انقضاضهم عليها،ثم استعبادهم لها، وما كان الله ليظلهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلون».

العدل ميزان، لا يتأثر بالحب ولا بالشنآن :

ثم يقول الله تعالى: «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاتعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون» فينهي بذلك للمرة الثانية في هذه السورة عن ملاحظة عوامل الكراهية والشآن، التي من شأنها أن تلوّنالعدل بغير لونه، وأن تحمل على التحيف وإضاعة الحق، وذلك هو الإخلال بالعدل عن طريق الاجحاف بصاحب الحق ،والحيلولة بينه وبين الوصول إلى حقه .

وقد جاء المعني المقابللهذا في سورة النساء حيث يقول الله جل شأنه: «ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين» فهو نهي عن ملاحظة عوامل التعصب

(16)

للنفس، أو التحيز للقرابة، مما يبعثعلى تلوين العدل بغير لونه، وإعطاء المشهود له ما لا يستحقه، وذلك هو الإخلال بالعدل عن طريق محاباة النفس، أو من تميل إليه النفس .

البغض في الله لا يبرر الانحراف عنالعدل:

ومما ينبغي أن نلتفت إليه أن الآية التي نحن بصددها من سورة المائدة تختم بالأمر بالعدل، وبيان أنه هوالأقرب للتقوى، أي من ملاحظة دواعي الكراهية والشنآن،وكأنها بذلك تشير حتى الى الحالات التي يكون فيها الشآن لله، لا لغرض شخصي أو دقيوي، فالمكروهون حتى لمثل هذا الغرض الشريف، الذين تقر الشريعة بغضهم، بل تأمر به، يجب أنيتمتعوا مع هذه الكراهية بالعدل وإيفاء الحق، فلو أننا وازنا بين

المصلحة في ظلمهم، والحيف عليهم، انتقاماً منهم، وضغطاً عليهم بحجة أنهم أعداء الله، والخارجون علىأمره، والمفسدون في أرضه، لوجدنا المصلحة الأولي أحق بالاعتبار، وأشبه بالسمو الذي يريده الله لبني الإنسان وأقرب لتقوى الله، وأدنى إلى تحقيق مرضاته، أما المصلحةالاخرى فليست بجانب هذه إلا وهما يخيله الشيطان ليفسد به العدل على المؤمنين، ويدس به عليهم، كيداً لهم وخداعا، وإيقاعا بهم وبمجتمعهم، على أن أمر الكراهية والشآن غيرمنضبط، فكثيراً ما يظن الإنسان أنه يكره امراً لا يكرهه إلا في الله، والواقع أنه يكرهه كراهة شخصية لسبب من الأسباب بداله أو خفي عليه، وليس من الحكمة أن تعلق العدالةبهذه العاطفة المتأرجحة غير المنضبطة، وإنما الحكمة كل الحكمة تقضي بأن تكون العدالة حرة مطلقة الحرية، محايدة لا تعرف المحاباة ولا الكراهية، ولذلك يمثلونها في هذاالعصر شخصاً معصوب العينين، حتى لا يرى ما يتأثر به، وفي يده ميزان مستقيم، وتا لله إن هذه لهي عدالة الإسلام التي يأمر بها القرآن، ولا يرضي إلا بهارب القرآن، والتي لاتعرف عدواً ولا صديقا، ولا قريباً ولا بعيداً، والتي تضع أمام الناس هذه الحقيقة الصادقة، إذ تثبت ميزان العدالة في أيدي الممسكين به، وتخوفهم من أن يلتووا فيه، أويعتدوا على

قدسيته، مع علم الله بهم، وخيرته التامة بأعمالهم، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون .

سواقي الفضل والإحسان، خير مدد للإيمان :

والنداء الخامس هو قوله تعالى:«يأيها الذين آمنوا نعمة الله عليكم إذهم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم، واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنين، وقد تقدمبيان المقصود منه، في العدد الماضي، حيث أبحي الله رسول والمؤمنين من كيد عدوهم ومؤامراتهم عليهم، وسواق الفضل والإحسان خير مدد للإيمان وحسن التوكل، وفي هذا التذكيرتقوية لقلوبهم، وبشارة بنصرهم وتأييدهم، ما داموا على ربهم دون سواه معتمدين، وصرف لهم عما عسى أن يراودهم من التعويل على غيره، والتماس الأمن والطمأنينة من سواه، وهوبهذا تمهيد لآيات النهي عن اتخاذ أعداء الله أولياء، كأنه يقول لهم: أن شأني معكم أن أحفظكم وأدراً الشر عنكم، ولا أمكن عدوكم مكنم، لأنكم أوليائي، وأنا وليكم:، فلاتركنوا إلى غيري، ولا تتولوا سواى، ولا تطلبوا الامن والسلامة إلا من طربقي .

لا سبيل للفلاح إلا ابتغاء الوسيلة إلى الله :

وكذلك النداء السادس: «يأيها الذينآمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا فيه سبيله لعلكم تفلحون، فهو إيذان بأن ابتغاء الوسيلة إلى غيره، ومن بينها اتخاذ أعداء الله أولياء، لا يحدي صاحبهنفعاً، ولا يكسبه نصراً ولا أمنا» وإنما يكسبه ذلك أن يكون الله وليه، وأن يجاهد في سبيله، فذلك هو الذي يرجي فلاحه، وينتظر نجاحه .

ولا شك أن هذا مبدأ من أقوىالمباديء التي تصلح عليها الاّمم، وتستقيم بها العقول، وتشحذ العزائم

والهمم، إذ يؤمن كل امريء بأن الفلاح لا سبيل إليه إلا ابتغاء الوسيلة الله، والجهاد في سبيلالله، فإذا ابتغي الناس الوسيلة إلى الله أرضوه بطاعته فيى أمره ونهيه، وإذا جاهدوا في سبيله قمعوا الباطل، ونصروا الحق، وأقروا في مجتمعهم الخير، ونفوا عنه الفسادوالشر .

آيات النهي عن مولاة المؤمنين للكافرين في هذه السورة :

بعد هذا تجيء الايات التي تنهى المؤمنين عن اتخاذ أعداء الله أولياء، وهي نداءات ثلاثه :

أولهما: في تقرير هذا النهي، وبيان أن واقع الطبيعة والفطرة تقتضيه، وأن مجاوزة هذا الواقع ظلم لا يرضاه الله، ولا يهدي أصحابه، ثم في تصوير اندفاع مرضي القلوب إلىارتكاب هذا الظلم، وما يتعللون به من المعاذير لتبرير فعلهم وما يرجى من تطور الامور تطوراً يفضي بهم إلى الندم والحسرة، ويقضي بالمؤمنين إلى الشماتة بهم، والسخريةمنهم، وذلك هو قوله تعالى:

(يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين، فترىالذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم، يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما اسروا في أنفسهم نادمين، ويقول الذين آمنواأهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم؟ حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين) .

النداء الثاني من هذه النداءات الثلاثة ـ هو الثامن من نداءات السورة ـ في أن اللهتعالى مستغن عمن يرتد عن دينه، وان يضره ذلك شيئاً، وسوف يأتي بدل من يرتد بقوم تتحقق فيهم صفات الإيمان الصحيح، والجهاد الصادق، وقد ألحق بهذا النداء آيتان أخريانتقرران أن المؤمنين ليس لهم من ولي إلا الله ورسوله وإخوانهم في الإيمان والتزام أحكامه، وأن عاقبة الذين يتولون الله ورسوله والذين آمنوا هي الفلاح والغلب، لأنهم حزبالله، وذلك هو قوله تعالى :

(يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولايخافون لومة لائم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم. إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون. ومن يتول الله ورسولهوالذين آنوا فإن حزب الله هم الغالبون) .

