تفسیر القرآن الکریم نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم - نسخه متنی

محمد محمد المدنی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تفسير القرآن الكريم

سورة الأنعام




والأهداف الأولى للإسلام

الوحي والرسالة ـ سر إنكارهماودليل ثبوتهما ـ مواضع هذا الدليل في القرآن الكريم ـ المناقشة في الوحي فرع الإيمان بالله ـ شبهتان قديمتان للمنكرين:

الاستبعاد ـ الإكتفاء بالعقل ـ الشبهة الأولىبلسان المنكرين المعاصرين ـ الرد عليها ـ الشبهة الثانية بلسان المنكرين المعاصرين ـ الرد عليها ـ القرآن يثبت نبوة محمد والأنبياء قبله ـ سر الإكتفاء بدليل إجمالي ـأسلوب السورة مع المنكرين تلقيني إنذاري ـ سورة الأنعام وبيان الحقيقة في شأن الرسول ـ مهمة الرسول تنحصر في التبشير والإنذار ـ إنما يستجيب الذين يسمعون ـ إرشاد الرسولإلى المسلك القويم مع المخالفين والموافقين ـ تسلية الرسول.

الوحي والرسالة:

كما تحدثت سورة (الأنعام) عن الألوهية والربوبية، ولفتت الناس إلى مظاهر همافي الخلق والتصرف والتدبير المحكم؛ تحدثت عن حقيقة ثانية تنبني على الإيمان بهذه الحقيقة الأولى: ذلك أن من شأن الإله الرب أن يهدي عباده ويرشدهم إلى ما تصلح أمورهم،وتقوم عليه سعادتهم في دنياهم وأخراهم، فإن ربوبيته ـ جل شأنه ـ ليست قاصرة على ما هيأ من أسباب الحياة المادية، وإنما هي ربوبية ذات آثار معنوية روحية كذلك، ولعل هذا هوالمعنى المراد في قوله تعالى: (أعطي كل شيء خلقه ثم هدى) فإعطاؤه الخلق كل شيء هو مظهر النعم المادية التي أنعم بها عليهم، حيث سخر لهم ما في السموات وما في الأرض،

وهدايته هي مظهر النعم الروحية التي تفضل بها عليهم، حيث وهبهم العقل وأسباب العلم، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وسن لهم الشرائع.

عنيت سورة(الأنعام) بهذه الحقيقة، كما عنيت بالحقيقة الأولى، فتحدثت في كثير من آياتها عن الوحي والرسالة من جوانب شتى، بعضها يتصل بإثبات الوحي وبيان حكمته والرد على منكريه،وبعضها يرجع إلى بيان ما هو من وظيفة الرسول، وما ليس من وظيفته، وبعضها يتصل بموقف الناس أمام الرسالات الإلهية، وبعضها يتعلق بالآداب التي رسمها الله للرسول، وماينبغي أن يكون عليه سلوكه مع مخالفيه وموافقيه.

ومن الخير أن نعرض لهذه الجوانب التي عرضت لها هذه السورة الكريمة، متعرفين إلى أسلوبها الذي عالجتها به، منتفعينبهديها فيه.

سر إنكارهما ودليل ثبوتهما:

فمن ذلك أنها لخصت قضية الوحي والرسالة في صدر آية من آياتها، هي الآية الحادية والتسعون، يقول جل شأنه: (وما قدروا اللهالله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) فهذه الجملة على وجازتها تشتمل على ما يأتي:

تسجيل كفر الكافرين بهذا الشأن الألهي الذي هو إنزال الوحي على البشر.

الإشارة إلى شبهتهم الأساسية التي يتوارثونها خلفاً عن سلف في إنكار هذه الحقيقة، وهي استبعادهم حصول ذلك، أو زعمهم إغناء العقل عنه.

إجمال الدليل الذي يرد بهعليهم، وهو دليل صالح لكل عصر، ولكل ثقافة، لأنه دليل عقلي فطري فيه ذكر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

مواضع هذا الدليل في القرآن الكريم:

ولعل من المفيدأن نذكر في هذا المقام أن هذه العبارة: (ما قدروا الله حق قدره) جاءت في ثلاثة مواضع من الكتاب الكريم:

الموضع الأول: هذا الموضع من سورة الأنعام، وقدأتبعت بقوله تعالى: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس) وهو مقابلة لسلبهم العام حيث قالوا: (ما أنزل الله على بشر من شيء) بالإثبات الجزئي لرسالة مشهورةمعروفة، وفيه بيان لوجه الحكمة في الإيحاء بهذه الرسالة، حيث قصد بها أن تكون نوراً وهدى للناس، ثم أتبع ذلك بالإشارة إلى القرآن الكريم في قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناهمبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها) وهي إشارة إلى حاضر شاهد بين أيديهم، مصدق لما سبقه، مع بيان الغاية منه، والحكمة في إنزاله، وهي إنذار أم القرى ومنحولها.

والموضع الثاني: هو قوله تعالى في سورة الحج: (ما قدروا الله حق قدره، إن الله لقوي عزيز، الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير).

وفي هذاالموضع جاءت العبارة نفسها معقبة بإثبات قوة الله وعزته، وأن اصطفاء الله الرسل من الملائكة ومن الناس شأن من شئونه.

والموضع الثالث: قوله تعالى في سورة الزمر: (وماقدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون، ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله،ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون).

وفي هذا الموضع تفصيل لبعض مظاهرالقوة والعزة التي أثبتت لله مجملة في الموضع الثاني، ثم ينتهي الكلام بذكر المجئ بالنبين والشهداء والقضاء بين الناس بالحق.

وهكذا تتلاقى العبارة التي صدر بهاالكلام في هذه المواضع الثلاثة: (وما قدروا الله حق قدره) مع ما جاء تالياً لها في كل موضع، ويكون هذا التلاقي على معنى واحد مشترك هو إثبات أن الله يوحي، لأنه قادر قوي،ولأنه حكيم عليم.

المناقشة في الوحي فرع الإيمان بالله:

بعد إجمال القول فيما تفيده هذه الجملة، نتبعه بشيء من التفصيل فنقول:

إن قضية الوحيوالرسالة من القضايا العويصة التي شغلت الناس قديماً وحديثاً، لما لها من أهمية قصوى في حياة البشر، إذ يترتب عليها مبدأ الإيمان بالأديان، فيعترف أهل الأرض بتوجيهالسماء، أو مبدأ (اللادينية) التي لا تعترف بهذه الصلة ولا ترتبط بها، وترى أن الإنسان سيد نفسه، وسيد هذا الكون الذي يعيش على ظهره. لا يتلقى في شأن من شئونه وحياً إلا منعقله وتجاربه.

