تفسیر القرآن الکریم؛ سورة التوبة (12) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم؛ سورة التوبة (12) - نسخه متنی

محمود الشلتوت

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تفسير القرآن الكريم

لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت

شيخ الجامع الأزهر

سورة التوبة

بيان الحكمة ممن الأمر بالنبذ والقتال ـ عناية القرآن بتوجيه التشريعات وتعليلها ـ تعليل الأمر بنبذ عهود المشركين ـ طريقان ـ في الهدف الثاني للسورة ـالاحتكاك بين المسلمين والروم ـ معركة مؤتة ـ غزوة تبوك وظروفها ـ إنكار وتقريع للتثاقل عن دعوة الجهاد ـ الأمة كلها جيش ـ توجيه الإنكار إلى الجماعة وفيها المخلصونالمسارعون ـ التذكير بنتائج التثاقل عن الجهاد.

بيان الحكمة من الأمر بالنبذ والقتال:

تضمنت الآيات الست التي افتتحت بها سورة التوبة أمرين أساسيين:

أولهما:البراءة من المشركين، ومعناها ـ كما قلنا ـ نبذ عهودهم القائمة، وعدم استئناف تعاهد جديد معهم.

ثانيهما: وهو مرتب على الأول ـ الأمر بقتالهم والتضييق عليهم حتى تطهرالبلاد من شركهم، إما بإسلامهم، وإما بقتلهم.

وقد يبدو لقصار النظر أن نبذ عهودهم، أو عدم التعاهد معهم مما لا يتفق ومبدأ الوفاء بالعهد، ومبدأ الجنوح إلى السلم، متىجنحوا إليها وظهرت رغبتهم فيها، وهما مبدآن قررهما القرآن، وجاءت أوامره فيهما صريحة واضحة، كما قد يبين

لهؤلاء أيضاً أن الأمر بقتالهم بعد أنغلبوا على أمرهم وفتح المسلمون مكة، وظهرت شوكة الإسلام في شبه الجزيرة ـ من باب التحدي لمن ظهر ضعفه، وبدا عجزه، وقلمت أظافره، وصار المسلمون في مأمن من ثورته وطغيانه،وقتال أمثال هؤلاء قتال لمن ألقى السلاح، وهو لا يتفق مع تحذيرات القرآن المتكررة من الاعتداء وعدم قتال من لم يقاتل.

هذه اعتبارات أو خواطر قد تحضر بعض الأذهان وتعلقفيها، وهي اعتبارات لو استقرت في النفوس تجعل من آثارها عدم اطمئنان القلوب نحو صحة هذا الوضع الجديد، وفي هذا غفلة عظيمة عن التقدير الحق في هذا الموقف، موقف المؤمنين معهؤلاء المشركين، وكثيراً ما يصحب تلك الغفلة التهاون في تنفذ هذه الأوامر، كما قد يصحبها سريان هذه الاعتبارات الفاسدة إلى الجمهور، وقد تشتد الغفلة عن التقدير الحق فيالموقف، فيزداد البعد عن إدراك الحق، وبذلك يقع المؤمنون في برائن المنافقين، وتحت تأثيرهم بهذه الخواطر الفاسدة، وفي هذا هدم لبناء شيد، وزلزلة لعرش استقر ـ لهذا كلهوتطمينا للمؤمنين على حكمة هذا الوضع الجديد، وبياناً لحقيقته وسداده، أردف الله سبحانه وتعالى الأمر بنبذ العهود، والأمر بالقتال، يما يجلي الحكمة في هذين الأمرين،ويغسل قلوب المؤمنين من هذه الوساوس وتلك الخواطر الفاسدة، التي قد تنفذ إليهم من جانب قصر النظر، وضعف الإدراك والتقدير الحق في مثل هذا المقام.

عناية القرآن بتوجيهالتشريعات وتعليلها:

وفي عناية الله بتوجيه هذا التشريع وبيان حكمته، إيحاء قوى بأن من تمام قيام الحجة على الناس فيما يفرض عليهم من تشريع، أن يقدم التشريع إليهممصحوباً ببيان حكمته والدواعي التي تقتضيه وتدعو إليه، أو الثمرات التي ترجى منه ويكون التشريع وسيلة إليها.

