تفسیر القرآن الکریم؛ سورة الأعراف (2) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم؛ سورة الأعراف (2) - نسخه متنی

محمود الشلتوت

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تفسير القرآن الكريم

لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت

شيخ الجامع الأزهر

سورةالأعراف

تذكير بالسياق: التخويف بعرض مشاهد القيامة ـ التخويف بعرض مواقف المكذبين في التاريخ ـ الناس معادن.

المكذبون يرمون الرسول بالجنونـ الرمي بالجنون هو أول سلاح يجرده المكذبون في وجوه المصلحين ـ أوائل محمد تدل على أواخره ـ آيات الله في ملكوت السموات والأرض تدفع بالعقل إلى الإيمان والمبادرة به قبلالأجل ـ الساعة غيب.

دستور خلقي للرسول ولكل مصلح: خذ العفو، وأمر بالمعروف، وأعرض عن الجاهلين ـ القول بالنسخ في هذه الآية غير مقبول ـ وجوب الاستماع والإنصات إذاقرئ القرآن ـ ليس لهذه الآية صلة بتحريم الكلام في الصلاة، ولا بالسكوت عند الخطبة، ولا بالإنصات خلف الإمام ـ تعظيم القرآن الذي هو كلام الله ـ استحضار عظمة الله دائماًـ سجدة التلاوة نوع من التربية الروحية باعلان المسك بالحق والإعراض عن الباطل ـ تفصيل هذه الحكمة: المسايرة لروح العبودية العام ـ التلبية لمقتضى الإيمان والعلم ـمراغمة الكافرين ـ التحذير من السجود لأرباب العظمة، وتخصيص السجود لله ـ المبادرة في التأسي بالرسول ـ الاقتداء بالأنبياء والسير في طريقهم إظهاراً لوحدة الدين عندالله ـ التشبه بالملأ الأعلى الدائم السجود لله.

تكلمنا فيما مضى عن تصوير سورة الأعراف لمشاهد القيامة، وما فصلته

من مواقفأهل الكفر والتكذيب حين يرون العذاب، وحين تحيط بهم أعمالهم فلا يستطيعون الفرار من تبعاتها، ويدركهم الندم فيعترفون بذنوبهم، ويشهدون على أنفسهم أنهم كانوا كافرين.

ولعل القراء يذكرون ما قلناه من قبل أن نعرض لهذا التصوير القرآني لمشاهد يوم القيامة، وهو أن هذا التصوير يراد به التخويف من عاقبة الكفر ومصير الكافرين في الآخرة، وأنالسورة كما خوَّفت بهذا؛ خوفت أيضاً بمصير الكافرين المكذبين في الدنيا، فجاء فيها قوله تعالى:

وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون، فما كاندعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين .

وجاء فيها استعراض تاريخي لما كان بين الرسل وأقوامهم، وما صار إليه أمر هؤلاء الأقوام بعد تكذيب الرسل، والخروجعلى أمر الله، ويبدأ ذلك من قوله تعالى في الآية التاسعة والخمسين من هذه السورة:

لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إني أخافعليكم عذاب يوم عظيم، قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين، قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله مالاتعلمون، أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون، فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماًعمين .

ويستمر هذا العرض التاريخي لمشاهد النضال والدعوة من الرسل، ومشاهد الكفر والتكذيب من المرسل إليهم، وعواقب هذا التكذيب التي حلت بالمكذبين، فتذكر السورة عاداً وأخاهم هوداً و ثمودَ وأخاهم صالحاً و لوطاً وقومه و شعيباً وقومه، وتفرد بعد ذلك نحو سبعين آية لتاريخ موسى و بني إسرائيل ، وكم عني القرآن بتاريخ(بني إسرائيل) وبيان ما لهم من ماض عريق في الإفساد والتكذيب والتلاعب والعبث بالآيات

وللَّلى، والتحريف، والكتمان، والتآمر، وغير ذلك منالأخلاق والأعمال التي تدل على الأصالة في التمرد والعصيان. والعراقة في الكفر والطغيان.

