تفسیر القرآن الکریم؛ سورة الأعراف (6) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم؛ سورة الأعراف (6) - نسخه متنی

محمود الشلتوت

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تفسير القرآن الكريم

لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمود شلتوت

وكيل الجامع الأزهر

سورة الأعراف

خلاصة ما سبق ـ الحساب والجزاء: سؤال الرسل والمرسل إليهم ـ الوزن والميزان: مواردهما في القرآن وما يراد بهما ـ نداءات للبشر بوصفهم بني آدم ـ سر النداء بهذا الوصف ودلالاته ـ موقف ابليس من أبيهم يقتضيهم الحذر منه ـ الخير والشر جانبان في الإنسان ـ وحي الامتنان باللباس والزينة ـ العرى والتبرج تلبية للشيطانـ توسط الإسلام في شأن الزينة ـ الحد الفاصل بين المتقين المصلحين، والمكذبين المستكبرين.

خلاصة ما سبق:

عرضنا في العدد السابق لمكان سورة الأعراف فيالترتيب المصحفي، وفي ترتيب النزول وقلنا، إنها أول سورة عرضت لتفصيل لم يعهد قبل نزولها في بعض قصص الأنبياء مع أممهم، وكذلك عرضنا لبيان المقصود منها، وقلنا، إنهالمقصود من السور المكية كلها وهو: تقرير عناصر الرسالة المحمدية،

وبعبارة أخرى، العناصر الأولى للرسالة الإلهية العامة إلى الخلق أجمعين، وهي:تقرير التوحيد لله الخالق في العبادة والتشريع، وتقرير البعث والجزاء.

وتقرير الوحي والرسالة بوجه عام، وتقرير رسالة محمد آخر الرسالات الإلهية بوجه خاص. وأشرنا إلىمواضع تلك العناصر من السورة. وأن السورة مهدت للدعوة إليها بآية واحدة جاءت في أولها متضمنة الأمر بالجانب الإيجابي من هذه العناصر، والنهي عن الجانب السلبي وهي قولهتعالى اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء . ثم عرضنا لما سلكته السورة في الدعوة إلى هذه العناصر، وهي الأساليب التي سلكها القرآن الكريم في جميعسوره، مفرقة تارة، ومجتمعة أخرى. وهي أساليب تتمشى مع الطبيعة الإنسانية في الدعوة إلى أي مبدأ، أو أي دين، فهي ترجع إلى سبيل التذكير بنعم صاحب الدعوة، والنعم من شأنهاأن ت حمل الإنسان على شكر المنعم بما يطلب من إيمان وعمل، والى سبيل التخويف بالعذاب، الذي يقدر عليه صاحب الأمر ومصدر الدعوة، وهذان: التذكير بالنعم، والتخويف بالعذاب،أسلوبان لهما أثرهما في جميع الطبقات البشرية، يستوي في التأثر بهما من كان من أهل النظر والاستدلال، ومن كان من أهل العاطفة والوجدان.

أما الأسلوبان الآخران، فهما،أسلوب الحجة يوجه إليها عن طريق الآثار الدالة على كمال الصنع وقوة التدبير. وأسلوب دفع الشبه التي يثيرها المعاندون المستكبرون بقصد التشكيك في الدعوة وصرف الناس عنتلبيتها. وقد أشرنا إلى مواضع كل أسلوب من هذه الأساليب الأربعة الواردة في سورتنا الكريمة. كما أشرنا إلى إجمال ما عرضت له في شأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم من جهةعموم رسالته وتسجيلها في التوراة والإنجيل، ومن جهة إرشاده إلى التمسك بالصبر، ومكافحة النزعات التي قد يضيق بها صدره. إلى أن قيل له خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عنالجاهلين... إلى آخر السورة .

ولنا بعد ذلك فيما نقدمه للقراء في هذا العدد من رسالة الإسلام، بضعة

مواقف لابد لنا من أن نقفها في بعض ما احتوت عليههذه السورة ضمن ما عرضته من تلك الأساليب الأربعة.

الحساب والجزاء: سؤال الرسل والمرسل إليهم:

والموقف الأول في السؤال والوزن، وبعبارة أخرى، في الحسابوالجزاء.