ومن هنا لا نكاد نجد تشريعاً في القرآن إلا وأردفه اللهبحكمته وأرشد إلى فائدته، التي تعود على الناس في حياتهم ونظامهم، وانظر قوله تعالى بعد تشريع

القصاص: '''''''' ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكمتتقون '''''''' وقوله بعد تشريع الصيام وإباحة الفطر للمريض والمسافر: '''''''' يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر '''''''' وقوله بعد الأمر بكتابة الدين واتخاذ وسائل الاستيثاق: '''''''' ذلكمأقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا '''''''' وقوله تعالى في وجوب الاستعداد الحربي: '''''''' وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرينمن دونهم، لا تعلمونهم الله يعلمهم '''''''' وقوله تعالى في تحريم الخمر والميسر: '''''''' يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكمتفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون '''''''' وقوله في النهي عن البخل والإسراف: '''''''' ولا تجعليدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً ''''''''.

وهكذا تجد القرآن في معظم تشريعاته ـ إن لم يكن في كلها ـ موجهاً ومعللاً ومرشداً إلى الحكمة التي كانلأجلها التشريع، والتي تدفع بالناس إلى المسارعة في التنفيذ والامتثال. وجريا على هذه السنة ـ سنة تعليل الأحكام وتوجيه التشريع بالأسباب والمعاني التي تستوجبه ـ أردفالله التشريع الذي تضمنته الآيات الست السابقة ببيان حكمته في الآيات، من الآية السابعة إلى الآية السادسة عشر، وبالنظر في مجموع هذه الآيات العشر تتضح الحكمة في تقريرنبذ عهود المشركين وعدم التعاهد معهم وتقرير الأمر بقتالهم حتى تطهر شبه الجزيرة من الشرك ويصير بيت الله الحرام في مأمن من ولاية المشركين عليه، أو دخولهم فيهبعباداتهم الضالة التي تفسد على المؤمنين إيمانهم، ولا يمكن أن يجتمع مع عبادة المؤمنين الصادقين لله في بيت الله.

وفي تعليل الأمر بنبذ العهود جاءت الآية السابعة: ''''''''كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله '''''''' إلى نهاية العاشرة: '''''''' لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون ''''''''.

وفي تعليل الأمر بالقتال جاءت الآيات إلى نهايةالسادسة عشرة.

تعليل الأمر بنبذ عهود المشركين:

فالآية الأولى من آيات توجيه الأمر بنبذ العهود تقرر:

أن هؤلاء المشركين بما عندهم من الشركليسوا أهلا لأن يكون لهم عهد يحافظ عليه عند الله وعند رسوله، وذلك أن الشرك بما يحمل من إباحية مطلقة لا يدع طريقاً يسلكه الخلق الفاضل إلى القلوب، أو يتسرب منه إليهاخوف الله وتقواه، فصاحبه يستبيح في سبيل شهوته وهواه الغدر والخيانة كلما سنحت له الفرصة، أو ظن بنفسه قوة، وقد نقض بالشرك واتخاذ الهوى إلهاً، عند الفطرة، عهد الخلقوالتكوين، وما نصب الله للإنسان في الأنفس والآفاق من أدلة التوحيد، ولا ريب أن هذا الوضع الذي خلق الله الإنسان عليه ومكنه به من النظر من أقوى العهود والمواثيق التيتنطق بها فطرته، ومع هذا، فقد أشرك وانسلخ من هذا العهد الفطري الذي يحسه بوجدانه، واتخذ الصنم إلهاً يعبده من دون الله متحللاً من طبيعة خلقه وتكوينه '''''''' وإذ أخذ ربك من بنيآدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة أنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية منبعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ''''''''؟

