تفسیر القرآن الکریم؛ سورة البقرة (3؟) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تفسیر القرآن الکریم؛ سورة البقرة (3؟) - نسخه متنی

محمود الشلتوت

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تفسير القرآن الكريم

لفضيلة الإستاذ الشيخ محمد محمد المدني

يقول الله تعالى في سورة الأنعام:

(قلتعالوا أنل ما حرم ربكم عليكم: أن لا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولاتقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون، ولا تقربوا ما اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده، وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، لا نكلف نفساًإلاوسعها، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى، وبعهد الله أوفوا، ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون، وأن هذا صراطي مستقيماً فانبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكموصاكم به لعلكم تتقون).

ليس من غرضنا أن نفسر هذه الآيات تفسيراً تفصيلياً نعرض فيه للألفاظ والأسلوب ووجوه البلاغة، ولكننا نعرضها عرضاً عاماً يتبين منه أنها تضمنتأهدافاً كبرى من الأهداف الأولى للإسلام، وأن هذه الأهداف هي أسس قوية لبناء مجتمع سليم.

ويرجع كلامنا في هذا إلى نقطتين:

الأولى: بيان حال المجتمع الجاهليإجمالاً.

الثانية: دراسة موجزة لهذه الوصايا العشر نبين بها قيمتها في الإصلاح، وغاية الإسلام من تقريرها، ثم نبين السر في مجيئها ثلاث مجموعات في ثلاث آيات، والسرفيما ختمت به كل آية منها.

بيان حال المجتمع الجاهلي إجمالاً:

من المعروف أن مجتمع الجاهلية والشرك كان مجتمعاً متناقضاً لا يصدر عنمبادئ واحدة يراها المنطق السليم ويرى آثارها في كل خلق وعمل.

فبينما كان القوم أهل نزعة تدينية ورثوها عن آبائهم وعما قبلهم من شريعة إبراهيم وإسماعيل، كما يظهر فيإهتمامهم بالحج ومناسكه، وفي أنهم كانوا يهتمون بمناصب السقاية والسدانة، ويحتفظون لكل بيت بما ورثه في ذلك، إلى غير هذا مما يصور نزعتهم إلى التدين: فإننا نجدهم من جانبآخر متحللين يرتكبون الموبقات، ويأتون الكبائر، ويقتلون أولادهم من إملاق أو خشية إملاق، ويئدون بناتهم خوف العار، ويتجرءون على الدماء الحرام فيسفكونها، وعلى الأموالالحرام فيأكلونها، ويرتكبون الفواحش ما ظهر منها وما بطن... إلى غير ذلك.

وبينما نراهم أهل كرم ونجدة حتى كان الواحد منهم ربما ذبح ناقته التي لا يملك غيرها ليكرم بهاضيفاً نزل عليه لا يعرفه، وحتى كان أحدهم إذا استصرخ أنجد من استصرخه دون أن يسأله لماذا استصرخه، وعلى من استصرخه، ولكنه يحف إليه بسيفه في طرفة عين، ومع هذا نراهميستبيحون أن يسلبوا الناس أشياءهم، وأن يقتلوا المارة، ويغنموا متاعهم وبضاعتهم، وأن يفعلوا هذا أحياناً لا لشيء إلا لكي يظهروا شجاعتهم وبطولتهم، ويتحدثوا بذلك فيأشعارهم، وكم لهم في هذه الناحية من أخبار وأشعار.

وهم قوم يغارون على الحرمات، ومع ذلك ينتهكونها، فالمرأة العربية كانت موضع شد وجذب: زوجها وأهلها يريدونها حرةعفيفة، والفتاك والعشاق من حولها يراودونها بالشعر والغزل والمغامرات.

وكانوا مع غيرتهم ربما سمحوا أن تذهب المرأة منهم إلى رجل ذي منزلة في المجتمع فتمكنه مننفسها، لتثمر من هذا التمكين ولداً يشبهه.

