کلام فی الحضارة الاسلامیة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

کلام فی الحضارة الاسلامیة - نسخه متنی

حسن حنفی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید









كلام في الحضارة الاسلامية

الدكتور حسن حنفي


(جامعة القاهرة)

الدكتور حنفي من الشخصيات العلمية المعروفة، و في لقاء لنا معه في طهران تقدمت اليه المجلة بمجموعة من الاسئلة عن مواضيع حارة تدور اليوم في المحافل الثقافية و الادبية، فتفضل بالاجابة عنها مشكوراً، وهانحن ننشرها بحذافيرها فيما يلي. راجين من القراء الكرام الذين يجدون ضرورة لمناقشته في بعض مقولاته أن يبعثوا إلينا بما يعنّ لهم ليتسني لنا نشره في العدد القادم ان شاء الله.

1. كيف تعرّفون الفكر و الحضارة الإسلامية؟

الفكر نشاط ذهني عام يشمل الفكر النظري و الفن و العلم و الدين و الأخلاق و السياسة و الاجتماع. هو كل ما يعبر عنه الإنسان بصرف النظر عن أشكال التعبير. وقد يأخذ صفة الدين مثل الفكر الإسلامي، الفكر المسيحي، الفكر اليهودي...الخ. وقد يأخذ صفة العلم مثل الفكر السياسي، الفكر الاجتماعي، الفكر الأخلاقي، الفكر الديني، الفكر القانوني...الخ. وقد يأخذ صفة القوم مثل الفكر العربي، الفكر الفرنسي ...الخ. وقد يأخذ صفة الاتجاه الغالب عليه الفكر النظري، الفكر العملي، الفكر المثالي، الفكر الواقعي، الفكر الطبيعي، الفكر الحيوي...الخ. الفكر بطبيعته متعدد الاتجاهات ومتعدد الرؤي، يقبل الخلاف، الرأي و الرأي الآخر، متعدد الأطراف وليس أحادي الطرف.

فإذا ما تراكم الفكريصبح ثقافة، يرثها جيل وراء جيل. تختلط بالموروث الشعبي و بالسلوك اليومي. تعطي الناس تصوراتهم للعلم وتمدهم بمعيار للسلوك، فالثقافة ليست فكرا فقط بل أسلوب حياة. تختلف من طبقة إلي طبقة. فهناك ثقافة الطبقة العليا، ثقافة النخبة وما فيها من فنون رفيعة وحساسيات فنية مرهفة. وهناك ثقافة الطبقة الدنيا التي تغلب عليها الأمثال العامية و سير الأبطال، و الاستشهاد بالنصوص الدينية. وهناك ثقافة الطبقة المتوسطة، ثقافة القانون و النظام من أجل استقرار المجتمع.

وكلاهما الفكر و الثقافة لفظان حديثان وافدان من الثقافة الغربية. الفكر عند القدماء هو النظر يتحد بالعلم بالمعني الواسع. وهو بديهي او استدلالي. و النظر يولد العلم عند المتكلمين خاصة المعتزلة. وهو بديهي او كسبي، في النفس مغروز فيها كالأوليات او مستنبط منها مدرك بالحواس كالمحسوسات و المجربات حين تكرارها. ألفاظ القدماء تدور حول العلم و الجهل، و اليقين و الشك، و الوهم و التخيل، و التذكر و الحفظ. وكلها من قوي النفس.

أما الحضارة فهي الأعم و الأشمل. تضم الفكر و الثقافة و العلم. هي كل ما يتحقق كنشاط ذهني ويتجسد في الواقع في تقنيات علمية وآلات مخترعة و اكتشافات جديدة، وعمارة وطرق، ومدن ومساجد، وقصور وقلاع. فالحضارة هنا تتجاوز معني الثقافة Culture إلي المدنية Civilization. و الحضارة الإسلامية تشمل كل ما أنتجه المسلمون من علوم نقلية، كالقرآن و الحديث و التفسير و السيرة و الفقه، وعلوم عقلية كالحساب و الهندسة و الفلك و الموسيقي، وعلوم نقلية عقلية كأصول الدين وأصول الفقه و الفلسفة و التصوف. هذه العلوم هي التي تكون صلب الحضارة الإسلامية. كما تبدو العلوم الإنسانية اللغة و الأدب و الجغرافيا و التاريخ مستقلة أحيانا ومرتبطة بباقي العلوم أحياناً أخري، مثل ارتباط الجغرافيا بعلوم الحكمة، و التاريخ بالتفسير. فقد كان كبار المؤرخين كبار المفسرين. كما ارتبطت اللغة بمباحث الألفاظ في علم الأصول،.و الشعر آيضا بعلوم القرآن. و هي علوم سابقة علي الإسلام وتالية له. و العلوم الرياضية و الطبيعية جزء من علوم الحكمة. فلا حكمة بلا علم نظرا لوحدة الوحي و العقل و الطبيعة.