وإذا كان الشرك نقضاً لهذا العهد الفطري، ويحمل التحلل من مقتضيات الإيمان الحق، والخلق الفاضل، فمن طبيعته إلا يحترم عهداً، ولايخاف صاحبه عاقبة، وإنما عهده الشهوة والهوى، وكما خان المشركون عهد خالقهم بعبادة الهوى فإنهم ينقضون عهد من يعاهدون بالغدر والخيانة، ولا ريب أن مثل هؤلاء الذين لايؤمنون بحرمات، ولا يذعنون لمثل عليا لا يمكن في نظر العقل الصحيح أن يكون لهم عهد محترم يحافظ عليه، وجدير أن يكون التفكير في التعاهد معهم أو المحافظة على عهودهم محلإنكار شديد، ومدعاة للتعجب، وهذه المعاني هي التي تنبعث من وصف '''''''' المشركين '''''''' وهي التي يشير إليها الإنكار المذكور في قوله تعالى: '''''''' كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعندرسوله '''''''' والمعنى: بأي حال، وعلى

أي وضع يكون للمشركين عهد؟ ليس له حال يوجد عليها، وإذا لم يوجد له حال يوجد عليها فإنه لا سبيل إلى وجوده، فالاستفهامإنكاري للأحوال التي يكونون عليها، ومتى انتفت الأحوال التي يكون عليها الشيء ولا يوجد إلا بها انتفى وجود ذلك الشيء، فالآية تقرر نفي وجود العهد على الطريق البرهانيكما يقولون، وهو أبلغ أنواع الإنكار.

وترشد الآية الثانية من هذه الآيات: '''''''' كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة '''''''' إلى أن الشأن في تقرير نبذ عهودهم لم يكنقاصراً على النظر إلى عقيدتهم الشركية، وعدم إيمانهم بتشريع الهي، أو خلق فاضل، يحتم عليهم الوفاء بالعهد كما تضمنته الآية السابقة، وإنما يرتبط أيضا بما عرف عنهم، وصارسجية لهم، وشأناً من شئونهم، وهو أنهم عند قوتهم وغلبة سلطانهم لا يراعون شيئاً من حقوق الإنسانية الخاصة أو العامة، كالقرابة والعهد، وإن في مواقفهم معكم، حينما كانوايشعرون بالقوة، أكبر شاهد على أن قلوبهم لا تحمل أية قيمة لقرابتكم بهم، أو لعهدكم معهم، ويرشدنا ما بعدها إلى أن ما يسمع منهم من عبارات السلم والقرابة وعبارات العهدوالولاء، لا يخرج عن أنه نوع من خداعهم الذي مرنوا عليه في حال ضعفهم، والذي لا يتجاوز ألسنتهم إلى قلوبهم، فهم به '''''''' يرضونكم بأفواهكم وتأبى قلوبهم '''''''' أن يدخل فيها شئ منمعاني الوفاء، ذلك بسبب ما طبع عليه أكثرهم من الخروج عن حدود الفضيلة الإنسانية، '''''''' وأكثرهم فاسقون '''''''' ثم ترشد الآيات بعد هذا إلى أن خروجهم عن حدود الفضيلة الإنسانية ليسشأناً فطرياً في الإنسان، وإنما هو شأن يلحقه بسبب إيثاره زخرف الحياة الدنيا ومظاهرها الكاذبة عن تلبية الحق حينما يظن ان تلبية الحق ستمنعه التمتع بهذا الزخرف الزائل،فينبذ آيات الله، ويعرض عن النظر فيها، والإيمان بها، والنزول على مقتضاها، وبذلك يكون كمن باع سلعة ثمنية قيمة، تنفعه في جميع شأنه، بثمن بخس زهيد لا غناء له في الدنياولا في الآخرة، وذلك قوله تعالى:

'''''''' اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون ''''''''.

