فی انتظار الإمام (علیه السلام) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

فی انتظار الإمام (علیه السلام) - نسخه متنی

عبدالهادی الفضل

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

في انتظار الإمام

عبد الهادي الفضلي

تمذهب القضية:

إن كثيراً من قضايانا العقائدية صبغت بطابع مذهبي أو طائفي، بسبب عوامل معينة، طرأت عليها، فقولبتها في إطار ذلك المذهب، أو نطاق تلك الطائفة.. مما أفقدها طابعها العام، بصفتها عقيدة إسلامية عامة.

وراحت تتغلغل في تمذهبها نتيجة دفع كثير من الدراسات والبحوث، غير المقارنة، أو غير الموضوعية، التي تدور حول القضية على اعتبار أنها من عقائد مذهب معين، أو طائفة معينة.

وقضيتنا هذه (قضية المهدي المنتظر)، إحدى تلكم القضايا التي حولتها العوامل الطارئة، إلى قضية خاصة، فقولبتها في إطار مذهب الشيعة، وقوقعتها في نطاق هذه الطائفة من طوائف المسلمين.

القضية إسلامية عامة:

في حين أن دراسة هذه القضية أو بحثها بشيء من الوعي والموضوعية، ينهي بنا حتماً إلى أنها قضية إسلامية، قبل أن تكون مذهبية، شيعية أو غيرها.

وقد رأيت - في حدود مراجعاتي حول القضية - أن باحثي موضوع المهدي المنتظر، من سنة وشيعة، يمتدون بجذور المسألة إلى أحاديث صادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله).. ثبتت صحة صدورها، إما لأنها متواترة - كما سيأتي - أو لأنها أخبار آحاد توفرت على شرائط الصحة.

وإذا كانت المسألة التي ينتهي بها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) - والجميع يؤمنون بأن النبي (صلى الله عليه وآله) في سنته المقدسة هو عدل القرآن الكريم في الإرشاد إلى العقيدة الحقة، وفي تشريع الأحكام - لا تعد مسألة إسلامية... فإذن ما هي المسألة الإسلامية؟!...

ورأيتنا أننا متى أبعدنا من حسابنا الانفعال العاطفي، والرواسب الفرقية التي خلفتها وعمقتها أفاعيل الحكام المنحرفين من المسلمين، والحكام المستعمرين من الكافرين،.. ودخلنا المسألة بذهنية العالم الموضوعي، الذي ينشد معرفة الواقع، مستمداً من مصادره الإسلامية الأصيلة، وعلى ضوء المقاييس الإسلامية المعتبرة... وقفنا أمام مسألة إسلامية حتى فيما نعتقده أو نخاله مذهبياً منها.

تواتر أحاديثها عن النبي:

وذلك أن الأحاديث في المسألة الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قد قال بتواترها غير واحد من العلماء...

وهي - في حدود ما وقفت عليه - على طوائف ثلاث هي:

1- القول بتواترها عند المسلمين.

2- القول بتواترها عند أهل السنة.

3- القول بتواترها عند الشيعة.(1)

والقول بالتواتر لدى طائفتي المسلمين - في واقعه - قول بالتواتر عند المسلمين عامة.

وقال بصحة صدورها من لم يصرح بتواترها من العلماء، أمثال: أبي الأعلى المودودي .. قال: (غير أن من الصعب - على كل حال - القول بأن الروايات لا حقيقة لها أصلاً، فإننا إذا صرفنا النظر عما أدخل فيها الناس من تلقاء أنفسهم، فإنها تحمل حقيقة أساسية، هي القدر المشترك فيها، وهي: إن النبي (صلى الله عليه وآله) أخبر أنه سيظهر في آخر الزمان زعيم، عامل بالسنة، يملأ الأرض عدلاً، ويمحو عن وجهها أسباب الظلم والعدوان، ويعلي فيها كلمة الإسلام، ويعمم الرفاه في خلق الله).(2)

طوائف أحاديثها:

وبغية الانتهاء إلى النتيجة التي أشرت إليها آنفاً:لا بدلنا من دراسة الأحاديث المشار إليها، دراسة مقارنة وموضوعية، ولو بشيء من الإيجاز:

إن الأحاديث في المسألة على طوائف هي:

1- ما لم يصرح فيها بذكر المهدي.

2- ما صرح فيها بذكر المهدي.

وقد حمل العلماء القسم الأول من الأحاديث (وهي التي لم يصرح فيها بذكر المهدي) لأنها مطلقة، على القسم الثاني (وهي التي صرح فيها بذكر المهدي) لأنها مقيدة.

يقول المودودي: (قد ذكرنا في هذا الباب نوعين من الأحاديث: أحاديث ذكر فيها المهدي بالصراحة، وأحاديث إنما أخبر فيها بظهور خليفة عادل بدون تصريح بالمهدي.

ولما كانت هذه الأحاديث من النوع الثاني تشابه الأحاديث من النوع الأول في موضوعها، فقد ذهب المحدثون إلى أن المراد بالخليفة العادل فيها هو المهدي).(3)

وتنقسم الطائفة الأخيرة منهما إلى طوائف أيضاً هي:

أ- ما صرح فيها بأن المهدي من الأمة.

ب - المهدي من العرب.

ج - المهدي من كنانة.

د - من قريش.

هـ - من بني هاشم.

و - من أولاد عبد المطلب.

وإلى هنا يحمل المطلق منها على المقيد، نظراً إلى عدم وجود ما يمنع من ذلك، فتكون النتيجة هي: ما تصرح به الطائفة الأخيرة - رقم و- (المهدي من أولاد عبد المطلب).

وهي تنقسم إلى طائفتين أيضاً هما:

1- ما صرح فيها بأن المهدي من أولاد أبي طالب.

2- ما صرح فيها بأن المهدي من أولاد العباس.

وهنا نظراً لتكافؤ الاحتمالين وهما: احتمال حمل المطلق المتقدم (وهو ما تضمن أن المهدي من أولاد عبد المطلب)، على القسم الأول (وهو ما تضمن أن المهدي من أولاد أبي طالب)،.. واحتمال حمله على القسم الثاني (وهو ما تضمن أن المهدي من أولاد العباس)،.. لا يستطاع تقييده بأحدهما إلا مع ثبوت المرجح.

وحيث قد ثبت أن الأحاديث التي تضمنت أن المهدي من أولاد العباس موضوعة - كما سيأتي بيانه مفصلاً في البحث عن عوامل الغيبة الصغرى - تبقى الأحاديث من القسم الأول (وهي التي تضمنت أن المهدي من أولاد أبي طالب) غير معارضة، فيقيد بها إطلاق ما قبلها، فيحمل عليها.. فتكون النتيجة: هي أن المهدي من أولاد أبي طالب.

وهي - أعني الأحاديث المتضمنة أن المهدي من أولاد أبي طالب - تنقسم إلى طوائف أيضاً هي:

1- المهدي من آل محمد (صلى الله عليه وآله) .

2- من العترة (عليهم السلام).

3- من أهل البيت (عليهم السلام).

4- من ذوي القربى (عليهم السلام).

5- من الذرية.

6- من أولاد علي (عليه السلام).

7- من أولاد فاطمة (عليها السلام).

والأخيرة - في هذا السياق - تقيد ما قبلها فتحمل عليها.

وهي تنقسم إلى طائفتين هما:

أ - المهدي من أولاد الإمام الحسن (عليه السلام).

