الاعجاز القرانى (4) - اعجاز القرآنی (04) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

اعجاز القرآنی (04) - نسخه متنی

محمد هادی المعرفة

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

الاعجاز القرانى (4)

فى وجوه الاعجاز فى مختلف الآراء

آية‏اللّه‏ شيخ هادى معرفة

كلام القاضي عبدالجبار:

لقاضى القضاة عبدالجبار بن احمد (له مكانته السامية في عالم الاعتزال توفى سنة 415) كلام تحقيقي اصولي حول إعجاز القرآن، بحث فيه بحثا وافيا عن وجه هذا الإعجاز و مبلغ دلالته على نبوّة نبي الاسلام على مدى الزمان، اقتضبنا منه مايلي:

قال: فإن قيل: و ما المعجز الذي ظهر على محمد؟ قلنا: معجزات كثيرة، من جملتها القرآن.

فإن قيل: و ما وجه الإعجاز في القرآن؟ قلنا: هو أنّه تحدّى بمعارضة العرب، مع أنّهم كانوا هم الغاية فى الفصاحة و المشار إليهم فى الطلاقة و الذلاقة و قرعهم بالعجز عن الإتيان بمثله، فلم يعارضوه و عدلوا عنه، لا لوجه سوى عجزهم عن الإتيان بمثله.

ولا يمكنك أن تعرف صحّة هذه الجملة إلاّ إذا عرفت وجود محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم و أنه قد ادعى النبوّة، و ظهر عليه القرآن، و سمع منه و لم يسمع من غيره، و أنّه تحدّى العرب بمعارضته و قرعهم بالعجز عن الإتيان بمثله فلم يأتوا به، لالوجه سوى عجزهم و قصورهم عن الإتيان بمثله.

فمتى عرفت هذه الوجوه كلّها كنت عارفا بنبوّة محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم .

أمّا وجوده، و ادعاء النبوّة، و انّ القرآن ظهر عليه، وسمع منه و لم يسمع من غيره، فمعلوم ضرورة، و لامانع يمنع من حصول العلم بهذه الأشياء و ما جانسها اضطرارا، فإنّ العلم بالملوك و البلدان و يكون المصنّفات منسوبة الى مصنّفها ضرورة.

وأمّا تحديه العرب بمعارضة القرآن، و تقريعه إيّاهم بالعجز عن ذلك، ففي أصحابنا من جعل العلم به ضروريّا، و من جعله مكتسبا. قال: ليس المرجع بالتحدّي إلاّ أن يعتقد أنّ له مزيّة على غيره بسبب ما معه، و هذا كان حال النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم مع القوم، فكان يعتقد أنّه خير الناس لمكان ما جاء به من القرآن، فكيف يمكن إنكار أنّه لم يتحدّاهم بمعارضته ولم يقرعهم بالعجز عن الإتيان بمثله؟

و أيضا فكتاب اللّه‏ تعالى مشحون بآيات التحدّي، و هي مسموعة الآن و التحدّي قائم على وجه الدهر، و في الفصحاء كثرة في هذه الأزمان، فيجب أن يأتوا بمثله. و متى قالوا: أنّ الفصاحة تناقصت الآن كالشعر، قلنا: إن أمكن أن يقال ذلك في الشعر فلايمكن في الفصاحة، ففي خطباء هذه الأزمنة من لايداني كلامه كلام أفصح فصيح في ذلك الزمان. فهذا واصل‏بن عطاء ربّما تفي خطبة من خطبه بكثير من كلام فصحاء أُولئك العرب. و هذا أبوعثمان عمروبن عبيد، ففصل من كلامه ربّما يزيد على كلام أبينهم كلاما و أجزلهم لفظا و أفصحهم لسانا، فكيف يصحّ ما ذكرتموه؟

و أمّا ترك العرب معارضة القرآن، وعدولهم عنه الى المقاتلة، فظاهر أيضاً، فإنّهم حين أحسّوا من أنفسهم العجز عن الإتيان بمثل القرآن، تركوه الى المقاتلة، و ذلك يؤذن بعجزهم عن ذلك، و إلاّ فالعاقل إذا أمكنه دفع خصومه بأيسر الأمرين لايعدل عنه الى أصعبهما.

فإن قيل: و من أين أنّهم تركوا المعارضة ولم يعارضوه البتة؟ قيل له: إنّهم لو عارضوه لكان يجب أن ينقل إلينا معارضتهم، فإنّه لايجوز في حادثتين عظيمتين تحدثان معا، و كان الداعي الى نقل احداهما كالداعي الى نقل الأُخرى، أن تخصّ احداهما بالنقل، بل الواجب أن تنقلا جميعا أو لاتنقلا، فأمّا أن تنقل احداهما دون الأُخرى فلا.

ولا يمكن إنكار ماقلناه من أنّ الداعي الى نقل أحد الحادثين كالداعي الى نقل الآخر، بل لوقيل: أنّ الداعي الى نقل المعارضة أقوى لكان أولى، إذ المعارضة ممّا ينقلها المخالف و الموافق، المخالف ينقله ليرى الناس أنّ فيه ابطال حجّة محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم و الموافق ينقله ليتكلّم عليه و يبيّن أن ذلك ليس من المعارضة في شيء.

