بین أصول التحدیث و أصول التاریخ دراسة مقارنة فی المناهج نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

بین أصول التحدیث و أصول التاریخ دراسة مقارنة فی المناهج - نسخه متنی

احمد محمود صبحی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

د

د. احمد محمود صبحي

بين أصول التحديث وأصول التاريخ دراسة مقارنة في المناهج


ليس مصادفة أن تستهل معظم كتب أصول التحديث ـ أو علم مصطلحالحديث ـ تحديدها لماهية هذا العلم فتعده مرادفاً للخبر أو الأثر، وقد تجعل الحديث خاصاً للنبي والخبر حديثاً لغيره ثم قد تجعل الأثر ما روى عن الصحابة وقد تجيز إطلاقهعلى كلام النبي، وبصرف النظر عن هذه الاختلافات في تحديد مفاهيم هذه الألفاظ الثلاثة، فإن للفظي (الخبر) و (الأثر) مدلولاً تاريخياً واضحاً إذ يعطيانه انطباعاً انهمايتعلقان بالماضي، هذا الماضي الذي كان ولا يمكن أن يكون لن اتجاه آنات الزمان من الحاضر إلى المستقبل دون عود إلى الماضي، انه إن صح أن نضع كل علم في قوالب خاصة به دونغيره أو بالأحرى مقولات، فإن أول مقولة للتاريخ هو الزمان، تنطبق هذه المقولة أيضاً على الحديث طالما أن قول النبي أو فعله قد أصبح خبراً أو أثراً.

والمقولة الثانيةللتاريخ هي الفردية. بمعنى أن كل واقعة تاريخية فهي جزئية لا مجال فيها للتعميم لأن ما هو عام لا بد أن يتجاوز قيود الزمان وحدود المكان بينما وقائع التاريخ تحددها مقولةالزمان فضلاً عن المكان، فنابليون مثلاً باعتباره شخصية تاريخية فرد أو اسم جزئي أدى دوراً تاريخياً في زمن معين في قطر معين ولا مجال أن يتكرر هو بشخصه، وطالما أنالحديث قول أو فعل محمد بن عبدالله رسول الله ونبي المسلمين، ولا نعني بالحديث فرداً غيره وقد قدر عنه القول في زمن معين ـ مدة بعثته ـ فإن مقولة التاريخ الثانية أعنيالفردية تنطبق أيضاً على الحديث.

يصف المحدثون علم مصطلح الحديث ـ أو أصول التحديث ـ بعبارة موجزة ولكنها دقيقة: إنه رواية ودراية، ويقصدون بالرواية النقل المحررالدقيق لكل ما أضيف إلى النبي، وبالدراية مجموعة المباحث والمسائل التي بها يعرف حال الراوي والمروي من حيث القبول والرد والمقصود بالتأريخ فن كتابة التاريخ أو بالأحرىالخطوات التي يتبعها المؤرخ حتى يصل إلى الحقيقة التاريخية.

ـ 1 ـ

يحتل الحديث النبوي المكانة الثانية ـ بعد القرآن ـ كمصدر للتشريع الإسلامي، بل إن مدار أكثرالأحكام الشرعية على السنة لأن كثيراً من الآيات جاءت مجملة فكان تفصيلها في الحديث، ولكن الحديث النبوي لم يدون إلا في نطاق فردي محدود ـ في عهد الرسول عليه الصلاةوالسلام، وقد قيل إنه نهى عن ذلك فقد ورد في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري أنه قال: (لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدثوا عني ولا حرج ومن كذب علي فليتبوأمقعده من النار) وظاهر من مضمون الحديث أن علة المنع خشية التباس الحديث بالقرآن، يؤكد ذلك أنه قال للنفر القليل الذي كانوا يدونون الحديث: (لا تتخذوا للحديث كراريسككراريس المصاحف)، وهكذا كان التدوين للقرآن وللحديث الرواية.

لم يبدأ التدوين الرسمي للحديث إلا على رأس المائة الثانية من الهجرة بأمر من الخليفة عمر بن عبدالعزيزإلى عامله على المدينة ـ وكذلك سائر الأمصار أن: (انظر ما كان من حديث رسول الله (ص) أو سنة ماضية فاكتبه فإني قد خفت دروس العلم وذهاب أهله)، والواقع أن الأمر لم يكن حرصاًعلى كلام الرسول أن يندرس أو يضيع بقدر ما كان خشية أن يشيع فيه غير الصحيح، فلا يميز بين صحيح وموضوع، ولنشأة الوضع أسباب لا يكاد يغفلها لخطورتها أي كتاب في أصولالتحديث.