النداء الثالث: وهو السابع من نداءات السورة ـ يكرر النهي عن اتخاذ الأعداء أولياء، ولكنه يذكر هؤلاء الأعداءبأوصافهم التي استحقوا بها هذا النهي عن ولائهم، ويجمع في ذلك بين الذين أوتوا الكتاب والكفار من كل من اتخذ الدين هزواً ولعباً، وذلك قوله تعالى :

(يأيها الذين آمنوالا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين، وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً،ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) .

هذه هي النداءات الثلاثة التي جاءت في سورة المائدة متضمنة النهي عن موالاة المؤمنين لغيرهم من أهل الكتاب ومن الكفار .

لا موالاةللأعداء، ولكن بر وقسط وإن سلف منهم الإيذاء :

وينبغي أن يذكر القارىء أن هناك فرقاً بين (الولاية) التي هي النصرة والمعاونة على تحقيق غرض مشترك، بحيث يؤمن كل من(الوليين) أن لصاحبه عليه حقاً هو مطالب بأدائه عن باعث قلبي، وبين البر والقسط اللذين يجب أن يسودا المجتمع وتقوم عليهما العلاقة بين المواطنين، وإن لم تجمعهما فكرة، أوتؤاخ بينهما عقيدة، ولذلك وقف القرآن من كل واحدة من هاتين العلاقتين موقفاً يناسبها، فهو ينهي المؤمنين أشد النهي عن اتخاذ المخالفين لهم من أهل الكتاب والمشركين(أولياء) يرتبطون بهم ارتباط المتناصرين بعضهم ببعض، وذلك بأن يستعينوا بهم على المؤمنين، ويعينوهم عليهم، بينما يبيح للمؤمنين أن يعاملوا مخالفيهم في الدين معاملةأساسها البر والرحمة والقسط، ما دام لم يصدر منهم إيذاء لهم، ولا تحريض عليهم، ولا محاولة لفتنتهم عن دينهم (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم مندياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) بل هو يذهب إلى أبعد من هذا في التسامح، فيبيح المسلم أن يتخذ البر والقسط أساساً للتعامل بينه وبين مخافه الذيآذاه، بشرط ألا يصل الأمر بينهما إلى حد (الولاية)

والنصرة،ويدل عى ذلك قوله تعالى بعد الآية المتقدمة «إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدينوأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوّهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون، فقد صرحت هذه الآية بأن المنهي عنه ـ في شأن هؤلاء ـ هو اتخذهم أولياء، لا مجردالبربهم، والقسط إليهم .

العداوات ليست دائمة :

وقبل هاتين الآيتين يقول جل شأنه: «عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم»وفي هذا ايحاء بأن العداوات ليست دائمة، وأن القلوب تتغير وتتحول، وأن الرفق والإحسان قد يكونان سبيلا إلى إصلاح النفوس، وتقرب القلوب، وقد حدث فعلا في تاريخ المسلمين أنكثيراً ممن كانوا أعداء لهم، وحرباً عليهم قد أسلموا وحسن أسلامهم، وأبلو، في الدفاع عن الدين بلاء حسنا، فالله تعالى لا يرضى بأن يتخذ المؤمن مخالفه في الدين ولياًومناصراً، ولكنه مع ذلك يعطي هذا المخالف حقه في علاقات المعاشر ة والمواطنة التي تقوم على البر والرحمة والقسط، وكلا الأمرين هو غاية الحكمة والدستور الطبيعيللإنسانية في كمال وعيها، وكمال رقيها وسموها .