ولو ذهبنا نستقصى ألوان التناقض في المجتمع العربي قبل الإسلام لطال بنا الأمر، وإن ذلك لمعروف مشهور.

ولذلك كان من منطق الدعوة الإسلامية وقد استعلنت وظهرت بعد السرية والاختفاء، أن تضع برنامجاً إصلاحياً لهذه الجماعة المنحلة المضطربة المتناقضة، فجاءت هذه الوصايا،كمبادئ عامة، وعبر فيها بلفظ (التوصية) لأنه لم يكن قد بدأ دور الأحكام التفصيلية بعد، تلك الأحكام التي تعطي هذه المبادئ عناية تجعل من كل منها قانوناً ذا جزئيات ومواد.

أعطى الإسلام هذه المادئ العامة لهذا المجتمع الطائش النزق المضطرب، فكان أشبه بالذي يبني صرحا فيبدأ بأركانه الكبرى وحيطانه وأعمدته.

وإذن فتلك الوصايا أسسأعلها الإسلام، وقرر أن يقيم عليها صرح المجتمع، فلنقف قليلاً أمام هذه الأسس موقف المتأملين:

دراسة موجزة للوصايا العشر:

جرت السورةـ في تقرير هذهالوصايا ـ على عادتها، فأمرت الرسول بلفظ (قل) على سبيل التلقين له، لكي يشعروا من أول الأمر بأن هذا بيان إلهي ليس الرسول فيه إلا ناقلاً مبلغاً: (قل تعالوا أتل ما حرمربكم عليكم).

وهذه العبارة التي قدمت بها الوصايا فيها إشعار بأن الحقائق الأولى التي قام عليها الجدال في السورة قد أصبحت واضحة، لا مفر من قبولها والنباء عليها،فالله تعالى يأمر رسوله بأن يبلغهم، وإذن فهناك إليه من شأنه أن يرسل الرسل، وهناك رسل من شأنهم أن يتلقوا عن الله، وهناك محرمات وردت من المصدر الذي يحق له التحريم وحدهلأنه هو الرب (ما حرم ربكم) ثم هناك لازم عقلي لهذا التحريم هو أن من تعداه وانتهكه كان مغضباً للرب الذي قرره، مستحقاً لعقوبته، وإذن فهناك دار للجزاء، ولننظر بعد ذلك فيالوصايا.

الوصية الأولى:

من هذه الوصايا هي قوله تعالى: (أن لا تشركوا به شيئاً).

وهي الأساس الذي يصلح عليه أمر الناس، فإن المجتمع الذييقوم على إيثار الله على كل ما سواه هو المجتمع الفاضل المثالي السعيد، أما المجتمع الذي يشرك بالله أحداً اويشرك بالله شيئاً، فإنه مجتمع منحل تسيره المادة الصماء التيلا روح فيها، ولا صلاح ولا قرار معها.

وقد عبرت الآية الكريمة بعبارة جامعة لنوعين من الشرك، حيث قالت:

(أن لا تشركوا به شيئاً) بيان ذلك: أن الشرك بالله واتخاذ غيرهإلها نوعان:

شرك في العقيدة، وشرك في العلم:

فأما شرك العقيدة: فهو أن يعتقد الإنسان أن مع الله إلهاً آخر يستحق العبادة والطاعة، كهؤلاء الذين كانوا يعبدون الشمسوالقمر والأشجار والأحجار، وغير ذلك من التماثيل التي كانوا يصنعونها بأيديهم ثم يخضعون لها، ويقفون أمامها خاشعين، ويتخيلون رضاها وغضبها، وبركاتها ولعناتها، فترعدفرائصهم منها خوفاً وفرقاً.