تذكر السورة كثيراًُ من مواقف هؤلاء مع نبيهم موسى، وما أصابهم من العواقبالسيئة، كما تذكر فرعون وتكذيبه وتحديه وما حاق به، كل ذلك تضعه أمام أعين المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم، لتخوِّف بالعذاب الدنيوي الذي يحل بالمستكبرين، كما خوفتبالعذاب الأخروي في عرض المشاهد التي ساقتها عن أهل الجنة وأهل النار وأصحاب الأعراف وغير ذلك.

وبهذا وذاك استكملت السورة ناحيتي التحذير والتخويف، فخوفت بالمصيرالدنيوي، وخوفت بالمصير الأخروي، وجلَّت الخطر الذي يتربص بالمكذبين تجلية عظمى ليس بعدها عذر لمعتذر !.

ثم ختمت السورة هذا العرض لمصائر الأمم التي كذبت رسلها، بمثلضربته لأهل الجحود والجمود الذين لا تجدي معهم الموعظة، ولا تثمر فيهم النصيحة، فقالت:

واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان منالغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، ذلك مثل القوم الذين كذبوا آياتنا فاقصص القصص لعلهميتفكرون .

ومن حسن التناسق أن هذا المعنى الذي ختم به ذلك العرض التاريخي لمصائر الأمم المكذبة، قد جاء أيضاً في ابتداء الكلام حيث يقول الله تعالى قبل قوله لقدأرسلنا نوحاً :

والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون.

فهذه الآية تقرر أن الأمر أمر معادن وطبائع، فما كانمعدناً خبيثاً فلا ينضح إلا بالخبيث، وما كان معدناً طيباً فلا ينضح إلا طيباً، وهي شبيهة

بمثل الذي أوتي الآيات فانسلخ منها وأخلد إلىالأرض تجاوباً مع طبيعته المتأبية على الخير، اللاصقة بالفساد والشر.

***

ثم أخذت السورة بعد هذا في تبكيتهم على موقفهم من الرسول ومن دعوته في التوحيد والبعث.وترد موقفهم هذا إلى إهمالهم قضية النظر في صاحب الرسالة، وقضية التفكير فيما يدعوهم إليه: أهملوا التفكير في صاحب الرسالة، وتناسوا أنه صاحبهم الذي نشأ فيما بينهمورموه بالجنون، تخلصا من الإيمان به والاستماع إليه، وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون. وأهملوا النظر في شأن ا لكون وما يدل عليه وأشركوا بخالقه ما لم ينزل بهسلطانا ومالا يخلق شيئا وهم يخلقون وندّدوا بالساعة فسألوا عنها متهكمين مستهزئين يسألونك عن الساعة أيّان مرساها فتوجه السورة إليهم فيما يتعلق بالرسول أو لميتفكروا ؟ ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين .

وقد كان الرمي بالجنون هو أول سلاح يجرده القوم المكذبون في وجوه الرسل، وقصه القرآن عن قوم نوح لنوح ما سمعنا بهذافي آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين وحكاه عن فرعون لموسى إذْ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين، فتولى بركنه، وقال ساحر أو مجنون... إن رسولكم الذيأرسل إليكم لمجنون وحكاه عن جميع الأمم التي كذبت رسلها كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به؟ بل هم قوم طاغون .

وإذا كان الباطلمتشابه الصور والألوان، والقلوب المنكرة ذات معدن واحد في كل الأمكنة والأزمان فليس بدعا أن يقول قوم محمد لمحمد: إنك لمجنون .