استطراد للعبرة: المسلمون أولي بالبر والقسط فيما بينهم:

ويحسن بنا أن نقف هنا وقفة يسيرة مستطردين إلى معنيى يهمنافي هذا المقام فنقول: إذا كانت سماحة الإسلام قد وصلت إلى حد أن أباحت للمسلمين البر باعدائهم ومخالفيهم في الدين، وأن يقسطوا إليهم،

ويعدلوا في شئونهم، وإذا كانالقرآن الكريم قد نهي المؤمنين عن ملاحظة عوامل الشآن في معاملهم لأعدائهم وقال لهم: «ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، وتعاوبوا على البروالتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان» ثم قال لهم: «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى»; أفلا يذكر المسلمون أن علاقتهم فيما بينهم أولى بهذهالسماحة، وأجدر بأن تبني على أساس البر والرحمة والقسط، فلا تحملهم النزعات الطائفية أو المذهبية أو المذهبية على تناسي ما بينهم من أخوة الإسلام، والتراحم الذي لم يحرمالقرآن منه حتى أعداء الإسلام ؟

جنابة التعصب على الاخوة الإسلامية :

إن عهود الخلاف البغيض، والعصبية الطائشة، قد أفضت بالمسلمين بعضهم مع بعض إلىموقف كانوا فيه أسواً حالا من موقف أعدائهم، فهؤلاء عاملون بالبر والقسط، وأولئك يعاملون بالعنف والتسفيه، بل يتهم بعضهم بعضا بالكفر والمروق، وقد نبت هذا المعني أول مانبت في بيئة الخوارج، فهم الذين كانوا ينظرون هذه النظرة القاسية الى مخالفيهم في الرأى من المسلمين، فإذا وقع في أيديهم كتابّي تركوه وشأنه ولم يعرضوا له بسوء وأبلغوهمأمنه، أما إذا وقع. لهم مسلم من مخالفيهم فإنهم يستحلون دمه، لانه في زعهم كفر بعد إيمانه، ولذلك كان بعض المسلمين إذا ألفت به المقادير بينهم لم يجد وسيلة إلى التخلص منشرهم، والإفلات من أيديهم، إلا أن يكني عن دينه، فيقول: أنا من أهل الكتاب، وعندئذ يطلقونه ويحمونه .

فهذا الذي يرويه التاريخ عن الخوارج وتعصبهم على أهل القبيلةالإسلامية، واعتبارهم الاختلاف في الرأي مروقا من الدين، قد سرى إلى المسلمين في كثير من عصور التاريخ الإسلامي، وشمل كثيراً من الأقطار الإسلامية، وكان المسلم بخاصمأخاء المسلم وبقاطعه، بل بظلمه ويهضمه ويسلمه مجرد أنه يخالفه في مذهبه أو ينتسب إلى طائفة غير طائفته، وهكذا بعد أن كان المسلمون في مونف يتلقون فيه أمر ربهم بالاحسانإلى أعدائهم، والبر بخصومهم، والعدل معهم، أصبحوا في موقف يذكرون فيه بأخوة الإسلام، وتراحم الإيمان، وأصبح بعضهم يلتمس العدل وانصفة في معرفة رأية، والوقوف به عند حدهدون تأويله تأويلاً سيئا، وتحميله ما لا يحتمل من وجوه الكفر والمروق ونحوها ـ أقول: أصبح بعضهم يلتمس ذلك من بعض فلا يجده ولا يصل إليه، كأنه مع أخيه أدنى حالا من الكتابيأو المشرك مع المسلم.

يجب أن يزول هذا إلى غير رجعة، يحب أن يتسامي أهل الإسلام عن هذا الحضيض، حضيض الخلاف والقطيعة والإنصات إلى النزعات المفرقة المبددة للجهود،الصارفة عن النافع من الأعمال الصالحة، والعلوم الصحيحة.

ونعود بعد هذا إلى موضوعنا في دراسة النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء، فنقول :

لا ولاية بينالحق والباطل :