ب - المهدي من أولاد الإمام الحسين (عليه السلام).

وهنا نعود فنقول: نظراً لتكافؤ الاحتمالين (احتمال حمل المطلق على القسم الأول، واحتمال حمله على القسم الثاني)، لا يمكن حمل المطلق المتقدم على أحدهما من غير ومرجح.

ولما كانت الأحاديث المتضمنة أن المهدي من أولاد الحسن موضوعة، لما يشابه العوامل السياسية التي حملت بني العباس على وضع أحاديث المهدي من أولاد العباس، يحمل المطلق المتقدم على القسم الثاني، فيقيد بها.. فتكون النتيجة: المهدي من أولاد الإمام الحسين (عليه السلام).

ولا أقل من أن أحاديث القسم الأول لضعفها وقلتها، لا تقوى على مناهضة أحاديث القسم الثاني لصحتها وكثرتها.

وتنقسم الطائفة الأخيرة منهما إلى طوائف هي:

1- المهدي من أولاد الإمام الصادق (عليه السلام).

2- من أولاد الإمام الرضا (عليه السلام).

3- من أولاد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)(4).

وشأن هذه الطوائف الأربع الأخيرة، في حمل المطلق منها على المقيد، شأن ما تقدمها من طوائف.

النتيجة:

وفي النهاية تكون النتيجة الأخيرة هي:

المهدي المنتظر، هو: (ابن الإمام الحسن العسكري) عليهما السلام.

محاولة الرجوع بالقضية إلى واقعها العام:

وهذا اللون من المحاولة في الدراسة والبحث لإرجاع المسألة إلى واقعها العام، والخروج بها عن الأطر المذهبية الضيقة، أمثال: اعتبارها شيعية خاصة - كما يذهب البعض - أو اعتبارها سنية - كما يذهب الشيخ ناصف في كتابه (غاية المأمول) فيما نقل عنه -.(5)

أقول: إن هذا اللون من المحاولة يتطلب منا الرجوع إلى أصول عامة في بحث الحديث، توفر للعالم الأجواء الكافية للدراسة المقارنة والبحث الموضوعي.

أمثال: أن نعتبر الشرط الأساسي في توثيق الراوي هو: كونه مسلماً صادقاً معاصراً لن ينقل عنه بلا واسطة، قادراً على الاتصال به، مشافهة، أو تحريراً مع توفر شروط الأمانة في التدوين والنقل.

عوامل التمذهب:

وإلى هنا... ربما يتساءل عن العوامل التي حوّلت قضية المهدي المنتظر إلى قضية طائفية؟!...

إن الذي يبدو لي: أن العوامل التي ساعدت على ذلك نوعان هما:

1- العامل السياسي: ويتمثل في استغلال العباسيين القضية لصالح ملكهم الخاص - كما سيأتي بيانه مفصلاً في موضوع عوامل الغيبة الصغرى -، وفي استغلال الحسنيين القضية أيضاً، بغية التوصل إلى الحكم، كما مرت الإشارة إليه -.

2- العامل الطائفي: ويتمثل في لون من الصراع المذهبي بين الشيعة والسنة، وهو الذي كان يقوم على أساس غير موضوعي، وإنما على الرواسب والنزعات الطائفية، وفي إطار الانفعالات العاطفية، التي وسعت فجوة الخلاف بين الطائفتين، فحولت كثيراً من المسائل العامة إلى قضايا خاصة.

وعليه، فالبحث حول المسألة - في واقعه - ليس بحثاً ترفياً، أو حول مسألة تجريدية قليلة الجدوى.. وإنما هو بحث عن العقيدة الإسلامية.. وفي الصميم.

الإمام

ابني محمد هو الإمام والحجّة بعدي، من مات ولم يعرفه، مات ميتة جاهلية.

(الإمام العسكري)

نسبه:

هو: محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام).

ولادته:

ولد الإمام المنتظر (عليه السلام) بسامراء من مدن العراق، ليلة النصف من شهر شعبان عام (255 هـ) خمسة وخمسين ومائتين للهجرة.

و كان الولد الوحيد لأبيه (عليهما السلام).

إمامته:

ولي أمر الإمامة بعد وفاة أبيه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عام (260 هـ)، وهو ابن خمس سنين.

وهنا.. ربما يتساءل استغراباً:

كيف يجعل إماماً وهو في هذه السن من الطفولة المبكرة؟!

ويرتفع هذا النوع من الاستغراب حينما نعلم أن الإمامة هبة يمنحها الله تعالى من يشاء من عباده، ممن تتوافر فيه عناصر الإمامة وشروطها، شأنها في ذلك شأن النبوة.. وهو ما برهن عليه في مجاله من مدونات وكتب الإمامة عند الشيعة بما يربو على التوفية.

يقول السيد صدر الدين الصدر: (إن المهدي المنتظر قام بالإمامة، وحاز هذا المنصب الجليل، وهو ابن خمس سنين، طفل لم يبلغ الحلم.. فهل يجوز ذلك؟! أم لابد في النبي والرسول والخليفة أن يكون بالغاً مبلغ الرجال؟!

هذه مسألة كلامية، ليس هنا محل تفصيلها، ولكن على وجه الإجمال، نقول: - بناء على ما هو الحق من أن أمر الرسالة والإمامة والنبوة والخلافة بيد الله سبحانه وتعالى، وليس لأحد من الناس فيها اختيار - يجوز ذلك عقلاً، ولا مانع منه مع دلالة الدليل عليه، لأن الله سبحانه وتعالى قادر أن يجمع في الصبي جميع شرائط الرسالة والإمامة).(6)

على أن إمامة الإمام المنتظر (عليه السلام)لم تكن الحدث الوحيد من نوعها، فقد أوتي النبي يحيى (عليه السلام) الحكم صبياً: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة، وآتيناه الحكم صبياً)(7)، وجعل عيسى بن مريم (عليه السلام) نبياً وهو في المهد رضيعاً: (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً)(8).. كما هو صريح القرآن الكريم.

وكان جده الإمام محمد الجواد (عليه السلام)، وجده الإمام علي الهادي (عليه السلام)، ولي كل منهما الإمامة وهو ابن ثماني سنوات،.. وكان أبوه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وليها وهو ابن عشرين عاماً.

وواقع هؤلاء الأئمة (عليهم السلام) في علمهم بالشريعة، وتطبيقهم لأحكامها، في سلوكهم، ومختلف مجالات حياتهم الذي سجله التاريخ بإكبار - بالإضافة إلى الدليل العقائدي الذي أشرت إليه - يكفينا في رفع ذلكم النوع من الاستغراب... وبخاصة حينما نعلم أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا (مصحرين بأفكارهم وسلوكهم وواقعهم تجاه السلطة وغيرها من خصومهم في الفكر.. والتاريخ حافل بمواقف السلطة منهم ومحاربتها لأفكارهم، وتعريضهم لمختلف وسائل الإغراء والاختيار، ومع ذلك فقد حفل التاريخ بنتائج اختباراتهم المشرفة وسجلها بإكبار.

ولقد حدث المؤرخون عن كثير من هذه المواقف المحرجة، وبخاصة مع الإمام الجواد، مستغلين صغر سنّه عند تولي الإمامة.

وحتى لو افترضنا سكوت التاريخ عن هذه الظاهرة، فان من غير الطبيعي أن لا يحدث أكثر من مرة تبعاً لتكرار الحاجة إليها، وبخاصة وأن المعارضة كانت على أشدها في العصور العباسية.