ولعلنا نذكر أن السورة وهي بصدد التخويف بعذاب الآخرة، جاء فيها قوله تعالى فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين، فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين،والوزن يومئذ الحق، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون .

وقد نبهت هذه الآيات إلى الحسابوالجزاء عن طريق السؤال والوزن، وأرشدت فيما يختص بالسؤال إلى أن الأمم الذين أرسل إليهم، وبلغتهم دعوة الله عن طريق رسله الكرام، يسألون عن الرسل، وعن تبليغهم إياهم،وعما أجابوا به من تصديق أو تكذيب، وعما عملوا من خير مطلوب، أو شر منهى عنه. وكذلك أرشدت إلى أن الرسل أنفسهم يسألون عن تبليغهم لأقوامهم وعن إجابة الأقوام لهم وموقفهممنهم، والسؤال للجانبين قد كثر ذكره في القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى يا معشر الجن والإنس، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي. وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ وقولهويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين؟ وقوله يوم يجمع الله الرسل، فيقول ماذا أجبتم؟ وقوله فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً؟ وهكذا نجدكثيراً من الآيات تتحدث عن سؤال الرسل وسؤال الأمم، والذي يهمنا هنا، أن نقرر أن هذا السؤال لم يكن سؤال استفهام ولا استخبار، وإنما هو سؤال تبكيت وتنديد، فليس في السائلمظنة أن يجهل، ولا في المسئول مظنة أن ينكر ـ هو تصوير لما يكون من شعور المذكبين بتكذيبهم، وشعور المرسلين بتبليغهم، وهو نوع من تسجيل الحجة على من أنكرها وأعرض عنها فيالوقت الذي كان يجديه الإقبال عليها والإيمان بها، وهو نوعه من زيادة الحسرة، وقطع الآمال

في النجاة بوضع يد المجرم على جسم جريمته، وهو في الوقتنفسه، نوع من زيادة الأمن والطمأنينة للرسل في القيام بدعوتهم وتبليغهم ما أمروا بتبليغه. ولعل كل ذلك يرشد إليه قوله تعالى فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين .

الوزن والميزان:

مواردهما في القرآن وما يراد بهما:

هذا هو السؤال:

أما الوزن، فقد دلت عليه الآية التالية لآية السؤال والوزن يومئذ الحق والوزن، عمليعرف به قدر الشيء، وقد وردت مادة الميزان والوزن في كثير من آيات القرآن الكريم، وبتتبع مواضها نستطيع أن نردها إلى الأحوال الآتية: جاءت كلمة الميزان، وكذلك كلمة الوزنمقترنتين بالكيل فيما يجري بين الناس عادة من تبادل وبيع شراء، ويراد منهما في هذا المقام، الحث على إقامة القسط بين الناس في التعامل وقد كان أول قوم وجه إليهم هذا الحثفيما نعلم، قوم شعيب. وجه إليهم في تبليغ رسالة الله وتحذيرهم من سوء المعاملة عن طريق بخس الكيل والميزان، أو طريق التطفيف فيهما، وقد جاء في هذه السورة نفسها: وإلىمدين أخاهم شعيباً، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وجاء في سورة من القرآن عرفت باسم سورة المطففين، قوله تعالى: ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. ألا يظن أولئك أنهممبعوثون ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين؟ . ومن البين أن المراد بالميزان والوزن في هذا المقام، الآلة التي يتواضع عليها الناس ويعرفون بها مقدار ما يأخذون ومايعطون، وهي الآلة المعروفة باسم الميزان.

وقد جاءت الكلمتان أيضاً مقترنتين بذكر الخلق والتكوين: والسماء رفعها ووضع الميزان والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي،وأنبتنا فيها من كل

شيء موزون وجعلنا لكم فيها معايش، ومن لستم له برازقين، وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما تنزله إلا بقدر معلوم .

ومن البين أنالمراد في هذا المقام بكلمتي الوزن والميزان، ما يرجع إلى إحكام النظام وتقدير الخلق وربط الكائنات بسنن من التناسب والاعتدال.