إذا توافق جماعة على أمر، فكان نظرهم إليه واحداً، وحظهم منه واحداً، فالفطرة تقضي بأن يكونوا فيه نصراء، بعضهم أولياء بعض، وذلك يتصور بين المؤمنينوالمؤمنين، ويتصور بين الكافرين والكافرين، ولكنه لا يتصور بين مؤمن وكافر، ولا يتصور بين منافق ومنافق، ولذلك أثبت الله الولاية للمؤمنين بعضهم مع بعض، فقال:«والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض» وأثبتها للكافرين بعضهم مع بعض فقال: «والذين كفروا بعضهم أولياء بعض» وهو نفس التعبير الذي جاء في آيتنا التي نحن بصددها:«يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض» أما ولاية المؤمن للكافر فقد نفي الله أن تكون وذلك حيث يقول: «ومن يتولهم منكم فإنه منهم» يعنيأن الإيمان وتولي الكافر متنافيان، فلا يمكن أن يجتمعا، ولا يعقل أن المؤمن من حيث هو مؤمن يوالي الكافر من حيث هو كافر، وكل آيات القرآن متضافرة على هذا، ففي سورةالتوبة: «يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون» والشاهد في قوله: «فأولئك هم الظالمون»والاية تدل على أن هذا النهي الحاسم لا يتأثر بأية رابطة حتى رابطة الأبوة والأخوة، وهي الرابطة النسبية: رابطة اللحم والدم، وفي سورة المائدة: ويقول الذين آمنوا أهؤلاءالذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم، حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين» والإشارة إلى الذين يتولون الكافرين .

لا رابطة بين منافق ومنافق :

ولم يثبت اللهسبحانه وتعالى «الولاية» بين المنافقين بعضهم مع بعض، لكن قال «والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض» والتعبير بلفظ (من) يفيد معنى التشابه، ولا يفيد معنى التناصروالولاية، إ لا رابطة قلبية بين منافق ومنافق ،

فكل منهما يريد أن يصل من طريق النفاق إلى ما يبتغيه دون أن تساوره فكرة الانتصار لشيء، لأنه غير مؤمن بشيء .

وبعبارة أخرى: كل من المؤمن والكافر ذو عقيدة، وقلبه ممتلىء بها على صحتها أو فسادها في الواقع، فمعنى موالاة أحدهما للآخر أن أحدهما أخلى قلبه من عقيدته وأحل محلهاعقيدة الآخر فعمل لها، وترسمها، وحرص على تقوية أمرها وتأييدها، فإن وقع ذلك من المؤمن فقد كفر، وإن وقع ذلك من الكافر فقد آمن، فالولاية بمعناها الواقعي الصحيح لا تقعإلا بين انين مشتركين في معنى واحد، إيمانا كان أو كفراً، أما المنافق فإن قلبه خلاء، لا عقيدة تعمره، وإن كان تكييف أمره، من حيث إنه ترك الإسلام: أنه كافر .

دلالةالتعبير بلفظ «الاتخاذ» :

يرد بعد هذا سؤال: لم نهى الله اذن عن اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء، ما دام الولاء والناصر لا يمكن أن

يكون بين مؤمن وكافر ؟

والجواب: أن التعبير في هذه الآية وغيرها بقوله «لا تتخذوا» فيه إشعار بأن العلاقة بين المسلمين والكفار لا يمكن أن ترقى إلى درجة الولاية الحقيقية الطبيعية، وإنما هيمن باب «الاتخاذ» والاصطناع، وذلك أن هناك فرقاً بين أن تقول: فلان صديق فلان، وأن تقول: أتخذه صديقاً، فالأول مفيد أن الصداقة بينهما حقيقة طبيعية، والثاني دال علىآنهاتعتمد التكلف والتصنع، وقد جاء لفظ «الاتخاذ» في القرآن الكريم غالباً فيما ليس الشأن فيه أن يكون، مثل «ما اتخذ الله من ولد» «إن الذين اتخذوا العجل سينا لهم غضب»«إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً» «اتخذوا أيمانهم جنة» «اتخذوا دينهم لهوا» «اتخذوا الشياطين أولياء»، ولا يخرج عن ذلك ما جاء في قوله تعالى «واتخذ الله إبراهيمخليلاً» فإن شأن الألوهية عدم الخلة على الحقيقة، وإنما هو اتخاذ، أي اصطفاء واختصاص بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله .

فالقرآن ينهى المؤمنين عن إيجاد هذه العلقةبينهم وبين الكافرين، بأن

يتخذوهم أولياء يلقون إليهم بالمودة، كما جاء في سورة الممتحنة «يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهمبالمودة»، أما الولاية الحقيقية فمنفية بالطبع، ليس مما ينهى عنه، لأن المؤمن الذي استقر الإيمان في قلبه حقاً وصدقاً، لا يمكن أن يجتمع في قلبه مع الإيمان ولاء لكافرعدو لدينه، كما قررنا .

بواعث اتخاذ الكافرين أولياء: ملاحظة المصالح الخاصة :

وقد بين لنا القرآن الكريم البواعث التي تبعث على اتخاذ الكافرين أولياء، وأنهاتراجع إلى ضعف في النفوس، ونقص في الإيمان:

1 ـ فمن ذلك أن يلاحظ المرء مصلحة لأهله ورحمة، فيجامل مخالفيه في العقيدة إلى حد أن يكون لهم ولياً ونصيراً على إخوانهوموافقيه، حفظاً لمصالح أهله ورحمة .

قصة حاطب بن أبي بلقعة :

وقد روى أن آيات «الممتحنة» نزلت في شأن حاطب بن أبي بلقعة، وهو رجل من المهاجرين شهد بدراً، وكان لهبمكة اولاد ومال، فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة، أراد حاطب أن يتخذ في قريش يداً يحمون بها قرابته وماله، فكتب إليهم كتاباً يخبرهم فيه بما أعتزمهرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسله مع ظعينة كانت بالمدينة وقصدت إلى مكة، فأطلع الله رسوله على ذلك، فأرسل علياً والزبير والمقداد، فأدركوها في الطريق، وأخذوا منهاالكتاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا حاطب، ما هذا؟) قال: (لا تعجل عليَّ إني كنت أمرأ ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسهم يعني أنه لا نسب له فهيم، لأنه إنما كانحليفاً لعثمان ـ وكان من كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهلهم بمكة، فأحبت إذ فاتي ذلك من النسب فيهم أن اتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً ولا

أرتداداً عن ديني ولا رضا بالكفر بعد (الإسلام) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنه صدقكم) فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم(إنه شهد بدرا وما يدربك لعل الله اطلع على أهل بدر ،فقال اعملوا ما شتم فقد غفرت لكم .

لماذا لم يحكم عليه الرسول بالكفر :

وهكذا اعتير رسول الله صلى اللهعليه وسلم هذا ضعفافيه، ولم يعتبره كفرا ولاارتداداً يقتضي ضرب عنقه، وذلك لأنه صدّقه حين قال ما قال ومن بيته: (وما فعلت ذلك كفراً ولا أرتداداً عن ديني ولا رضا بالكفربعد الاسلام) فهي زلة منه، تكييفها الصحيح: أنه اتخذ الكافرين أولياء فأقضي إليهم بسر المؤمنين التماساً لمصلحة خاصة له، وهو ذنب عظيم، ولكنه لم يصل إلى الكفر والارتداد،لأن الكفر إنما يكون (بالتولي) أي يوقوع الولاية الحقيقة لا بالاتخاذ الذي هو الاصطناع والتكلف، وهو محل النهي، ولما كان هذا الرجل قد شهد بدرا ـ وما أدراك بمن شهدوا بدراًـ فقد غفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم جنايته، لما غمرها من سابقة الإحسان، ولا سيما وقد بدت توبته وأسفه وبالغ اعتذاره وكشفه عن حقيقة نفسه، دون مواربة ولا استخفاء .