وقد مرت الحضارة الإسلامية بمرحلتين أساسين، وهي الآن علي أعتاب مرحلة ثالثة . الأولي فترة ازدهار و عصرها الذهبي الذي بلغ الذروة في القرن الرابع، عصر المتنبي وأبي حيان التوحيدي و ابن سينا و ابن الهيثم قبل أن يقضي الغزالي علي العلوم العقلية في القرن الخامس. ولم تفلح بارقة ابن رشد في القرن السادس أن ترد الاعتبار لها، و غلب التيار الإشراقي علي الفلسفة المشرقية بعده. لذلك أرخ ابن خلدون لهذه الفترة و عن حق بعد سبعة قرون. مبينا أسباب نهضتها و سقوطها. و الثانية فترة الشروح و الملخصات و الموسوعات الكبري في القرون السبعة التالية في العصر المملوكي العثماني حيث توقف العقل عن الإبداع، و بدأت الذاكرة في التدوين. و في آخر قرنين بدأت حركة الإصلاح الديني وعصر النهضة من أجل إنهاء هذه الفترة الثانية و بداية فترة ثالثة في سبعمائة عام قادم من القرن الرابع عشر حتي القرن الواحد و العشرين، تنقل الحضارة الغربية وتشرحها وتلخصها وتعرضها وتتجاوزها، وتبدع إبداعها المستقل فترثها. فالغرب ينهي عصوره الحديثة و الحضارة الإسلامية تبدأ عصر ازدهارها الثاني وتبدأ عصورها الحديثة.

2. هل يمكن للفلسفة اليونانية او الغربية أن تكون سندا وظهيرا لنمو الحضارة الإسلامية الجديدة؟

كانت الفلسفة اليونانية غربا و الرومانية بشكل أقل و في عصر متأخر، و الفارسية شرقا و الهندية بشكل أقل عاملا علي نشأة الحضارة الإسلامية القديمة. فقد احترم الإسلام حضارات الشعوب المجاورة بالرغم من أنها كانت حضارات الشعوب المغلوبة. نقلها وشرحها وعرضها وألف فيها ثم أبدع في علومها وتجاوز بعد وراثتهاطبقا لدورات الحضارات عبر التاريخ.

و طبعت العلوم الإسلامية القديمة بطابع الحضارات القديمة ومشاكلها مثل حدوث العالم وقدمه و فيضه بين أفلاطون وأرسطو وأفلوطين، و اتصال العقل الإنساني بالعقل الفعال، و المنطق الصوري، و الطبيعيات الثنائية و الإلهيات المتعالية و المدن الفاضلة الهرمية التي تقوم علي وحدانية التسلط كما يقول ابن رشد. وعبر الكلام عن ظروف عصره. وكانت الفرق الكلامية أحزابا سياسية للسلطة مثل الأشعرية وأهل السنة او للمعارضة مثل الشيعة و المعتزلة و الخوارج. وظهر في علم التفسير و علم أصول الفقه صراع بين القوي التاريخية المحافظة و التقدمية، بين أهل الأثر وأهل الرأي، بين التفسير بالمأثور و التفسير بالمعقول. وظهر التصوف كأداة احتجاج سلبي بعد أن استعصي تغيير العلم و استشهد الأئمة من آل البيت و الاكتفاء بإنقاذ النفس و التعويض عن هذا العالم البائس بعالم من صنع الخيال، كله تحقق وكمال.

ولم يعد الآن عصر الحضارات القديمة. فقد انتهت بوراثة الحضارة الإسلامية لها و بعد فترتها الأولي في القرون السبعة الأولي التي أنهاها ابن خلدون. ورثتها الحضارة الغربية في عصورها الحديثة وتبدلت الأدوار. فبعد أن كانت الحضارة الإسلامية مبدعة ومعلمة ومنقول عنها من الغرب أصبحت في القرون السبعة التالية في العصر المملوكي التركي، مقلدة ومتعلمة ومنقول إليها من الغرب الحديث. ومنذ مائتي عام بدأ عصر الترجمة الثاني منذ القرن الماضي، سبقها عصر الترجمة الأول في القرن الثاني الهجري. و استأنف الطهطاوي دور حنين ابن اسحق، وورثت مدرسة الألسن في القرن الماضي بيت الحكمة في عصر المأمون.

