تفسیر القرآن الکریم نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم - نسخه متنی

محمود الشلتوت

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تفسير القرآن الكريم

لحضرة صاحب الفضيلة الاستاذ الجليل الشيخ محمود شلتوت

سورة آل عمران

تقدم الحديث ـ في العدد السابق ـ عن بعض النداءات الإلهية للمؤمنين التي جاءت في سورة (آل عمران) ترشدهم إلى ما يحفظون به أنفسهم، ويركزون به وحدتهم، ويصونون كتلتهم،ويبقون على شخصيتهم كأمة قوية متماسكة لا يتسرب إليها شيء من عوامل الضعف والانحلال، لا من داخلها، ولا من خارجها.

ونتابع الحديث عن بقية هذه النداءات فنقول:

النداء الرابع قوله تعالى:

(يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين، وأطيعوا الله والرسوللعلكم ترحمون).

وهذه أول آية نزلت في تحريم الربا، وكان أكلهم ذلك في جاهليتهم ـ على ما جاءت به الروايات ـ أن الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل فإذا حلالأجل طلبه من صاحبه، فيقول له الذي عليه المال: أخر عني دينك وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك.

وكان كما يدخل النقد على هذا النحو يدخل الدَّين فيالأنعام؛ يكون للرجل عل الآخر دين من الإبل مثلا، فإذا حل الأجل وكان عنده قضاؤه قضاه، وإلا حوَّله إلى السن التي فوق ذلك: إن كانت ابنة مخاض (أي في السنة الثانية من عمرها)يجعلها ابنة لبون (وهي ما كانت في السنة الثالثة من سنها(ثم حقة ثم جذعة.. الخ.

فالمقصود في الآية هو هذا النوع من الربا الذي كان معروفاً في الجاهلية، وهو ربا النسيئة،وقد أجمع المسلمون على تحريمه، أما ربا الفضل ففي دخوله فيما حرمه القرآن أو عدم دخوله كلام بين العلماء.

وللإسلام في تحريم الربا نظرة ترجع إلى الجانب الخلقي، ونظرةترجع إلى الجانب الاقتصادي العملي:

فأما نظرته إلى الجانب الخلقي فإنه يريد أن، يكوِّن مجتمعاًً متراحماُ متعاوناً لا تكون قاعدة التعامل فيه أن يستلب القوى ما في يدالضعيف، وأن تّستغل حاجات المحتاجين استغلالا دنيئاً لإرباء ثروة الأغنياء، وتحويل الأموال إلى خزائنهم، وذلك أن الربا يكون بين دائن قوى في يده من المال ما هو فوق حاجتهومدين ضعيف محتاج إلى هذا المال، فيستغل القوى ضعيف الضعيف وحاجته الملحة، ويجعل ما يقدمه له من المال شبكة يصطاد بها ما لديه، وليس للأول فضل إلا أنه غنى مالك، وليسللثاني ذنب إلا أنه فقير محتاج، ولا شك أن المجتمع الذي يقوم على تمكين القوى القادر من أسباب الحياة السعيدة وتيسير وسائلها له، وحرمان الضعيف المحتاج من المعاونةوالرحمة ومن حقه الإنساني في أن ينقذ وينتشل من وهدة الفقر والحاجة؟ لا شك أن المجتمع الذي يقوم على هذا مجتمع فاسد شبيه بمجتمعات الوحوش في الغاب.

وقد وازن القرآنالكريم بين هذه المعاملة القاسية وبين الصدقة والإحسان والتعاون ليبرز لنا صورتين متضادتين: صورة الغني الذي يأخذ بيد الفقير، رحمة به وشفاقا عليه، فيعطيه بعض مالهابتغاء وجه الله، وصورة الغني الذي امتلأ قلبه بالقسوة، فلم يعد له همٌّ إلا أن يمتص دماء المحتاجين، ويجمع دراهمه ودنانيره من أفواه الجائعين المحرومين.

وضع القرآن الكريم هاتين الصورتين وجهاً إلى وجه، فجاء في آيتنا هذه بعد تحريم الربا قوله تعالى: (وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدتللمتقين، الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين).

ولا شك أن الإنفاق في السراء والضراء إنما يصدر عن ذوي النفوسالسمحة التي لم يفسدها الشح، ولم يصدها الطمع والجشع عن إنقاذ البائسين، والإشفاق على الفقراء والمحتاجين، فإن الذي ينفق في حالة السراء يدل بذلك على أن النعمة لم تطغهولم تفسد عليه إلسانيته، ولم تمنعه من الإحساس ببؤس غيره، ومعاونته على التخلص من هذا البؤس، والذي ينفق في حالة الضراء يدل بذلك على أنه أمرؤ (في طبعه الإيثار، وفي قلبهمن الرحمة ما يدفعه إلى أن ينسى نفسه ليذكر غيره، والي أن يحتمل المشاق ليرفه عن غيره ولو بعض الترفيه، والله سبحانه وتعالى يصف المؤمنين بقوله (ويؤثرون على أنفسهم ولوكان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون).