وطريقة إعلان فضيحة الشيعة بإحراج أئمتهم فيما يدعونه من علم أو استقامة سلوك، وإبراز سخفهم لاحتضانهم أئمة بهذا السن وهذا المستوى - لو أمكن ذلك - أيسر بكثير من تعريض الأمة إلى حروب قد يكون الخليفة من ضحاياها أو تعريض هؤلاء الأئمة إلى السجون والمراقبة، والمجاملة أحياناً).(9)

ولعل من روائع ما سجله التاريخ في هذا المجال: شهادة أحمد ابن عبيد الله بن خاقان، عامل المعتمد العباسي على الخراج والضياع بكورة (قم)،.. وكان معروفاً بانحرافه عن أهل البيت (عليهم السلام)، في معرض حديثه مع جماعة حضروا مجلسه في شهر شعبان من سنة (278 هـ)، بعد وفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بثماني عشرة سنة، وقد جرى ذكر المقيمين من آل أبي طالب بسامراء، ومذاهبهم، وصلاحهم، وأقدارهم عند السلطان.(10)

يقول: (ما رأيت ولا أعرف بسر من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن على بن محمد بن الرضا، في هديه، وسكونه، وعفافه، ونبله، وكرمه عند أهل بيته والسلطان وبني هاشم كافة، وتقديمهم إيّاه على ذوي السن منهم والخطر،.. وكذلك حاله عند القواد والوزراء والكتاب وعامة الناس.

كنت يوماً قائماً على رأس أبي - وهو يوم مجلسه للناس - إذ دخل حجابه، فقالوا: أبو محمد بن الرضا بالباب.

فقال - بصوت عال -: ائذنوا له.

فتعجبت منه، ومنهم، من جسارتهم أن يكنّوا رجلاً بحضرة أبي، ولم يكنّ عنده إلاّ خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنّى.

فدخل رجل أسمر، أعين، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حديث السن، له جلالة وهيئة حسنة.

فلما نظر إليه أبي، قام فمشى إليه خطوات.. ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقواد وأولياء العهد.

فلما دنا منه عانقه، وقبّل وجهه وصدره ومنكبيه، وأخذ بيده، وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه، وجلس إلى جنبه، مقبلاً عليه بوجهه... وجعل يكلمه، ويفديه بنفسه وأبويه، وأنا متعجب مما أرى منه، إذ دخل الحاجب، فقال: جاء الموفق - وهو أخو المعتمد الخليفة العباسي -.

وكان الموفق إذا دخل على أبى تقدمه حجابه، وخاصة قواده، فقاموا بين مجلس أبي وبين الدار سماطين، إلى أن يدخل ويخرج.

فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد، يحدثه، حتى نظر إلى غلمان الموفق، فقال له - حينئذ -: إذا شئت - جعلني الله فداك - أبا محمد...

ثم قال لحجابه: خذوا به خلف السماطين، لا يراه هذا (يعني الموفق).

فقام، وقام أبي، فعانقه، ومضى.

فقلت لحجاب أبي وغلمانه: ويحكم.. من هذا الذي كنيتموه بحضرة أبي، وفعل به أبي هذا الفعل؟!...

فقالوا: هذا علوي، يقال له: الحسن بن علي، يعرف بابن الرضا.

فازددت تعجباً، ولم أزل يومي ذلك قلقاً متفكراً في أمره، وأمر أبي، وما رأيته، منه، حتى كان الليل، وكانت عادته أن يصلي العتمة، ثم يجلس، فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات، وما يدفعه إلى السلطان.

فلما صلى وجلس، جئت فجلست بين يديه، فقال: ألك حاجة؟

قلت: نعم.. فان أذنت سألتك عنها..

قال: قد أذنت..

قلت: من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة، وفديته بنفسك وأبويك؟!

فقال: يا بني.. ذاك إمام الرافضة، الحسن بن علي، المعروف بابن الرضا..

وسكت ساعة..

ثم قال: لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس، ما استحقها أحد من بني هاشم غيره، لفضله، وعفافه، وصيانته، وزهده، وعبادته، وجميل أخلاقه، وصلاحه.. ولو رأيت أباه، رأيت رجلاً جزلاً، نبيلاً، فاضلاً.

فازددت قلقاً، وتفكراً، وغيظاً على أبي، وما سمعته منه فيه، ورأيته من فعله به.

فلم تكن لي همة بعد ذلك إلا السؤال عن خبره، والبحث عن أمره.

فما سألت أحداً من بني هاشم والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس، إلا وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام، والمحل الرفيع، والقول الجميل، والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه..

فعظم قدره عندي، إذ لم أر له ولياً ولا عدواً، إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه).(11)

وكان الإمام المنتظر (عليه السلام) خاتم الأئمة الاثني عشر، أوصياء نبينا محمد (صلى الله عليه وآله).

غيبته:

للإمام المنتظر (عليه السلام) غيبتان: صغرى وكبرى.. رأيت أن استعرضهما بشيء من الإيجاز، موضحاً أهم عواملهما، وأبرز ملابساتهما، في حدود ما يرتبط بموضوعنا (في انتظار الإمام) وبالمقدار الذي يمهد له.

الغيبة الصغرى:

بدأت الغيبة الصغرى بولادة الإمام المنتظر (عليه السلام) عام (255 هـ).

وانتهت بوفاة سفيره الرابع والأخير علي بن محمد السمري - ده - سنة 328 هـ أو 329 هـ).

فامتدت أربعاً وسبعين سنة.

وكان الإمام المنتظر)عليه السلام) خلال الفترة المشار إليها يتصل بأتباعه وشيعته اتصالاً سرياً، دقيقاً في سريته، وعاماً لجميع حلقات ووسائل الاتصال، وعن طريق المخلصين كل الإخلاص من أصحابه، والذين يدعون بـ(السفراء) وهم:

1- عثمان بن سعيد العمري الأسدي، المتوفى ببغداد، والذي كان قبل سفارته عن الإمام المنتظر (عليه السلام)، وكيلاً عن جده الإمام علي الهادي (عليه السلام)، ثم عن أبيه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).

2- محمد بن عثمان بن سعيد العمري، المتوفى عام (305 هـ أو 304 هـ) ببغداد.

3- الحسين بن روح النوبختي المتوفى عام (320 هـ) ببغداد.

4- علي بن محمد السمري المتوفى عام (328 هـ أو 329 هـ) ببغداد.

عوامل الغيبة الصغرى:

فيما أخاله أن أهم عامل في غيبة الإمام المنتظر (عليه السلام)، وفي اختفائه منذ الولادة، هو موقف الحكام العباسيين الموقف المعادي منه،.. ويتلخص بالآتي:

اعتقاد وإيمان الشيعة - آنذاك - بأن الإمام المنتظر الذي بشرت جميع الأديان الإلهية بفكرته الإصلاحية(12)، وبشرت بدولته العالمية، والقاضية على كل حكم قائم آن انبثاقها، هو الإمام محمد بن الحسن العسكري (عليه السلام).

وشيوع الروايات الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله) في تجسيد فكرة المصلح المنتظر بالإمام محمد بن الحسن (عليه السلام)، وتطبيق شخصية المصلح المنتظر عليه، بين علماء المسلمين في حينه: عقيديين وفقهاء ومحدثين، بما تضمنته من دلائل وإشارات، وبما احتوته من تصريحات باسمه وأوصافه الخاصة المميزة.