ولا شك أنه لا يوجد سفه وضلال يقع به الإنسان في التخبط والعماية كهذه العقيدة، ولم نجد أحداً في التاريخ يعتقدها إلا ذوو الأحلامالضعيفة، والعقول السخيفة، ولذلك يسخر الله منهم كثيراً، ويصفهم بالجهل والعمى، وأن لهم قلوباً لا يعقلون بها، وآذاناً لا يسمعون بها، وأعيناً لا يبصرون بها، وأنهمكالأنعام، بل هم أضل سبيلاً.

وهذه العقيدة مودية بصاحبها في الدنيا قبل أن تودي به في الآخرة، وحسبنا أن نتصور رجلاً في مجتمع مفكر ـ ولا سيما في عصرنا الحاضر ـ وهويؤمن في قرارة نفسه ان هذا الحجر او ذاك اله يستحق منه العبادة , ويملك له المنفع والضرر، إن لا شك يكون في سائر تصرفاته ذا عقلية ضئيلة، وشخصية هزيلة، ومثل هذا لا يرجى منهأي خير، بل هو دائماً عرضة لجميع الشرور وألوان الفساد، ولذلك يصور الله تعالى حال المشرك به تصويراً رائعاً يمثل

معاني الحيرة والاضطراب والخوفوالضعف والضلال، فيقول في آية أخرى:

(ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق).

هذا هو شرك العقيدة، وهو أول انحراف عن سواءالسبيل، وإليه يرجع اضطراب هؤلاء المشركين القدامى، وما كان في مجتمعهم من شر وفساد.

ولا أظن أنه بقي على ظهر الأرض من يعتقد أن هناك إلهاً مع الله يستحق العبادةوالخضوع له كما يستحقها الله جل جلاله، وإذا كان هناك بقايا من مثل هذه الوثنية الأولى. فأنها ليست بذات شأن، ومع ذلك فهي صائرة إلى الانقراض السريع.

لكن هناك نوعاًآخر من الشرك ما يزال باقياً، وسوف يطول بالإنسانية أمده، وهو أشد خطورة من الناحية العملية، وأكبر ضرراً على المجتمعات من شرك الأوثان والكواكب والأحجار، وذلك ماسميناه: (بشرك العمل)، وهو إيثار ما سوى الله على الله، وإن اعتقد أن الله واحد، وأن الأمر بيده، فإنه لا يكفي أن تؤمن النفس إيماناً سلبياً داخلياً بأن الله هو مالكالنواصي والأقدام، ثم لا يظهر لهذا الإيمان أثر في التصرف والعمل، بل يظهر في الأعمال، والتصرفات عكس ذلك، كأن الإيمان هو ذلك الزعم القلبي الخفي الذي لا روح له، ولاحياة به، ولا يحد ما يصدقه، إنما الإيمان الحق هو الذي يحول بين صاحبه وبين إيثار شيء علي الله (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموهاوتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين).

وقد وصف القرآن الكريمالمائلين للأهواء، المتبعين للشهوات، بأوصاف العبودية لغير الله، واتخاذ غيره إلها، إذ يقول: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان منالغاوين، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد

إلى الأرض وأتبع هواه)، (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً)، (أرأيت من اتخذ إلهههواه أمأنت تكون عليه وكيلا?

أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً)، (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم، فمن يهدي من أضل الله).

وبهذا تبين أن أول وصية من هذه الوصايا العشر، هي أول أساس في بناء المجتمع السليم الذي يقوم على الإدراك الصحيح لأول حقيقة، وعلى العمل بمقتضى هذا الإدراك في كل شأنمن شئون الحياة.

الوصية الثانية:

(وبالوالدين إحساناً) وقد قرن الله تعالى هذه الوصية بالوصية الأولى التي هي توحيده وعدم الإشراك به، في هذه الآية وفي غيرهامن الآيات، مثل قوله جل شأنه: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً)، (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا)، (أن اشكر لي ولوالديك) في ذلكإيحاء بعظم هذه الوصيه، وتنبيه إلى أن معنى واحداً يجمعها مع الأولى، هو أن المنعم يجب يشكر: فالوالدان سبب في حياة الولد. فيجب أن يشكرهما ويحسن إليهما، والله سبحانهوتعالى هو الخالق المنعم، فيجب أن يشكر ويفرد بالعبادة والتوجه.