وهكذا يربي الإسلام النفوس على البذل والإيثار والبر، يعلم الغني أنه لم يخرج بغناه عن دائرة بني جنسه، ولم يصربالمال نوعاً آخر حتى ينكر الناس ويتنكر لحاجاتهم، وإنما هو منهم وهم منه، وهو بهم وهم به، وعليه أن يعاونهم وأن يبادلهم العطف والرحمة والبذل، كما يعلِّم الفقير أنه لميخسر نفسه إذ خسر المال، ولم يفقد كرامته وقيمته الإنسانية، فعليه أن يبذل من ماله ولو كان قليلا، ولو كان في حاجة إليه، ليشعر من يعيش معهم بأنه إنسان ذو قلب.

فهويريد أن يحفظ على الفقير كرامته كالغني، فإنه إذا ساهم ولو بالقليل في تفريح كربة غيره ذاق لذة الأحسان، وشعر بكرامته كإنسان، وإذا رآه من هم أكثر منه مالا، كانت لهم فيهأسوة حسنة، وأحبوه واحترموه، ولهذا أباح الله للفقير أن يأخذ صدقة الفطر، وطالبه في نفس الوقت أن يُخرج عن نفسه وعمن تلزمه نفقته، ومن عرف وسائل التربية الصحيحة تبين لهأن هذا الأسلوب من أعظم الأساليب في انتشال نفوس الفقراء من مواطن الذلة والشعور بالخسة،

وتعويدهم البر والإحسان، وإصلاح نفوسهم وتكريمهابإشعارها أنها ليست نفوساً آخذة منتفعة دائماً، وإنما هي أيضاً نفوس معطية باذلة نافعة.

وكما جاءت الموازنة في هذه الآيات بين الربا الذي هو استغلال حاجة المحتاجلزيادة المال والثراء، والإنفاق في حالتي الرخاء والنضيق الذي هو دليل صلاح النفوس، وتمكن التقوى والإيمان منها؛ جاءت الموازنة بين الربا و الصدقات في سورة البقرة فيعدة آيات، إذ يقول الله تعالى في بيان فضل الصدقة، وحث الناس عليها:

(مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعفلمن يشاء والله واسع عليم).

(ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطلوالله بما تعملون بصير).

(وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه).

(إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم منسيئاتكم والله بما تعملون بصير).

(وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).

(الذين ينفقون أموالهمبالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

وإذ يقول في وخامة عاقبة الربا وتنفير الناس منه:

(الذين يأكلون الربا لا يقومونإلا كما يقوم إلى يتخطبه الشيطان من المس).

(يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم).

(يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتممؤمنين فإن لم فتفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تَظلمون

ولا تُظلمون، وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وإن تصدقواخير لكم إن كنتم تعلمون).

وهكذا يبين الله للناس أن من أراد التضعيف والتنمية لما له حقاً فعليه بالصدقة، فإن الله يضاعفها ويبارك لصاحبها في الدنيا والآخرة، أماالربا فإنه وإن كان تضعيفاً للمال وتنمية له في الظاهر فإنه محق وإزالة في الحقيقة، والمحق كما يكون بإزالة المال وإضاعته بآفة تصيبه أو خسران يحل بصاحبه في تجارة أوكارثة أو نحو ذلك؛ يكون أيضاً بضياع بركته، وذهاب فائدته، وحرمان صاحبه من لذائذه والتمتع به.

وفي هذا المعنى يقول الله عز وجل في موضع آخر: (وما آتيتم من ربا ليربو فيأموال الناس فلا يربو عند الله، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون).

ويقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ـ ولايقبل الله إلا الطيب ـ فإن الله تعالى يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوَّه حتى تكون مثل الجبل).

بهذا كله يتبين أن الإسلام نظر أولا إلى مسألة الرباوالصدقات نظرة إنسانية. وشرع الأمر فيهما على أساس تربية المجتمع تربية خلقية أساسها التراحم والمودة والتعاون وتعليم الإنسان أنه ليس كالحيوان المعتمد على القوةوالغلبة، الذي لا تعرف الرحمة سبيلا إلى قلبه، وإنما هو خَلق كريم ذو قلب وعاطفة وخُلق لا يستقيم أمره في الحياة إلا بها، ولا يصلح شأنه إلا عليها.