عبرة المؤمنين من هذه القصة :

وينبغي أن نتعلم من هذا الموقف الذي كاد يؤدي برجل من أصحاب بدر، لولا سابقته وما وقر في قلب النبي من صدقة وتوبته ـ ينبغي أن نتعلم منهذا أن المؤمن يجب أن يكون واثقاً بالله، متوكلاً عليه، وأن يؤدي ما فرضه الله عليه، وينتهي عما نهاه عنه، غير ناطر إلى عواقب ما يفعل أو يترك، فإنه إذا كان مبتغياً بفعلهوتركه وجه الله، كان الله حسبه، وإذا دار فيما يفعل أو يترك حول أوهامه في نفسه أو ولده أو رحمه اضطرب وأغضب ربه ولم ينفعه ما قدر، وفي هذا تقول سورة الممتحنة «لن تنفعكمأرحامكم ولا أولادكم، يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير» .

وفي هذا إيحاء بخطأ الذين يخرجون عن حدودهم وما أمرهم الله به، خوفاً على أهليهم وأولادهم،فتراهم يرتكبون الأوزار، ويغضّون عن مرتكبيها، مصانعة لعيشهم، واحتفاظاً بوظائفهم أو مراكزهم في المجتمع، وضنا بأولادهم أو أقربائهم أن يصيروا إلى فقر بعد الغنى، أو ذلبعد العز، أو تقشف بعد النعيم

(26)

وهؤلاء في الحقيقة موازنون بين رضا الله ورضا أنفسهم وأهليهم وشهواتهم، فيؤثرون ذلك على الله، وبئس ما يصنعون .

مصانعةالأعداء لاحتمال تغلبهم :

2 ـ ومن ذلك أن ينظر المرء إلى عدوه نظرة الخوف من تغلبه عليه، وهذا هو المذكور بقوله تعالى «فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم، يقولوننخشى أن تصيبنا دائرة». وهو شأن كثير ممن تبتلي بهم

دعوات الإصلاح والخير: في قلوبهم دائماً فزع، ينظرون إلى غدهم متوجسين منه شراً، ولا يستطيعون أن يواجهوا أهلالباطل أقوياء ثابتين، وإنما يقفون أمامهم متزلزلين خائفين، وإن ضرر هؤلاء على أصحاب الإصلاح لشديد، بل هم أشد من الأعداء السافرين، وقد دلت التجربة الصادقة على أنهلاصلاح لأمر إلاّ إذا كان الدعاة إليها والقائمون عليه مؤمنين به، حاسمين في موالاة أوليائه، ومجافاة أعدائه، أما التوسط في هذا فلا خير فيه، بل هو الشر كل الشر .

ابتغاء العزة والسلطان عندهم :

3 ـ ومن ذلك أن يبتغي المرء بموالاة عدوه شيئاً من العزة والسلطان والجاه، فتراه يتشبث بأهدابه، ويترخص في مجاملته وموالاته وهو يعلمأنه عدو الله، ولعله لا يبذل مثل هذه المجاملة والموالاة لأصحابه، ويعلل هذا وذاك بأنه كياسة ولباقة ومداراة وانقاء لقالة السوء، وما هو في الحقيقة إلاّ ضعف وكلال وسوءتصرف، وقد ذكر هذا في قوله تعالى: «الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أيبتغون عندهم العزة، فإن العزة لله جميعاً».

هذه، غالباً، هي الأسباب التي تبعثعلى مصانعة الكافرين واتخاذهم أولياء، كما يشير إليها القرآن الكريم .

اتقاء شرهم :

وهناك موضع يحتاج إلى بعض الإيضاح، وهو ما استثناه القرآن الكريم في قول اللهجل ذكره: «لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين

ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلاّ أن تتقوا منهم تقاة، يحذركم الله نفسه وإلى الله المصير».

ويرى المفسرون أن الاستثناء في هذه الآية معناه أن ترك موالاة الكافرين حتم على المؤمنين في كل حال إلاّ في حال الخوف من شيء يتقونه، ويمثل «البَغَوي» لذلك في تفسيرهبأن يكون الكفار غالبين ظاهرين، أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان دفعاً عن نفسه من غير أن يستحل دماً حراماً أو مالاً حراماً،أو يظهر الكفار على عورة المسلمين، وفي ذلك يقول صاحب الكشاف: «والمراد بتلك الموالاة محالفة ومعاشرة ظاهرة، والقلب مطئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع» .