ومن الواضح أن هذه القضية تأتي في الترتيب العقلي بعد الإيمان بالألوهية، فمن آمن بأن للوجود إلهاً مستحقاً للعبادة متصفاً بصفات الكمال والتنزيه؛أمكن أن يناقش في الوحي والرسالة، إذ الرسالة تقتضي وجود (المرسل) والوحي يقتضي وجود (الموحي) وإذا انتفى الإيمان بمصدر الوحي والرسالة، فالكلام فيهما عبث لا طائل تحته.

وقد علمنا في الفصل السابق أن الناس في قضية الألوهية صنفان: صنف جاءه الضلال من أنه أشرك مع الله آلهة أخرى. فهو معترف بالله ولكنه يرى نفسه أقل من أن يتصل به مباشرة،فهو يعبد الشركاء ليقربوه إلى الله زلفى، وصنف أبعد من هؤلاء في الضلال، وهم الذين ينكرون الإله ويزعمون أن هذا الكون وجد بدون موجود، وأنه يسير بنفسه دون مدبر ولا مصرف.

وعلمنا أن القرآن الكريم يثبت (الألوهية) بإثبات مظاهر (الربوبية) وأن هذا الإثبات يصلح للصنفين جميعاً، فهو يصلح للذين يتخذون مع الله إلهاً آخر، حيث يفيدهم أن الربالذي (خلق) و(جعل) ـ أي أنشأ وصرف ـ واحد، فيجب أن يكون هو وحده المستحق للعبادة والطاعة، وهو يصلح أيضاً لمنكري الربوبية إطلاقاً، من حيث إنه يناشد فطرتهم الكامنة،وعقولهم التي لا يمكن أن تتقبل محض المصادفة التي يزعمونها مع هذا الخلق الكامل، والتدبير المحكم، والشواهد الناطقات.

والصنف الثاني مع هذا قلة منالناس في كل عصر، لا يؤبه لهم، ولا يمكن أن يناقشوا أو يساق لهم دليل غير الدليل الكوني الذي يصرون على إنكاره، فلا حيلة فيهم غير تركهم وإهمالهم حتى تقرعهم القوارع التيتهذب نفوسهم وعقولهم فتوجههم إلى تدبر الآيات والبينات، أو حتى تنقضي حياتهم فيعودوا إلى ربهم فيعترفوا بما كانوا يجحدون.

لهذا كله بنيت جميع العقائد الدينية وأدلةإثباتها على الأساس الأول والحقيقة الكبرى، وهي وجود الله الخالق المتصرف المستحق للعبادة والطاعة، ومن بين هذه العقائد، أو هذه الحقائق، حقيقة الوحي والرسالة، فالبحثفيها مبني على الإيمان بالله، وبما له من صفات الكمال والتنزيه.

وعلى هذا الأساس جادل الناس قديماً وحديثاً في قضية الوحي والرسالة، وجودلوا فيها.

شبهتان قديمتانللمنكرين: الإستبعاد:

والقرآن الكريم يبين لنا في كثير من آياته أن هناك شبهتين قديمتين يقوم عليهما دائماً إنكار المنكرين:

إحداهما: إن ذلك مستبعد أو مستحيل، إذكيف يتصور العقل في زعمهم أن يتصل الخالق بالمخلوق فيوحي إليهم بأمره أو كلامه، فالخالق له صفات التي منها تنزهه عن المكان والصوت، والمخلوقون لهم صفاتهم التي منها أنهممحدودون قاصرون لا يستطيعون أن يتلقوا الكلام والأمر إلا من مثلهم، وقد جوبهت الرسالات الإلهية بهذه الشبهة منذ العهود الأولى، فنوح يقول لقومه: (أو عجبتم أن جاءكم ذكرمن ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون).

وهود يقول لقومه عاد هذه العبارة نفسها: (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم) والملأ الكافرون منقوم صالح يقولون للذين آمنوا به: (أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه? قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون، قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون) وهكذا كل رسالة. حتى ليقولالقرآن الكريم

في الرسل عامة: (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون). (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أنقالوا: أبعث الله بشراً رسولاً) ويقول في شأن خاتم النبيين والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين: (أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس).

(وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم). (وقالوا ما لهذا الرسول بأكل الطعام ويمشي في الأسواق)....الخ.

وقد جاء هذا الإنكار المبني على الاستبعاد في سورة الأنعامحيث تقول: (ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين، وقالوا لو لا أنزل عليه ملك....). (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذاجاءوك يجادلونك يقول الذين كفورا إن هذا إلا أساطير الأولين).

(قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) إلى غير ذلك منالآيات.

الإكتفاء بالعقل:

الشبهة الثانية: أن الله تعالى وهب الإنسان العقل، فهو كاف لهدايته وإرشاده، وليس بالناس معه من حاجة إلى وحي أو رسول، هكذا يزعمون.

والقرآن الكريم يشير إلى هذه الشبهة من شبه المنكرين فيما بينه من حكمة إرسال الرسل في مثل قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهمالكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه).

(لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل). (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراطالعزيز الحميد). (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم).

ومن ذلك في سورة الأنعام قوله تعالى: (يا معشر الجنوالإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا). (ثم آتينا موسى

الكتاب تماماً على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمةلعلهم بلقاء ربهم يؤمنون. وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون، أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين، أو تقولوالو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم، فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة).

بعد هذا يسهل علينا أن نفهم قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره، إذ قالوا ما أنزل اللهعلى بشر من شيء) فيه بيان لإنكار المنكرين، وذلك مصرح به في قولهم: (ما أنزل الله على بشر من شيء) وفيه بيان لأن سبب هذا الإنكار أنهم لم يقدروا الله حق قدره، حيث كان منهم مناستبعدوا هذا على قدرة الله، مع أنه غير مستحيل بل ممكن، وكان منهم من نازعوا في أنه أمر تقتضيه الحكمة، مع أنه هو عين الحكمة والمصلحة والرحمة، وفيه إجمال الدليل الذييرد به عليهم، حيث يفهم منه أنهم لو قدروا الله حق قدره ـ أي عرفوه حق معرفته، وأدركوا مدى قدرته وحكمته ـ لما نازعوا في هذه القضية.