وقد دلت التجارب علىأن المجتمع الذي يتركز فيه التعاون والتراحم بين الناس بعضهم وبعض، ويكون شعاره إحساس كل فرد بآلام الآخرين، وتموت من بين أفراده نزعة عبادة المال وتقديمه على كل معنىشريف من المعاني الإنسانية الكريمة؛ دلت التجارب على أن المجتمع الذي يكون شأنه ذلك، يكون مجتمعاً سعيداً هانئا ينظر أغنياؤه إلى فقرائه، وفقراؤه إلى أغنيائه نظرة الحبالمتبادل، والتعاون

المشترك، أما المجتمع الذي تتسلط فيه النزعة المادية على الخلق، فإنه يكون أشبه بمجتمعات الذئاب، كلٌّ يريد أن يستلب لنفسه مايستطيع ولو مات غيره، وكلٌّ يتربص بغيره دائرة السَّوء، وما هذه الرَّجَّات التي تصيب الدول من قيام الفقراء على الأغنياء، وتهديدهم المستمر لأصحاب الثروات ورءوسالأموال، إلا أثراً من اختلال الأمر بعد اختلال هذا الجانب الخلقي، وهذا هو السر في أن الله سبحانه وتعالى ربط النهي عن الربا بالإيمان في ابتداء الآية حيث قال: (يأيهاالذين آمنوا) وبالتقوى والفلاح في آخرها حيث قال: (واتقوا الله لعلكم تفلحون) ثم بالرحمة حيث قال: (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) وما الفلاح والرحمة إلا استقامة أمورالناس على الصراط المستقيم، وما يسودهم من روح الإخاء والسعادة المشتركة التي تجمع بين قويهم وضعيفهم، وغنيهم وفقيرهم، وتربطهم جميعاً برباط من التآلف والمحبة.

أمانظرة الإسلام في تحريم الربا إلى الجانب الاقتصادي العلمي بعد هذا الجانب الخلقي، فمرجعها إلى أن المجتمع الصالح المبني على أسس قوية هو المجتمع الذي يكون كل فرد منأفراده عضواً عاملا فيه، أما إذا كان بعض أفراده عاملين، وبعضهم كسالى يعيشون عالة على غيرهم، ويعتمدون في بقائهم ومتاعهم على ما يقدمه الآخرون لهم، فإن هذا المجتمعيختل توازنه، ويدركه الضعف والشقاء والتخاذل بقدر ذلك، وفي يقول الإمام الرازي: (إنما حرم الربا من حيث إنه يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب، وذلك لأن صاحب الدرهم إذاتمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقدا كان أو نسيئة خف عليه اكتساب وجه المعيشة، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة، وذلك يقضي إلىانقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحرف والصناعات والعمارات).

وللإمام الغزالي رضي الله عنه بحث ممتع في كتاب الشكر منالإحياء تعرض فيه يما يعد أساساً في هذا الجانب الاقتصادي، وخلاصته أن المال ليس مقصوداً

لذاته، وأن الدارهم والدنانير في نفسيهما ليسا إلا حجرينكسائر الأحجار، وإنما خلقهما الله ليكونا وسيلة للتعامل بين الناس وقضاء المصالح، ويُتخذا ميزانا لتقدير قيم الأشياء التي يحتاج إليها الناس في معاشهم، فقد يكون عندكثياب أو إبل أو نحو ذلك، وأنت محتاج إلى دقيق، وليس صاحب الدقيق محتاجا إلى شيء من ثيابك أو إبلك حتى تبيعه بعضها ببعض ما لديه من الدقيق، وإنما هو محتاج إلى حديد أو آجرمثلا، فاحتيج إلى النقد ليتوسط بين الناس، فيكون أداة التبادل، والحَكَم العدل فيه، فمن خرج به عن هذا الوضع الذي وضعه الله له فقد كفر بنعمة الله فيه، فإذا كنزت المالفكأنك حبست الحاكم ومنعته من أن يتصرف ويقوم بما عليه، وإذا استملت الذهب والفضة في آنيتك فكأنك سخَّرت الحاكم فيما تفعله العامة والدهماء من الخدمة، لأن النقد لم يجعللذلك، وإنما جعل لذلك الحديد والنحاس وأمثالها من المعادن المعدة للخدمة لا للحكم وتعديل التعامل، وعلي هذا يكون النظر إلى النقدين على أنهما ليسا ميزانا للتقدير،والخروج بهما إلى إن يكونا مقصودين بالتعامل، واستغلال المال بالمال، مما لا يقه الشرع ولا يرضاه الله لعباده، لأنه يؤدي إلى انحياز المال للأغنياء، وتكدسه في خزائنهموصناديقهم، ووقوف حركة الأعمال والتثمير بين الناس، وانهيار قيمتها، وشيوع البطالة والكساد في الأمة.