يختلف علماء الحديث على تحديد بداية نشأة الوضع ـ بين زمن الرسول أو زمن الخلافات السياسي ـ ولكنهم يقررون قضيتين:

الأولى: أن الوضع بدأ يلفت الأنظار بعدنهاية الخلافة الراشدة ومنذ بداية الملك العضوض.

الثانية: إن أول الأحاديث الموضوعة كانت في الفضائل أو بالأحرى مناقب الصحابة.

وتفصيل ذلك أن معاوية بعد أن استقرالأمر له أصدر أمره إلى خطباء المساجد أن يسبوا على المنابر (أبا تراب) علي بن أبي طالب ثم أعقب ذلك أمر آخر أن برئت الذمة ممن يروي حديثاً عن علي أو في حق علي أو آل بيته،وذلك موقف يتسق مع الأول إذا لا يعقل أن يلعن على المنابر ثم أن تروي الأحاديث عنه.

ولم يقتصر الوضع على أحاديث المناقب والمثالب، ذلك أن الناس على دين ملوكهم، فحينماغلب هؤلاء مصالحهم السياسية على حرمة الأحاديث النبوية سرت عدوى ذلك بين الناس في مظاهر شتى من تفكيرهم، فكانت هناك أحاديث موضوعة في التزلف إلى الخلفاء. وفي العصبيةللبلد. وفي تفضيل القبائل.

وانتقلت عدوى الوضع إلى المذاهب الفقهية. والكلامية فلا تكاد توجد مسألة خلافية فقهية أو كلامية إلا ولها اعتماد على أحاديث، حتى قال أحدالمتكلمين إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم فأنا كنا إذا هويناه أمراً صيرناه حديثاً.

ولم تكن رقة الدين هي وحدها الباعثة للوضاعيين على التجرؤ علىالكذب على الرسول، وإنما من الغريب أن يشارك في ذلك بعض الصالحين فقد وضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب احتساباً لله في ظنهم، فإن ذكروا بأنهم يكذبون على الرسول وبحديثهفي هذا الصدد قالوا نحن نكذب له لا عليه.

كان لا بد أن يقوم علماء يروعهم هذا كله ويتفرغوا في صبر واناة ودقة وورع لتنقية صحيح الحديث من موضوعه بعد أن بلغ الأخير عشراتالألوف إلى حد أن الإمام البخاري حين جمع الحديث وصححه ألفي الأحاديث المتداولة تربو على ستمائة ألف حديث لم يصح لديه منها أكثر من أربعة آلاف حديث وأن أبا داود لم يصحلديه من خمسمائة ألف حديث غير أربعة آلاف وثمانمائة.

نستخلص من ذلك أمرين:

الأول: إنه إذا كان علم مصطلح الحديث قد انبثق رد فعل للوضع فإن نقطة البدء فيه هي الشكإلى حد أن أصبح حسن الظن مدعاة للاتهام بالغفلة، فلا يعد الرجل محدثاً إذا حدث بكل ما سمع كما يقول الإمام مالك.

الثاني: أن نقطة البدء في هذا العلم هي الأحاديثالمتداولة ونقطة الانتهاء هي الأحاديث الصحيحة كما نطق بها النبي فعلاً، فالعلم إذن يتخذ مساراً معاكساً لاتجاه الزمان، ومن ثم فالمنهج هنا يماثل منهج التاريخالإستردادي ـ أي الاستعادة التصويرية ـ طالما أن الاستعادة الواقعية أو بالأحرى مراجعة الني مستحيلة ـ لما وقع منه فعلاً من خبر أو أثر من قول أو فعل.