وربما كان أهمها: الروايات الحاصرة للأئمة في اثني عشر خليفة كلهم من قريش، والتي تدور على ألسنة المحدثين والمؤرخين آنذاك.

كالتي رواها البخاري - المعاصر للإمام الحسن العسكري -:

عن (جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: يكون اثنا عشر أميراً.. فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: كلهم من قريش)(13).

وفي رواية الإمام أحمد بن حنبل: (أن جابر قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله( يقول: يكون لهذه الأمة اثنا عشر خليفة)(14).

وكالتي رواها مسلم (عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله (أنه قال: لا يزال الدين قائماً، حتى تقوم الساعة، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)(15)

وكالتي رواها الحمويني الشافعي في فرائد السمطين عن (ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنا سيد النبيين، وعلي بن أبي طالب سيد الوصيين، وان أوصيائي بعدي اثنا عشر: أولهم علي ابن أبي طالب، وآخرهم القائم المهدي)(16).

وعنه أيضاً (قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن خلفائي وأوصيائي حجج الله على الخلق بعدي اثنا عشر)(17).

(وقد تواتر مضمون الخبرين (الأولين) في كتب الخاصة والعامة، أما بهذا اللفظ أو قريب منه، وقد جمع بعض المعاصرين هذه الأخبار فكانت 271، وقد رواها أكابر حفاظ أهل السنة)(18).

متى أضفنا إليها: أن العباسيين كانوا يعلمون أن الإمام الذي يخلف الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) هو الإمام الثاني عشر الذي يملاً الأرض قسطاً وعدلاً، لعلمهم بأن الإمام العسكري (عليه السلام) هو الإمام الحادي عشر.

وربما كانت هذه الروايات وأمثالها من الأحاديث المثيرة لقلق الحكام واضطرابهم باعثاً إلى أبعد من هذا، وهو تتبع أل الرسول (صلى الله عليه وآله)، وإبادة نسله، طمعاً منهم في الوصول إلى قتل الإمام المنتظر (عليه السلام).

وإننا لنلمس هذا المعنى في بعض ما ورد عن الأئمة (عليهم السلام).. ففي حديث للإمام الصادق (عليه السلام) يقول فيه: (.. أما مولد موسى (عليه السلام)، فإن فرعون لما وقف على أن زوال ملكه على يده، أمر بإحضار الكهنة، فدلوه على نسبه، وأنه يكون من بني اسرائيل، حتي قتل في طلبه نيفاً وعشرين ألف مولد، وتعذر إليه الوصول إلى قتل موسى (عليه السلام) بحفظ الله تبارك وتعالى إياه، كذلك بنو أمية وبنو العباس لما وقفوا على أن زوال ملك الأمراء والجبابرة منهم على يد القائم منا، ناصبونا العداوة، ووضعوا سيوفهم في قتل أل الرسول (صلى الله عليه وآله)، وإبادة نسله، طمعاً منهم في الوصول إلى القائم، ويأبى الله - عز وجل أن يكشف أمره لواحد من الظلمة إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون)(19).

وفي حديث أخر عن الإمام الرضا (عليه السلام): (قد وضع بنو أمية وبنو العباس سيوفهم علينا لعلتين:

إحداهما: أنهم كانوا يعلمون ليس لهم في الخلافة حق، فيخافون من ادعائنا إيٌاها، وتستقر في مركزها.

وثانيتهما: انهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة، على أن زوال ملك الجبابرة والظلمة على يد القائم منا، وكانوا لا يشكون أنهم من الجبابرة والظلمة، فسعوا في قتل أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإبادة نسله، طمعاً منهم في الوصول إلى منع تولد القائم (عليه السلام)، أو قتله، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم، إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون)(20).

كل ذلكم وأمثاله، كان يربك الحكومة العباسية حول مستقبلها عند ظهور الإمام محمد بن الحسن (عليه السلام)، إذ ربما تمثلت فيه عقيدة الشيعة، وصدقت فيه أحاديث جده النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، وما روي عنه فيه.

فكانت تعد ما في إمكانياتها من العدة للعثور عليه، والوقوف على أمره، لتطمئن على مستقبلها السياسي، وبخاصة وان حركات الشيعة أيام جده الإمام علي الهادي (عليه السلام)، وأبيه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، ضد الحكومة العباسية، كانت في زيادة مدها النضالي، ووفرة نشاطها السياسي، لقلب نظام الحكم العباسي والإطاحة به، بما كان يقلق الحكومة العباسية، ويتعبها إلى حد، في إخمادها، أو إيقافها على الأقل.

فعلى الأقل: ربما تمخضت الحركة الشيعية عن الثورة المبيدة للحكم العباسي علي يد الإمام محمد بن الحسن (عليه السلام).

فوضع الحكام العباسيون - فيما يحدث المؤرخون - مختلف العيون والجواسيس أيام حياة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بغية معرفة الإمام من بعده، وبخاصة ابنه الذي نوٌهت به وأشارت إليه تعريفات المصلح المنتظر.

يقول السيد الأمين: (وقد تضافرت الروايات على أن السلطان طلبه - يعني الإمام المنتظر - وفتش عليه أشد الطلب والتفتيش ليقتله، لما شاع من قول الإمامة فيه، وانتظارهم له، ولما سبق من آبائه من وصية السابق إلى اللاحق)(21).

وقال الصدوق: (وبعث السلطان إلى داره (أي دار الإمام العسكري) من يفتشها، وختم على جميع ما فيها، وطلبوا أثر ولده، وجاءوا بنساء لهن معرفة بالحبل، فدخلن على جواريه، فنظر إليهن، فذكر بعضهن: أن هناك جارية بها حمل، فأمر بها فجعلت في حجرة، ووكل (نحرير) الخادم وأصحابه ونسوة معهم..

ثم قال: فلما دفن (أي الإمام العسكري)، وتفرق الناس، اضطرب السلطان وأصحابه في طلب ولده، وكثر التفتيش في المنازل والدور، وتوقفوا عن قسمة ميراثه.

ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهّموا فيها الحبل ملازمين لها سنتين أو أكثر، حتى تبين لهم بطلان الحبل.. فقسم ميراثه بين أمه وأخيه،.. وادعت أمه وصيته، وثبت ذلك عند القاضي..

والسلطان على ذلك يطلب أثر ولده،.. وهو لا يجد إلى ذلك سبيلاً)(22).

وقال الشيخ المفيد: (وخلّف (يعني الإمام العسكري) ابنه المنتظر لدولة الحق، وكان قد أخفى مولده، وستر أمره، لصعوبة الوقت، وشدة طلب سلطان الزمان له، واجتهاده في البحث عن أمره، ولما شاع من مذهب الشيعة الإمامية فيه، وعرف من انتظارهم له، فلم يظهر ولده (عليه السلام) في حياته، ولا عرفه الجمهور بعد وفاته، وتولى جعفر بن علي - أخو أبي محمد - أخذ تركته، وسعى في حبس جواري أبي محمد (عليه السلام)، واعتقال حلائله، وشنّع على أصحابه بانتظارهم ولده، وقطعهم بوجوده، والقول بإمامته، وأغرى بالقوم حتى أخافهم وشردهم.

وجرى على مخلفي أبي محمد (عليه السلام) بسبب ذلك كل عظيمة، من اعتقال، وحبس، وتهديد، وتصغير، واستخفاف، وذل.. ولم يظفر السلطان منهم بطائل.