وقد رد القرآن عليهم فحاكمهم إلىمعرفتهم بمحمد منذ الصغر وإلى أنه

صاحبهم الذي نشأ بينهم وعرفوه بالعقل والحكمة، والصون والأمانة وسداد الرأي، وظل معروفا بخلال العقلالراجح إلى أن بلغ الأربعين لم تعرف عنه كلمة نابية، ولا هنة صغيرة وأنه هو الذي دعاهم إلى التوحيد وتزكية النفوس، وإلى الإيمان بالبعث والجزاء وليس معقولا أن يظل معروفافيما بينهم هذا العمر الطويل بالعقل والحكمة ثم يصاب بالجنون بين عشية وضحاها لا لشيء سوى أنه يدعوهم إلى التوحيد وإلى ما يطهرهم ويزكيهم أو لم يتفكروا ؟ ما بصاحبهم منجنة نون والقلم وما يسطرون، ما أنت بنعمة ربك بمجنون والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وماغوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى إنه لقول رسول كريمذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثَمَّ أمين، وما صاحبكم بمجنون فلا تبتئس، ولا تحزن ولا تك في ضيق مما يمكرون ؛ فتلك عادتهم، وتلك عادة أسلافهم مع إخوانك المرسلين،ولابد أن يقال لك ما قيل لهم من قبلك؛ فطمئن نفسك ولا يضق صدرك، ولك من إخوانك السابقين خير قدوة فبهداهم اقتده كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقو بأسنا

وليس من عجببعد هذا إذا رمي أرباب الشهوة والهوى في كل زمان دعاة الخير والمصلحين بالتهور والجنون. والخروج عن حد الاعتدال فإنه سلاح سهل ميسور يلجأ إليه المفسدون وقد أعيتهم الحجة،ومقابلة الدليل بالدليل.

فعلى المصلحين ألا ييئسوا ولا يحزنوا، وليصبروا كما صبر أسلافهم من الأنبياء والمصلحين.

ثم توجه إليهم السورة شديد التبكيت على إهمالهمالنظر في دلائل الوحدانية التي يدعوهم إليها. وفي كل شيء وكثيرا ما حث القرآن في سبيل التوحيد على تدبر الكون علويه وسفليه، بسيطة ومركبه، وما أودع فيه من أسرار وحكمتدفع بالعقل إلى الإيمان بأن للكون مصورا قد أفاض عليه الوجود، وبه كان بحق هو المعبود.

ثم تستنهض الآية هممهم، وتستعجل منهم النظر والاستدلال مخافة حلول الأجل،ومخافة الفوات بالموت، وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، فبأي حديث بعده يؤمنون .

وعظتنا من هذا أن يسارع المؤمن إلى التخلص من ذنوبه وآثامه، وإلى مغفرة ربه ورضوانه،فإنه لا يدري متى ينزل به القدر، وتطوي عليه الحياة.

ثم تعرج السورة على تقرير الحق في وقت الساعة التي ينهمكون في السؤال عنها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتهاإلا هو ثقلت في السموات والارض لا تأتيكم إلا بغتة، يسألونك كأنك حفى عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون فتبين أنها غيب لا يدخل العلم بها في مهمةالرسالة وهي الإنذار بعذابها، والتبشير بنعيمها ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون .

*  *  *

وتتجه السورةبعد هذا إلى شخص الرسول، وترسم له طريق معاملته للخلق على وجه يقيه شر الحرج والضيق الذي كان يتعرض له من جراء موقفهم منه ومن دعوته، وتأمره بهذا الدستور الخلقي العظيم،وهو توجيه وأمر إلى كل من يخلفه في الدعوة إلى الله خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين تأمره باللين وترك الغلظة، وتأمره باللطف والرفق: خذ من الناس السهل اللين،ولا تكلفهم مالا يطيقون، ولا تحرجهم بما يضيقون ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن .

وترشدهإلى الأمر بالعرف، بيانا لما تعارف عليه العقل والشرع، وتأمره بالإعراض عن الجاهلين فيما يبدر منهم من أنواع السفاهة والإيذاء، وهذا هو شأن الربانيين. وإذا مروا باللغومروا كراما والذين هم عن اللغو معرضون .

وهذه الآية على قصرها تشتمل كما قال العلماء على مكارم الأخلاق فيما يتعلق بمعاملة الإنسان معأخيه الإنسان، وأنها سبيل لكل ما تطلبه الانسانية الفاضلة لأبنائها الأبرار.

ولا يعرف معنى المبادئ الخلقية التي يضعها الإسلام لكل زمان ومكان، ومع كل الجماعاتوالأفراد حتى الأعداء المحاربين من يرى أن هذه الآية ومثيلاتها مما نسخته آيات القتال. وإن تقرير مبدأ الناسخ والمنسوخ في القرآن الذي رأي به بعض الناس أن مثل قوله تعالى: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن كان في صدر الإسلام ثم نسخ لجدير من العلماء الغيورين على العنصر الأول من عناصر الدين وهو عنصر الخلق الكريم بإعادةالبحث والنظر.