هذه نظرة الإسلام إلى الربا من الجانب الخلقي الانساني، ومنالجانب الاقتصادي العملي، ولذلك حرمه الله تحريما قاطعاً، وتوعد آكليه بأشد العقوبة، فقال في سورة آل عمران بعد النهي عنه: (واتقوا النار التي أعدت للكافرين) إيذاناًبسوء عاقبة آكليه يوم القامة، وقال في سورة البقرة: (ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). (والله لا يحب كل كفار أثيم). (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله).(واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون).

يرى بعض الناس أن الربا أصبح في عصرنا الحاضر معاملة عامة، وأساساً من

أسس الاقتصاد، فإن المصارف المالية والشركات المختلفة التي لا غنى للأمة عنه تعتمد عليه في سائر معاملاتها، وليس من الرأي ولا من مصلحة الأمة أن نشير عليها بهدمذلك كله، وأن ننفرد من بين الأمم بمعاملة خالية من الربا، وأن نترك البيوت المالية الأجنبية تفيد من ثمرات هذا التعامل العالمي دوننا، وقد ارتبطت الدول والأمم بعضهاببعض فلم يعد من الممكن أن تستقل أمة بنوع من المعاملة لا تعرفه غيرها، وإن أساليب الإصلاح والعمران لتستدعي رصد الأموال وتجميعها من الأفراد لتستغل فيما ينفع الأمة،وتستدعي في كثير من الأحيان أن تقترض الحكومات من غيرها أو من الشعوب أموالا تضمنها بسندات ذات ربح مقدر، فتمتض بذلك الأموال المدخرة المعطلة، وتحولها إلى منافع ومصالحترقي بها الأمة وتسعد.

ويقولون هذا ويرون أن تحريم الإسلام للربا عائق عن بلوغ الأمة شأو أهل المدنية الحديثة، مفض بها إلى الضعف المادي، فالضعف الأدبي، فالاستعمار.

ومن الناس من يقول: إن اقتراض المحتاج قدرا من المال بفائدة ربوية (قانونية) يمكنه من سد حاجته ويدرأ عنه الإفلاس والضياع، فلا يعقل أن يكون هذا ضرراً أو فساداً، وإنماهو نفع وصلاح، ونحن نجد من المعاملات التي أباحتها الشريعة الإسلامية ما يعتمد على دفع الأقل عاجلا للحصول على الأكثر آجلا كالسلم، فحيث أجاز الشرع معاملة السلم فليجزمعاملة الربا، فإن المعنى واحد.

وهذا موضوع قد أثير كثيراً، وشغل الأفكار منذ أنشبت المدنية الحديثة أظفارها في أعناق المسلمين، وعمل أهل التشكيك في صلاحية الإسلاملكل زمان ومكان عملهم المثابر المتواصل في الفتنة وزلزلة القلوب عن دين الله، والقضية في الحقيقة ليس قضية الربا أو غيره من المعاملات المالية، وإنما هي قضية الشريعةالإسلامية كلها، وقد انصرف عنها أهلها، وتعلقوا بأهداب غيرها من قوانين الأمم الغالبة المسيطرة عليهم، ومن شأن المغلوب أن يولع بتقليد الغالب،

ويرى أكثر ما يفعله خيراً وصلاحا، ويزين له الشيطان أن نجاحه إنما يرجع إلى عدم تمسكه بما يتمسك به هو من القواعد والأصول، والآداب والتقاليد.

لو كن للإسلام اليومدولة وقوة لكان تشريعه هو المتبع، ولكان للأمم والشعوب من الوسائل الاقتصادية العملية ما يغنيهم عن الربا وغير الربا مما حرمه الإسلام، وإن للكسب لموارد طبيعية هيالأساس والفطرة، كالزراعة والصناعة والتجارة والشركات المساهمة والتعاونية، ولا يستطيع أحد أن يقول إن الشعوب لا تستطيع أن تقيم مدنيتها على أساس التعاون والتراحمومساعدة الفقير والمحتاج بإقراضه قرضاً حسناً على نظام يكفل لأصحاب الحقوق حقوقهم، ولا يؤدي إلى إثقال كواهل المدينين، واستلاب أموالهم بالباطل.

إن هذه النظمالاقتصادية التي يتشدقون بها، ويأخذون على الإسلام عدم مجاراته لها، فقد صارت الآن في موضع الشك والتزلزل عند أهليها والمتعاملين بها، وأصبح العالم يميل إلى نظاماشتراكي يحول بين أن يوجد في الشعب طائفة قليلة العدد مستحوذة على المال، منتفعة بما يدره عليها من الربح والجاه والنفوذ، وطائفة هي الكثرة العاملة الناصبة لا هم لها إلاأن تكدح لهؤلاء وتجد في تنمية ثرواتهم، ثم لا ينالها من هذا الكدح والنصب إلا أدنى القوت، وأحط المساكن والملابس، وما الربا إلا اعتراف بحق أصحاب الأموال في الامتياز علالعاملين فهو مناقض لروح التيقظ مصادم لها، فإذا كان أهل هذه النظم قد بدأوا يفقدون إيمانهم بها، بل فقدوا هذا الإيمان فعلا، وأخذوا يلتمسون سبيلا آخر تستقيم به الحياةالسعيدة للأمم؛ أفلا يجدر بنا معشر المسلمين أن نتخفف من حماستنا لها، ومن ثقتنا بها؟.