إذا انتقلنا بعدذلك إلى علم التاريخ لنستشف طابعه نجد أنفسنا مع ابن خلدون الذي استهل مقدمته بفصل تحت عنوان: (في فضل علم التاريخ) وتحقيق مذاهبه والإلمام لما يعرض للمؤرخين من المغالطوالأوهام وذكر شيء من أسبابها)، أشار في هذا الفصل إلى ما يقع فيه المؤرخون وأئمة النقل من مغاليط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم في نظره على مجرد النقل غثاً أو سميناًدون أن يقيسوها بمعيار الحكمة أو يقفوا على طبائع الكائنات أو يقارنوها بأشباهها وذكر أمثلة لذلك منها ما نقله المسعودي وغيره أن جيوش بني إسرائيل في التيه كانوا ستمائةألف أو يزيدون، ثم محص ابن خلدون الخبر فاستخلص أن مثل هذا العدد تضيق به ساحة الأرض فضلاً عن أن بين موسى وإسرائيل أي يعقوب أربعة أجيال ويستبعد أن يتشعب النسل في مدىمائتين وعشرين سنة إلى مثل هذا العدد.

يشير ابن خلدون أيضاً إلى مبالغة الرواة في ذكرهم لأية أرقام كعدد العساكر وأموال الجبايات أو خراج السلطان أو نفقات المترفينبينما إذا استجليت الأمر تجده لا يصل إلى معشار ما يعدونه، ويرد ذلك إلى ولوع النفس بالغرائب وسهولة التجاوز على اللسان والغفلة على المتعقب والمنتقد حتى لا يحاسب نفسهعلى خطأ ولا يطالبها في الخبر بتوسط ولا عدالة ولا يراجعها إلى بحث وتفتيش فيرسل عنانه ويسيم في مراتع الكذب.

أدرك ابن خلدون أن الكذب متطرق بطبيعته إلى الخبر فاستقصىالأسباب المقتضية له وحصرها فيما يأتي:

1 ـ التشيعات للآراء والمذاهب فإن النفس إذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار وكان ذلك الميل والتشيع غطاءعلى عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله.

2 ـ الثقة بالناقلين وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح.

3 ـ الذهول عن المقاصد فكثير منالناقلين لا يعرف القصد بما سمع أو عاين وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب.

4 ـ تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح، فيستفيضالأخبار بها على غير حقيقة، فالنفوس مولعة بحب الثناء والناس منطلقون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة.

يستند إلى التعرف على القواعد التي يجب أن يتبعها المؤرخ أوالباحث في كتابته للتاريخ، أن كل ما ذكره ابن خلدون من أخطاء المؤرخين والرواة والدواعي المؤدية إلى الكذب أو الخطأ في النقل هي بالضبط نقطة البدء في أصول التأريخ أومنهج البحث التاريخي وإن كان ابن خلدون قد اتخذ مساراً آخر إلى فلسفة التاريخ أما منهج البحث التاريخي فدراسة نقدية للأخبار المروية والوثائق التاريخية.

يتخذ المؤرخفي التاريخ مساراً معاكساً لاتجاه التاريخ واتجاهه في ذلك ذو شقين:

الأول: من الوثيقة التي تحت يده إلى الأصل الذي صدرت عنه للتأكد من أن الوثيقة صحيحة وليست زائفة.

الثاني: من الأصل إلى الحادثة التاريخية ذاتها للتثبت من أن الوثيقة وصف دقيق لما جرى بالفعل وأن مضمونها مطابق للأحداث التي ترويها.

لعل أوجه الشبه بين منهجيالحديث والتاريخ قد بدأت تتضح، أنهما يلتقيان عند مقولتين: الزمان والفردية، أن نقطة البدء في كل منهما واحدة: أحاديث موضوعة أو وثائق مزورة ومن ثم لابد من الشك ومنالنقد، أن منهجهما واحد: مسار معاكس لمسار التاريخ: المنهج الاستردادي. على أن أوجه الشبه هذه يجب ألا تخفى اختلافاً بين التحديث والتأريخ.

كيف تمكن علماء مصطلحالحديث من الوصول إلى أحاديث النبي الصحيحة في خضم عشرات الألوف من الأحاديث الموضوعة؟ أي منهج أتبعوه لتنقية المقبول من المنكر والصحيح من الموضوع؟

عدول عند أهلالحديث، على أن هذا لا يمنع من الترجيح في الرواية عنهم إذ ترجح رواية من كثرة مخالطته للنبي، وإذا كان الحديث يتعلق بواقعة أو رداً على استفسار ترجحت رواية صاحب الواقعةأو المستفسر لأنه أعرف بها كذلك ترجح رواية من ذكر سبب الحديث على من لم يذكره.