أصبح الغرب الآن هو وريث الحضارة اليونانية، وأصبحت إيران و الهند، الثورة الإسلامية و الثورة الوطنية، وريث حضارتهما القديمة. وأصبح الإسلام ناهضا من جديد منذ الإصلاح الديني و عصر النهضة في القرن الماضي و بعد إكمال حركة التحرر الوطني. يمكن للحضارة الإسلامية في لحضتها الثانية التعامل مع الغرب الحديث بعد أن بدأ عصر النقل و التلخيص و الشرح و العرض و التأليف، وتأخرت مرحلة الإبداع الخالص.

يُبعث الكندي من جديد داعيا إلي الانفتاح علي حضارات العصر حتي ولو كانت من الأمم القاصية عنا، وتنشأ المصطلحات الجديدة. يمكن للفارابي العصري الجمع بين رأيي الحكمين هيجل الإلهي وماركس الحكيم، وأن يكتب المدينة الفاضلة من جديد، لست مدينة الفيض و الإمام بل مدينة العقد الاجتماعي و المؤسسات الدستورية وحقوق الشعوب. ويمكن لإخوان الصفا الجدد أن يعيدوا كتابة الرسائل بحيث يضم المنطق التجريبي، و الرياضيات الحديثة، و الطبيعيات الحديثة، و العلوم الناموسية و الشرعية علوم الاجتماع و السياسة و الاقتصاد. ويستطيع ابن سينا العصري أن يعيد كتابة الشفاء وقسمة الحكمة قسمة رباعية لإضافة الإنسانيات بالإضافة إلي المنطق و الطبيعيات و الإلهيات. ويستطيع ابن رشد الجديد أن يشرح هيجل، أرسطو العصر.

تكتشف الفلسفة الإسلامية الجديدة مُثَل التنوير، العقل و الحرية و الإنسان و الطبيعة و المساواة و التقدم وحقوق الإنسان. تتمثل الغرب وتتجاوزه وترثه بعد أن بدأ الغرب في الأفول حتي علي لسان أهله: هوسرل في أزمة العلوم الأوربية، و اشبنجلر في أفول الغرب، وشيلر في قلب القيم و برجسون في الآلات التي تصنع آلهة، ونيتشه في العدمية الشاملة، وتوينبي في محاكمة الغرب، وكل تيارات ما بعد الحداثة و التفكيكية، و الكتابة في درجة الصفر وموت المؤلف. وتنتهي العصور الحديثة الأوربية وتبدأ العصور الحديثة الإسلامية منذ القرن الماضي بالرغم من كبوة الإصلاح وتعثر النهضة في هذا القرن ثم انتعاشها من جديد بفضل حركات التحرر العربي، و الصحوة الإسلامية، و الثورة الإسلامية في ايران، و استقلال الجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا، ومقاومة المسلمين في غرب أوربا، و انتشار الإسلام في أوربا الغربية وأمريكا وأفريقيا، ونهاية التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا و المقاومة في جنوب لبنان و في فلسطين.

3. فيما يتعلق بحوار الحضارات، ألا ترون أن العلمنة التي تدعي تفوقها تحاول فرض أفكارها علي الآخرين؟ وكيف يمكن مواجهتها؟

لم تحاور حضارة حضارات أخري كما حاورت الحضارة الإسلامية الحضارات المجاورة، شرقا في فارس و الهند، و غربا عند اليونان و الرومان، وشمالا في الحضارة الغربية، وجنوبا مع الحضارة الإفريقية، قديما من موقع قوة وحديثا من موقع ضعف، قديما في حالة الانتصار و حديثا في حالة الهزيمة. وكان الحوار يتم باستمرار بناء علي مقولات الحضارة الإسلامية وتصوراتها للعالم ومنظورها الكلي المتعادل، فتضم أجزاء الحضارات الأخري وتوازن بين تصوراتها.

جمع الفارابي بين أفلاطون وأرسطو، و الآخرة و الدنيا، و النفس و البدن، طبقا لتصور الإسلام الكلي. وجعل المسلمون أفلاطون يقول بالحدوث حتي يتفق مع خلق العالم وجعل كل فلاسفة المسلمين الكندي و الفارابي وإخوان الصفا وابن سينا وابن طفيل وابن باجة و ابن رشد وصدر الدين الشيرازي وناصر خسرو الحكمة و الشريعة، الفلسفة و الدين، العقل و النقل متفقين حتي ينشأ حوار الحضارات علي مستوي الندية ثم بينهما في حضارة إنسانية شاملة واحدة دون غالب او مغلوب، مركز وأطراف.