أترى لو كانت مصر مثلا قادرة على أن تعمل بالتشريع الإسلامي فتلزم جميع ساكنيهابمنع الربا، وتضع لهم اسلوباً من التعامل يتفق ودينها، أكان ذلك يضرها أو يعطل مرافق إصلاحها؟.

إننا لا نتردد في الإجابة عن هذا السؤال بالنفي، رلسنا في ذلك متجاهلين

للحقائق، ولا جاهلين بسنن الاجتماع، فإن الأمم يألف ما يوضع لها من النظم، وتطمئن إليه، وإذا عرف أفرادها أنه لا سبيل إلى نوع من التعامل لتحريمه،التمسوا غيره، ووطنوا أنفسهم على الاكتفاء بما أبيح لهم.

بهذا يتبين أن ما يزعمه الزاعمون من عدم إمكان التخلص من الربا، ووجوب مجاراة الأمم في التعامل به،ليسصحيحاً. وأنه يمكن تدبير الأمر على نحو يتفق مع ما تبيحه الشريعة لو أراد الناس ذلك مخلصين.

أما ما اعترضوا به من إباحة السلم فإن السلم بيع فيه ثمن ومثمن، وليس النقدهو كل شيء فيه، وليس المشتري فيه دائماً كاسباً، فقد ترخص السلعة عند حلول الأجل وقد تغلو، فالمخاطرة التي تكون في التجارة موجودة فيه، على أن الربح في السلم ليس شأنه أنيكون أضعافا مضاعفة كالربح في ربا النسيئة، وإذا فرضنا أن المشتري غبن صاحبه في صفقة السلم استغلالا لحاجته، فان الشريعة تحرم هذا، وبعض المذاهب يجعل الغبن الظاهر منمفسدات العقد أيا كان.

بقى علينا أن ننبه في هذا الشأن لأمر خطير، هو أن بعض الباحثين المولعين بتصحيح التصرفات الحديثة، وتخريجها على أساس فقهي اسلامي،ليعرفوا بالتجديد وعمق التفكير يحاولون أن يجدوا تخريجاً للمعاملات الربوية التي يقع التعامل بها في المصارف أو صناديق التوفير أو السندات الحكومية أو نحوها، ويلتمسونالسبيل إلى ذلك، فمنهم من يزعم أن القرآن إنما حرم الربا الفاحش بدليل قوله: (أضعافاً مضاعفة) فهذا قيد في التحريم لابد أن يكون له فائدة وإلا كان الإتيان به عبثاً، تعالىالله عن ذلك، وما فائدته في زعمهم إلا أن يؤخذ بمفهومه وهو إباحة ما لم يكن أضعافاً مضاعفة من الربا.

وهذا قول باطل، فإن الله سبحانه وتعالى أتى بقوله (أضعافاً مضاعفة)توبيخاً لهم على ما كانوا يفعلون، وإبرازاً لفعلهم السيء، وتشهيراً به، وقد جاء مثل هذا الأسلوب في قوله تعالى (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا

لتبتغوا عرض الحياة الدنيا) فليس الغرض أن يحرم عليهم إكراه الفتيان على البغاء في حالة إرادتهن التحصن، وأن يبيحه لهم إذا لم يردن التحصن، ولكنه يبشع مايفعلونه ويشهر به ويقول لهم: لقد بلغ بكم الأمر أنكم تكرهون فتياتكم على البغاء وهن يردن التحصن، وهذا أفظع ما يصل اليه مولى مع مولاته، فكذلك الأمر في آية الربا، يقولالله لهم: لقد بلغ بكم الأمر في استحلال أكل الربا أنكم تأكلونه أضعافاً مضاعفة فلا تفعلوا ذلك، وقد جاء النهي في غير هذه المواضع مطلقا صريحا، ووعد الله بمحق الربا قل أوكثر، ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه، كما جاء في الآثار، وآذن من لم يدعه بحرب الله وحرب رسوله واعتبره من الظلم الممقوت، وكل ذلك ذكر قيه الربا على الإطلاق دون تقييدبقليل أو كثير.

ومنهم من يميل إلى اعتباره ضرورة من الضرورات بالنسبة للأمة، ويقول: ما دام صلاح الأمة في الناحية الاقتصادية متوقفاً على أن تتعامل بالربا، وإلااضطرب أحوالها بين الأمم، فقد دخلت بذلك في قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات).