وحاز جعفر - ظاهراً تركة أبي محمد (عليه السلام)، واجتهد في القيام عند الشيعة مقامه، ولم يقبل أحد منهم ذلك، ولا اعتقده فيه)(23).

وهذا النص الأخير - وهو لكبير من أعلام علماء الشيعة - يلمسنا واقع الغيبة، في أنها بدأت بولادة الإمام المنتظر (عليه السلام)، حيث أخفي خبر الولادة عن الجمهور، وستر أمر الإمام المنتظر (عليه السلام) إلا على المخلصين من أصحاب أبيه (عليه السلام) للعامل السياسي الذي أشرت إليه.

وحينما يكون هذا هو واقع الغيبة، يجدر بنا أن نسائل أولئكم الحانقين والمغفلين عن موقع السرداب المزعوم من حوادث القصة!!..

وأبعد من هذا.. فقد وضع الحكام العباسيون على ألسنة بعض المحدثين أحاديث نسبوها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وضمّنوها: أن المهدي المنتظر من أل العباس، بغية صرف العامة عن انتظاره في أل علي: أمثال:

1- المهدي من ولد العباس عمي(24).

2- يا عباس، إن الله فتح هذا الأمر بي، وسيختمه بغلام من ولدك، يملؤها عدلاً، كما ملئت جوراً، وهو الذي يصلي بعيسى(25).

3- ألا أبشرك يا أبا الفضل، إن الله - عز وجل - افتتح بي هذا الأمر، وبذريتك يختمه(26).

4- قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من قبل خراسان، فأتوها، فان فيها خليفة الله المهدي(27).

ولكي نقف على قيمة هذه الأحاديث، وعلى واقعها، وهو أنها موضوعة، علينا أن نقرأ ما يقوله علماء الحديث والناقدون حولها:

فحول الحديث الأول، يقول الدار قطني: (غريب، تفرد به محمد بن الوليد مولى بني هاشم)(28).

ويعلق عليه الألباني - بعد عده الحديث في سلسلة الموضوعات - بقوله: (قلت: وهو (يعني محمد بن الوليد) متهم بالكذب. قال ابن عدي: (كان يضع الحديث)، وقال أبو عروبة: (كذاب)، وبهذا أعلّه المناوي في (الفيض)، نقلاً عن ابن الجوزي، وبه تبين خطاْ السيوطي في إيراده لهذا الحديث في (الجامع الصغير)..

قلت: ومما يدل على كذب هذا الحديث انه مخالف لقوله (صلى الله عليه وآله): (المهدي من عترتي من ولد فاطمة).. أخرجه أبو داود (2/207 - 208)، وابن ماجة (2/519)، والحاكم (4/557)، وأبو عمر والداني في (السنن الواردة في الفتن) (99 - 100)، وكذا العقيلي (139 و300) من طريق زياد بن بيان عن علي بن نفيل عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة مرفوعاً.

وهذا سند جيد، رجاله كلهم ثقات، وله شواهد كثيرة، فهو دليل واضح على رد حديث (المهدي من ولد العباس)(29).

وحول الحديث الثاني يقول الألباني - بعد أن عده في الموضوعات أيضاً-: (أخرجه الخطيب في (تاريخ بغداد) (4/117) في ترجمة أحمد بن الحجاج بن الصلت قال: حدثنا سعيد ابن سليمان حدثنا خلف بن خليفة عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عمار بن ياسر مرفوعاً.

قلت: وهذا سند رجاله كلهم ثقات، معروفون، من رجال مسلم، غير أحمد بن الحجاج هذا، ولم يذكر فيه الخطيب جرحاً ولا تعديلاً وقد اتهمه الذهبي بهذا الحديث فقال: (رواه بإسناد الصحاح مرفوعاً، فهو أفته!.. والعجيب أن الخطيب ذكره في تاريخه ولم يضعفه، وكأنه سكت عنه لانتهاك حاله)، ووافقه الحافظ في (لسان الميزان).

والحديث أورده ابن الجوزي في (الموضوعات) من حديث ابن عباس ونحوه، وقال: (موضوع. المتهم به الغلابي)(30).

ويقول - أعني الألباني - حول الحديث الثالث - (موضوع. أخرجه أبو نعيم في (الحلية) (1/135) من طريق لاهز بن جعفر التيمي.. وقال: (تفرد به لاهز بن جعفر، وهو حديث عزيز).

قلت: وهو متهم، قال فيه ابن عدي: (بغدادي، مجهول، يحدث عن الثقات بالمناكر)(31).

ويقول أيضاً - تعليقاً على الحديثين الأخيرين -: (إذا علمت حال هذا الحديث والذي قبله، فلا يليق نصب الخلاف بينهما وبين الحديث الصحيح المتقدم قريباً: (المهدي من ولد فاطمة) لصحته وشدة ضعف مخالفه)(32).

وحول الحديث الرابع يقول المودودي: (ذكر الرايات السود من قبل خراسان، مما يدل دلالة واضحة على أن العباسيين ادخلوا في هذه الرواية من عند أنفسهم، ما يوافق أهواءهم وسياستهم، لأن اللون الأسود كان شعاراً للعباسيين، وكان أبو مسلم الخراساني هو الذي مهد الأرض للدولة العباسية)(33).

الغيبة الكبرى:

بدأت الغيبة الكبرى بوفاة السفير السمري - ره - سنة (328 هـ) أو (329 هـ).

وستبقى مستمرة حتى يأذن الله تعالى.

وربما كان نهاية أمدها هو حينما تتمخض الظروف الاجتماعية عن الأجواء الملائمة لثورة الإمام المنتظر (عليه السلام).. التي حددتها جملة من الأحاديث الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) والتي نستطيع أن نصنفها إلى طائفتين:

1- الطائفة التي حددت خروج الإمام المنتظر (عليه السلام) بعد ملء الأرض ظلماً وجوراً. أمثال: (لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلماً وجوراً وعدواناً، ثم يخرج من أهل بيتي من يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً).

2- الطائفة التي أشارت إلى أن الإمام المنتظر (عليه السلام) سيأتي بأمر جديد، بعد اندثار معالم الإسلام، وابتعاده عن الواقع الاجتماعي والواقع الفكري وانحساره عن مجالهما.

أمثال ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام):

أ- قال: إذا قام القائم (عليه السلام) دعا الناس إلى الإسلام جديداً، وهداهم إلى أمر قد دثر فضلّ عنه الجمهور،..

وإنما سمي القائم مهدياً، لأنه يهدي إلى أمر قد ضلوا عنه، وسمي بالقائم لقيامه بالحق(34).

ب - قال: إذا قام القائم جاء بأمر جديد، كما دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بدو الإسلام إلى أمر جديد(35).

ولعلنا بهذا أيضاً نستطيع أن نوجه أو نفسر عدم ظهور الإمام المنتظر (عليه السلام) قبل هذا الآن الذي أشارت إليه الأحاديث المذكورة وأمثالها،.. وذلك بعدم تحقق ظروف ثورته (عليه السلام) والأجواء الملائمة لها.

وهنا.. ربما يفهم مما تقدم: أن قيام الإمام المنتظر (عليه السلام) بالدعوة الإسلامية لابد وأن يسبق بشمول الباطل والكفر لكل أطراف الحياة، وانحسار الحق والإسلام من كل مجالاتها..!