بل لقد عظم المسلمون الحضارات الأخري، وخلدوا حكماءهم بالألقاب. فأرسطو المعلم الأول، و الفارابي المعلم الثاني،و ابن الهيثم بطليموس الثاني، و سقراط أحكم البشر، وأفلاطون صاحب الأيد و النور، وجالينوس فاضل المتقدمين و المتأخرين، وأفلوطين الشيخ اليوناني... الخ. و ازدهرت الحضارات الأخري بفضل حوار الإسلام معها. وثم نقل هذا الحوار إلي الحضارة الغربية في العصر الوسيط المتأخر حتي أصبح نموذجا يحتذي به.

فلما ورثت العصور الحديثة الغربية الحضارة الإسلامية بدأ نمط جديد ليس حوار الحضارات بل صراع الحضارات، عندما تفرض فيه حضارة المركز الأوربي الجديد أنماطها وقوالبها وقيمها وتاريخها ومثلها علي باقي الحضارات القديمة التي أصبحت بالنسبة للمركز حضارة الأطراف، و سمت ذلك بأسماء عديدة مثل العلمنة أو التنوير او العولمة او نهاية التاريخ او حقوق الإنسان. وأصبحت الحضارة الغربية هي النموذج الذي تحتذيه كل الحضارات اللاغربية. فهي حضارة الإنسان و العقل و العلم و الحرية و التقدم و المساواة و غيرها حضارات الآلهة و النصوص و السحر و القهر و التخلف و التفاوت الطبقي. هناك نمط واحد لكل الحضارات هو النمط الأوربي الذي أصبح مساويا للحداثة ذاتها. فكل إنجازات العلم الحديث و التقنية من الغرب، الثمرة اليانعة بصرف النظر عن الجذور. فالعلمنة للناس جميعا، الفصل بين الدين و الدولة، و الدين علاقة شخصية بين الإنسان و اللّه، و الدولة عقد اجتماعي بين المواطنين. و لقد تطورت الإنسانية في تاريخها من عصر الدين إلي عصر الميتافيزيقا إلي عصر العلم (كومت)، ومن عصر الآلهة إلي عصر الأبطال إلي عصر الإنسان (فيكو)، ومن الغريزة و الحس إلي العاطفة و الوجدان، الي العقل النظري الخالص (كانط). تاريخ الغرب هو تاريخ العالم. وصل إلي ذروة الحضارة ومازالت باقي الحضارات في مراحلها الأولي.

و في مقابل ذلك يمكن رد الحضارة الغربية إلي مصادرها التاريخية و القضاء علي أسطورة الثقافة العالمية، وردها داخل حدودها الطبيعية، وإزاحة مؤامرة الصمت عن مصادرها الأفريقية و الآسيوية، و بيان بدايتها وتطورها ونهايتها، و الكشف عن بنيتها الثنائية المتعارضة، من الفعل إلي رد الفعل إلي الجمع بينهما. ثم تبدأ دورة جديدة من الفعل و الانفعال دون قدرة علي تحديد البؤرة و المركز و التوازن و الجمع بين الأطراف.

و العلمنة في كل الحضارات في مقابل الرهبنة. ومثل التنوير الغربية موجودة في كل حضارة. وما سماه الغرب حقوق الإنسان سمته الحضارة الإسلامية مقاصد الشريعة، وضع الشريعة ابتداء الضروريات الخمس: الحياة (النفس)، و العقل، و الحقيقة المستقلة عن أهواء البشر (الدين)، و الكرامة (العرض)، و الثروة (المال). إنما العلمنة الغربية و فرضها علي كل الحضارات هونوع من الهيمنة و الغزو الثقافي و الاستعمار الفكري و بقاء الأطراف إلي الأبد في دائرة المركز.