وهذا أيضا مغالطة، فقد بينا أن صلاح الأمة لا يتوقف على هذا التعامل، وأن الأمر فيه إنماهو وهم من الأوهام، وضعف أمام النظم التي يسير عليها الغالبون الأقوياء.

وخلاصة القول، أن كل محاولة يراد بها إباحة ما حرم الله، أو تبرير ارتكابه بأي نوع من أنواعالتبرير، بدافع المجاراة للأوضاع الحديثة أو الغربية، والانخلاع عن الشخصية الإسلامية، إنما هي جرأة على الله، وقول عليه بغير علم، وضعف في الدين، وتزلزل في اليقين،وقد سمعنا من يدعو إلى البغاء العلني ويجيزه، ويطالب بالعودة إليه، ويرى أنه إنقاذ من شر أعظم يصيب الأمة من انتشار البغاء السري، وبمثل هذا يتحلل المسلمون من أحكامدينهم حكما بعد حكم، حتى لا يبقى لديهم ما يحفظ شخصيتهم الإسلامية، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله العصمة من الفتن.

النداء الخامس قوله تعالى:

(يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بل الله مولاكم وهو خير الناصرين سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لمينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين).

يقول المفسرون: إن هذه الآيات نزلت في سياق الكلام عن غزوة أحد، وكان المشركون وعلي رأسهم أبو سفيان، والمنافقونوعلي رأسهم عبد الله بن أبي وأتباعه، قد جعلوا يبثون فتنتهم في ضعفة المؤمنين، ويقولون لهم: لو كان محمد رسول الله ما وقعت له هذه الواقعة، وإنما هو رجل كسائر الناس يوماله ويوما عليه، فارجعوا إلى دينكم الذي كنتم فيه.

والكلام شامل لجميع المؤمنين ولجميع الكفار، وقد تضمنت الآيات أموراً ثلاثة:

الأمر الأول: نهي الله المؤمنين عنأن يطيعوا الكافرين، حيث بين لهم أن في إطاعتهم الانقلاب على الأعقاب وخسران الدنيا والآخرة.

وهذه حقيقة يجب أن تكون مائلة أمام أعين المؤمنين في كل زمان ومكان، فإنالكفر عدو الإيمان، ولا يزال العدو يحارب عدوه، ويتربص به الدوائر حتى يوقعه ويهزمه لو استطاع، وأهل الكفر لايفتأون يحاربون المسلمين ليردوهم عن دينهم، ويعيدوهم فيملتهم، ولهم في ذلك أساليب ليست الحروب أشدها، ولا افظعها، منها غزو أفكارهم بمبادئهم الفاسدة التي يصورونها لهم في صوره الصلاح والتقدم والمدنية، ومنها إغراء العداوةبينهم، وتقطيع الأواصر بين شعوبهم وطوائفهم، فهم يخيلون لكل فريق من المسلمين أنه هو المحق وهو الجدير بالزعامة، وعلماؤه هم خير العلماء، وقادته هم أعظم القادة، وبلادههي خير البلاد، لا يريدون بذلك إلا أن يحولوا بينهم وبين التفاهم والتقارب، لأنهم إذا تقاربوا وتفاهموا كانوا قوة، وكانت لهم العزة، وبطل من بينهم سحر الاستعمار، ولميعد لأهل الكفر سلطان عليهم، ولا تأثير فيهم.

وإن تاريخ الاستعمار على ذلك لشهيد، فما من شعب كان للمستعمرين سلطان عليه، أو نفوذ فيه، إلا أحيوا فيهالعصبية، وأوقدوا في قلوب أهله نيران الخصومة لإخوانهم، فهم يقطعون في داخل البلاد أواصر الأخوة والقربى باسم الخلافات الحزبية، ويقطعون في خارجها صلات المحبةوالتعارف باسم الخلافات الطائفية، ولا يزالون يغذون هذه النيران بما استطاعوا حتى تأتي على كل شيء، وقد حفظ التاريخ في هذه الناحية صوراً كريهة احترب فيها المسلمونبعضهم مع بعض في الشعب الواحد، فكان منهم قاتلون ومقتولون تحت راية الغاصب المحتل وأي شيء أفظع من أن يقتل الأخ أخاه بتغرير عدوهما المشترك؟.

ولو أننا معشر المسلمينعملنا بإرشاد الله لنا، وبما تضمنه كتابه الحكيم من هداية وتعليم، لما كان هذا شأننا معهم، ولما كنا أطعناهم فمكناهم بهذه الطاعة من أعناقنا، وأعناهم على أنفسنا.

الأمر الثاني: تقرير ولاية الله للمؤمنين، وكفالته إياهم بالنصر، وهو خير الناصرين.

ولا شك أن المؤمن القوي الإيمان لا يعتمد إلا على ربه، ولا يطلب النصر إلا منه(وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم).