وإن المجتمع لا يمكن أن يصلح إذا بطل هذا المبدأ، مبدا الإحسان بالوالدين، لأنه حينئذ يكون مجتمعنكران ولؤم، وما أفظع أن ترى أحد الأبناء يتمتع بالجاه والمال وملاذ الحياة، وأبواه فقيران يصارعان الحياة ويجاهدان العيش، وهذا الولد قاس غليظ القلب لا يشعر أو لا يريدأن يشعر بأن لهما عليه حقاً، إن هذا لأسوأ أنواع الجحود والنكران.

وينبغي أن يعلم أن في الحرص على الإحسان بالوالدين توجيهاً إلى الإحسان بالأخوة والأقارب، وذلك أنالولد البار بأبوية يجد لزاماً عليه أن يصبر من أجلهما على ما عسى أن يلاقيه من تنكر أخوته أو أقاربه له، وحسدهم إياه. فإن الحسد طبيعة في الناس، وهو في الإخوة والأقاربمعروف مشهور، كما يجد لزاما

عليه أن يحسن إلى هؤلاء المتنكرين له وإن أساءوا إليه، فإن ذلك يرضي والديه، وبشرح صدريهما، ولعله أيضاً أن يؤدي إلىاستلال عوامل البغض: (أدفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).

الوصية الثالثة:

(ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم).

ولاشك أن الحياة حق لكل من خلقه الله، وأن الله تعالى هو الكفيل برزق كل من خلق، فإذا استباح أحد أن يعتدي على ولده فتقتله، فإنه لا بد أن يكون معتل الطبع، أو مختل العقل، فإنالولد بضعة من الوالد، والشأن أن يكون معتل الطبع، أو مختل العقل، فإن الولد بضعة من الوالد، والشأن حتى في الحيوان أن يضحي الوالد من أجل أولاده، ويحميهم ويتحمل الصعابفي سبيلهم.

فالمجتمع الذي يبيح قتل الأولاد خوفاً من الفقر أو خوفاً من العار، لا يمكن أن يصلح شأنه، لأنه حينئذ يكون مجتمعاً أفراده نفعيون ذوو أثرة ومادية طاغية،ويكون في الوقت نفسه مجتمعاً أفراده خياليون تطغي عليهم الأوهام، ويخفهم المستقبل فيرونه قائماً مظلماً إلى درجة أنهم يظنون أن الله تعالى يخلق خلقاً ثم لا يدبر لهمحقهم من الرزق، ثم إلى درجة أن يتخيل المتخيل منهم أن هذه الأنثى ستكبر ثم تعوج، ثم تزول، فتصيبه بالعار، وأي عار أكبر من أن يكون مثل هذا التفكير رائده وباعثه وموجهه? فهليرتكب العار المحقق، توقياً من عار متوهم?.

وما زال في الناس من يقتلون أولادهم بإجهاض الحوامل، ويقولون: إن تكاليف الحياة شاقة، وإن الأبوين في هذا الزمان لايستطيعان القيام بشئون أولادهما، ولا يقدران على مطالبهم الكثيرة، لذلك يستبيحون قتل الأولاد عن هذا الطريق، طريق الإجهاض، وإنهم لظالمون.

الوصية الرابعة:

(ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن).

والفواحش هي كل فعل تنكره العقول السليمة، والفطر المستقيمة، وقد تعلق التحريم فيها بهذا الوصف الذي يشعر بالعلة ـ كمايقول علماء الأصول ـ فكأنه

قال: إن كل فعل من الأفعال تستقبحه العقول فهو فاحشة يجب أن يبتعد عنها، ولا شك أن هذا مما تصلح عليه المجتمعات، وتستقر بهالمثل الفاضلة فيها.