الشبهة الأولى بلسان المنكرينالمعاصرين:

بعد هذا يحسن بنا أن نقف وقفة يسيرة مع المنكرين لهذه الحقيقة الإلهية من ملحدي عصرنا، لنعرف في أي واد يهيمون، وكيف ننتفع بما أرشدنا الله إليه من هذاالدليل الفطري في الرد عليهم، والتحذير من فتنهم وما يثيرون من شكوك.

إنهم يصورون الوحي تصويراً علمياً كما يزعمون، فيقولون: إن النبي ما هو إلا إنسان مفكر له عقليةتخالف عادة عقلية أهل عصره، وهو لا يظهر إلا في عصور الفساد والضعف والبغي والطغيان، فيثور في نفسه على هذه الأوضاع، ويشتد مقته لها وتأمله في طريقة التخلص منها، ثم يفضيبه ذلك التأمل العميق، والتفرغ الطويل، إلى حالة يعتقد معها أن العناية الإلهية لا يمكن أن تدع أمور الناس تجري هذا المجرى، وأنه لابد للناس من منقذ، ثم ينتقل إلى مرحلةأخرى

هي مرحلة التطلع إلى أن يكون هو هذا المنقذ، ثم إلى مرحلة الإعتقاد بأنه اختير فعلاً لهذه الرسالة، وتمتلئ نفسه بهذه العقيدة حتى يتصور أنه يسمعفيها وحياً، وأن ملكاً يغاديه بها ويراوحه، وهو ليس بكاذب فيما يروي عن هذا الملك، لأن خياله يجسم له الأمر ولا يترك عنده ذرة من الشك فيه، ثم يستغرق في اعتقاد ذلك حتىيثبت في نفسه، ويوجه إرادته وجميع قواه إلى تحقيق ما اعتقد أنه رسالته التي بعث بها، ويجد إلى جانبه من يؤمن به ويصدق كل ما يرويه عن عالم الغيب، ويخضع لأمره ونهيه،ويزداد هؤلاء المؤمنون يوماً بعد يوم، وتقوم إلى جانبهم معارضة فتقويهم وتجعلهم يتكاتفون حوله مخلصين غير مترددين ولا شاكين في أنهم على الحق، فهذا هو ما يسميه الناسوحياً ورسالة، وهذا هو تصوير العلم ـ يريدون علم النفس وما له من قواعد ـ .

الرد عليها:

ومن الواضح أن هذا الذي يذكرونه ما هو إلا ظنون ومزاعم لا تستند إلى دليل عقليتطمئن إليه القلوب، ويرضاه المنصفون المحايدون، وأن الذي حملهم على ذلك هو استبعاد إنزال وحي من الله على من يصطفي من عباده، فهي نفس الشبهة التي كانت تراود سلفهم من أهلالشك والإنكار في عهود الرسالات وبعدها، غير أنهم فلسفوها والتمسوا الفروض لها والتعليل لأسبابها ودوافعها، كأنها ظاهرة من الظواهر المادية التي تعودوا أن يطبقواعليها هذا المنطق الخيالي الفرضي.

سبيلنا في الرد على هؤلاء وبيان باطلهم أن نحجهم بما حج الله به المنكرين قبلهم، فنقول لهم: على أي أساس بنيتم هذا الاستبعاد الذيأفضى بكم إلى التماس العلل والفروض? وأي بعد في أن يوحي الله إلى أحد من خلقه بوحي? وهل كل ما غاب عنا إدراكه وعجزت حواسنا عن تفهمه تنكره عقولنا? إننا نكشف كل يوم أسراراًفي هذا الكون ما كنا من قبل نتصورها، ثم تصبح على غرابتها أموراً معروفة مألوفة، وإننا نرى الهبات الإلهية لا تقف عند الحد الذي تقبله ادراكاتنا

المحدودة، فكم رأينا من عباقرة أفذاذ لا نظير لهم في بيئاتهم، ولا يجود التاريخ بمثلهم إلا في الحين بعد الحين، وكم رأينا من أفراد أوتوا قدرة عجيبة في ناحية من النواحيلا تعرف أسبابها، وأنا قد رأيت بنفسي غلاماً من إحدى قرى (البحيرة) في مصر، كانت له موهبة حسابية عجيبة، فهو يستطيع ـ مع أنه عامي جاهل ـ أن يستخرج حاصل ضرب عددين كل منهمامؤلف من عشرة أرقام في وقت يسير ولا يخطئ في ذلك، ويقال له إن فلاناً ولد في ساعة كذا من يوم كذا من عام كذا، فما عمره بالدقائق فيجيب الإجابة الصحيحة في نحو دقيقة، بينمايعجز الحاسبون عن استخراج هذه الإجابة إلا بعد حساب طويل، ولست أريد أن أقول إن النبوة والرسالة شيء من ذلك أو يشبه ذلك، ولكن أضرب هذا مثلاً لما أودعه الله الإنسان منقوى، وما يجود به على بعض عباده من مواهب لا يعرف سرها، ولا يدرك كنهها، فالله قادر وهاب، ولا حد على قدرته، ولا مانع لما أعطى، فهل يعجزه سبحانه أن يهيء بشراً أو ملكاًبقوة فوق العادة يستطيع معها أن يتلقى عنه أو عن ملك تلقي عنه? إن الذي يقول باستحالة ذلك أو باستبعاده ينسى أن خلق الإنسان وتكوينه كله عجيب، ويكفي أن يفكر الإنسان في أنهكيف يفكر، ليعلم أن تفكيره من أعظم الآيات على قوة خالقه وقدرته وجوده الفياض، ثم من ذا الذي كان يظن أن في الذرة هذه القوة الكامنة، وأن في بعض رمال الصحراء التي ظلتملايين السنين مهملة تذروها الرياح؛ ما عرف لها من الخواض وما تصلح له مما هدى الله إليه أهل العلم الحديث، ثم من ذا الذي يعرف مدى ما يصل إليه علم الناس وقدرة الناس فيالمستقبل، وهم خلق محدود العلم والقدرة، وفيهم يقول الله عز وجل: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).

(وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء، فهل يجوز أن يصدر من هذاالإنسان المحدود استبعاد شيء من الممكنات العقلية على الله، وقد مكنه الله من الأرض ومن الحياة هذا التمكين?.

وبذلك يجب استبعاد هذا الاستبعاد، ويجب ألا ينسب للعلمأو العقل القول به، أو الميل إليه.