غير أن ما يفاد من النصوص في هذا المجال هو بقاء الإسلام مستمراً لدى طائفة من الأمة حتى ظهور الإمام المنتظر (عليه السلام)، كما سنقف عليه في المواضيع الآتية(36)، وكما يشير إليه أمثال الحديث الآتي:

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا يزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم الدجال(37).

(وفي رواية: عصابة من أمتي)(38).

وجود الإمام

المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خلقاً وخلقاً، تكون له غيبة وحيرة، تضل فيه الأمم، ثم قبل كالشهاب الثاقب فيملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

النبي محمد (صلى الله عليه وآله)

منهج البحث:

إن منهجة البحث حول موضوع وجود الإمام المنتظر (عليه السلام)، وحول محاولة الإجابة على السؤال التالي:

كيف يعيش الإمام المنتظر (عليه السلام) هذه المدة الطويلة من السنين؟!..

تتطلب منا - عادة - البحث أولاً عن إمكان مسألة بقاء الإنسان حياً مدة طويلة من السنين تتجاوز الحدود الاعتيادية لعمر الإنسان.. فالبحث ثانياً عن وقوع المسألة، وبقاء الإمام المنتظر (عليه السلام) حياً هذه المدة الطويلة من السنين:

1- حول الإمكان:

فيما أخاله: أن مسألة إثبات إمكان بقاء الإنسان حياً عمراً طويلاً من السنين تقتضينا الحديث عنها على الصعيدين الفلسفي والعلمي تمشياً مع مناهج البحث حول المسألة قديماً وحديثاً:

أ- على الصعيد الفلسفي:

من المعلوم أن الاستحالة ما لم ترجع إلى البداهة لا تعد استحالة.

وبتعبير فلسفي: إن الاستحالة إذا لم ترجع بالنهاية إلى اجتماع النقيضين لا تعد استحالة.

وهنا في مسألتنا: من البداهة بمكان أن بقاء إنسان ما حياً آلاف السنين يتمتع بعمر فوق الاعتيادي؛ وكون أناس آخرين لا يتمتعون بعمر فوق الاعتيادي لا يلزم منه اجتماع النقيضين، وذلك لاختلاف موضوع كل من القضيتين..

فمثلاً: اعتبار خالد في هذا الآن غير موجود، واعتبار محمد في الآن نفسه موجوداً، لا يلزم منه اجتماع الوجود وعدمه في إنسان واحد، وذلك لاختلاف ومغايرة موضوع القضية الأولى وهو خالد لموضوع القضية الثانية وهو محمد..

ومن المعلوم بالضرورة أن من أوليات شروط التناقض وحدة موضوع كل من القضيتين.

ب - على الصعيد العلمي:

ومن المعلوم أيضاً أن العلم يستند - عادة - في إعطاء نتائجه حول قضية ما إلى التجربة.

والتجربة حينما تجري على موضوع معين في ظروف وملابسات معينة، لا يصح تعميم نتائجها إلى نفس الموضوع، حينما يكون في ظروف وملابسات أخرى غير تلكم الظروف والملابسات التي اكتنفته حين التجربة..

وهو - أعني عدم صحة التعميم في أمثال هذه القضايا - من الأصول المسلمة والشروط البديهية لدى العلماء.

فمثلاً: حينما تجري التجربة على (خالد) - بصفته إنساناً - وهو في ظروفه الاعتيادية لمعرفة مدي بقائه حياً، ومدى مقاومته لعوادي الطبيعة التي من شأنها القضاء عليه، فتنهينا التجربة إلى أنه ليس باستطاعة مثل هذا الإنسان أن يعيش أكثر من (120) سنة، لا يصح أن تعمم نتيجة هذه التجربة لكل إنسان حتى من يكون في غير الظروف الاعتيادية التي أحاطته حالة التجربة، إذ من الجائز أن يبقى إنسان آخر، أو خالد نفسه، حياً أطول بكثير من المدة المذكورة، إذا كان في ظروف أخرى غير ظروفه الاعتيادية. كما سنرى ذلك واضحاً في نتائج تجارب الدكتور كارل فيما يأتي.

فالنتيجة - على ضوء ما تقدم - هي:

إن مسألة بقاء الإنسان حياً مدة طويلة من السنين ليست مستحيلة، لا فلسفياً ولا علمياً، وإنما هي من المسائل الممكنة.

2- حول الوقوع:

وبعد أن انتهينا إلى أن مسألة بقاء الإنسان حياً طويلاً من السنين أمر ممكن.. لننتقل إلى الإجابة على السؤال المتقدم، عارضين أهم الأدلة الناهضة بإثبات ذلك وهي:

1- الدليل النقلي:

وأعني به النصوص الواردة في الموضوع، وهي على طوائف، أهمها ما يأتي:

أ- ما يدور منها حول عدم خلو الأرض من حجة، أمثال: (لا تخلو الأرض من قائم بحجة الله، إما ظاهر مشهور، وإما خائف مغمور، لئلا تبطل حجج الله وبيناته).

ب - ما يدور منها حول حصر الإمامة في اثني عشر إماماً كلهم من قريش، أمثال: (إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيه اثنا عشر خليفة كلهم من قريش).

ج - ما يدور منها حول تعيين الإمام المنتظر باسمه وصفاته، أمثال:

(المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خَلقاً وخُلقاً، تكون له غيبة وحيرة، تضل فيه الأمم، ثم يقبل كالشهاب الثاقب، فيملأها عدلاً وقسطاً، كما ملئت ظلماً وجوراً).

د - ما يدور منها حول عدم قيام الساعة حتى ينهض الإمام المنتظر (عليه السلام)، أمثال: (لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلماً وجوراً وعدواناً، ثم يخرج من أهل بيتي من يملأها قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وعدواناً).

هـ - ما يدور منها حول وجود إمام في كل زمان، أمثال: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).

ومتى حاولنا التوفيق بين الطوائف المشار إليها وأمثالها، ننتهي حتماً إلى أن الإمام المنتظر هو محمد بن الحسن (عليه السلام).

وفي عقيدتي: أن التوفيق بينها حيث ينهي إلى النتيجة المذكورة في مجال من الوضوح يغنينا عن تفصيل البيان.

وهذه (الأخبار في أن المهدي هو ابن الحسن العسكري، وأنه حي موجود، يظهر في آخر الزمان، متواترة من طرق أصحابنا عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام))(39).

على أن مسألة حياة الإمام المنتظر (عليه السلام)، بعد إثبات إمكانها، نستطيع أن ندرجها ضمن قائمة المسائل الغيبية في الشريعة الإسلامية، التي لا تقتضينا في مجال الاعتقاد بها أكثر من إثبات إمكانها عن طريق العقل، وإثبات وقوعها عن طريق النقل، كمسألة (المعاد) ونظائرها.

ولا أخال أن هذه الوفرة من النقول الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله) بمختلف طرقها وأسانيدها شيعية وسنية غير كافية.. أو أن هناك من لا يراها كافية، وبخاصة حينما يثبت تواترها، كما أشرت إليه.

2_ الدليل التاريخي:

ويتلخص في أن التاريخ يثبت وجود نظائر للإمام المنتظر (عليه السلام) في طول العمر، أمثال: النبي نوح (عليه السلام) الذي عاش ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو قومه (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون)(40)، كما يؤرخ القرآن الكريم لهذه الفترة من حياته(41).

3- الدليل العقائدي:

وخلاصته: إن إرادة الله تعالى وقدرته، التي أعدته ليومه الموعود، هي التي تعطيه البقاء وتمنحه العمر الطويل.