والمجتمع الذي يؤمن بأن هناك (فواحش) يجب أن تجتنب، و(محاسن) يجب أن تلتمس؛ هو المجتمع الذي يكون له أهداف ومثل ومقاييس، أما المجتمع الذي يسوي بينالقبيح والحسن، ويقوم على الفلسفة الإباحية التي لا تفرق بين ما يفعل وما يترك، فلكل إنسان فيه أن يفعل ما يشاء غير مقيد، وتلك هي الفوضى وبوادر الإنحلال.

الوصيةالخامسة:

(ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق).

والقرآن الكريم ينظر إلى وجود الإنسان على أنه بناء بناه الله، فلا يحق لأحد أن يهدمه، وبذلك يقرر عصمةالدم الإنساني إلا بالحق، ويعتبر من يعتدي على نفس واحدة بغير حق كأنه اعتدى على الإنسانية كلها (أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً،ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً).

وفي ذلك تقرير للمبدأ الأول والأهم الذي تستقر عليه حياة البشر وأمنهم، فإن الإنسان ـ كسائر الحيوان ـ يعتمد على قوة وتنازعالبقاء، فإذا ترك إلى طبيعته: عمد إلى قوته فاتخذها سبيلاً إلى قضاء مآربه، وإزاحة كل من حال بينه وبين هذا المآرب من بني جنسه، عن طريق سفك دمه، وفي هذا ما فيه من تفانيهذا النوع وانقراضه، وفيه كذلك انتشار الخوف بين الناس وفساد حياتهم، واستحالة تعاونهم المثمر بسبب فقدان الثقة، وفيه إهدار الكرامة الإنسانية، واستهانة بهذا النوعالذي جعله الله خليفة في الأرض، لكن إذا تقرر أن من قتل نفساً بغير حق؛ كان كمن قتل الناس جميعاً، لأنه اعتدى على النوع كله باعتدائه على فرد منه، ولأنه فتح باب الضراوةوالبغي وهدم ما بنى الله، فإن الناس حينئذ يشعرون بكرامة هذا النوع شعوراً يبعثهم على التعاون في الضرب على يد المعتدي، واعتبار أنفسهم معتدى عليهم، ومن

واجبهم رد هذا العدوان، فيوجد التكافل على حفظ الحياة، والتضامن على إقرار الأمن والسكينة.

وقد نسي الناس في عصرنا الحاضر هذا المبدأ الذي قرره الإسلام باسمالإنسانية كلها: مبدأ التضامن في الضرب على يد المعتدي، فأصبحنا نرى من يعتدون على شعوب بأكمها، ومن يقتلون الناس حصداً بآلات التدمير والإفناء الشامل، دون رحمة ولاتورع، ثم لا يجدون من يحاسبهم على ما فعلوا، ولو تضامن الناس وجعلوا هذا المبدأ شعارهم؛ لارتدع الظالمون، وكف المعتدون.

هذه هي الوصايا الخمس التي تضمنتها الآيةالأولى من هذه الآيات الثلاث، وكلها تشترك في معنى واحد هو أنها حقائق أو حقوق ثابتة في نفسها، متقررة بذاتها، ولم يكن ثبوتها وتقررها إلا تجاوباً مع الفطرة وتحكمالطبيعة: فالله واحد سواء آمن الناس بهذه الحقيقة إيماناً عقيدياً وعملياً أم لم يؤمنوا، وشكر النعمة يقتضي الإحسان بالوالدين طبعاً ووضعاً، وللنسل حق الحياة والحفظ،فلا يسوغ للوالدين أن يقتلوا أولادهم خشية الفقر أو العار، والفواحش فحش ونكر في ذاتها فيجب أن تجتنب ويبتعد الناس عنها، والنفوس معصومة، وهي صروح بناها الله فليس لأحدأن يهدمها، وليس للإنسانية أن تتهاون في شأنها.