وأما الإسلام فلان الراوي ينقل أقوالاً تتعلق بأحكام هذا الدين ومن ثم لزم أن يكونمؤمناً بالعقيدة.

ننتقل بعد ذلك إلى أصول التأريخ لنتابع الخطوات التي يتبعها المؤرخ من أجل الوصول إلى الحقيقة التاريخية، كيف يتأكد من صحة ما لديه من وثائق ـ أي عدمزيفها ـ ثم من صدقها ـ أي مطابقة مضمونها لما وقع بالفعل في التاريخ ـ ؟ ظاهر أن في الأمر جانبين: صحة الوثيقة وذلك موضوع النقد الخارجي أو ما اصطلح على تسميته نقد التحصيل،صدق الوثيقة وذلك موضوع النقد الداخلي.

ظاهر أن النقد الخارجي يتعلق بوثائق مكتوبة ويهدف إلى الوصول إلى أفضل نص محقق وأقرب إلى ما كتبه صاحب الوثيقة نفسه إن لم يكن ماكتبه فعلاً، ولا مجال لذلك في الحديث طالما أن التداول فيه يعتمد على الرواية أو السماع.

على أن اختلاف الكتابة عن الرواية لا يعني أن ليس هناك ما يناظر النقد الخارجيفي الحديث، فإذا كان على المؤرخ أن يتثبت من أصالة الوثيقة أي خلوها من الأخطاء والتزوير وهو ما يقتضيه نقد الوثيقة وأن يتأكد من صحة نسبتها إلى مؤلفها وهو موضوع نقدالمصدر ثم أن يرتب الوثائق حسب أهميتها وموضوعاتها تمهيداً لاستخدامها، وإذا كانت الوثيقة الأصلية وسطاً بين النسخة التي أمام الباحث التاريخي وبين الحادثة التاريخيةذاتها فإن الرواة هم بدورهم وسط بين الحديث المتداول والحديث الذي نطق به النبي.

أما النقد الداخلي فنقطة البدء فيه هي الوثيقة التاريخية ـ سواء أكان كاتبها مؤرخاًعاصر الحدث التاريخي أم شخصية أدت دوراً مسجلاً انطباعاته في صيغة مذكرات أو ذكريات ـ ونقطة الانتهاء هي الحادثة ذاتها، ودور النقد الداخلي هو الكشف عن مدى التطابق بينالإثنين.

قدم شارل لأنجلو مجموعتين من الأسئلة على الباحث التيقن منها ليطمئن إلى صدق كاتب الوثيقة فيما يرويه.

المجموعة الأولى للتثبت من صدق المخبر أو الراويفيما يرويه:

1 ـ هل للراوي مصلحة شخصية فيما يرويه؟ ليس من الضروري أن تكون مصلحته فردية بل قد تكون جماعية كانتسابه إلى هيئة أو حزب أو فرقة دينية.

2 ـ هل كان كاتبالوثيقة في وضع اضطر إلى الكذب فيه؟ فبعض الظروف السياسية أو العسكرية قد تستدعي ذكر الحقائق وتسكت الوثائق عن ذكرها حتى لو كانت رسمية.

3 ـ هل أقدم الراوي على الروايةبدافع من الغرور الشخصي؟

4 ـ هل أراد الكاتب إرضاء الرأي العام أو تملق الجماهير فذكر من الأخبار ما ترضيها؟

5 ـ هل كان الراوي من الشباب أو من أنصاف المتعلمينالذين ينسبون مواقف بطولية كاذبة إلى شخصيات يحبونها؟ إن واجب المؤرخ هو التشكك فيما يكتب بأسلوب جذاب، وكلما كان القول أكثر تشويقاً من الناحية الأدبية كان ذلك أدعىإلى الإرتياب.

أما المجموعة الثانية من الأسئلة فللتيقن من أن كاتب الوثيقة عدل أو ثقة بوجه عام وأهمها:

1 ـ هل يتمتع الراوي بحواس سليمة وعقل سليم.