4- الدليل التشريعي:

من أوليات خصائص الدعوة الإسلامية أنها دعوة عالمية.

ومن أوليات التشريع الإسلامي وجوب حمل رسالة الإسلام إلى العالم كله على رئيس الدولة المعصوم عن طريق الجهاد أو غيره،..

لأن الإسلام نظام اجتماعي ثوري، جاء لإذابة واستئصال جميع النظم الاجتماعية القائمة.

ومن الوضوح بمكان أن عملية الهدم والبناء في عالم الثورة، تتطلب فترة طويلة من الزمن، ينطلق فيها الثوار مندفعين بكل إمكانياتهم إلى اقتلاع رواسب النظم الاجتماعية المطاح بها، من نفسيات أبناء الجيل الذي عاشها متجاوباً معها، والى إنشاء جيل جديد، خال من رواسب الماضي، ومنصهر كل الانصهار بفكرة النظام الجديد.

ومن الوضوح بمكان: أن من أهم ما يشترط في القائمين على تطبيق النظام الجديد، خلوهم من أية راسبة تعاكس مفاهيم وأحكام النظام الجديد، وانصهارهم بالنظام الجديد انصهاراً من أقرب معطياته صياغة شخصياتهم في جميع خصائصها، ومختلف جوانبها وفق النظام الجديد.

ونحن نعلم أن النبي محمداً (صلى الله عليه وآله) لم تمتد به الأيام إلى إنهاء عملية الهدم والبناء فالتطبيق الكامل.

ونعلم - أيضاً - أن ليس في المسلمين من يتوفر فيه الشرط المذكور غير الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

ولعل إلى هذا المعنى يشير المعنيون ببحوث الإمامة، حينما يستدلون على خلافة الإمام علي (عليه السلام) بعد النبي (صلى الله عليه وآله) مباشرة، بالآية الكريمة: (وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمّهنّ قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظالمين)(42).

ونعلم - أيضاً - أن الإمام علياً (عليه السلام) كذلك هو الآخر لم ينه العملية للملابسات والظروف السياسية التي سبقت خلافته أو رافقتها.

وإن أبناءه المعصومين هم الآخرون لم يستطيعوا القيام بمهمة إنهاء تلكم العملية للعوامل والظروف السياسية والاجتماعية التي واكبت أيامهم.

وإن النوبة قد انتهت إلى الإمام المنتظر (عليه السلام)، فلابد من إنهائها على يديه، لأنه خاتمة المعصومين (عليه السلام)، فيحقق ما أخبر به القرآن الكريم بقوله: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله)(43) - وربما إليه كان يشير مفسر والآية الكريمة بالإمام المنتظر (عليه السلام) - وهو شيء يتطلب استمرار حياته لهذه الغاية النبيلة.

وربما على ضوئه نستطيع أن نستدل على لزوم وجوده معاصراً لأبيه الإمام العسكري (عليه السلام)، واستمراره بعده، منطلقين من البدء، وكأنا لم نفترض المفروغية من إثبات ولادته، بما حاصله:

وهو أننا إن لم نلتزم بمعاصرة الإمام المنتظر (عليه السلام) لأبيه العسكري (عليه السلام)، وتلقيه ما تتطلبه مهمته كمشرّع ومطبّق، لابد أن نلتزم بأحد أمرين:

1- إما بتلقيه ذلك عن طريق الوحي.

2- وإما بإدراكه الأحكام عن طريق الاجتهاد المعروف.

والالتزام بأي من الأمرين المذكورين يصادم عقيدتنا، وذلك لأن الالتزام منا بتلقي الإمام (عليه السلام) الأحكام عن طريق الوحي يصادم عقيدتنا باختتام الوحي بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله) .

والالتزام بإدراكه (عليه السلام) الأحكام عن طريق الاجتهاد يصادم عقيدتنا في علم الإمام، وإدراكه الأحكام الواقعية جميعها وبواقعها،. والاجتهاد قاصر - عادة - عن إدراك الكثير من الأحكام الواقعية كما هو معلوم.

وعند بطلان هذين لابد من القول بمعاصرة الإمام المنتظر (عليه السلام) لأبيه (عليه السلام) واستمرار حياته منتظراً تمخض الظروف عن ساعة خروجه وثورته المباركة.

5- الدليل العلمي:

وموجزه: إن جماعة من العلماء المحدثين أمثال: الدكتور الكسيس كارل، والدكتور جاك لوب، والدكتور ورن لويسي وزوجته، وغيرهم، قاموا بإجراء عدة تجارب في معهد (روكفلر) بنيويورك على أجزاء لأنواع مختلفة من النبات والحيوان والإنسان.

وكان من بين تلكم التجارب ما أجري على قطع من أعصاب الإنسان وعضلاته وقلبه وجلده وكليتيه.. فرؤي أن هذه الأجزاء (تبقى حية نامية مادام الغذاء اللازم موفوراً لها) وما دامت لم يعرض لها عارض خارجي، وإن خلاياها تنمو وتتكاثر وفق ما يقدم لها من غذاء.

واليك نتائج تجارب الدكتور كارل التي شرع فيها بكانون الثاني سنة 1912 م:

1- (إن هذه الأجزاء الخلوية تبقى حية ما لم يعرض لها عارض يميتها إما من قلة الغذاء، أو من دخول بعض المكروبات.

2- إنها لا تكتفي بالبقاء حية بل تنمو خلاياها، وتتكاثر، كما لو كانت باقية في جسم الحيوان.

3- إنه يمكن قياس نموها وتكاثرها، ومعرفة ارتباطهما بالغذاء الذي يقدم لها.

4- انه لا تأثير للزمن.. أي أنها لا تشيخ ولا تضعف بمرور الزمن، بل لا يبدو عليها أقل أثر للشيخوخة، بل تنمو وتتكاثر هذه السنة، كما لو كانت تنمو وتتكاثر في السنة الماضية وما قبلها من السنين.

وتدل الظواهر كلها على أنها ستبقى حية نامية، مادام الباحثون صابرين على مراقبتها وتقديم الغذاء الكافي لها)(44).

ويقول الأستاذ ديمند وبرل من أساتذة جامعة جونس هبكنس، تعليقاً على نتائج الدكتور كارل: (إن كل الأجزاء الخلوية الرئيسية من جسم الإنسان، قد ثبت إما أن خلودها بالقوة صار أمراً مثبتاً بالامتحان، أو مرجحاً ترجيحاً تاماً لطول ما عاشته حتى الآن)(45).

و(أكد تقرير نشرته الشركة الوطنية الجيوغرافية: أن الإنسان يستطيع أن يعيش (1400) سنة، إذا ما خدر مثل بعض الحيوانات لينام طيلة فصل الشتاء.

ويقول التقرير الآنف الذكر: (إن التخدير أثناء فصل الشتاء يطيل حياة الحيوان الذي يتعرض للتخدير عشرين ضعفاً بالنسبة لحياة الحيوانات المماثلة التي تبقى ناشطة طيلة فصول السنة)(46).

ولعل من الواضح: أن أمثال هذه التجارب العلمية، التي يحاول العلماء عن طريقها معرفة ما يمد في عمر الإنسان إلى أكثر من العمر الاعتيادي، تنهينا إلى النتيجة التالية.