و يزيد ما ذكرنا وضوحا، أنّهم نقلوا من المعارضات ماهي ركيكة كمعارضة مسيلمة و غيره، فلولا أنّ دواعيهم كانت متوفّرة الى ذلك، كان لاينقل إلينا هذه المعارضة على ركّتها.

قال: و بعدُ، فإنّ المعارضة لو كانت لكانت هي الحجّة، و لكان القرآن هو الشبهة، و اللّه‏ تعالى لايجوز أن يسلّط علينا الشبهة على وجه لاسبيل لنا الى حلّها، و يمكن من إخفاء الحجّة على حدّ لايمكن الظفربها، بل كان يجب أن يقوي الدواعي الى نقل المعارضة أن لووقعت، فلمّا لم يفعل، دلّنا ذلك على أنّها لم تقع البتة، و أنّ ذلك تمنّ.

فإن قيل: إنّ ما ذكرتموه يبنى على أنّ العرب كانوا حريصين على ابطال أمره و توهين شأنه، و كان لم يمكنهم إلاّ بالمعارضة، و نحن لانسلّم ذلك.

قيل له: إنَّ ذلك معلوم بالاضطرار، فمعلوم أنّ النبيّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ادعى منزلة رفيعة عليهم، و هم كانوا في غاية الأنفة و الحميّة و الإباء، فكيف لم يحرصوا و الحال هذه على ابطال أمره و رفع حجّته أن لوقدروا!

فإن قيل: لعلّ القوم لم يعلموا طريقة المعارضة و الحجاج، و لو علموا ذلك، فلعلّهم لم‏يعلموا أنّ أمره يبطل بالمعارضة!

قيل له: أمّا الأوّل فلايصحّ، لأنّ المعارضة كانت عادتهم، و لهذا لم يأت شاعر بقصيدة فيما بينهم إلاّ و شاعر آخر يعارضه أو رام معارضته، و هذا معلوم من حال شعرائهم، نحو امرئ القيس و علقمة و اشباههما.

و أمّا الثاني، فباطل أيضا، لأنّ كل أحد يعلم أنّ خصمه إذا أتاه بأمر، وادعى لمكانه منزلة عظيمة عليه، و تحدّاه بمعارضته، فإنّه متى عارضه فقد أبطل دعواه، و هذا ممّا لايخفى على الصبيان في مباراتهم بأمثال الطفرة‏واشالة الحجر و نحوهما، فكيف على دهاة‏العرب!

فإن قيل: إنّهم أرادوا استئصاله بالمقاتلة. قلنا: لولا عجزهم عن المعارضة لما أرادوا استئصاله، لأنّهم لوقدروا على المعارضة كانت أسهل عليهم في استئصاله و إسقاطه من مكانه في العرب المكان الذي كان. ولايليق بالعاقل العدول عن الأمر السهل الى الأمر الصعب، و قد كانت المعارضة التي كانت عندهم ـ بزعمهم ـ بمنزلة الأكل و الشرب و القيام والقعود.

فإن قيل: لعلّهم إنّما قاموا بالمقاتلة دون المعارضة، لإبطال دعواه و حسم مادّته، إذ ربّما لاتنقطع مادّته بالمعارضة، و أنّ الخلاف يبقى، و يكون الناس بين رجلين: رجل له و رجل عليه، فتطول المنازعة و لاتنقطع.

قيل لهم: إنَّ هذا لو كان صارفا عن معارضة القرآن، فليكن صارفا عن سائر المعارضات الشعريّة التي كانت متداولة عندهم، إذ يكون الناس بين متعصّب لهذا و متعصّب لذاك، فليمسكوا عن المعارضة رأسا!

فإن قيل: لعلّهم أخطؤوا في العدول الى المحاربة، كما أخطؤوا في عبادة الأصنام عن عبادة اللّه‏ تعالى.

قيل له: إنّما أخطأتم أنتم في القياس، لأنّ ذلك أمر نظري يستدرك بطريقة الاستدلال و الاستنباط، ممّا يمكن فيه الخطأ. و ليس حال المعارضة كذلك، فإنّه ضروري لايتصوّر فيه الخطأ فإن قيل: إنّما تركوا المعارضة، لاشتمال القرآن على قصص كانوا يجهلون أمثالها.

قيل له: القرآن مشتمل على كثير من أنواع الكلام، فلو كانت المعارضة ممكنة لهم لأتوا بسائر أنواع الكلام وجعلوها معارضة للقرآن. على أنّه كان بامكانهم أن يصنعوا من عندهم قصصا و يكسونها من العبارات الجيّدة العظيمة الجزلة ما يقارب القرآن في الفصاحة و يدانيه فيلتبس الحال فيه.

و أيضا فإنّ القرآن قد تحدّى اليهود أيضا، و فيهم العلماء بالأخبار و العارفون بالأقاصيص كما أنّ العرب كانوا قد بعثوا الى الفرس يطلبون منهم القصص، نحو قصة رستم و اسفنديار، و جمعوا من ذلك شيئا كثيرا لكنّهم عجزوا في النهاية أن يجعلوه معارضة للقرآن.