2 ـ هل كان فيالمكان المناسب للملاحظة؟ جندياً أو قائداً في معركة، سكرتيراً لجلسة في مجلس أو مؤتمر؟ هل لجأ إلى سماع تفاصيل الحادثة من رواة آخرين؟ قد يكون قائد معركة ولكنه اعتمدعلى أقوال ضباطه لبعده هو عن الميدان ومن ثم أصبحت أقواله وثيقة من الدرجة الثانية؟ ما هي قدرته على التعميم أو التجريد كتقديره لعدد القتلى و الجرحى؟

3 ـ هل الراويمتخصص فيما يرويه؟ عسكرية بالنسبة لمعركة، سياسي بالنسبة لمؤتمر سياسي.

ولا شك أن الشروط التي وضعها علماء الحديث لتعديل الراوي أشمل وأدق مما ذهب إليه المؤرخون لأنجل اهتمام المحدثين بالاسناد وهذا يعتمد كلية على الرواة ولأن الحديث يمس الدين ومن ثم تشددوا في ورع الراوي وخلقه.

واهتمامهم بالرواة وبالإسناد جعلهم يخصصون لذلكعلمين مستقلين من علوم الحديث هما رجال الحديث وعلم الجرح والتعديل.

وإذا كان التشكك هو الأصل سواء في أصول التاريخ فإن عدم التيقن من صحة الحديث أو الخبر لا يعنيبالضرورة أنه موضوع أو منتحل، فليس كل حديث ضعيف موضوعاً وليس كل وثيقة من الدرجة الثانية زائفة.

إذا كان الضعف لا يعني بالضرورة الوضع، وإذا كان عدم توفر الدقةالمطلقة في وثيقة لا يعني أنهاه حتماً زائفة أو منحولة، أليس من علامات إيجابية بها يعرف الموضوع من الحديث والزائف من الوثائق؟

إنه إلى جانب ما وضعه العلماء من شروطلنقد السند فقد التزموا بقواعد لنقد المتن وقد تكون هذه أصرح في الدلالة على الوضع، وأهم هذه القواعد:

القاعدة الأولى: اعتراف الواضع نفسه باختلاق الأحاديث، كما فعلأبو عصمة بن أبي مريم فقد أقر بوضعه على ابن عباس أحاديث في فضائل القرآن سورة بسورة بتبرير أن الناس قد انصرفوا عن القرآن إلى الحديث.

القاعدة الثانية: أن يكون فيالحديث المروي لحن في العبارة أو ركة في المعنى مما يستحيل صدوره عن أ فصح من نطق بالضاد، وإن كان المعول على ركة المعنى قبل ركة اللفظ لاحتمال أن يكون الراوي قد رواهبالمعنى فغير ألفاظه بغير فصيح.

القاعدة الثالثة: أن يكون المروي مخالفاً للعقل أو الحس والمشاهدة غير قابل للتأويل مثل: إن سفينة نوح طافت بالبيت وصلت خلف المقامركعتين.

القاعدة الرابعة: أن يتضمن وعيداً على ذنب صغير أو وعداً عظيماً على فعل صغير كالخلود في الجنات في رفقة آلاف من الحور العين لفعل مندوب أو ترك مكروه أو الخلودفي جهنم مع مقت الله وغضبه لترك مندوب أو فعل مكروه، أما الوعد كالقول: من ولد له ولد فسماه محمداً كان هو ولده في الجنة.

القاعدة الخامسة: أن يخالف القرآن أو محكم السنةأو المعلوم من الدين ضرورة بحيث لا يحتمل التأويل كالقول: ولد الزنى لا يدخل الجنة إلى سبعة أبناء فإنه مخالف للآية (ولا تزر وازرة وزر أخرى).

القاعدة السادسة: أن يخالفالمعقول في أصول العقيدة من صفات الله مثل الحديث الذي وضعته المجسمة: خلق الله تعالى الملائكة من شعر ذراعيه وصدره أو من نورهما.

القاعدة السابعة: أن يخالف القواعدالعامة في الأخلاق أو أن يكون داعياً إلى رذيلة يبرأ منها الدين، من ذلك: النظر إلى الوجه الحسن يجلي البصر.

القاعدة الثامنة: أن يشتمل على سخافات تأباها العقول أو أنيكون مخالفاً للبديهيات مثل: لما أراد الله أن يخلق نفسه خلق الخيل فأجراها حتى عرقت ثم خلق نفسه من ذلك العرق.