وإذا كان الذي دفعهم إلى هذه الحالةمعكم هو شركهم الذي أوقعهم فيه فسقهم وخروجهم عن حدود الفضيلة، ومحبتهم الزخارف الفانية على المعاني الباقية ـ فهي حالتهم مع غيركم من كل مؤمن بما لم يؤمنوا به، فهم قومدلت عقيدتهم، ودل تاريخهم معكم، ودلت وجههتم في الحياة على فساد طبيعتهم، وتنكرهم للحق وأهله، وعلى أنه لا يرجى منهم مع بقائهم على الشرك ومقتضياته ـ لا لكم ولا لغيركم ـوفاء ولا صدق '''''''' لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون ''''''''.

بينت هذه الآيات طبيعتهم بالنسبة للمخاطبين، وبالنسبة لغير المخاطبين، ورجعت بتلك الطبيعة الفاسدةإلى عقيدتهم الشركية الضالة، والى محبتهم للدنيا محبة آثروا بها الفاني على الباقي، وخرجوا بها عن حدود الفضيلة، ولا ريب أن مثل هؤلاء ينبغي الركون إليهم ومعاهدتهم، كمالا ينبغي الاطمئنان على عهودهم القائمة، وقد عرف أن من طبيعتهم الغدر والخيانة.

قد يصح لعاقل يريد خير نفسه وخير أمته، بل يريد للحق أن يستقر في قلوب الناس، وأن تسطعأنواره في أرض الله، أن يفكر بأي وجه من الوجوه في التعاهد مع أمثال هؤلاء، فنبذ عهودهم هو الحكمة التي ليس بعدها حكمة، وهو الواجب الذي ليس بعده واجب.

طريقان:

بعدأ ن بينت الآيات الحكمة في تقرير الأمر الأول، وهو نبذ عهودهم، رسمت لهم طريقين، وفرضت لهم فرصين: إما ان يشعروا بما هم عليه من فساد وانحراف وشذوذ، فيفكروا في التوبةوالإقلاع عما هم فيه من الشرك ومدنساته، ويمدوا أيديهم للحق، ويفتحوا قلوبهم للدعوة، فيؤمنوا بالله، ويندمجوا في جماعة المؤمنين، يصلون كما يصلون، ويزكون كما يزكون،وإما أن يظلوا سادرين في غلوائهم متنكرين للحق، مستمرين على الضلال والبهتان ومحاربة الفضيلة.

أمران، أو فرضان لا ثالث لهما، فإن جنحوا إلى الأولى وقاموا بشعائرالسلم الحق

كانوا منكم: لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم، وربطت بينهم وبينكم أخوة الدين التي تطهر القلوب من العداوة والبغضاء. وإن أبوا واستمروا علىالأخرى فلا سبيل لكم معهم سوى القتال حتى يخضعوا للحق، وينتهوا عن الشرك، أو تطهر منهم أرض الله، وفي هذين الغرضين اقرأ قوله تعالى من هذه الآيات:

'''''''' فإن تابوا وأقامواالصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون. وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ''''''''.

وبهذا انتهى توجيه الأمر الأول وهو تقرير نقض العهود، وتجئ الآيات الأخرى تبين الحكمة في الأمر الثاني وهو: '''''''' تقرير قتالهم إذا لم يتوبوا ويصيروا إخوانكم في الدين ''''''''.

في الهدف الثاني للسورة:

قال تعالى: '''''''' يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم الى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياةالدنيا في الآخرة إلا قليل. إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليما ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شئ قدير. إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثانياثنين إذ هما في الغار يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم.

انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ''''''''.

هذه هي الجملة الأولى من الآيات التي نزلت شرحا لنفسيات المسلمين حينمادعاهم النبي (صلى الله عليه وسلم) للخروج إلى تبوك بقصد غزو الروم، وتتصل الآيات بعد هذه الجملة في هذا الشأن ـ كما قلنا ـ إلى آخر السورة.

الاحتكاك بين المسلمينوالروم:

قبل التحدث عن هذه الآيات وما تضمنته من العظات والعبر، والأحكام

والآداب، يحسن بنا أن نستذكر ما أجملناه من قبل، فنرجع إلى صفحاتالتاريخ لنستمليها الخطوات والأسباب التي حملت بالنبي (صلى الله عليه وسلم) على دعوة المسلمين لغزو الروم.