ولاتفاقها كلها في هذا المعنى جاءت في آية واحدة، وختمت بعبارة تفيد أن هذا مرجعه إلى حكم العقول (لعلكم تعقلون) وسيأتيمزيد بيان لسر هذا التذييل وغيره مما ذيلت به الآيات الثلاث.

الوصية السادسة:

وهي أول الوصايا في الآية الثانية: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتىيبلغ أشده).

واليتيم عارض يعرض في كل مجتمع. ومن شأن المجتمعات الناضجة أن ترعى اليتامى، وأن تحافظ على صلاحهم في أنفسهم وفي أموالهم، وذلك لآن الإنسانية مشتركة فيالعاطفة، ومن أفرادها أن يتأثروا بما يصيب الآخرين وبما يصير إليه أبناء الذين ماتوا، لكن الناس قد ينسون هذه العاطفة أحياناً، طمعاً في مال

اليتيم، فأول ما يدخل على قلوبهم من التغير في ذلك، إنما يأتي من ناحية المال والطمع فيه، فاحتاجوا إلى أن يوصوا بألا يقربوا هذا المال، وهي عبارة بليغة ذات تأثير قوي،فإن النهي عن قرب الشيء أبلغ من النهي عن تناوله ثم استثنت العبارة من يكون من القرب الذي هدفه الإصلاح لهم، وبذل الوسع في تحقيق ما هو أحسن لمثلهم، وهذا يدل على وجوبالاحتراس في النية وفي العمل، جميعاً، فلا يكفي أن تكون نية الأوصياء على اليتامى حسنة، ولكن عليهم أيضاً أن يبذلوا غاية الوسع ليحققوا لهم في كل تصرف ما هو الأحسنوالأمثل والأعود عليهم بالمصلحة، ومن الواضح أنه لا يقصد بذلك مجرد تنمية أموالهم ولو على حساب تربيتهم الخلقية والعلمية، فإن ذلك لا يكون هو الأحسن، إنما الأحسن هو أنيعامل اليتيم كما لو كان أبناً لمن يعامله من الآباء الصالحين، الواعين، المخلصين.

ولا شك أن هذا لون من التعاون الإجتماعي لابد منه في صلاح الناس، واستقامة شئونهم.

الوصية السابعة:

(وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها).

وهذه الوصية هي مبدأ العدل والتعادل، وكل مجتمع محتاج إليها، فالناس لا بد لهم منالتعامل، ولا بد له من التبادل، والكيل والوزن هما وسيلة ذلك، فلابد من أن يكونا منضبطين بالقسط.

ومثل ذلك كل تعامل ولو لم يوزن البدل فيه أو يضبط بالكيل، فيجب أن يكونالأساس هو إعطاء الحق، وأخذ الحق، أما من يريد أن يأخذ لنفسه كل ما استطاع، ولا يعطي في مقابل ذلك كل ما عليه أن يعطيه، فإنه من المطففين يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهميخسرون).

والمجتمعات الراشدة هي المجتمعات الواعية التي لا تجد فيها أحداً يغبن عن جهل

أو غفلة، وهي أيضاً المجتمعات الأمنية التي لا تجد فيها منيحاول أن يأخذ أكثر من حقه، أو يعطي أقل مما يجب عليه.

ولذلك قلت إن الحديث عن الكيل والميزان والقسط فيهما، يمكن فيه مبدأ القسط في التعامل عامة، وفي تبادل المصالحالإجتماعية كلها.

وقد أتبع هذا المبدأ بقاعدة من قواعد الإسلام الميسرة الرافعة للحرج، وهي قوله تعال: (ولا نكلف نفساً إلا وسعها) وذلك لأن التبادل التجاري أو المصلحيكائناً ما كان، لا يمكن أن يتحقق على وجه كامل من المساواة والتعادل، فلا بد من تقبل يسير من الغبن، في هذا الجانب أو ذلك، ومثل هذا يغتفر ويهون أمره، وعلى هذه القاعدة خرجكثير من المعاملات، التي أبيحت مع تضمنها معاني لو نظر إليها لحرمت، ومن هذا القبيل الرخص المستثناة دفعا للحرج في التعامل.