والله سبحانه وتعالى لا يخذل المؤمنين أبدا، لأنه وعد ووعده الحق لينصرن من ينصره، وليثبتن أقدام المؤمنين، فإذا وجدناأنفسنا في وقت ما مخذولين، ووجدنا أعداءنا علينا متسلطين، فليس لنا أن نشك في وعد الله، ولكن علينا أن نسائل أنفسنا أين نحن من الإيمان؟ وأين نحن من نصر الله؟ وأين نحن منالتضحية في سبيله بالمال والولد والمتاع؟.

الأمر الثالث: وعد الله جل شأنه بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بسبب إشراكهم.

وهذه سنة من سنن الله في الخلق في كلمعاند للحق وهو يعلمه، تراه متظاهراً

بالقوة والجلد مع أنه ممتلئ القلب بالرعب والخوف، ولو أنه وجد أمامه ثباتا في المقاومة، وثقة في المغالبة، لخرصريعاً،

ولقد كان المؤمنون الأولون أقوياء بإيمانهم، لا تزلزلهم عنه فتنة، ولا يصرفهم عن نصرته متاع، كانوا واثقين بالله ورسوله ثقة لا يخالجها شك، ولا يفسدها تردد،كان يستوي لديهم إذا خرجوا مجاهدين في سبيل الله أن يموتوا مستشهدين، أو يعودوا منتصرين (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين).

ولذلك كانت هيبتهم عظيمة، فكان الكافريرى نفسه أمام قوم باعوا أنفسهم بيع السماح، يبسمون للموت، ويقبلون عليه كأنهم يقبلون على رغبة من رغباتهم، أو شهوة من شهواتهم، ويحسن منهم بالعزيمة الصادقة، والإرادةالقوية، بينما يعلم في نفسه أنه يحارب عناداً وتكذيباً والتماساً لبقاء مجده وعزه الدنيوي، فلا تلبث قواه أن تخور، ولا تلبث عزيمته أن تنحل، ولا يشعر بنفسه إلا وقداستولى عليه الرعب، وأخذه الجبن.

وقد ظل أمر المؤمنين على ذلك ينصرهم الله بالرعب الذي يلقيه في قلوب أعدائهم، حتى كانت تفتح لهم أبواب البلاد،

وتفر أمامهمالجيوش التي تربو على جيوشهم في العدد والعُدد، وتسبقهم شهرتهم بالعدل والإنصاف ومحبة الحق حتى تتكسر أصنام الحكم والسلطان، وتخر عروش الجبروت والطغيان، قبل أن يتحركوامن بلادهم، ظلوا على ذلك حتى غيروا ما بأنفسهم فغير الله عليهم، فأصبحوا غثاء كغثاء السيل نزع الله هيبتهم من قلوب أعدائهم، وصاروا كقصعة يتداعى إليها الآكلون.

فينبغي أن نعلم أن سنة الله إلقاء الرعب في قلوب الكافرين مرتبطة باستقامة المؤمنين على صراط الإيمان، وهذا هو السر في أن الكفار لا يهابوننا الآن، ولا يعبأون بنا مثالذرة، وقد جعل الله تعالى علة إلقاء الرعب في قلوبهم هي إشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطانا، وهي علة تؤثر فيهم الضعف وتزلزلهم عن مواقف الثبات والشجاعة، فإن الكافر يكوندائما ً موزع القلب بين من سوى الله

خالياً من الثقة به، فاقداً للروح المعنوية التي لا ثبات إلا بها، ولا نصر إلا على أساسها، فالإشراك بالله علةمؤثرة لتخاذله وتراخيه ورعبه واصطرابه، ويفهم من هذا أن الإيمان بالله، والثقة بوعده، علة مؤثرة للقوة المعنوية، والشجاعة الحسية، والثبات على الشدائد، ومقارعةالأهوال، وانظر في ذلك قوله تعالى:

(الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لميمسسهم سوء، واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم، إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين).

النداء السادس قوله تعالى:

(يأيهاالذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون).

وقد ختمت السورة بهذا النداء الجامع القوي، الذي يدخل فيه كل ما سبقه من النداءات، والذي يعد برأسه معهذا الاختصار دستوراً للفلاح والنجاح لا يعادله دستور.

تضمن هذا النداء أربعة أوامر إلهية:

أولها قوله تعالى (اصبروا)، والصبر عدة في الحياة فإن الحياة كدحوجهاد، وأكثر ما فيها صعاب ومشاق، فإذا يم يكن المرء مسلحا فيها بسلاح الصبر، اهتزت أعصابه وتحطمت، وصار ضعيفا عاجزاً عن مواصلة السير فيها، وقد علمتنا الأحداث والأزماتالتي مرت بالعالم أخيرا إن الأمم التي اعصتمت بالصبر، وقويت أعصابها على احتمال الصدمات دون أن تضطرب أو يفلت منها الزمام، هي التي كسبت، وهي التي نجحت، وكذلك الشأن فيالأفراد، وهذا هو السر في أن القرآن الكريم غنى بالصبر، وأكثر من حث المؤمنين عليه، وسلك كل سبيل للترغيب فيه، وأمر ذلك معروف مشهور.