الشبهة الثانية بلسان المنكرين المعاصرين:

ولننظر بعد ذلك في الجانب الآخر من الشبهة على الوحي، فإن بعض الناسيقول إن الله تعالى خلق الإنسان وألهمه العقل ليميز به الخير من الشر، والنافع من الضار، وما ينبغي أن يسلكه من السبل، وما ينبغي أن يتركه، وبالعقل ارتفع الإنسان عنمستوى الحيوان الأعجم: واستطاع على ما به من الضعف الجسمي أن يسخره ويطوعه، كما استطاع أن يجوب آفاق الدنيا، وأن ينفذ بنور بصيرته إلى كل شيء، وها هو ذا قد فرغ أو كاد منالأرض وما عليها، واتجه بآماله إلى السماء يتطلع إلى أن يعلم علمها ويدرك أسرارها، ويقتحم كواكبها، فماذا بقي له حتى يحتاج إلى الوحي أو يستمد الهدى من كتاب ينزل أو نبييرسل.

هل الأرض محتاجة إلى هداية السماء وفيها هذا القبس العلوي من نور الله، وهو العقل؛ إن هؤلاء الذين قادوا البشرية في عهود الظلمات وسماهم الناس الأنبياء أوالرسل، ما هم إلا عقلاء ممتازون قد صفت جواهر عقولهم، واتسعت آفاق تفكيرهم، فرأوا بعين بصيرتهم ما لم يره الآخرون، ووفروا زماناً طويلاً كان على الأجيال أن تقطعه حتى تصلإلى ما وصلوا إليه، وتعلم ما علموا، فلا شك أنهم نبغاء من نوابغ العقول، ولا شك أن ما رسموه لأممهم هو ثمرات طيبة من أزكى الثمرات العقلية، ولا شك أن ذلك كله هبة من السماء،ولكن لا على معنى أن ملكاً أوحى، أو كتاباً نزل، أو رسولاً بعث، بل على معنى أن الله وهب هذا الإنسان العقل وجعله نوراً من نوره، وما الكتاب إلا سطور من هذا النور، وماالرسول إلا العقل فهو للناس بشير ونذير.

الرد عليها:

هكذا يقول منكرو الوحي اكتفاء بالعقل، وبتعبير أدق: هذا ما يمكن أن يقولوه، أو ما يعتبر به عن شبهتهم، فهلأصابوا شاكلة الصواب? كلا إنهم أحسنوا الظن بالعقل الإنساني حتى جعلوه رسولاً هادياً، وقبساً منيراً، وجعلوا أثره كتاباً وافياً، ودستوراً شافياً، وهذا إيمان بالعقل،وإن العقل لجدير بأن يكرم حقاً،

وبه كان تكريم الإنسان، ولكننا شهدنا كيف تختلف العقول وتتفاوت، وكيف يرى بعضها الشيء خيراً ويراه بعضاً شراً، وكيفتختلف لديها موازين الفضيلة والزريله، وكيف تتحكم فيها الأهواء والشهوات، فتلون أحكامها، وتؤثر في إدراكها للأمور، وكيف يعميها التعصب فترى الحق باطلاً والباطل حقاً،وكيف تخدعها العادة المألوفة كما تخدع الحواس الظاهرة، فتخيل لها الأوهام حقائق، فهل يترك الله خلقه لعقولهم فحسب، أو تقتضي حكمته ورحمته وربوبيته أن يهدي هذه العقول،ويحكم على اتجاهاتها المختلفة حكمة الفاصل بين ما هو رشد وما هو غي في ثوب رشد? هل يترك الله الإنسان لعقله فحسب فيصطدم الناس بعضهم ببعض في الحقائق والأحكام والنوازل كليحكم فيها عقله وما رآه، ويعتقد أنه المصيب وغيره المخطئ، وأنه المحق وغيره المبطل، أو الخير كل الخير، والحكمة كل الحكمة، أن يضبط بالوحي والرسالات ما هو حق وما هوباطل، وأن يلزم الناس حكماً فصلا يدرأ الخلاف، ويقضي على الخصومات، ويقر الأوضاع السليمة؟

إن الناس متساوون، وقد ألف المتساوون ألا يخضع بعضهم لبعض خضوعاً قلبياًصادقاً، فلابد من قوة عليا يخضعون لها جميعاً، ويرضون بها جميعاً، قوة تحسم وتحكم، وتقبل مقاييسها، ويرجع إليها المختلفون، ولابد أن تكون هذه القوة العليا إلهية،فالإنسان خاضع للإله الذي خلقه، خاضع له جسماً ومادة وروحاً فيجب أن يكون خاضعاً له توجيهاً وتشريعاً، وبغير ذلك يكون الإنسان متعدياً طوره، خارجاً على طبيعته ومقتضىخلقه، وبشريته. ولو ترك الناس لعقولهم ولم تهد هذه العقول بالشرائع لاختلفوا اختلافاً كثيراً، ولما كادوا يلتقون على مذهب في الحياة يدينون به وينزلون عن حكمه، وهذه هيالمذاهب الإنسانية التي ابتكرتها العقول تحير الناس، وتقيم المشكلات، وتعجز عن الحول، وتدفع الحروب المدمرة ثمرات البشرية من أرواح وأموال ومنشآت، فهل أغنى عن الإنسانعقله، وهل سعدت البشرية بعد انطلاقها من دائرة الدين والوحي والرسالات إلى دائرة النازية أو الفاشية أو الشيوعية أو الرأسمالية?.

والخلاصة أن العقلكما يقولون جوهرة نورانية، وهبة إلهية وهبها الله عباده وجعلهم بها أكرم خلقه، كل ذلك مسلم ولا شك فيه، ولا ينبغي أن ينكر العقل أو يرفض حكمه، ولكن العقل مع ذلك محدودلأنه مخلوق، وكل مخلوق محدود، فيجب ألا نتجاوز به حدوده، وإلا كنا مخالفين له.

وإذن فحكمة الحكيم، ورحمة الرحيم، تقتضيان ألا يترك الإنسان لمجرد العقل، وأنه لابدللأرض من هداية السماء، ولو قدروا الله حق قدره، وعرفوه حق معرفته، لما أنكروا هذه الحقيقة.

القرآن يثبت نبوة محمد والأنبياء قبله:

وشيء آخر في هذا المقام يجب أننجليه حتى ينكشف كل ظل من ظلال الشبهة على الوحي والرسالة، فإني لأعرف أن كثيراً من الناس تحوك في صدورهم بعض الشبه ولا يستطيعون أن يفضوا بها، أو يسألوا عنها، إما حياءوإما خوفاً، فمن الخير أن نكاشفهم بما في نفوسهم لنجلوه عنهم، ونطهر منه قلوبهم، وبالله التوفيق.