الوصية الثامنة:

(وإذا قلتمفاعدلوا) والعدل هو أساس الحكم السليم: العدل في القول، والعدل في الحكم، والعدل في الشهادة، والعدل في كل فعل.

وإنما خصصت الآية العدل في القول مع أن العدل مطلوب فيالقول والفعل لأن أكثر ما يكون فيه العدل أقوال كالشهادة، والحكم، ثم الأقوال هي التي تراود النفوس في كل حال، فالإنسان حين تصادفه قضية من القضايا القولية أو العملية،يحدث نفسه في شأنها، ويراوده معنى العدل، وكأنه يطالبه بأن ينطق به ويؤيده، فيقول في نفسه سأفعل كذا لأنه العدل، فإذا لم يكن صادقاً في هذا القول فقد جافى العدل، وقال غيرالعدل.

والغرض الأ يحدث الإنسان نفسه في أي قول أو عمل إلا بالعدل، ومن شأن أحاديث النفس أن تكون بواعث على الفعل، وبوادر له، فإذا صلحت أحاديث النفوس؛ صلحت الأفعالغالباً.

وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الوصية بعبارة أخرى في آيتين غير هذه الآية، إحداهما في سورة النساء، وهي قوله تعال: (يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسطشهداء لله، والثانية في سورة المائدة، وهي قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا

كونوا قوامين لله شهداء بالقسط) وقد طلب الله تعالى في هاتين الآيتين إلىالمؤمنين أن يكونوا (قوامين بالقسط شهداء لله) وأن يكونوا (قوامين لله شهداء بالقسط ولم يجعل (القوامية) لهذا غير (القوامية) لذاك، ولا الشهادة بهذا غير الشهادة بذاك،ليعلنا سر تسمية جل جلاله باسم (العدل).

الوصية التاسعة:

(وبعهد الله أوفوا) والوفاء أصل من أصول الإجتماع التي يتحقق بها الخير والصلاح، وتستقر عليها أمورالناس، ويكون بين الأفراد بعضهم وبعض، وبين الدول والأمم، والقرآن الكريم يأمر بالوفاء بالعقود عامة، فيقول الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) ويقول جل شأنه:(وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون، ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذونأيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة، إنما يبلوكم الله به، وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون).

وهذه آية جامعة في شأن الوفاء بالعهد: شددت فيالنهي عن نقض الإيمان بعد تركيدها، والإيمان هي العهود والمواثيق التي يتخذها الناس بعضهم مع بعض، وحذرت من الله الذي يعلم ما يفعل الناس، ويطلع على نواياهم، ويعرفمقاصدهم، والذي جعلوه كفيلاً عليهم أي ضامناً وشاهداً متكفلاً بعقوبة كل من تحدثه نفسه بالنقض والنكث، وصورت الناقض لعهده بامرأة تنقض غزلها بعد قوة ما أتمته وأخرجتهقوياً متيناً، فتعيده أنكاثاً، ولفتت إلى أسباب النقض غالباً، وهي شعور الأمة الناقضة الناكثة بقوتها والمادة أو العدد (أن تكون أمة هي أربى من أمة، وهذا أمر نشاهدهبأعيننا، فما تعودت الأمم الضعيفة أن تنقض عهودها مع الأمم القوية، ولكن الأمم القوية الطاغية بقوتها هي التي تنقض العهود عادة، بل هي التي تبرمها لتنقضها، ولا يبعثهاعلى هذا النقض إلا شعورها بقوتها وكثرتها، فالله تعالى يحذر من هذا الخلق الدولي، ويعرف الناس أن القوة والكثرة والنماء في الأمم هي ابتلاء، أي امتحان واختبار، كما جرتبذلك سنته

تعالى في الأفراد، فما من أمة أعطاها الله القوة والكثرة والهيبة ثم جارت في حكمها، ونقضت عهودها، وتنكرت للعدل، وطمعت في غيرها ملبيةداعي الجشع، إلا أخذها الله بظلمها (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة)، (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد).