على أنه من الخطأ التسرع في الحكم على الحديث بالوضعلمجرد أنه في ظاهر نصه يخالف نقلاً أو يعارض أصلاً أو ينفر منه العقل السليم، ذلك أن فساد الحديث قد يرجع إلى سقوط لفظة من الراوي في روايته أو سوء فهمه في حفظه للحديث، منذلك الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم أن رسول الله قال: (لا يبقى على ظهر الأرض (اليوم) بعد مائة سنة نفس منفوسة) فلم يفطن بعض الصحابة إلى تقييد الرسول بمن هو على ظهرهااليوم فظنوه على اطلاقه وأن الدنيا تنتهي بعد مائة سنة.

وليس من الضروري أن يكون الوضع في المتن بأكمله وإنما من الوضع ما أسماه المحدثون بالإدراج ـ أي مجرد زيادةليست من متنه ـ ومن الإدراج ما هو كذب على الرسول إن جاء عمداً.

من ذلك قول الرسول: أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي فأدرج أحد الزنادقة في آخر متنه (إلا أن يشاء الله) ليفتحباب ادعاء النبوة، أما الإدراج عن غير عمد من أحد الرواة العدول فيكون غالباً لتفسير ألفاظ غريبة في متن الحديث، وقد يكون الإدراج في أوله للتمهيد لحكم شرعي.

وقد عرفأئمة الحديث الطرق التي تدل على المدرج وذلك من وجوه:

الأول: أن يستحيل إضافة ذلك إلى النبي، من ذلك الحديث: للعبد المملوك أجران فأدرج أحد الرواة في آخره (والذي نفسيبيده لولا الجهاد والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك) فافتضح الإدراج من وجوه:

1 ـ تمنى الرق وهذا لا يجوز.

2 ـ إن أم الرسول قد ماتت وهو صغير فلا وجه للقول ببرهأمه.

الثاني: أن يصرح أحد الرواة بأنه لم يسمع العبارة المدرجة.

الثالث: أن يصرح بعض الرواة بفصل العبارة المدرجة عن المتن ويعين المزيد والمزيج عليه ناسباً المزيدإلى من ذكره من الرواة.

لقد كان الكذب شائعاً في التاريخ القديم بما ضمنه الرواة من أساطير وخيالات تأباها العقول الناقدة وتعارض القوانين الطبيعية والعاداتالاجتماعية، إن المحك هنا هو بالضبط ما نبه عليه ابن الجوزي بقوله (تخالفه للعقول وتناقضه الأصول)، وقد ذكر ابن خلدون مثالاً لذلك رواية المسعودي عن بناء الإسكندرللاسكندرية إذ لما صدته دواب البحر عن بناء الإسكندرية اتخذ صندوقاً من الزجاج وغاص فيه إلى قعر البحر حتى صور تلك الدواب الشيطانية التي رآها وعمل تماثيل لها من أجسادمعدنية ونصبها حذاء البنيان ففزعت تلك الدواب حين خرجت وعاينتها، ويرى ابن خلدون أن مثل هذه الروايات الممتنعة لا تحتاج إلى التحقق من صدق الرواة طالما أن الخبر في ذاتهمستحيل الوقوع.

وقد يقحم النساخ على الوثيقة عبارات زائدة، وقد يكون هذا الحشو بهدف التعليق أو الشرح، ويمكن الكشف عن الحشو أو الحشر إن وجدت نسخ أخرى من نساخ مستقلين، فإن لم يكن فلا بد من النقد الباطن الذي يكشف أسلوب الكاتب وآرائه واتجاهاته ومباينة عبارات الحشو لها.

ولا ينبغي للباحث فهم النص على ظاهره، حقيقة إن بعض الوثائقكالأوامر الإدارية الموجهة من السلطة الحاكمة إلى الجمهور لا تحمل هدفاً خفياً، ولكن المغزى الحقيقي للنص قد يختلف عن معناه الحرفي في كثير من الوثائق، بل إنها قد تخفيرموزاً كمذكرات زعماء الثورات وحروب العصابات ولذا ينبغي متابعة أسلوب الكاتب في سائر المؤلفات، كذلك لا ينبغي للباحث أن يخلع على النص القديم تصورات عصرية فذلك منالتعسف في التأويل، وإنما أن يفهم ما قصد إليه صاحب النص، فالوثيقة لا تتضمن إلا أفكار كاتبها، ولا بد لذلك من التعرف على الأسلوب المتبع في عصر صاحب الوثيقة بوجه خاص بلكيفية استخدامه للعبارات والمصطلحات بتتبعها في مواضعها المختلفة بوجه أخص، ذلك ما يهدف إليه النقد الإيجابي للوثائق، يناظر ذلك ما سبقت الإشارة إليه مما ينبغي علىالمحدث من عدم التسرع بالاتهام بالوضع لمجرد غرابة ظاهر النص إذ ربما يحتمل التأويل أو سقطت منه لفظة أو أساء أحد الرواة فهمه ومن ثم حمله، والمعول في ذلك كله على تمرسالمحدث لأحاديث الرسول وتتبعه مختلف الأسانيد.