وقد جاءت الكلمتان أيضاً مقترنتينبالكتاب الذي أنزله الله وأرسله مع رسله، ومن ذلك قوله تعالى: الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وقوله لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزانليقوم الناس بالقسط وبذلك كانت سنة الله في كونه، وبنائه على الوزن والإحكام؛ كسنته ونظامه في شرعه. فكما أحكم الكون بالميزان، أحكم الشرع بالميزان، وإذا كان الميزانالذي أحكم به الكون، يرجع إلى كمال التقدير والإتقان، والبناء على سنن ثابتة مطردة، تجعل العالم وحدة متضامنة متكافلة على الخير المادي للبشرية، فإن الميزان الذي أنزلهمع كتبه. يرجع إلى روح تقدير ما في هذه الكتب من مصالح، والى حسن تطبيق أحكامها على الأعمال والأحداث، وبذلك يسعد الناس بروح التضامن والعدل، وبروح التقوى التي تؤهلهملسعادة الآخرة، فيحصلون على متعة المادة والروح عن طريق لا انحراف فيه، هو صراط الله المستقيم الذي أبدعه في كونه عن طريق السنن، وفي رسالاته عن طريق الأحكام والشرائعولعل الميزان الذي يقترن بالكتاب والشرائع والأحكام لا يبعد كثيراً عن أمر القائمين بالشرائع وتطبيقها على الأحداث من مراعاة الدقة وحسن الاجتهاد في معرفة الأحداث وماتتطلبه من أحكام تحقق المصالح التي ربطت بها تلك الأحكام في سياسة الناس وسلوكهم. لعله لا يبعد عما اشارت إليه بعض الآيات ووكلته إلى القائمين بأمر الشرائع في فهمهاوتطبيقها مثل قوله تعالى: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله وقوله ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم وليس من ريب في أن قيام الناس بالقسط لا يكون إلا بتشريع: هو ما دل عليه الكتاب، وبحسن تقدير

لهذا التشريع من جهة تطبيقه على الأحداث والمعاملات، وهوالميزان، وقد ذكر الحديد في آية لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وقد يكون من إيحاء ذكره في هذا المقام أن بعض النفوس تأبى تنفيذ هذه الأحكام المطبقة بالميزان على حوادثهم.وهنا يجد القائمون بالأمر تقريراً لمظاهر القسط بين الناس، في الحديد قوة يحملون بها الناس على تنفيذ تلك الأحكام.

وإذن، يكون أساس القيام بالقسط، تشريع حكيم،وتطبيق دقيق، وحمل للمعرضين على التنفيذ، وبذلك تتحقق الغاية المرجوة من الكتاب، ومن الميزان.

وأخيراً، جاءت الكلمتان: الوزن والميزان، في القرآن الكريم مقترنتينبالأعمال في يوم الحساب: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ومن ذلك قوله تعالى في سورتنا هذه: والوزن يومئذ الحقوقوله ونضع الموازين القسط ليوم القيامة وقوله فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية ومن خفت موازينه فأمه هاوية وهذا هو الميزان الذي يبنى عليه الحساب الأخرويويوقع بناء عليه، إما العذاب، وإما النعيم.

وقد تكلم الناس في هذا الميزان وأكثروا من الخوض فيه من جهة أنه مادي أو معنوي، ومن جهة أن الذي يوزن هو الأعمال بعدتجسيمها، أو أن الذي يوزن هو صحائف الأعمال، ولقد ذهب أناس إلى الخوض في هذا المقام حتى صوروه بلسان وكفتين، ووصفوا مادته الذي اتخذ منها، وعينوا مكانه الذي يوضع فيه إلىأقصى حد يسعف فيه الخيال صاحبه بما يوجه نفسه إليه، والذي أعتقده أن كل ذلك قد تجاوز فيه القوم حدود ما يصح للإنسان الخوض فيه وكشف أستاره التي استأثر الله بها، فهو دون شكمع تفاصيل يومه وأعمال الله فيه، شئون غيبية يجب أن يفوض الأمر فيها لله وحده، وهو بعد مما لا حاجة للناس إليه بعد الإيمان بمعناه العام وبالمقصود منه، وأنه هو الوسيلة فيتجلية الحق لمنكريه، وتجلية العدالة في معاملة المصلحين والمسيئين على الوجه