وآيتنا في سورة الأنعام تذكر هذه الوصيةبلفظ موجز، ولا تفصل في شأنها كما فصلت الآية التي ذكرناها، وسر ذلك كما قلنا من قبل أن سورة الأنعام تضع الأسس أو المبادئ، ولا تكاد تفصل شيئاً إلا ما تستلزم البيئةالعربية يومئذ تفصيله، و مع ذلك فإن هذه العبارة الموجزة التي جاءت بها الوصية في هذه السورة (وبعهد الله أوفوا) قد وفت بأصول هذا المبدأ، حيث ذكرت أن لله عهداً، وأن عهدالله يجب الوفاء به، وكل عهد يقوم على أساس من الحق والعدل فهو عهد الله، سواء كان بين فرد وفرد، أو بين أمة وأمة، وهذا يشعر بأن هناك عهوداً غيره جديرة بأن تنسب إلى الله،وهي العقود أو العهود القائمة على الظلم أو الباطل أو الفساد، فمثل هذه العهود غير جديرة بالاحترام، ويجب العمل على التخلص منها إذا كانت بين أمة وأمة، كما يجب أن ينظر فيإصلاحها أو إلغائها إذا كانت بين الأفراد، والفقهاء في العقود تفصيلات ذات صله بهذا المعنى، يبينون فيها العقود التي تنعقد والتي لا تنعقد، والعقود الفاسدة التي تقبلالإصلاح، وغير ذلك.

وبهذا يتبين أن الإسلام دين الوفاء، وأنه يجعل للوفاء شأناً عظيماً في المجتمعات الداخلية، وفي المجتمع الدولي على حد سواء.

وقد انتهت بهذاالوصايا الأربع في الآية الثانية، وسنعود إلى حديثها مرة أخرى لنبين السر في تذييل هذه الآية بقوله تعالى: (لعلكم تذكرون) ومنه يتبين السر أيضاً في جعل الوصايا الأربعمجموعة واحدة في الآية الثانية، كما جعلت الوصايا الخمس الأولى مجموعة واحدة في الآية الأولى.

الوصية العاشرة:

(وأن هذا صراطي مستقيماً، فاتبعوه ولا تتبعواالسبل فتفرق بكم عن سبيله).

وهذه الوصية الأخيرة هي الجامعة لكل ما جاءت به دعوة الحق، في العقائد والحقائق الأولى. وفيما يأتي بعد ذلك من التشريعوالأحكام.

والله تعالى يعرف عباده بأن الصراط المستقيم واحد، وهو الصراط المنسوب إليه ـ سواء جعلنا الضمير في قوله تعالى: (وأن هذا صراطي) لله أو للرسول، فإن صراط للههو منهجه الذي رسمه وأوحاه إلى الرسول، وصراط الرسول هو المنهج الذي جاء به من عند الله ـ أما غير ذلك من المناهج، فهي سبل مختلفة متفرقة مفرقة، ولذلك أفرد الصراطالمستقيم، وجمع السبل وعقبها بما يدل على أن التفريق من شأنها، فقال: (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).

هذه هي الوصايا العشر في سورة الأنعام، التي عنيتبتقرير الأهداف الأولى للإسلام، وقد روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (من سره أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمة فليقرأ هؤلاء الآيات: (قل تعالوا أتل ما حرمربكم عليكم) إلى قوله: (لعلكم تتقون).

وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث، ثم تلا: (قل تعالوا أتل ماحرم ربكم) إلى ثلاث آيات، ثم قال: (من وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله في الدنيا كانت عتوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذهوإن شاء عفا عنه).

/ 1