على أن مجرد معرفة القواعد لا يعني إمكان المحدث أو الباحث التعرف على الوضع أو الكذب ـ الإدراج أو الحشو، ذلك أنالمعول في كل فن أو صناعة على الخبرة والممارسة، فليس من دواء للواضع إلا إتقان فن التحديث والرسوخ فيه، قيل لابن حجر: إنك تقول للشيء هذا يصح وهذا لم يثبت، فعمن تقول ذلك؟فقال: أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك فقال هذا جيد وهذا بهرج أكنت تسأله عن ذلك أو تسلم له الأمر؟ قال: بل أسلم له الأمر، قال: فهذا كذلك لطول المجالسة والمناظرةوالخبرة، ولقد كان المحدث بمجرد سماعه لحديث لا يطمئن لمتنه أو لسنده يقول له قلبه: حديث معلل، ويعني بذلك وجود علة تقدح في صحته، والكشف عن العلة يحتاج إلى اطلاع واسععلى الحديث وذاكرة قوية وفهم دقيق إلى أن تصبح لديه ملكة لا تخطئ التمييز بين المقبول والموضوع حتى تصبح هذه الملكة أقرب إلى الإلهام، ولهذا الإلهام جانبان: أحدهما يتعلقبالمحدث والآخر يتعلق بالحديث، أما ما يتعلق بالمحدث فقد قال تعالى: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين).

والتمرس مطلوب في التاريخ كذلك، فهو أساس للنقد الخارجي والداخليمعاً، في الخارجي للكشف عن صحة نسب الوثيقة لقائلها بعد حلول خبرة الباحث في نقد الوثائق تماماً كما يكشف الناقد الفني اللوحة الزائفة مميزاً لها عن اللوحة الأصلية مهماشابهتها، كذلك بالخبرة يدرك الباحث بحدسه صدق أو كذب الراوي فيما يرويه.

وإذا انفرد الحديث بقداسة تشيع في النفس فراسة فإن الفراسة كالحدس لا بد أن تقوم على الخبرةوالممارسة يستوي في ذلك المحدث مع المؤرخ والصائغ مع الفنان.

على أن هذا التناظر الذي تتبعنا خطواته ومساره بين أصول التحديث وأصول التاريخ لا يعني تماثل المنهجين أوتطابقهما إلى حد أن يمكن أن يرد التاريخ والحديث إلى منهج واحد، وليس الفارق بينهما مجرد فارق بين الرواية والتدوين، وإنما يفترق العلمان لأن الحديث بعد نقد السند ونقدالمتن قد بلغ نقطة الوصول، أما المؤرخ فالشوط أمامه طويل، وليست مرحلتا النقد الخارجي والنقد الداخلي إلا منتصف الطريق، إنهما يشكلان المرحلة التحليلية في المنهجالتاريخي تعقبهما مرحلة تركيبية، ذلك أن التاريخ ليس مجرد أقوال وأفعال لشخصيات صنعت حوادثه ويراد استعادتها أو تصورها كما وقعت كما هو الحال في الحديث، وإنما التاريخيتعلق بحضارات وأنظمة معقدة لها جوانبها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية، والتشريعية والعلمية والعسكرية، كلها متشابكة متداخلة متفاعلةمتطورة على المؤرخ أن يستعيد تصورها في حالتيها التركيبية والديناميكية معاً ولن نتابع المؤرخ في جهده هذا طالما أن ليس في أصول التحديث ما يناظر المرحلة التركيبية فيالتاريخ.

ولم تكن وقيعة بعض المتكلمين لا سيما المعتزلة في أهل الحديث بسبب تقصيرهم في نقد المتن فحسب وإنما لأن أغلبهم قد تبنى مذاهب وآراء تباين أصول المعتزلة تمامالمباينة.