وهي: ليس هناك تحديد يقرر - في نظر العلم - حداً طبيعياً لعمر الإنسان.. وما التحديدات التقريبية التي يفيدها الإنسان من مشاهداته وملاحظاته إلا تحديدات للعمر الاعتيادي.

ولعل امتداد عمر الإنسان إلى ما فوق سني الأعمار الاعتيادية له - كالذي مررنا به في الدليل التاريخي من أمثال عمر النبي نوح (عليه السلام) - يدعم ما انتهي إليه من عدم وجود حد طبيعي لعمر الإنسان.

وبخاصة وأن العلم - اليوم - قطع مراحل هامة في إعطائه نتائج كبرى حول المسألة.. من أهمها: أن الأخذ بالتعاليم الصحية والالتزام بها يوفر للإنسان جواً ملائماً للمحافظة على حياته ولاستمرار عوامل بقائها.

وما قلة انتشار الأمراض السارية - الآن - وانخفاض نسبة الوفيات، في كثير من المجتمعات المتمدنة، والآخذة في طريقها إلى التحضر، إلا أوضح شاهد على ذلك.

ومتى أضفنا إلى هذه النتيجة، نتيجة أخرى هي: أن عامل الموت هو (الأجل)، وليس الأمراض أو الطوارئ الأخرى - كما هو رأي بعض علماء الشريعة - ترتبط مسألة امتداد العمر ارتباطاً وثيقاً، بتوفر الجو الصحي الملائم، وبتأخر الأجل.

وتوفر الجو الصحي الملائم يعود إلى الإنسان نفسه،.. ومن أرعى من الإمام (عليه السلام) لذلك، وهو يعلم أنه معد لمهمته الإلهية الكبرى..

وتأخر الأجل يعود إلى الله تعالى، ومتي اقتضت إرادته ذلك - كما تقدم في الدليل العقائدي - توفرت شرائط البقاء والعمر الطويل.

دولة الإمام

(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً وليكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم).

لماذا الحديث؟:

قد يثير هذا العنوان (دولة الإمام) شيئاً من التساؤل حول التطرق لموضوعه، وبخاصة وان دولة الإمام المنتظر (عليه السلام) بعد لما تقع، ولما تعش الواقع التاريخي..

فلما ذا الحديث حول الموضوع إذن؟!

بيد أن طبيعة مخطط الموضوع (في انتظار الإمام) حسبما رسمته منهجة البحث، تتطلب ذلك بالنظر إلى النتيجة التي سأنتهي إليها في حديثي الآتي حول (انتظار الإمام) وهي: الإلزام بمسؤولية التمهيد لدولة الإمام المنتظر (عليه السلام).

ومن الواضح: أن التمهيد للدولة يتطلب - طبيعياً - التعرف عليها ولو مجملاً:

دولة الإمام هي دولة الإسلام:

إن دولة الإمام المنتظر (عليه السلام) هي دولة الإسلام.. تلك الدولة التي تتجسد في واقعها الموضوعي تطبيقات التشريع الإسلامي كاملة عادلة، وفي مختلف مجالات الحياة: لدى الفرد، وفي الأسرة، وفي المجتمع، وفي الدولة..

والتي تمثلت في حكم نبينا محمد (صلى الله عليه وآله)، حينما أقام الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة.

بين دولة النبي ودولة الإمام:

وهنا.. قد يتساءل: إن الظروف - زماناً ومكاناً - التي عاشتها دولة النبي (صلى الله عليه وآله)، وأحاطت بها، ولابستها، ربما اختلفت وظروف دولة الإمام المنتظر (عليه السلام)، ألا يستدعي هذا النوع من الاختلاف، شيئاً من الاختلاف بين الدولتين؟..

وهو تساؤل ينطوي على كبير من الوجاهة، وبخاصة وأن التشريع الإسلامي المدوّن لم يحتو في الكثير من أنظمته التفاصيل الوافية في بيان وسائل وأساليب التطبيقات للأحكام التشريعية في مجال الدولة.. ولم يتضمن في كثير من مواده - دستورية ونظامية - إلاّ الأحكام الكلية والخطوط العامة.

وإن الحياة قد قفزت في تطوراتها المدنية، قفزات هائلة وبعيدة، عادت معها تلكم الوسائل والأساليب للقرون السالفة غير ذات أهمية ونفع.

أقول: إنه تساؤل وجيه لما تقدم.. غير أننا متى أدركنا أن للإمام وظيفة التشريع كما هي للنبي، وليست المسألة لديه مسألة اجتهاد قد يصيب الواقع وقد يخطئ.. وإنما هي مسألة إدراك الأحكام الشرعية بواقعها(47).

ولعله إلى هذا تشير الأحاديث المتضمنة دعوة الإمام المنتظر (عليه السلام) الناس إلى الإسلام جديداً، وهديهم إلى أمر قد دثر فضلّ عنه الجمهور(48).

إننا حينما ندرك ذلك لا يبقى لدينا أي مجال لأمثال هذا التساؤل..

على أن الوسائل والأساليب خاصة، هي موضوعات، والموضوعات تختلف تبعاً لتطور الحضارة والمدنية، فتتغير أحكامها وفقاً لتغيرها.. وتغير الحكم تبعاً لتغير الموضوع شيء طبيعي في كل تشريع، إسلامي أو غير إسلامي.

نعم.. هناك فرق واحد بين دولة النبي (صلى الله عليه وآله) ودولة حفيده الإمام المنتظر (عليه السلام)، يرجع إلى طبيعة الظروف أيضاً، ومساعدتها في إعداد الأجواء الكافية للتطبيق، وهو في اتساع نفوذ الدولة السياسي..

ففي دولة النبي (صلى الله عليه وآله) لم يتسع نفوذها السياسي اتساعاً يشمل كل العالم، وإن كانت دولة النبي (صلى الله عليه وآله) عالمية في أهم خصائصها، إلا أن الأجواء الاجتماعية والسياسية آنذاك لم تواتها ظروفهما لتحقيق عالميتها.

عالمية النفوذ السياسي:

أما في دولة الإمام المنتظر (عليه السلام)، فالذي نقرأه في الأحاديث التنبؤية عن المعصومين (عليهم السلام): إنها سيشمل نفوذها السياسي العالم كله، تحقيقاً لوعد الله تعالى بعالمية الإسلام، في أمثال الآية الكريمة التالية:

1- (ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذّكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصّالحون).

2- (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم في الأرض وليمكّننّ لهم دينهم الّذي ارتضى لهم وليبدّلنّهم مّن بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً).

3- (هو الّذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون).

ففي المروي عن الإمامين زين العابدين والباقر (عليهما السلام): (إن الإسلام قد يظهره الله على جميع الأديان عند قيام القائم عليه السلام).

وفي المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه الإمام الباقر (عليه السلام): (لم يجيء تأويل هذه الآية (يعني قوله تعالى: وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) ولو قد قام قائمنا سيرى من يدركه ما يكون تأويل هذه الآية، وليبلغن دين محمد (صلى الله عليه وآله) ما بلغ الليل).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً: (إذا قام القائم المهدي لا تبقى أرض إلا نودي فيها شهادة ألاّ إله إلا الله وأن محمداً رسول الله).

وليست عالمية النفوذ السياسي هي وحدها أبرز معالم دولة الإمام المنتظر (عليه السلام) فهناك من خصائصها ومعالمها البارزة، غير هذا، مما نقرأه في النصوص التنبؤية الواردة عن المعصومين (عليهم السلام).

/ 12