وبعد أن ترسم السورة للنبي طريق المعاملة على هذا الوجه تضع له ولأمته الوسيلة التي تقيهم شر الخروج عن حدود هذا الطريق وإمّا ينزغنك من الشيطان نزغفاستعذ بالله إنه سميع عليم ، إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون .

يهيج الإنسان بطبعه عند الغضب الناشئ عن سفاهة الجاهلين. وواجبهعندئذ أن يتحصن بالله، وأن يرجع بالأمر كله إليه، وأن يذكر عظمته وسلطانه فيطمئن قلبه ويشرق عليه نور الحق، فيتضح له الطريق، ويسير فيما رسم الله ولا يندفع مع نزغالشيطان ووسوسته « فإذا هم مبصرون » يتمسكون بالحق، ويسترشدون ببصائر الله التي أوحة بها الله التي أوحى بها إلى عبده « هدى ورحمة لقوم يؤمنون ».

ثم توجه إليهم الأمربالاستماع والإنصات إذا تلى عليهم القرآن، وألا يقولوا كما اعتادوا: « لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه » ولعلهم إذا استمعوا وأنصتوا وقفوا على حقيقته وظهرت لهمأسراره، وعرفوا أنه المعجزة التي لا تطلب بعدها معجزة؛ فيستغنون به عن طلب المعجزات ولا يقولون إذا

لم تأتهم بآية من الآيات التييقترحونها « لو لا اجتبيتها » اختلقتها وافتعلتها من تلقاء نفسك كما اختلقت القرآن.

هذا هو الوجه الذي ينبغي أن تفهم به هذه الآية الكريمة، ولا يعجبني تخريجها علىأنها تشريع خاص للمؤمنين فيما يختص بتحريم الكلام في الصلاة، أو بالسكوت عند الخطبة، أو بالقراءة خلف الإمام كما يذهب إليه كثير من العلماء، ويجعلونها مثار جدل ونقاشحول هذه المسائل الثلاث، فإنها على أي وجه من هذه الوجوه لا تلتئم مع السياق، ولا مع وقت النزول. والقراءة خلف الإمام سراً أو جهراً من المسائل الجزئية التي تختصبالمؤمنين في صلاتهم، ويبعد كل البعد أن يوكل بيان عدد الركعات والكيفيات الأولى للصلاة إلى بيان الرسول عن طريق الوحي الباطني دون أن يتعرض القرآن لشيء من ذلك، ثم يعنيالقرآن بخصوص القراءة خلف الإمام سراً أو لا سراً ولا جهراً ؟ فما أبعد هذه الآية عن هذه المسألة، وما أبعد هذه السورة في موضوعها وفي وقت نزولها عن الاهتمام بمثل هذا !!

وبعد أن تأمر السورة بهذا العلاج فيما يختص بالمعاملة وفيما يختص بقراء القرآن تأمر بملاك الأمر كله وهو ذكر الله في القلب بعظمته وجلاله رجاء لثوابه، وترشد إلى أنيكون بهدوء واطمئنان لا بجهر وإزعاج حتى تهدأ الأعصاب ويسبح الفكر في معاني الجلال والجمال، كما ترشد إلى أن يكون ذلك شأنك في كل وقتك « واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفةودون الجهر من القول بالغدو والآصال ».

استحضر عظمة ربك من مشاهداتك في سننه الكونية وآثاره العلوية والسفلية، وإنعاماته المادية والروحية؛ فتعرف عز ربوبيته، وتذلأمامها بعبوديتك « تضرعأ وخيفة » اذكر ربك على هذا الوجه هادئ النفس، مطمئن البال، غير مزعج لنفسك، فتفاض عليك لذائذ الأسرار الروحية وتصير ميداناً للفيوضات الإلهية؛فينبعث منك وإليك الخير، وتكون في مراقبة دائمة. وشهود مستمر « ولا تكن من الغافلين ».