ولم يكن التشبيه هو وحده ما أثار عداء المعتزلة على رجال الحديث بل لقد قيل في أصل تسمية قول أو فعل الرسول بالحديث إنه في مقابل القديم وهو القرآن كلامالله، ومع أن هذا التعليل كما يبدو جاء متأخراً بعد شيوع الاعتقاد بقدم القرآن من قبل الحنابلة، فإن أهل الحديث قد تبنوا هذا التعليل متابعين أحمد بن حنبل وهو من أئمتهم.

كان بعض رجال الحديث إذن من المشبهة والحشوية والقائلين بقدم القرآن وأن الله تجري عليه الحوادث ـ معتقد الكرامية ـ فضلاً عن الاعتقاد بالجبر وأن الله يرى بالأبصاريوم القيامة وعذاب القبر وشفاعة النبي لأهل الكبائر، وهي معتقدات تثير ثائرة المعتزلة، فليس من المستغرب إذن أن يتهموهم برواية بعض أحاديث لا لأنها صحيحة وإنما لأنهاتوافق معتقداتهم وانهم لم يرفضوا النقل عن أهل البدع طالما قد رووا أحاديث عن المجسمة كالمقاتلية والكرامية، انهم ينقلون عن رجال من مخالفي المعتزلة كقتادة وابن أبينجيح ويمتنعون عن الكتابة عن رجالهم أو مؤيديهم كعمرو بن عبيد وعمرو بن قائد ومعبد الجهني.

ولكن هل أمكن للمعتزلة بوصفهم من أهل الرأي أن يعوضوا ما قصر فيه رجالالحديث من نقد المتن؟ الواقع أن المعتزلة لم يقدموا قواعد محددة لنقد المتن ولكنهم كانوا يردون بعض الأحاديث باعتبار متنه وكان رفضهم إما لأن هذه الأحاديث تتعارض معأصولهم أو أنها اتخذت طابعاً مسرفاً في الغيبية مبايناً للنزعة العقلية. وهذه أمثلة لأحاديث من النوع الأول:

1 ـ أحاديث تنطوي على تشبيه: قلب المؤمن بين اصبعين منأصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء ـ وضع يده على كتفي حتى وجدت برد أنامله.

2 ـ أحاديث في الجبر: كل ميسر لما خلق له ـ الشقي من شقي في بطن أمه و السعيد من سعد في بطن أمه.

3ـ أحاديث في الرؤية: ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون (أي تتزاحمون) في رؤيته.

4 ـ أحاديث في الإرجاء والشفاعة لأهل الكبائر: من قال لا إله إلاالله دخل الجنة قيل وإن زني ون سرق قال وإن زنى وإن سرق ـ أعددت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.

والأمثلة التالية من النوع الثاني:

1 ـ إذا وقع الذباب في الإناءفاملقوه فإن بأحد جناحيه سماً وفي الآخر شفاء وانه يقدم السم ويؤخر الشفاء.

اعترض المعتزلة على هذا الحديث: كيف يعلم الذباب بموضع السم فيقدمه وبموضع الشفاء فيؤخره.

2 ـ قال النظام: زعم ابن مسعود أن القمر انشق معجزة للنبي مع أن المعجزة إنما يجريها الله لأحد رسله لتكون آية للعالمين وحجة للمرسلين ومزجرة للعباد فكيف لم تعرف بذلكالعامة ولم يؤرخ الناس لذلك العام ولم يذكره شاعر ولم يسلم عنده فاجر ولم يحتج به مسلم على ملحد.

ومع ملاحظة هذه التفنيدات المستندة إلى منطق العقل فإن المعتزلة لميقدموا منهجاً متكاملاً في نقد المتن بمثل ما قدم أصحاب الحديث في نقد السند، ربما لأنهم قد شغلهم الكلام ومسائله عن الحديث، وربما وكما هو ملاحظ أنهم إن استندوا إلىأدلة النقل في احتجاجاتهم فقلما كانوا يستشهدون بأحاديث وإنما كان جل استنادهم على آيات القرآن، فلم يكن بين المعتزلة محدثون ولم يكن بين المحدثين معتزلة.



المصدر: في فلسفة التاريخ

/ 1