الذي يعترف فيه المحسن بحقية ما نسب إليه من إحسان، والمسئ بحقية مانسب إليه من إساءة. ويرجع تقدير تلك الوسيلة ومعرفة حقيقتها إلى الله وحده، إن لم تكن تمثلا للعدل التام في محاسبة الناس وتقدير ما به يكون الجزاء على حسب النتائج التييعرفها الناس في دنياهم من التحاكم إلى ميزانهم المحسوس الذي يلجئون إليه في ضبط معاملاتهم وحقوقهم. وإذن فعلينا أن نؤمن بأن في الآخرة وزنا للأعمال، وأنه على مقدار مايظهر يكون الجزاء، وأنه وزن أو ميزان يليق بتلك النشأة الأخرى، ميزان توزن به الأعمال والإيمان والأخلاق والعواطف وكل ما يجري في النفس ويستقر فيها. وعلينا أن نعفىأنفسنا من محاولة الكشف عن غيبي لم يرد لنا في حقيقته قاطع من كتاب أو سنة.

هذا أول المواقف التي أردنا أن نقفها في بعض ما احتوت عليه هذه السورة.

نداءات للبشربوصفهم بني آدم :

أما الموقف الثاني، فهو يتعلق بأربعة نداءات إلهيه، هي النداءات الوحيدة التي نودي بها الناس جميعا في القرآن الكريم بوصف النبوة لآدم، وقد جاءتهذه النداءات عقب قصة آدم وإبليس. وهي قوله تعالى:

يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشا، ولباس التقوى ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون .

يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما .

يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنهلا يحب المسرفين .

يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي، فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها، أولئكأصحاب النار هم فيها خالدون .

سر النداء بهذا الوصف ودلالاته:

ويهمني لولا لفت الأنظار إلى دلالة هذه النداءات، فهي ترجع بالناس جميعاً إلىرحم واحدة، وأبوة واحده، ومن شأن اتحاد الأصل تقارب الفروع وتعاطفها، فهي تغرس في نفوس الناس أنهم مهما تنوعت أجناسهم واختلفت لغاتهم وتباينت أقاليمهم، أبناء رجل واحد،وركضوا جميعاً في صلبه، ثم تناسلوا منه أبناء وأحفادا وأحفاد أحفاد إلى يوم الدين. وهذه رحم ينبغي أن تعرف فتشكر وتقدر بالتعاطف والتراحم لا بالتخاصم والتحارب. وهذا هوأول ما يضعه القرآن من سبل الوحدة الإنسانية البشرية التي ترجع بالناس جميعاً إلى منبع واحد، وتضعهم جميعاً في مستوى واحد، دون تفاضل بينهم إلا بما قد يكون منهم من تفاوتفي الفضل والعمل يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم وما انفتح باب الشرور على البشرية وتفاقمتويلاتها، إلا من يوم أن أغمضت عينيها عن هذه الوحدة البشرية التي تردهم إلى أصل واحد، وتخضعهم لمعبود واحد. تقاطع الناس بالقوة والضعف والغنى والفقر، والعلم والجهل،والبياض والسواد، وما إلى ذلك من العوارض الطارئة التي لاحظ لها في تكوين البشرية العابدة أمام الألوهية المعبودة.

موقف أبليس من أبيهم:

يقتضيهم الحذرمنه:

ذكرت السورة موقف إبليس من أبي البشرية آدم، وأنه أبى واستكبر، وقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ومن ذلك الحين، ظهر للإنسان عدوه المبين الذيابتلاه الله به في هذه الحياة، والذي يجب عليه ليسلم من شره ويسعد، ويحصل على رضا مولاه أن يتخذه هو أيضاً عدواً، يتحسس نواياه، ويتعرف وسوسوته، ويكافحه بكل ما أوتي منقوة، يجب أن يعرف أنه قد نصب له الشباك، وقعد له بالمرصاد، ورسم خطته في اغوائه والكيد له

حتى أغراه بالمخالفة فوقع فيها، ثم لم يلبث أن عاد إليه رشدالإنسانية فتنبه إلى كيد الشيطان والتجأ إلى ربه معترفا بذنبه وخطيئته ربنا ظلمنا أنفسنا. وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين هكذا قوبل الإنسان لأول عهدهبالحياة. وهكذا أشرق نور الهدى في قلبه فأضاء له الطريق واستغفر لذنبه فتاب الله عليه.