معركة مؤتة:

في أواخر السنة السادسة بعد أن أمنتالطرق بصلح الحديبية، أخذ النبي (صلى الله عليه وسلم) يرسل كتبه إلى ملوك الأرض وأمرائها يدعوهم إلى الإسلام، وكان ممن أنفذ إليهم كتاب الدعوة أمير بصرى، أحد أمراءالروم، ولما بلغ رسوله مؤتة، وهي قرية من قرى الشام، تعرض له شرحبيل الغساني، وعرف مهمته، وعرف أنه من رسل محمد، فأمر به فضربت عنقه، وكان هو الرسول الوحيد الذي قتل منرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) وحاملي كتبه، وقد حزن النبي لمقتله حزنا شديداً، وكان العرب والناس جميعا متواضعين على أن قتل الرسول من أكبر أنواع الغدر التي تشنالحرب لأجلها، وهذا فوق ما توجبه الحكمة في تأمين طريق الدعوة، وقد قدر الروم أنفسهم أن محمداً وأصحابه لا يسكتون على قتل الرسول، فأخذوا حذرهم، وحشدوا من الروم ومتنصريالعرب قوة يستأصلون بها أمر محمد، وحينما علم الرسول بذلك جهز جيشا يضعف به من حدة الثائرين عليه، الهازئين بدعوته، وأنفذه إلى الروم، فوجد الحشد على قوة واستعداد،وكانت الموقعة المعروفة بموقعة مؤتة، وقد استشهد فيها ثلاثة من قواد المسلمين عقد النبي لهم لواء الجيش على الترتيب، وهم: زيد بن حارثة، فجعفر بن أبي طالب، فعبد الله بنرواحة، وقال: إن قتل عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون لإمارتهم رجلا من بينهم، وفعلا قتل عبد الله بن رواحة، وهم بعض المسلمين بالرجوع، ولكن بادرهم عقبة بن عامر بقوله:يا قوم: يقتل الإنسان مقبلا خير من أن يقتل مدبراً، فتراجعوا واتفقوا على تأمير القائد، سيف الله في أرضه خالد بن الوليد، وبمهارته الحربية أنقذ جيش المسلمين ـ وكان عددهثلاثة آلاف ـ من جيش الروم الذين كان عدده حوالي مائة وخمسين ألفاً.

غزوة تبوك وظروفها:

سلم الجيش ورجع إلى المدينة، وكانت هذه الموقعة أولىالمواقع بين المسلمين والروم، وبعدها فتح المسلمون مكة، ثم جاءت السنة التاسعة، وتوالت الأنباء للنبي (صلى الله عليه وسلم) بأن الروم جمعوا للمسلمين الجموع،واعتزموا غزوهم في بلادهم، فأمر النبي أن يتجهز المسلمون ويأخذوا عدّتهم ويخرجوا إلى تبوك لقتال الروم في بلادهم قبل أن يفاجئوه في بلده.

أعلن النبي النفير العام،وأعلن على خلاف العادة أن تبوك هي الوجهة التي يقصد، ويعلم المسلمون أن بينهم وبين تبوك أربع عشرة مرحلة '''''''' تقدر بنحو 692 كيلو '''''''' تقطع في صحراء جرداء، يقل ماؤها، ويجف ضرعها،ويشتد حرها، والعدو معروف بوفرة العَدد وكثرة العُدد، وهو بعد في بلاده، تسرع إليه المؤونة والذخيرة، والوقت وقت نضج الثمار وجنيها في المدينة، والمسلمون في أعقاب حربالطائف وحنين.

أما هذه الاعتبارات، وفي المسلمين مؤمنون صادقو الإيمان، يضحون براحتهم وأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وفيهم ضعفاء، تهزهم مشقة الطريقن وشدة الحر،وبعد الشقة، والحرص على الثمار، ورهبة العدو القوي. وفيهم منافقون، أعلنوا الإسلام رغباً أو رهباً، وسخروا في نفوسهم من محمد أن يدعو لقتال بني الأصفر، وأخذا يثبطون،ويعتذرون، ويثيرون الفتن والأراجيف، ويدبرون الكيد، ويضعون العراقيل.