ثانيها قولهتعالى: (وصابروا) والمصابرة هي المغالبة في الصبر، فهو لا يطلب منهم أن يصبروا في أنفسهم فقط، ولكن أن يغالبوا أعداءهم في الصبر، فالصبر يكون في كل ما يصيب المرء من أزماتتقع عليه خاصة. والمصابرة تكون فيما يصيب المرء ويصيب أعداءه من شدائد في مثل الحرب والجهاد، وقد جاء الأمر بالمصابرة في قوله تعالى: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله)أي فلا يغلبوكم بالصبر على قرحهم، أكثر من صبركم على قرحكم، وفي قوله تعالى: (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون ن الله ما لا يرجون) أي فعندكم سبب للتفوقوالغلب ليس عندهم مع استوائكم وإياهم في تحمل الأذي والألم.

ثالثها قوله تعالى: (ورابطوا) والرباط هو اللزوم والثبات، وأصلة من الربط بمعنى الشد، وهو عزيمة يعزمهاالمؤمن بالشيء فيربط الله بها على قلبه فلا يتحول ولا يتزلزل.

وكل أمر حرص الإنسان على لزومه أو التزامه فقد رابط عليه وارتبط به، ومنه الرباط الذي يكون في الثغور،ورباط الخيل أي ربطها للحرب والجهاد وتخصيصها بذلك، والرباط الذي هو انتظار الصلاة بعد الصلاة، وغير ذلك.

والله سبحانه وتعالى يوصي المؤمنين بأن يكونوا ذوى عزائمثابتة في كل شيء، وأن يكونوا مرابطين في كل ما يصلح نفوسهم وأحوالهم وشئون أمتهم، حذرين من أن يتسرب إلى أية ناحية من هذه النواحي خلل أو فساد أو وهن، كما يقف المرابط فيالثغر يحرسه من أن يدلف إليه عدو، أو يتطلع إلى أسراره جاسوس.

رابعها قوله تعالى: (واتقوا الله) والتقوى هي الوصية العامة التي يكثر القرآن من إيصاء المؤمنين بها، وقدتقدم الكلام عليها في أول هذه النداءات.

وقد ختمت هذه الأوامر الإلهية الأربعة بقوله تعالى: (لعلكم تفلحون) إشارة إلى أن الفلاح مرجو لمن استجاب لها، وقام بها، وهويشمل فلاح الدنيا وفلاح الآخرة.

ونحن إذا تذكرنا ما عرضت له هذه السورة من مواقف المؤمنين مع أهل الكتاب يهوديهم ونصرانيهم، ومواقف الحرب بينالمؤمنين والمشركين في حالة النصر مع قلة العدد والعُدد بسبب الصبر وحسن الطاعة والاعتماد على الله، وحالة الهزيمة مع الكثرة بسبب المخالفة والعصيان، ومواقف المؤمنينمع المنافقين الذين كانوا يرجفون عليهم بأساليب التغرير والتخذيل والكيد، ومن ارشادات الله في كل هذه المواقف إلى ما يحفظ على الأمة كيانها، ويثبت أقدامها، ويحقق لهانصر الله الذي وعدها، سواء فيها يقع بينهم وبين أعدائهم، أو فيما يقع بين بعضهم وبعض ـ إذا تذكرنا هذا كله، واستحضرناه أمام أعيننا، واستحضرنا أن القيام به ليس بالشيءالهين اليسير عرفنا كيف قضت الحكمة بأن تختم هذه السورة بالإرشاد إلى العلاج فيما حدث، والوقاية مما عسى أن يحدث ولا يكون هذا العلاج الا بالصبر والمصابره ولا تكون هذهالوقايه إلا بالرباط والوقوف أمام منافذ الشر بما يدرؤه ويرده من حيث أتى، والتقوى ملاك العلاج والوقاية كليهما، وسبيل الحصول على الكمال المقدر للإنسان في هذه الحياةباجتناب ما يضر، واجتلاب ما ينفع، وذلك عين الفلاح الذي وعد الله به المؤمنين.

هذه هي النداءات الإلهية التي تضمنتها سورة آل عمران إرشاداً للمؤمنين، وتعليمالهم، وبياناً لكل ما تصلح عليه شئونهم، وتستقيم به دولتهم وأمتهم، ويدرءون به عن أنفسهم مخاطر الفشل، ومكايد الأعداء، ووساوس الشيطان، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

/ 1