أقول: أما المحالفة والمناصرة بين المؤمنين والكافرين، فإن كانت على مصلحة مشتركة وليس فيها ضرر بالمسلمين، ولا تأييد للكافرين في دينهم، ولكن على أن يكون لكل منالفريقين دينه، فلا مانع من ذلك، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محالفاً لخزاعة من المشركين، وقد صالح يهود المدينة، وكتب بينه وبينهم كتاب أمن، ووادعهم على ألايحاربوه ولا يظاهروا عليه ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على كفرهم، وفي أمن على دمائهم وأموالهم، ومما جاء في عهده إليهم «وإنه من تبعنا من اليهود فإن له من النصر والأسوةغير مظلومين ولا متناصر عليهم.. وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن

يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهموأنفسهم، إلاّ من ظلم أو أثم... الخ» ويجب على المسلمين في مثل هذه الحالة أن يفوا لهم ما وفوا لهم، وأن ينبذوا إليهم على سواء إن خافوا خيانتهم، كما هي قاعدة العهود فيالاسلام، ولايتوقف ذلك على حالة الخوف من المؤمنين، والغلبة من الكافرين، بل يجوز في كل الحالات، ولا يدخل في نطاق ما نهى المؤمنون عنه، فلم ينه الله تعالى إلاّ عنالموالاة في الدين، بأن يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ينصرونهم في دينهم أو ينتصرون بهم على قومهم، متجاوزين ولائهم للمؤمنين، وهو ما عبرت عنه

هذه الآيةإذ تقول: «من دون المؤمنين» أما ما راء ذلك من التعامل والتعاون في التجارة والصناعة والبحث والكشف والاقتصاد ونحو ذلك، حتى الشئون السياسية والعسكرية التي يكونللمؤمنين فيهامصلحة، وليس على أحد منهم فيها ضرر، ولو كانوا من غير دولتهم، فلا بأس به، ولا مانع منه، فإنه حينذ للمؤمنين لا عليهم .

وإن كان المراد بما قاله هؤلاءالمفسرون الذين نقلنا كلامهم أن المؤمنين في حالة ضعفهم وخوفهم يقفون من الكافرين موقف الولي والنصرى في الظاهر، فليس هذا داخلاً في عموم النهي الذي صدرت به الآية حتىيستثنى من هذا العموم، فإن المنهي عنه هو اتخاذهم أولياء ونصراء من دون المؤمنين، فكيف نفهم أن يستثنى من ذلك حالة الضعف والخوف، فيكون المراد أنه يجوز لكم حنيئذ أنتتخذوهم أولياء من دون المؤمنين .

والظاهر أن الاستثناء في هذه الآية منقطع والظاهر أن الاستثناء في هذه الآية منقطع، والتقدير: لكن إن تثقوا منهم ثقاة فذلك لكم، وليسفي هذا أن نواليهم ونناصرهم من دون المؤمنين، وإنما فيه أن ننزل في حالة الخوف على مقتضى القوة بقدر ما نتقي به الضرر، مع أخذ الحذر من الله، واتقاء أن يعلم فينا سوءاً أونية باطلة، وهذا هو حكم الفطرة، وما تمليه الحكمة، وما كان الله ليكلف المؤمنين في حال خوفهم بأن يستمسكوا بما لا يستطيعون الاستمساك به، وأن يضحوا بأنفسهم ومصالحهمتضحية لا ثمرة فيها، ولا رجاء منها .

هذا ما اتسع المجال لكتابته في هذا العدد عن هذه النداءات الثلاثة: السابعو الثامن والتاسع، من نداءات سورة المائدة،وإلى العدد الآتي لعلنا نستطيع أن نلمَّ فيه بما بقي من أطراف هذا الموضوع الهام، إن شاء الله تعالى .

وربنا المستعان وبه التوفيق .

/ 1