إن بعض الناس يقول: هبنا سلمنا أن الوحي ممكن، وأنه متفق مع الحكمة،وأن الإنسان لا يستغني بالعقل، فهل هذا يدل على صدق الرسل الذي ادعوا أنهم جاءوا بالرسالات? هل هذا يدل على أن موسى وعيسى ومحمداً وغيرهم كانوا رسلاً في الواقع كما ادعوا?إن جواز حصول الشيء لا يستلزم أنه وقع فعلاً، فيبقى أن يقوم الدليل على أن هذه النبوات واقعة.

ونقول لهؤلاء: أما نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقد ثبتتبمعجزته القاطعة الباقية التي هي هذا القرآن الكريم، فلا يمكن لعقل من العقول أن يجوز صدور هذا الكتاب المحكم من شخص نشأ يتيماً فقيراً أمياً في بيئة مشركة جاهلية لمتعرف بما عرفت به الأمم الكبرى في عصرها من العلوم والنظم، وقد كان العالم في عهد هذا الأمي اليتيم مضطرباً أشد الإضطراب، وكان رجال الأديان فيه مختلفين أشد الاختلاف،فكانت البيئة القريبة لهذا الأمي بيئة شرك ووثنية، وكانت البيئة البعيدة منه بيئة خلاف وتنافس على السلطتين: الدينية والزمنية،

فمن أين له هذاالكتاب المحكم الذي اشتمل على مبادئ الإصلاح العالمي كلها، والذي لم يستطع العلم في أزهى عصوره أن يهدم حقيقة من الحقائق التي جاء بها، إن القرآن الكريم قد تحدى العربببلاغته وقوة بيانه فعجزوا، وكذلك أيضاً تحدى الزمان كله بخلوده وصحته، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتحدي الناس في كل عصر، فلم يستطع أحد أن يزعم أنهمن وضع البشر، اللهم إلا الذين لم يتذوقوه ولم يتدبروه، أو الذين ينكرون الحقائق الواضحة تعصباً عليها.

وإذا ثبت بهذا الذي أجملناه أن القرآن الكريم دليل على صدقمحمد، وآية إلهية من الله للناس، فإن جميع النبوات تثبت به: نبوة محمد، ونبوة الأنبياء قبل محمد.

هذا إجمال، أما تفصيل الكلام في دلالة القرآن على صدق محمد (صلى اللهعليه وآله وسلّم) في أنه مرسل من ربه، فإنه يطول، وليس هذا موضعه، فإنما أردنا هنا أن نثبت الوحي، وأن نبين أن ذلك يؤخذ من قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ماأنزل الله على بشر من شيء).

سر الإكتفاء بدليل إجمالي:

وقبل أن ننتقل من هذه النقطة؛ ينبغي أن نتعرف السر الذي جعل القول في دليل الوحي والرسالة يأتي مجملاً مركزاًعلى هذا النحو، فنقول:

أجملت سورة (الأنعام) هذه الحقائق في صدر الآية التي ذكرناها، وكان هذا الإجمال أسلوباً مقصوداً لم يأت عفوا، وذلك لأن السورة قامت على أساسأنهم قوم جاحدون، لا تجدي معهم الآيات، ولا تنفع في إقناعهم الدلائل، فالله سبحانه وتعالى يقول في أوائلها: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين، فقدكذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون، ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لهم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلناالأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين، ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين. وقالوا لولا أنزل عليه ملك، ولو

أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون، ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون).

فالسورة إذن أمام قوميرفضون الدلائل في إصرار، ويتحدون في استكبار، ولا يعبأون بما أصاب القرون من قبلهم، ويطلبون ما لا يمكن أن يكون، بينما ينكرون ما هو ممكن وما هو حاصل فعلاً: يطلبون أنينزل الله على رسوله ملكاً يؤيده وينذر معه، بل يطلبون ـ كما في آيات أخرى ـ أن ينزل عليهم الملك لا أن ينزل مع الرسول فحسب، بل وصل بهم الأمر إلى أن طلبوا رؤية الرب جلوعلا، وفي سورة الفرقان تسجيل هذين المطلبين عليهم حيث يقول: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا، لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواًكبيراً).

وهم في هذا متعنتون مستهزئون، لأن الملائكة إذا نزلت كان في نزولها نهايتهم وهلاكهم، لأنهم لا يطيقون هذه الرؤية ولا يتحملونها بمقتضى تكوينهم البشري،ولهذا تقول سورة الأنعام: (ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون) وتقول سورة الفرقان: (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجزاً محجورا).

هذا معكونهم يستبعدون على بشر أن يؤتيه الله الوحي والنبوة، ويعتقدون الشبهة القديمة القائلة: (ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه، ويشرب مما تشربون، ولئن أطعتم بشراًمثلكم إنكم إذن لخاسرون) فهم متناقضون في تقدير قيمة البشر ، تارة يرفعون أنفسهم إلى درجة يطلبون معها أن تنزل عليهم الملائكة أو يروا ربهم، وتارة يقررون أن البشر أقل منأن يوحى إليهم ويتلقوا عن الله بوساطة الملك، وإنما جاء تناقضهم من أنهم عابئون مستهزئون مصرون على الإنكار غير عابئين بما يقعون فيه من خلط، وقد بينت السورة في هذهالآيات أن الله تعالى لو قضت حكمته بإجابتهم إلى ما يطلبون من إنزال ملك مع الرسول، أو جعله الرسول ملكاً، لما أنزله إلا في سورة رجل لما ذكر

من عدمالاستعداد البشري لرؤية الملك على هيئته، وحينئذ يلتبس عليهم الأمر فيظنونه بشراً، ولا يزالون يكررون طلب إرساله ملكاً.