4. كيف تقوّمون مستقبل الفكر الإسلامي؟

يرتبط مستقبل الفكر الإسلامي بطبيعة المرحلة التاريخية التي يمر بها. ولما كان الفكر الإسلامي الآن يمر ببداية فترة ثالثة منذ فجر النهضة العربية و الإصلاح الديني منذ القرن الماضي فان المستقبل مرهون بإعادة بناء التراث القديم وتطور علومه بعد أن توقفت في المرحلة الأولي طبقا لظروف العصر وتحدياته. يتحول علم الكلام القديم القائم علي الذات و الصفات و الأفعال إلي علم الكلام الجديد القائم علي الحرية و الأرض و التقدم، و تتحول الفرق القديمة، سنة و شيعة، معتزلة و أشاعرة، ومرجئة وخوارج إلي فرق جديدة: محافظون و ليبراليون، رجعيون و تقدميون، نصيون و مسؤولون، أصوليون و علمانيون، فقهاء الحيض و النفاس وفقهاء السلطان. وتتحول علوم الحكمة إلي منطق علمي و علوم طبيعية و إنسانية لما كانت الإلهيات جزءا من العلوم الإنسانية في تحليل الألفاظ و القضايا ونشأة التصورات الدينية طبقا للثقافات المتعددة. ويعاد بناء علم أصول الفقه بإعادة ترتيب أوليات الأدلة الأربعة تصاعديا وليس تنازليا، الاجتهاد ثم الإجماع ثم السنة ثم الكتاب، بداية بالواقع و التنظير المباشر له ثم نهاية إلي النص للبحث في العلل المباشرة للظواهر السلوكية، ومعرفة المصالح العامة و عموم البلوي. ويعاد بناء الفقه علي أنه فقه المجتمع و العصر. فقد تغيرت الظروف و الأحوال، وتبدلت الوقائع وتقدم التاريخ. فلم تعد هناك حاجة إلي فقه الغنائم و العبيد و والإماء و ربما الصيد. و حال الأمة حاليا لا يساعدها علي تصور علاقاتها الدولية طبقا لقانون: الإسلام او الجزية او القتال. و قد يحتاج الفقه الجديد أن تعطي الأولوية للمعاملات علي العبادات. و التصوف في حاجة إلي بناء جديد، وتحول المقامات و الأحوال السلبية مثل الصبر و الخوف والخشية و التوكل و الرضا و الفناء إلي قيم إيجابية مثل الثورة والغضب والتمرد والرفض و الاعتراض و الشجاعة و المبادرة و المقاومة و النضال و الصراع من أجل البقاء. و تحتاج علوم القرآن إلي إعادة تنظير لها و إبراز أهم سمات الوحي وصلته بالواقع في السؤال والجواب، الواقع يسأل و الوحي يجيب، والناسخ والمنسوخ أي التطور و الزمان في التشريع. ويتحول علم التفسير من الطولي إلي العرضي أي التفسير الموضوعي. و يحتاج علم الحديث إلي أن يتحول من نقد السند إلي نقد المتن. ويتحول علم السيرة من التركيز علي شخص النبي إلي التركيز علي أقواله حتي نقضي من السلوك الاجتماعي عبادة الأشخاص. كما تحتاج حركات الإصلاح الإسلامية الحديثة إلي أن تقال من كبوتها، وترد إليها الحياة و العودة إلي جذورها عند السيد جمال الدين الأفغاني: الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج و القهر في الداخل. مستقبل الفكر الإسلامي إذن مرهون بالتحول من النقل إلي الإبداع، و من التقليد إلي الإجتهاد، و من قيد القديم إلي رحابة الجديد. هم رجال ونحن رجال نتعلم مهم ولا نقتدي بهم.