أمام هذا كله سارع المؤمنون المخلصون إلى تلبية الدعوة بأموالهم وأنفسهم، يجهزون الجيشنويعدون العدّة، وقد خرج أبو بكر حينئذ من كل ما يملك، كما قام بنصيب الأسد في التجهيز عثمان بن عفان، بذل الالآف، وجهز المئات من البعير والخيل، وجهز هو وغيره الفقراءالأقوياء الذين جاءوا إلى النبي بأنفسهم ليحملهم فقال لهم: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا '''''''' وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون ''''''''.

أماالآخرون، فمنهم من استأذن الرسول في التخلف، ومنهم من انتحل الأعذار، ومنهم من اخذ يثبط همم الضعفاء من المسلمين، ويثر الفتن والأراجيف. على الرغم من كل ذلك فقد أكملالله لرسوله ما أراد، وتم إعداد الجيش، وخرج في رجب من تلك السنة ويدفع بعضه بعضاً، وتتدافع جنباته في جوف الصحراء، مثيراً أمامه، وعلى جانبيه من النقع، ما كاد يصل إلىالقوم نبؤه حتى وقع الرعب في قلوبهم، والذعر في نفوسهم، والنكوص في نيتهم، وآثروا الرجوع إلى بلادهم، والالتجاء إلى حصونها خوفاً من سطوة المؤمنين الصادقين.

وصلالجيش إلى تبوك ولم يجد للروم أثراً، وأقام بها أياما يتحدى بقوة الإيمان من تحدثه نفسه بالنزال أو المقاومة، وقد انتهز النبي الفرصة وأخذ يعمل على تأمين الحدود، فعاهدأمراءها، وأقام بهذه المعاهدات المعاقل بينه وبين الروم، ثم عاد الجيش إلى المدينة بعد أن حصن رقعة الإسلام من إغارة المغيرين، ذلك التحصين الذي لم يفقه سره المنافقون،أو فقهوه، وملأهم حقداً وضغينة، فأخذوا ينفثون سموم حقدهم وضغنهم في ضعاف المسلمين، وكان منهم ما كان من صور الكيد والإيذاء التي دبروها للنبي وأصحابه في الخروج وفيالذهاب، وفي المدينة، والتي لأجلها، ولتطهير المسلمين من آثارها نزلت تلكم الآيات، وكانت هذه آخر أهبة، وآخر خروج للغزو في حياة الرسول، وهي وإن لم يحصل فيها غزو ولاجهاد، فقد حصن المسلمون بها حدودهم، وكشف الله بها عيوب المنافقين، وأدب بها ضعاف المسلمين.

وقد ظل النبي (صلى الله عليه وسلم) مشغولاً بأمر الروم اعتقاداً منهأنهم لا يعدلون عن غزو المسلمين، فجهز في آخر حياته لغزوهم الجيش الذي أنفذه ممن بعده (صلى الله عليه وسلم)، خليفته الأول أبو بكر رضي الله عنه بقيادة أسامة بن زيد،وبه توالت الفتوحات الإسلامية في الروم والفرس، وامتدت كلمة الله على معظم أجزاء المعمورة في عهد خلفائه الراشدين.

إنكار وتقريع للتثاقل عن دعوةالجهاد:

'''''''' يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم... '''''''' الخ. ينكر الله على المؤمنين تثاقلهم، وإخلادهم إلى الأرض حين دعوتهم إلى الجهاد، ويسوقذلك في صورة الاستفهام عما أصابهم وهم مؤمنون، فألهاهم عن واجب الإيمان '''''''' ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ''''''''(1)، ثم يفترض ألا سبب يحملهم على ذلكالتثاقل سوى ما لا يختاره عاقل، وهو الرضا بحياة الذل والاستعباد، عن حياة العز والقوة '''''''' أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ''''''''فمتاع الدنيا متاع لا يسلم من تنغيص، وهو بعد زائل، أما متاع الآخرة فمتاع العز والشرف، وهو متاع دائم وكثير.