وهكذا يجب أن يسير الأبناء في خطة أبيهم، يجب ان يربط الأبناء نسبهم بأبيهم،فيعرفوا كما عرف كيد الشيطان الذين عرفه أبوهم، وأن يطهروا أنفسهم من وسوسته وإغوائه كما طهر نفسه منهما أبوهم، ويجب أن يعرفوا أن الله خلقهم في الأرض وابتلاهم بالشهواتوتعارض الرغبات، وقام الشيطان بينهم، يغري ويضل، ويكيد ويفرق ز ونظم حياته على قوى الافساد، فليحذروه وليتقوا شره، وليعتصموا بدعوة الله الواقية لعلهم يرحمون اهبطوابعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين، قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون .

الخير والشر جانبان في الإنسان:

قس الله علينا نبأ آدم معابليسن وكان مغزاه تقرير أن الإنسان له جانب خير يتلقى به أمر ربه وينفذه فيصل إلى سعادته والى رضا مولاه. وله جانب شر به يستجيب لوسوسة الشيطان وإغوائه فيبعد به عنسعادته ويصيبه غضب الله.

وأولاد آدم، من آدم، تكوينهم من تكوينه، واستعدادهم من استعداده، وتأثرهم من تأثره، فلهم كأبيهم جانب خير، يقودهم إلى الوحدة والاعتصامبأوامر الله وهدايته، وجانب شر يغري بينهم العداوة والبغضاء، ويوقعهم في المخالفة والعصيان، وأبليس الذي ابتلى الله به أباهم، فنشأ على عداوته، يغريه ويوسوس له، قدأبتلاهم به أيضا، فاضمر لهم العداوة وأعد نفسه لأن يصنع معهم ما صنع مع أبيهم، يكشف لهم من عورات وسوءات كما كشف لأبيهم من عورات وسوءات.

لهذا كله، وجه الله إليهمأربعة نداءات متتالية بوصف النبوة للأبوة الواحدة التي من شأنها أن نسد عليهم أبواب الشر، وتقيهم أثر وسوسة الشيطان وإغوائه.

أرشدهم في تلك النداءاتإلى نعمته عليهم، وحذرهم بها من عدوهم، والى أن هدايته لهم وتمسكهم بها هي وحدها سبيل عصمتهم من الوقوع في كيده، ويذكرهم مع هذا بأن الحرمان من النعيم الذي أصاب والديهمإنما كان بنسيانهما نعمة الله، وباستجابتهما للشيطان وإغفالهما هداية الله الرحيم.

وحي الأمتنان باللباس والزينة:

امتن عليهم في أول هذه النداءات بأن هيألهم سبيل الحصول على الملبس الذي به يسترون عورتهم، ويريشون به أنفسهم في مناسبات التجمل، هيأ لهم مادته من القطن والصوف والحرير وما إليها، وألهمهم بما خلق فيهم منغرائز طرق استنباتها وطرق صناعتها بالغزل والنسج والخياطة، ولفت أنظارهم إلى أن تقوى الله في الانتفاع بتلك النعمة والوقوف بها عند الحد الذي رسم، هو أساس الرضا، وأساسالشكر، وهو الذي يحفظ السوءات من أن تظهر أو ترى، وهو الذي يجمّل الحسّي والنفسي يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سواءتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير، ذلك منآيات الله لعلهم يذكرون .

وإذا كان للقرآن دلالاته الصريحة التي تدل عليها كلماته بمقتضى اللغة العربية، فإن له بعد تلك الدلالة إيحاءات جدير بالناظرين فيه،وبالمتعرفين عن نواحيه أن يتنبهوا إليها، وأن يسيروا في طريق معرفتها والانتفاع بها، وهذه آية اللباس وإنزال مادته وتمكين الناس منها تحدث عن اللباس المواري للسوأة،وعن الرياش، وعن لباس التقوى، وهي بعد ذلك توحي لتحقيق ثياب المواراة والرياس بالصناعة وبالجد في تحصيل موادها، وتوحي بأن ستر العورة وزينة التجمل من أهداف الحكمةالآلهية في تمكين الإنسان من مادة اللباس وصناعته.