وليعتبر بهذا هؤلاء الأقوام الذين يزعجون أنفسهمويزعجون الناس بأصواتهم المنكرة وحركاتهم العابثة، وأجسامهم الراقصة الملتوية باسم ذكر الله في الطرقات، في الحفلات الصاخبة بالناي والعود، في المساجد. وقد بلغ العبثبذكر الله الذي وضعه سبيلا لاطمئنان القلوب، واستحضار عظمته أن يعرض في المذياع بالناي والعود تمثيلا لا حقيقة، وتلهية لا تصفية، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

ثم تختمالسورة بالإرشاد إلى أن الملائكة مع نهاية شرفهم وسمو مرتبتهم، معترفون بذل عبوديتهم، خاضعون لعز الربوبية لا يخالجهم في عبادتهم كبر، ولا يأخذهم عنها صلف؛ بل هم دائماًيسبحونه وله يسجدون، فما أحوج الإنسان وقد ركبت فيه مبادئ الشهوة والغضب أن يتخذ إلى ربه سبيلا، وما أضعف عقله حينما يتجه إلى الملائكة أنفسهم بالعبادة والتقديس فضلا عنالأصنام والأحجار.

« إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ».

وهذه إحدى الآيات التي طلب من المؤمنين أن يسجدوا عند تلاوتها أو سماعها وهيأربعة عشر آية في القرآن الكريم، وهذه السجدة المعروفة عند الفقهاء والمسلمين بسجدة التلاوة ـ وهي سجدة بين تكبيرتين تكبيرة لوضع الجبهة على الأرض وتكبيرة للرفع منالسجود دون تشهد ولا تسليم، ويشترط لها ما يشترط للصلاة من الطهارة والنية واستقبال القبلة وعلى من أراد تفصيل أحكامها ومعرفة أحوالها أن يرجع إلى كتب الفقه.

والحكمة فيها ـ كما ظهر لنا من الآيات ومواردها نستطيع أن نجملها في هذه الكلمة القصيرة:

هي نوع من التربية العملية الروحية في إعلان التمسك بالحق والإعراض عنالباطل، ومراغمة المبطلين، ولسير في طريق المثل العليا للذين حملهم الله أمانة الحق والدعوة إليه، وبذلك كانت سجدة التلاوة ـ رغم إهمال المسلمين لها

ـ شعاراً عاماً للمؤمنين في إعلان تقديسهم لمبادئهم، وتقديس كتابهم، وشدتهم في مخالفة الباطل والمبطلين كلما قرءوا القرآن وكلما سمعوه.

أما تفصيل هذهالحكمة فهو كما يأتي:

1 ـ المسايرة لروح العبودية العام الذي أخضع الله عليه الكون وذلك كما تراه في آية الرعد « ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهمبالغدو والآصال ».

2 ـ التلبية لمقتضى الإيمان والعلم وذلك كما تراه في آية الإسراء « قل آمنوا به أو لا تؤمنوا، إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرونللأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً ».

3 ـ مراغمة الكافرين الذين أبوا أن يسجدوا لله حين أمروا بالسجودلله وهذا كما نراه في آية الفرقان « وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا ».

4 ـ التحذير من السجود لأرباب العظمة الفانية وتخصيصالسجود لله الواحد القهار وذلك كما في آية فصلت « ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون فإناستكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون ».

5 ـ المبادرة إلى التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم في إعراضه عمن كذب وتولى وائتماره بالسجود للهوالاقتراب منه وذلك كما في سورة العلق (أرأيت الذي ينهى * عبداً إذا صلى * أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى * أرأيت إن كذب وتولى * ألم يعلم بأن الله يرى * كلا لئن لم ينتهلنسفعاً بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة * فليدع ناديه * سندع الزبانية * كلا لا نطعه واسجد واقترب).

6 ـ الاقتداء بالانبياء والسير في طريقهمإظهاراً لوحدة الدين عند الله وذلك كما في آية مريم « أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح، ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل، وممن هديناواجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً ».

7 ـ التشبه بالملأ الأعلى الدائم السجود لله عند تقرير سجودهم لله وذلك كما في هذه الآية التي تختم بها سورالأعراف: « إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ».

وإلى العدد القادم إن شاء الله تعالى.

/ 1