الأمة كلها جيش:

ويدل توجيه الخطاب إلى المؤمنين عامةعلى أن الجيش في الإسلام هو كل الأمة، ولا يعفى من الجندية سوى من ذكروا في قوله تعالى: '''''''' ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا للهورسوله '''''''' حصر سبب المعافاة في الضعف بعجز أو شيخوخة، وفي المرض، وفي عدم القدرة على الإنفاق، وهذا الأخير، كان بحكم النظام السائد إذ ذاك من أن المجاهد يجهز نفسه، وقد صارالآن إلى غير ذلك، والدولة هي التي تجهزه.

وفي القرآن آيات تشير إلى كثير من قواعد التنظيم العملي للحرب، وقد أوردناها في رسالتنا '''''''' القرآن والقتال '''''''' كما تحدثنا فيهاعن سبب القتال في الإسلام، وعن القوة المعنوية، والقوة المادية، وحث القرآن عليها توفيراً لأسباب النصر، وفي سورة النساء والتوبة والأحزاب عناية تامة بتطهير الجيش منعناصر الفتنة والخذلان. وإذا كان الجيش في الإسلام هو كل الأمة فتطهيره هو تطهير الأمة.

(1) ضمن الفعل معنى الميل والأخلاد. والأرض: إما متاع الدنيا أوأرضهم وبلادهم و (من) معناها: (بدل) ولم يذكر متاع الآخرة للدلالة على أن الآخرة لذاتها أبقى من الدنيا مع ما فيها من متاع.

وإنما بني الفعلللمجهول فجاء '''''''' إذا قيل لكم '''''''' وإن كان القائل معلوماً وهو الرسول، للدلالة على أن التثاقل عن دعوة الجهاد في سبيل الله من أي داع كان لا ينبغي أن يكون من المؤمنين، فيشملالرسول وغيره من كل من يدعو إلى الجهاد في سبيل الله.

سر توجيه الإنكار إلى الجماعة وفيها المخلصون المسارعون:

ولعل سائلاً يسأل هنا ويقول: كيف يوّجه هذا الإنكار،وذلك التوبيخ إلى جماعة المؤمنين، وفيهم من لبى الدعوة وبذلك المال دون أن يتثاقل، ودون أن يؤثر متاع الدنيا على متاع الآخرة، بل لباها، وأسرع إليها، ابتغاء مرضاة الله،وإعراضاً عن متاع الدنيا الفاني، وإيثاراً للمتاع الباقي.

وفي جوابه نقول: هو وإن كان إنكاراً وتوبيخاً لجماعة المسلمين إذ ذاك، غير أنه تعليم عام، وإرشاد شامللجماعة المسلمين في كل مكان، وفي كل عصر، وهو بذلك يقرر شأناً للمؤمنين لا ينبغي أن يزايلهم، وهو مسارعتهم لدعوة الجهاد وعدم الإخلاد إلى الأرض، وإذا كان المسلمون جميعافي ذلك الوقت لا يصدق عليهم موجب هذا الإنكار، فان أطوار المسلمين التي أعقبت هذا الجيل الأول منهم قد تحقق فيها موجب ذلك الإنكار بالنسبة لجميعهم، وما عهدنا الحاضر إلاأكبر مظهر من مظاهر التثاقل التي انضوى تحت ظلها جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فهو الآن خطاب لهم جميعاً، وخطاب واقعي بالنظر إلى ما صاروا إليه من التفرق،وشتات الأمر، وضعف السلطان، اثاقلوا، وأخلدوا إلى الأرض، ورضوا بالحياة الدنيا من الآخرة.

على أن خطاب المؤمنين في ذلك الوقت، وفيهم من لبي الدعوة، دليل واضح عنالتضامن الذي يجب أن يكون بين المؤمنين، وعلى أن تثاقل نفر منهم محسوب على الجميع، وأن جماعتهم مسئولة عن أفرادهم، وهذا هو الشأن العام في التكاليف الإلهية، ومن هنا كانالتواصي بالحق، والتآمر بالمعروف، والتناهي عن المنكر، من المبادئ التي يشاد عليها صرح الحياة الإسلامية.