كما أن مستقبل الفكر الإسلامي مرهون بقدرته علي تجاوز النقل عن الآخرين و الانتقال إلي مرحلة النقد. فقد انقضي أكثر من مائة عام علي عصر الترجمة الثاني منذ فجر النهضة العربية في القرن التاسع عشر. واستغرقت الترجمة أربعة أجيال او خمسة ومازالت مستمرة حتي الآن في حين أن ترجمة القدماء في القرن الثاني الهجري لم تستمر أكثر من قرن واحد علي مدي جيلين، حنين بن اسحق و اسحق بن حنين حتي بدأ التأليف المستقل عند الكندي في النصف الأول من القرن الثالث. فالترجمة وسيلة و ليست غاية، مقدمة و ليست نتيجة. نقل وليست إبداعا. إن الوضع الحالي لعلاقة الحضارة الإسلامية، حضارة الأنا، بالحضارة الغربية، حضارة الآخر، هي علاقة الناقل المتعلم وليست علاقة الندية من حيث الإثراء المتبادل والتعلم المتكافي‏ء. الآن الغرب يبدع والأنا تنقل. الآخر معلم والأنا تلميذ. فهل يمكن أن تحول العلاقة علي الأمد الطويل إلي علاقة عكسية، أن تبدع الأنا وأن ينقل الآخر، أن يكون الأنا هو المعلم والآخر هوالتلميذ؟ هل يمكن مرحليا تغير الأنا بالآخر، بدلا من أن يكون الآخر مصدراً للعلم يكون موضوعا للعلم، و أن يتأسس علم الاستغراب، الأنا دارس و الآخر مدروس في مقابل الإستشراق، الأنا مدروس والآخر دارس؟ ليست مهمة الفكر الإسلامي المعاصر أن يكون ممثلا لتيارات الفكر الغربي الرئيسة المتعارضة: مثالية و واقعية، عقلية و حسية، استنباطية و إستقرائية، صورية و مادية، ظاهراتية و وجودية، بنيوية و تفكيكية، حداثية. بل مهمته استيعاب الوافد وضمه إلي الموروث و إبداع شيء جديد ثالث لا هو بالوافد الخالص ولا هو بالموروث الخالص. و يقوم بعملية التشكل الكاذب، التعبير عن الموروث بلغة الوافد، والتعبير عن الوافد بلغة الموروث من أجل خلق ثقافة إسلامية معاصرة بها هذا التفاعل بين الداخل والخارج، بين علوم القدماء و علوم المحدثين، بين علوم العرب و علوم العجم، بين علوم الغايات و علوم الوسائل. و علي هذا النحو يمكن تجاوز صراع الحضارات إلي حوار الحضارات، و تقابل الحضارات إلي تفاعلها. هنا تمحي أحادية الطرف في علاقات الحضارات بعضها ببعض لصالح الإثراء المتبادل، كل حضارة تأخذ وتعطي، ولا توجد حضارة تعطي دائماوأخري تأخذ باستمرار. وهذا يتطلب ثقة بالنفس و عدم الانبهار بالآخر، و بالإحساس بالرسالة و بالدور المناط بالحضارة في التاريخ مع الوعي بتجارب الماضي وإبداع تجارب جديدة في الحاضر.

5. هل ترون أن الحضارة وليدة الأخذ والعطاء أم أن كل حضارة هي وليدة عقائدها و أفكارها الخاصة، مارأيكم؟

لاتوجد حضارة تنشأ من لاشيء بداية الحضارة هي الوعي الفردي بالعالم، بالطبيعة و بالآخرين، بالحياة والموت، بالفناء والبقاء، بالخطر و بالأمان. ويعبر عن هذا الإحساس بصور عديدة، الدين، الفن بكل أنواعه، الرسم علي الجدران والرقص والغناء، العلم في بدايته كمحاولة لفهم ظواهر الطبيعة والسيطرة عليها. وقد كان الدين أولي مراحل التفكير العلمي. ثم يتراكم الإبداع الحضاري عندالأدباء والشعراء والحكماء حتي يبدأ المؤرخون في التدوين.

وتتفاعل الحضارات فيما بينها عن طريق الاتصال المباشر عبر التجارة والحرب قبل الاتصال عن طريق التدوين. وينشأ التفاعل الحضاري بالقراءة المتبادلة، كل قراءة من ظروفها و باهتماماتها. فتتنوع الحضارات ابتداء من بؤرة واحدة، وتتكاثر الدوائر انطلاقا من مركز واحد، وينشأ تبادل في الألفاظ المنقولة والمعربة، وتتدخل الكلمات الأجنبية في كل لغة. وتتفاعل التصورات وتمثلاتهافي كل حضارة طبقا لمنطق النشأة والتكوين.

هكذا كان الأمر في حضارات الصين والهند، والهند و فارس، ومصر وما بين النهرين، وكنعان و بابل، واليونان والرومان، والإسلام واليونان، الرومان غربا، و فارس والهند شرقا، والإسلام والعصر الوسيط الأوربي حتي مطلع عصر النهضة أو الإسلام والعصر الحدث منذ القرن الماضي. ومازال التفاعل مستمرا. علاقة الحضارات بعضها ببعض علاقة أخذ وعطاء علي عديد من المستويات، اللغة والتصورات والتمثلات في الأشياء.

تصور الحضارات كدوائر منعزلة. كل حضارة تتمتع بصفائها ونقائها الأعلي تصور قومي شوفِني لا وجود له في الواقع. بل هو تصور عدائي تجاه الحضارات الأخري. يعتبر كل وافد دنسا وكل موروث مقدسا. ويستمر التنافر بين الموروث والوافد إلي حد الخصام و الاقتتال و سفك الدماء. الوافد يخون الموروث، والموروث يكفّر الوافد. فينشأ نموذج صراع الحضارات بعد حوار الثقافات، وتصادم الحضارات بعد تفاعل الثقافات. وقد تنشأ العديد من الحروب الحديثة بسبب هذا التصور للنقاء والتميز الحضاري الذي يعبر عن نقاء عنصري عرقي دفين.