أسلوب السورة مع المنكرين تلقيني إنذاري:

إن هذا الموقف الذي يقفونه من الرسالة يستدعي ألا يناقشوا أو يجادلوا، لأن النقاش والجدال مع المعاندين إنما هو جهد ضائع، وعبث في غير طائل ـ تعال الله عن ذلك علواًكبيراً ـ ولهذا تجمل السوره دليل الوحي والرسالة هذا الإجمال الذي تحدثنا عنه، وتسير معهم سيرة الإنذار والتوعد، وتلقن الرسول ما يقوله لهم مرة بعد مرة بلفظ: (قل) ولاتتركه يسترسل معهم في حجاج، أو يستمع إليهم في اقتراح أو اشتراط، أو يحزن لما يقولونه عنه وعن دعوته، أو لما يؤذونه به، أو يتقرب من الله أن ينزل عليهم الآيات المؤيدة له،أو أن يعجل لهم ما يستعجلون من العذاب، تلتزم السورة في كثير من آياتها هذا الأسلوب، أسلوب أمر الرسول بلفظ: (قل) حسماً للأمر، وتلقيناً للرسول ما يجب أن يقول: (قل سيروا فيالأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين، قل لمن ما في السموات والأرض، قل لله). (قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم، قل إني أمرت أن أكون أولمن أسلم ولا تكونن من المشركين، قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم). (قل أي شيء أكبر شهادة? قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ، أئنكملتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل لا أشهد، قل إنما هو إله واحد).

(قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله). (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم).

(قل لا أقول لكم عندي خزائنالله). (قل إني نهيت عن أن أعبد الذين تدعون من دون الله، قل لا أتبع أهواءكم، قد ضللت إذن وما أنا من المهتدين، قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به، إنالحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين، قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم) إلى غير ذلك من الآيات المنذرة الملقية بالقول تلو القول وجوههم،

والمفضية إليهم بالحقائق والعوقب إرهاباً لهم، وتخويفاً لكل من سار على خطتهم، ذلك بأنهم أهل عناد وإصرار، واستهزاء واستكبار.

هذا هو بعض السر في إجمالالحجة، والإكتفاء بتقريرها موجزة مركزة، مع توجيه الأسلوب على هذا النحو التلقيني الإنذاري الرهيب، وسنبين فيما بعد أن لهذا الأسلوب سراً آخر يضاف إلى هذا السر.

سورةالأنعام وبيان الحقيقة في شأن الرسول:

وننتقل بعد هذا إلى جانب آخر من الجوانب التي عرضت لها سورة (الإنعام) مما يتصل بالوحي والرسالة، فنقول:

كما وجد في الناس منينكر الوحي والرسالة، ويرى أن البشر ليسوا مستعدين لتلقي كلام الله؛ وجد فيهم أيضاً من يسرف في تضخيم شخصية النبي ووضيفة الرسول حتى ليكاد ينسى أنه بشر، فتراهم ينسبونإليه علم الغيب، وتراهم يعجبون لأكله الطعام ومشيه في الأسواق، وتراهم يتطلبون فيه أن يكون غنياً عنده من الخزائن ما لا ينفذ، وأحياناً يطلبون منه الإتيان بالمعجزات،ولعلهم أيضاً لا يتصورون فيه أن يغضب أو يمرض أو يحزن أو يهزم في الحرب، أو يرد عن أمل من آماله، إلى غير ذلك من العوارض البشرية.

وهكذا يقف هؤلاء من النبوة موقفاًمناقضاً تمام المناقضة للأولين الذين ينكرونها، فبينما يغالي هؤلاء في النبي حتى يوشكوا أن يخرجوه عن بشريته؛ يغالي أولئك في إنكار ما منحه الله من قوة غير عادية تمكنهمن تلقي الوحي عنه ووعيه وتبليغه للناس.

والله سبحانه وتعالى يرشد عباده إلى واقع الأمر وحقيقته، ولا يرضى منهم أن يتجاوزا هذا الواقع بالميل إلى جانب هؤلاء أوأولئك، وقد كان لسورة الأنعام عناية واضحة بهذا الأمر، فهي تبين شأن الرسول تارة على سبيل السلب بنفي شيء عنه، وتارة على سبيل الإيجاب بإثبات شيء له، وتارة على سبيلالحصر الجامع بين النفي والإثبات، وأحياناً بتصوير ما ينتاب الرسول من العوارض

البشرية: كالحزن والألم وضيق الصدر والحرج ومحاولة المجاملة لجذبالأقوياء انتفاعاً بهم، ووشك الميل إلى بعض ما يريدون، وأحياناً بتعليمه ما يرد به على المبطلين، وإرشاده إلى السلوك السليم في معاملة المخالفين والموافقين، وتسليتهواستلال بواعث اليأس الذي يتعرض له بحكم بشريته، إلى غير ذلك مما يريد الله به أن يبين للناس منزلة النبي وواقع أمره، حتى لا يخرجوا به عن وضعه، وحتى لا يخلطوا كما خلطالذين زعموا رسولهم ابن الإله، ثم لم يكفهم ذلك حتى كان فيهم ممن اتخذوه وأمه إلهين من دون الله، سبحانه وتعالى عما يشركون.

مهمة الرسول تنحصر في التبشير والإنذار:

تقول سورة الأنعام: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين، فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون، قل لا أقوللكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول أني ملك، أن أتبع إلا ما يوحى إليّ، قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون).

بينت هذا الآيات مهمة الرسل، وأنها إلاتتعدى التبشير والإنذار: التبشير بأن الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الذين يأمنون فلا يصيبهم خوف، ويفرحون فلا يصيبهم حزن، والإنذار بأن الذين كذبوا بآيات اللهيصيبهم العذاب بسبب فسقهم وخروجهم عما رسم الله من حدود في العقائد والأحكام، فالرسول إذن لم يأت بشيء من عنده، وإنما هو مبلغ عن الله، معرف به، لا مثبت ولا منشئ، وليستله قوة وراء هذا الاستعداد للتلقي والتبليغ، لم يعطه الله خزائنه، ولم يجعلها عنده يتصرف فيها كما يشاء، حتى يطمع طامع في الإنتفاع المادي عن طريقه، أو يخاف أحد الحرمانالمادي إن حاد عن هذا الطريق، فإن خزائن الله لم تزول عند الله، ولم تزل خاضعة لسنة خاصة من سنن الله، فالله يعطي من أحب ومن كره، ويغني ويفقر لا بسبب الدين والإيمان، ولكنبأسباب أخرى، فليس لأحد أن يتخذ الدين والرسول وسيلة إلى أمر من الدنيا، وليس لأحد أن ينتظر من الرسول حرمان أعدائه ومخالفيه من متاع الدنيا،

ثم هوبعد ذلك بشر لا يعلم الغيب، ولا يعرف ما يكون غداً: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء، ثم هو لا يقول للناس إنه تخلص بالرسالة من آثار بشريته وأصبحملكاً، وإنما هو بشر مثلهم، وكل ما يمتاز به عليهم أنه يوحى إليه، وأنه متبع لهذا الوحي لا يحيد عنه، فعليهم أن يفكروا في ذلك كله بعقولهم، وأن يتدبروا هذا الوضع تدبرالمبصرين المدركين، وألا يضلوا فيه ضلال العمى المتحيرين.