ومن هنا كان من وصايا القرآن: '''''''' واتقوا فتنةلا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ''''''''.

ومقتضى هذا وجوب تعهد الجماعة لمن يبدو عليه من أفرادها شئ من أمارات الضعف والتخاذل بما يقويه ويرفع من معنويته، ويجعله عضواعاملاً قوياً مخلصا في حياة الجماعة.

التذكير بنتائج التثاقل عن الجهاد:

مضت سنة الله في هذه الحياة على أن البقاء، والعزة، والسلطان، وعلو الكلمة، إنما يكونللعاملين المجاهدين، أما المتباطئون، والمتثاقلون، الذين يؤثرون حياتهم، ويضنون بأنفسهم وأموالهم، ويخلدون إلى الأرض، ويعرضون عن دعوة الجهاد في سبيل حريتهم وبقائهم،فإنهم ولابد ذاهبون، وهم لا محالة مستذلون مستعبدون.

'''''''' إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً '''''''' يذلكم ويستعبدكم لغيركم: يسومكم سوء العذاب، يستلب أموالكم، وينتهك أعراضكم،ويذبح أبناءكم. وهذا التعذيب جزاء طبيعي للجبن وعدم القيام في وجه العدو وللتثاقل عن الجهاد، وليس هو الجزاء الأخروي الذي أعده الله لمن يخالف أمره حتى يقال: دلت الآيةعلى ان الأمر بالشئ ليس مقتضاه سوى طلب الفعل، أما العقاب عند الترك فلا يؤخذ من الأمر ولا يقتضيه، وإنما يدل عليه بالخبر عنه، كما يقول: إن لم تفعل عذبتك، وكما جاء في هذهالآية. نعم هو كذلك بالنسبة للأوامر فيما يختص بالأخروي.

أما آيتنا فهي تشير إلى الجزاء الطبيعي لعدم امتثال الأمر، وهو لازم للأمر أخبر به أم لم يخبر، ويدل على أنالمقصود ما ذكرنا قوله فيما بعد: '''''''' ويستبدل قوماً غيركم '''''''' فإنه صريح في ذهابهم والإتيان بغيرهم بدلا عنهم، وكل ذلك في الدنيا.

وليس معنى إذلال المتثاقلين من المؤمنينأن يضيع الحق الذي رسم الله أن يكون بين عباده، وبعث به رسوله، وأنزل كتبه، فالحق لله، وهو لابد لحقه ناصر، فإن لم ينصر بسواعد قوم رضوا بالحياة الدنيا، وذهب بهم الضعفوالخور،

فسيهيء الله لحقه من يدعو إليه، ويحافظ عليه، وهذا ما يقصد من قوله تعالى بعد: '''''''' ويستبدل قوما غيركم '''''''' يؤمنون بالدعوة، ويؤمنون بوعد اللهونصره للمؤمنين، ونظير هذا قوله تعالى في سورة المائدة: '''''''' يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين، أعزة علىالكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم '''''''' وقوله: '''''''' وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم '''''''' ووصف القوم بالغيرية للدلالة على المغايرة الذاتية،أي قوماً مطيعين، يؤثرون الدار الآخرة على متاع الدنيا، والأسلوب يدل على شدة السخط عليهم، كما يتضح من آية المائدة، وآية: '''''''' ثم لا يكونوا أمثالكم ''''''''.

'''''''' ولا تضروه شيئاً''''''''.

ورد مثل هذا في القرآن مخاطباً به النبي (صلى الله عليه وسلم):

'''''''' ولو لا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ''''''''، '''''''' فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً ''''''''.

وجاء منسوباً إلى الله: '''''''' ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً: والى المؤمنين: '''''''' وإن تصبرواوتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً ''''''''.

والى العدد القادم إن شاء الله تعالى.

/ 1