لقد ازدهر نموذج حوار الثقافات في الحضارة الإسلامية. كما ذاع نموذج صراع الحضارات في الحضارة الغربية لأن كل حضارة أبدعت نموذجها. فالحضارة الإسلامية هي جماع حضارات الشرق والغرب. والحضارة الغربية هي أيضا كذلك وريث الإبداع الحضاري لمجموع شعوب الشرق بعد أن انتقل روح التاريخ عبر آلاف السنين من الشرق إلي الغرب، وكما يتحول حاليا إلي الاتجاه المعاكس تدرجيا من الغرب إلي الشرق من جديد. و في كلتا الحالتين، الحضارة الإسلامية في وسط الحلقة تمر عليها الريح مرتين، من الشرق إلي الغرب في الماضي حتي الحاضر، ومن الغرب إلي الشرق من الحاضر حتي المستقبل. وكما كانت الحضارة الإسلامية مبدعة في المسار الأول من الشرق إلي الغرب، فإنها علي شفا الإبداع في المسار الثاني من الغرب إلي الشرق.

لقد تصورت الحضارة الغربية ذاتها علي أنها هي وحدها صاحب المشروع المعرفي الحضاري في بداية‏عصورها الحديثة. أنا أفكر فأنا إذن موجود. واستمر الحال علي ذلك من ديكارت حتي هوسرل، بداية العصور الحديثة ونهايتها، في مرحلة‏ما بعد الحداثة والتفكيكية وتحليل الخطاب في اللسانيات الحديثة التي تطبق النماذج الرياضية. وحولت الحضارات الأخري إلي موضوعات للبحوث الاجتماعية والأنثروبولوجية و علم آلاثار. وقسمت الحضارات إلي نوعين: قديمة وحديثة، الأولي للانتشار والذيوع عبر الاستعمار والتبشيروالقنوات الفضائية، والثانية للانزواء و الانقراض في متاحف التاريخ. وهذا هو الهدف المبطن لما يسمي بالمثقافة (!) Acculturation أي القضاء علي ثقافة كما يدل علي ذلك حرف النفي A وإحلال ثقافة أخري محلها، وليس المقصود التداخل الثقافي او التفاعل الثقافي الذي يعني IntercuIturation.

إن الأفكار من اجتهادات البشر الذين ينتسبون إلي حضارات متعددة. لذلك خلق البشر شعوبا وقبائل وألسنة وعادات من أجل الإثراء المتبادل. الطبيعة البشرية واحدة، والعقل البشري واحد، أما الزمان والتاريخ والعصر فمتغيرات. وتكون الحضارة هي تفسير الثوابت في إطار المتغيرات. وتتراكم الخبرات، ويبرز الوعي التاريخي الحامل لرصيد البشر والضامن لبقائهم.

6. كيف تقومون موضع العلوم الإنسانية في العالم الإسلامي، وما هي اقتراحاتكم لرفع مستواها؟

العلوم الإنسانية الآن في العالم الإسلامي محاصرة بين المطرقة والسندان. فهي منقولة من الغرب الحديث وهو الأعم والأكثر، فالغرب هو مؤسس العلوم الإنسانية ومطور لها من العلوم التاريخية إلي علوم الأنثروبولوجي بالرغم من أزمة العلوم الإنسانية في الغرب وترددها بين النماذج الرياضية والبحوث الميدانية التجريبية الإحصائية، وإما منقولة من القدماء، وهو الأقل خاصة ابن سينا في علم النفس، والفارابي في الإجتماع، ومسكويه في الأخلاق، والفقهاء في السياسة والأحكام السلطانية، والماوردي والفراء وابن الأزرق والطرطوشي وابن خلدون في فلسفة التاريخ و علم العمران. وهناك تيار ثالث يحاول الجمع بين الاثنين، يقرأ القدماء بلغة المحدثين او يقرأ المحدثين بلغة القدماء بمنهج مقارن. فإذا كان ولاؤه للقدماء فإنه ينتهي إلي أن القدماء كانوا أسبق من المحدثين في الوصول إلي هذه النتيجة اوتلك. وإذا كان ولاؤه للمحدثين فإنه ينتهي إلي أن القطيعة المعرفية مع القدماء كانت السبب في نجاح المحدثين في تأسيس العلوم الإنسانية الحديثة بعيدا عن الدين واعتماداً علي العقل والملاحظة وحدهما. فبين العلوم القديمة والعلوم الحديثة هناك انقطاع لا تواصل.