إنما يستجيب الذين يسمعون:

وتقول السورة: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه وليولا شفيع لعلهم يتقون، ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه، ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء، فتطردهم فتكون من الظالمين، وكذلكفتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا، أليس الله بأعلم بالشاكرين).

تعلمه هذه الآيات ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أن الناس ليسو سواء أمام الهدىالإهلي، فمنهم الجاحدون الكافرون أو المعاندون الذين ينكرون الحياة الأخرى، ولا يعترفون إلا بالحياة الدنيا، فهم يسيرون على هذا الأساس، ولا يتقبلون إنذاراً، ولايخافون عذاباً، إن هؤلاء قد سدٌوا على أنفسهم منافذ الهداية، فدعهم ولا تتجه إليهم ولا تحاول أن تضيع وقتك في ترضيهم أو مجاملتهم أو النظر في شروطهم التي يشترطونهاللإيمان بك، وتصديق الذي جئت به ـ ومنهم المصدقون الذين يخافون ربهم، ويعلمون أن وراءهم يوماً، وأنهم سيحشرون إلى ربهم فيسألهم ويحاسبهم، ولا يحول بينه وبينهم أحدبولاية أو شفاعة، وهؤلاء هم الذين يتقبلون الإنذار، لأنهم فكروا وتدبروا فخافوا، فلتكن عنايتك متوجهة إليهم، وليكن حرصك مقصوراً عليهم.

وهذا المعنى الذي يذكره اللهلرسوله في هذه الآية هو إرشاد إلى سنة من سنن الله في الخلق، أو هو ـ بتعبير حديث ـ تعريف بخلق نفسي اهتدى إليه علماء

النفس أخيراً، ذلك أن الناسيختلفون من حيث تقبل الأفكار والتنكر لها، وأن ذلك يرجع أحياناً في نفس المنكر إلى عقدة خفية تجعله يرفض قبول ما يساق إليه، ولو كان بادي الصحة مؤيداً بالدليل والبرهان،وقد تكون هذه العقدة استكباراً في النفس، لأن غيره تقبله قبله، أو لأن الذي تقبله أقل منه مركزاً، أو لأن في قبوله تقيداً بما لا يحب أن يتقيد به، أو تركاً لما لا يحب أنيتركه، إلى غير ذلك، وهذا هو الذي عناه القرآن بمثل قوله: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنون بها، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوهسبيلا، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا، ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) أما الذين يتقبلون فإن نفوسهم خالية من هذه العقد، أو لهم قوة عقلية، وشخصية مؤثرةتجعلهم يتغلبون على عوامل التردد والهوى الخفي في أنفسهم، وهؤلاء هم الذين عناهم القرآن بمثل قوله: (هدى للمتقين)، (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشى الرحمن بالغيب) وقد جاء فيسورة الأنعام من هذا غير الآية التي نتحدث عنها قوله تعالى: (إنما يسجيب الذين يسمعون)، وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا، وذكر به أن تبسل نفس بماكسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها، أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا، لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون).

إرشاد الرسول إلىالمسلك القويم مع المخالفين والموافقين:

وقوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) الخ. نهى للرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن الإستجابة إلى ما كان يطلبه إليهالمستكبرون من إبعاد الفقراء والضعفاء الذين اتبعوه، فقد جاء في أحاديث السيرة وأسباب النزول أن الملأ المستكبرين من قريش كانوا يطلبون إلى النبي (صلى الله عليه وآلهوسلّم) أن ينحي عن مجلسه ضعفاء المؤمنين من أمثال صهيب وعمار وخباب، وأنهم كلموا في ذلك مرة عمه أبا طالب، وأن عمر أشار على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)بقبوله، فجاءت هذه السورة وفيها نهي له عن الأخذ بهذا، فالكلام في ذلك من أول قوله

تعالى: (وأنذر به الذين يخافون) إلى قوله جل شأنه: (فإنه غفور رحيم)مراد به إرشاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى ما يسلكه في هذه القضية، وتعليم له أن صاحب الفكرة والمبدأ يجب ألا يجامل فيه قوياً لقوته، وألا يستهين بضعيفلضعفه، فإنما العبرة بالإيمان، والولاية والأولوية لأهل الإيمان.

والعبارات الواردة في هذه الآيات شبيهة بما جاء في قصة نوح (عليه السلام)، حيث يقول له قومه: (ومانراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأي وما نرى لكم علينا من فضل) وحيث يقول لهم: (وما أنا بطارد الذين آمنوا).

(من ينصرني من الله إن طردتهم).

وهكذا نعلم أنالناس هم الناس، لا فرق بين الذين كانوا في عصر نوح، والذين كانوا في عصر محمد، وإننا لنرى خلفاً بيننا لهؤلاء السلف يحاولون احتكار مجالس الحكم والسلطان والتوجيهدائماً، ويجيبون أن تخلو لهم وجوه الحاكمين والمصلحين بحجة أنهم الأشراف والسادة الأقوياء، وأن الآخرين هم الضعفاء والمسودون.

وتبين الآيات بعد هذا أن الله تعالىيمتحن عباده ليظهر الذين يعرضون عن تقبل الحقائق استكباراً أو غروراً وترفعاً عن قبول ما قبله المستضعفون، أو حسداً لهم على ما آتاهم الله من فضله.

وقد حدثنا التاريخأن هذا دائماً هو أسلوب المستكبرين، وأن الحق إذا ظهر من جانب الضعفاء أو أصحاب المراتب الصغيرة أحجم عنه أهل الغرور بأنفسهم والمدلون بما لهم من مراتب عليا في مجتمعهم،فنراهم يقولون بلسان حالهم، أو بلسان مقالهم مثل ما قال الأولون: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا)?.

وفي هذا أيضاً إرشاد لسنة من سنن الله في الناس، وهي أن أصحابالمواهب وأهل الذكاء والعاملين المخلصين من شأنهم أن يحسدوا، وأن تمتلئ قلوب المتخلفين عنهم ببغضهم والحقد عليهم، وأن على الولاة والرؤساء أن يدركوا ذلك ويحترسوا منه،ولا يدعوا سبيلاً للحاسدين والحاقدين، تمكنهم من إقصاء العاملين المخلصين شفاء لما في صدورهم من الحقد، وإطفاء لنيران الحسد التي تأكل منهم القلوب.