ومن طلب التقوى ومراعاة حق الله.

العرى والتبرج تلبية للشيطان:

ولعل في هذا الإيحاء تعريضا بأن عادةالعرى التي يألفها بعض القبائل المتوحشين وعادة إبداء شيء من مفاتن الجسم كما يراه دعاة الحضارة الفاسدة،

مخالف للأدب الإنساني والإرشاد الآلهي.وأرجو أن يكون لهؤلاء وهؤلاء من هذا الايحاء الواضح ما ينبه وعيهم إلى هذا الأدب الذي يضعه الله بأصله ويرشد إليه في هذا النداء الكريم. أرجو أن يكون لهم من هذا الإيحاء ماينبههم إلى أن الحضارة الحقة ليست في كشف المفاتن، ولا في إظهار العورات المثيرات للغرائز. وإنما الحضارة الحقة في السير على سنة الله، وعلى مقتضى ما أودع في الإنسان منالشعور الفاضل النزيه. أرجو أن يجدوا في هذا ما يحيى وعيهم.

ويرشدهم إلى أن النزوع إلى هذه التقاليد الفاسدة التي سرت إلى جماعة المسلمين من قوم حرموا من النظر فيآداب الله وإرشاداته، ليس إلا تلبية لفتنة الشيطان الذي فتن بها والديهم من قبل وذلك هو ما تضمنه النداء الثاني من النداءات الأربعة يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كماأخرج أبويكم من الجنة، ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما .

توسط الإسلام في شأن الزينة:

ثم يجيئ النداء الثالث يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلواواشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين فيكشف عن المعنى الإنساني في اللباس، وأنه من الزينة التي تحفظ على الإنسان مكانته، وتميزه عن سائر الحيوان، ويأمر باتخاذها فيالمساجد وما يماثلها من المجتمعات الإنسانية، ثم يضم الأكل والشرب إلى اللباس، ويأمر بهما حفظا للقوة واستدامة للصحة، ويعقب كل ذلك بالنهي عن الإسراف في الملبس والمأكلوالمشرب، وفي كل شيء، وليس من ريب في أن ثلاثتها ضرورة بشرية، وعماد قوى لقيام الإنسان بواجبه في هذه الحياة، وهداية الله فيها كهدايته في كل شيء، وسط بين تفريط

يقعفيه فريق من الناس يحرمون به أنفسهم من التمتع بنعمة الله، إما شحاً وبخلا، وإما ننطعا وتقشفا، وإفراط يقع فيه المترفون، يلبسون ويأكلون ويشربون فوق الحاجة، وفوقالزينة المعقولة، ثم تمتد شهوتهم بعد ذلك إلى ما حرم الله. أما هداية الله في ذلك، فهي الاقتصاد مع مراعاة الأحوال

والظروف، أما الحرمان والاسراففكلاهما ينكره الله ويمقته ولا يرضاه وقد كشف عن ذلك قوله تعالى بعد هذا النداء الثالث: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق . كما أرشد في الآياتنفسها إلى ما حرمه الله حقيقة، وإلى أنه الجدير بتطهير النفوس من مقارفته بقوله قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون .

الحد الفاصل بين المتقين المصلحين

والمكذبين المستكبرين:

ثم يجيئ النداء الرابع يا بني آدم إمايأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي، فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون فيضع الحدالفاصل بين أهل رضاه ونعيمه وإكرامه من عباه وبين أهل غضبه ومقته وعذابه منهم. ويرد الأمر في ذلك كله إلى التقوى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وإصلاح ما فسد من النفوسوالأعمال، والى عكس ذلك بالتكذيب للحق والاستكبار والترفع عن الخضوع لأوامر الله وأحكامه.

أما بعد:

فهذان موقفان من المواقف التي أردت أن أقفها في بعض نواحي ماتحدثت عنه هذه السورة الكريمة.

والى العدد المقبل إن شاء الله.

/ 1