والعيب الرئيس في الاتجاهين الأولين هو النقل بصرف النظر عن المنقول سواء كان من المحدثين او من القدماء، وأن الباحث الحالي ماهو إلا ناقل علم وليس مبدع علم. فلا فرق بين من ينقل عن ماكس فيبر او عن كارل ماركس او عن رايت ملز او عن تالكوت بارسون ومن ينقل عن الفارابي وابن سينا وابن الأزرق وابن خلدون، ينقل ماضياٍ ولّي عصره او حديثاً لم يأت عصره بعد. و بالتالييضحي العالم الحديث بالحاضر إما لحساب الماضي.وإمالحساب المستقبل. أما الاتجاه الثالث الذي يقوم علي التفاعل بين النقلين فإن به جهداً لتجاوز النقل إلي الإبداع علي مستوي النيات ولكن يظل الإبداع محدوداً نظراً لروح الدفاع والتقريظ التي تقوم بها هذه الدراسات المقارنة إما دفاعا عن القدماء بلغة المحدثين أو دفاعا عن المحدثين بلغة القدماء. ومازال الإبداع قاصراً في تجاوز الاثنين معا والتوجه إلي التنظير المباشر للواقع وصياغته نظريا بوعي تاريخي متعدد المصادر بنشأة العلوم الإنسانية وتطورها.

ويمكن تطوير هذه المحاولات الإبداعية التي تقوم علي تجاوز النقلين معاً بمزيد من الاحكام لها بالتخلي عن نيات التقريظ والدفاع لأحد من النقلين و الانتقال إلي نقد الجوانب النظرية فيها وإرجاعها إلي طبيعة المادة المتاحة وظروف العصر وبيان نسبيتها ومراجعة أحكامها المطلقة. كانت نظريات القدماء تعبيراً آخر عن التصورات الدينية للعالم. فعلم النفس عند ابن سينا كان يهدف إلي إثبات تميزها عن البدن ومعادها وبقائها. والمدينة الفاضلة عند الفارابي إنما كانت نقلا لنظرية الفيض علي مستوي المجتمع. وكما يفيض العقل من الواحد، والنفس من العقل، والمادة من النفس كذلك تفيض الطبقات الإجتماعية واحدة تلو الأخري من الملك الفيلسوف والنبي الإمام. والأحكام السلطانية عند أبي يعلي والفراء إنما هي توسيع لمفهوم الشريعة وعلاقة الحاكم بالمحكوم بمزيد من التنظير والتعقيل. وعلم العمران عند ابن خلدون إنما هو نقل لقصص الأنبياء و دورات التاريخ.

أما النظريات الغربية فهي أيضا محدودة بالمادة المحلية التي حاولت تنظيرها. وقد لا تنطبق علي مواد أخري مستمدة من مجتمعات أخري. فالفصل بين الدين والدولة والمجتمع المدني حصيلة التجربة الغربية وحدها عندما كانت الطبيعة لا تخضع لقانون بسبب المعجزات، وكان الدين لايخضع للعقل بسبب عقائد الخطيئة الأولي والخلاص. وربما في حضارات أخري يقوم الدين والعلم علي العقل والطبيعة، وأنه لا فرق بين نسق الوحي ومنطق العقل ونظام الطبيعة. فالعلوم الإنسانية والغربية في حاجة إلي مراجعة لبيان نسبيتها في المنهج والموضوع والنتيجة.

تحتاج العلوم الإنسانية في العالم الإسلامي إلي التوجه نحو الواقع مباشرة وتنظيره اعتمادا علي كل تراث الأقدمين، الأوائل والأواخر كافتراضات علمية، والتوجه نحو الواقع بالملاحظة والمشاهدة وتحليل التجارب الحية التي يمّر بهاالعلماء أفرادا وجماعات مع ثقة بالنفس، وقدرة علي حدس الماهيات، وتجديد في اللغة والمصطلحات، وحمل هموم العلم والوطن في آن واحد. فالعلوم الإنسانية ليست نظرية فقط بل هي علوم اجتماعية و علوم سلوكية لا تهدف إلي فهم الواقع فقط بل أيضا إلي تغييره.



























/ 1