وتأمر السورة بعد هذا بإحسان معاملة المؤمنين وتبشيرهم برحمة الله ومغفرته حيث تقول: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه منعمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم).

وهذا تعليم إلهي من الله لرسوله في مقابل ما كانوا يراودونه عليه، من طرد المؤمنين وإقصائهم، وإنه لأدبكريم يجب أن يحمله كل مصلح نصب عينيه، وأن يطبقه في معاملته لأصحابه ومعتنقي فكرته، فإن من أحسن ما يملك القلوب اعتراف الكبير بإحسان الصغير، إن له فعل السحر في النفوس،إذ يبعثها على المبالغة في التجويد والإتقان والإخلاص، وعلى العكس من ذلك إذا أنكرت الجهود النافعة، ونسيت الأعمال الصالحة، وتجاهل الرئيس ما يبذله المرءوسين من جهود،فإن ذلك يكسر نفوسهم، ويفت في عضدهم، ويبذلهم بالإخلاص والدأب تهاوناً وتراخيا.

وأدب آخر في هذه الآية الكريمة هو التوجيه إلى التبشير، والإبتعاد عن التنفير، فإنالتبشير من شأنه أن يبعث النشاط، ويزيد الطاقة، والتنفير من شأنه أن يهد القوى، ويفسد النفوس.

تسلية الرسول:

وتقول سورة الأنعام في تسلية الرسول، واستلال عواملاليأس والحزن من قلبه: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون، فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يججدون، ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذا حتى أتاهمنصرنا، ولا مبدل لكلمات الله، ولقد جاءك من نبأ المرسلين، وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في الماء فتأتيهم بآية، ولو شاء اللهلجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين).

وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يحزن ويشتد حزنه لما يقابله به قومه من الإعراض والتكذيب، ويخشى على دعوتهأن يطول على أمد تكذيبهم، وكان حزنه واشفاقه يصلان إلى مدى بعيد، حتى ذكر القرآن الكريم في بعض

الآيات أنه حزن يكاد يؤدي إلى ذهاب نفسه وهلاكها حيثيقول: (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات)، (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين)، (فلعلك باخع نفسك على آثارهم أن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) وهذا الحزن الشديد مظهر من مظاهربشريته (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وكذلك احتياجه إلى التسلية والتثبيت، فإن الله سبحانه وتعالى كان يتعهده بذلك فيما ينزل من القرآن ويضرب له أمثال السابقين، ويقصعليه قصص المرسلين، فالنبوة لم تخرجه عن مقتضى بشريته من التأثر بدواعي الحزن، والحاجة إلى التقوية والتثبيت، وفي هذه الآيات من سورة الأنعام ذكر الله له أنه يعلم حزنه،وأن هذا الحزن لما يقوله أعدؤه عنه وعن دعوته، ثم سلاه وخفف عنه خزنه بتعريفه أن هذا الإعراض الذي يراه منهم ليس راجعاً إلى أنهم يعتقدون كذبه، فقد جربوا عليه الصدق طولحياته ولم يعهدوا عليه كذباً، ولكن هذا الإعراض راجع إلى شأن عام لجميع الظالمين من أعداء الحقائق في كل زمان ومكان، فقد جرت عادة الظالمين أن يجحدوا بآيات الله، والجحودهو نفي ما في القلب إثباته، أو إثبات ما في القلب نفيه، فهم يعملون أن آيات الله حق، وأنك صادق فيما تبلغه عن ربك، وهذا كما جاء في موضع آخر حيث يقول الله عز وجل: (وجحدوا بهاواستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً) ومصداقه من السيرة ما روي من قول بعض هؤلاء الجاحدين: (تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطمعوا فأطمعنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا،حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك هذه? والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه)!.

ثم ضرب الله تعالى لنبيه مثل الرسلمن قبله حيث صبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى جاءهم نصر الله، فكان ذلك بشارة قرت بها عينه، وثلج لها صدره، وعقب ذلك بأن هذه سنة الله في الرسل وكلماته التي لا مبدل لها (ولامبدل لكمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين)، وشبيه بهذا قوله تعالى في آيات أخرى:

(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون).

وقد جاء في مواضع أخرى من القرآن الكريم أن هذه السنة ليست خاصة بالرسل، وإنما هي عامة في المؤمنين المصلحين، إذ يقول الله عز وجل: (إنا لننصر رسلناوالذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد). (ولينصرن الله من ينصره). (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين).

فكما أن هذا كان تبشيراً للنبي، واستلال لبواعث الحزن مننفسه، ينبغي أن يأخذه كل مصلح مؤمن داع إلى الله، بشرى يثبت بها فؤاده، ويقوي بها عزمه، ويسير بنورها وهداها في طريقه منتظراً النصر من ربه وإن تحالفت عليه الأعداء،وكثرت في سبيله العقبات، فإن الإخلاص يذلل الصعاب، ويفتح الأبواب، وإن الله مع الصابرين.

ولقد شاء الله تعالى أن يحسم كل أثر من آثار حزنه (صلى الله عليه وآلهوسلّم)، وأن ينقذه من ترقبه لآية من الآيات التي كانوا يطلبونها ليؤمنوا به، حيث كانوا يقولون: (لو لا أنزل عليه آية من ربه) فقال له عز وجل: (وإن كان كبر عليك إعراضهم...)الخ.

والمعنى: لسنا بمجيبي هؤلاء إلى ما يطلبون من الآيات، فإن كان إعراضهم قد كبر عليك وأهمك إلى هذا الحد، فانظر ماذا تستطيع أن تفعل، أتبتغي نفقاً في الأرض تتعمقفيه حتى تأتيهم بآية? أم تبتغي سلماً في السماء تصعد به حتى تحقق لهم ذلك? أما الله فإنه لم يحققه ولن يجيبهم إليه، ولو أنه أراد منهم إيمان الإرغام والإلجاء لجمعهم علىالهدى، وهيأهم على استعداد يجعلهم يتقبلونه خاضعين، كما خلق أصنافاً أخرى من خلقه، وهم الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فلا تكن من الجاهلين،فتطلب أو ترقب ما لم تقتضه حكمة الله.

كل هذا فيه تسلية للنبي، وفيه مع ذلك تصوير بليغ لمقتضيات بشريته، ودليل على أن الله تعالى يعالجه كما يعالج البشر، ولو شاء لطبعهعلى طبيعة أخرى يكون معها بعيداً عن التأثر بالعواطف البشرية التي يعالجه منها.

/ 1