فإن قيل: عجز العرب عن معارضته، لعلّه كان من جهة أن القرآن كان من كلام محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم و كان متقدّما في الفصاحة على جميع العرب، و لهذا قال: «أنا أفصح العرب».

قيل له: ليس الأمر على ما ظننت، فإنّه يستحيل فيمن نشأبين جماعة يتعاطون البلاغة ويتباهون بالفصاحة، أن يتعلّمها و يأخذها منهم، ثم يبلغ فيها حدّا لايوجد في كلام واحد منهم، بل في كلام جماعتهم، فصل يساوي كلامه فى الفصاحة أويدانية أو يقرب منه أو يشتبه الحال فيه!

فإن قيل: هب أنّ القرآن معجزة، و أنّ العرب علموا إعجازه، لعلمهم بإنّه قد تناهى في الفصاحة حدّا. و أنتم فبأيّ طريق علمتم معنا فيه، يا معشر العجم!

قلنا: إنّ العلم بذلك على وجهين: أحدهما علم تفصيل، و الآخر علم جملة، والعرب علموا ذلك على سبيل التفصيل، و نحن فقد علمناه على سبيل الجملة. و طريقته: هو أنّ محمدا صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم تحدّى العرب بمعارضته، فلم يمكنهم الإتيان بمثله فلولا كونه معجزا دالاًّ على نبوّته، و إلاّ لما كان ذلك كذلك.(1)

8. كلام الشيخ الطوسي:

و للشيخ أبي جعفر محمدبن الحسن الطوسي، شيخ الطائفة، (توفي سنة 460) تحقيق مستوفٍ بشأن إعجاز القرآن، أورده في كتابه (الاقتصاد) الذي وضعه على اسس علم الكلام و حقّق فيه اصول العقيدة على مباني الإسلام، نذكر منه ما ملخّصه:

قال: الاستدلال على صدق النبوّة بالقرآن يتمّ بعد بيان خمسة امور:

1 ـ إنّه ظهر بمكة وادعى النبوّة.

2 ـ إنّه تحدّى العرب بهذا القرآن.

3 ـ إنّه لم يعارضوه في وقت من الأوقات.

4 ـ و كان ذلك لعجزهم عن المعارضة.

5 ـ و إنّ هذا كان لتعذّر خرق العادة. فإذا ثبت ذلك أجمع دلّ على أنّ القرآن معجز، سواء كان لفصاحته البالغة أم لانّ اللّه‏ صرفهم عن ذلك. و أيّ الأمرين ثبت ثبتت نبوّته صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم .

أمّا ظهوره بمكة و ادعاؤه النبوّة فضروري. و كذا ظهور القرآن على يده و تحدّيه للعرب أن يأتوا بمثله، لأنّه صريح القرآن في مواضع عديدة.

و أمّا أنّه لم يعارض فلأنّه لو كان عُورض لوجب أن يُنقل، و لو نُقِلَ لَعُلِمَ، لأنّ الدواعي متوفّرة الى نقله، و لأنّ المعارض لو كان لكان هو الحجّة دون القرآن، و نقل الحجّة أولى من نقل الشبهة.

و الذي يدعو الى المعارضة ـ لو امكنت ـ و نَقْلِها هو طلب التخليص ممّا ألزموا به من ترك أديانهم و مفارقة عاداتهم و بطلان ما ألفوه من الرئاسات، و لذلك نقلوا كلام مسيلمة و الأسود العَنَسي و طليحة مع ركاكته و سخافته و بعده عن دخول الشبهة فيه.

و لايمكن دعوى الخوف من أنصاره و أتباعه، إذ لاموجب للخوف مع ضعف المسلمين بمكة و على فرضه فلايمنع نقله استسرارا، أو في سائر البلاد النائية كالروم و الحبشة و غيرهما، كما نقل هجاؤهم و سبّهم و كان أفحش و كان أدعى للخوف إن كان.

و إذا ثبت أنّهم لم يعارضوه، فإنّما لم يعارضوه للعجز، لأنّ كلّ فعل لم يقع مع توفّر الدواعي لفاعله و شدّة تداعيه عليه، قطعنا على أنّه لم يفعل للتعذّر. و قد توفّرت دواعي العرب الى معارضته فلم يفعلوها، و قد تكلّفوا المشاقّ من أجله، فقد بذلوا النفوس و الأموال و ركبوا الحروب العظام و دخلوا الفتن، طلبا لإبطال أمره، فلو كانت المعارضة ممكنة لهم لما أختاروا الصعب على السهل، لأنّ العاقل لايترك الطريق السهل، و يسلك الطريق الوعر الذي لايبلغ معه الغرض، إلاّ أن يختلّ عقله أو يسفه رأيه، و القوم لم يكونوا بهذه الصفة.

و ليس لأحد أن يقول: إنّهم اعتقدوا أنّ الحرب أنجح من المعارضة فلذلك عدلوا إليها. و ذلك أنّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم لم يدّع النبوّة فيهم بالغلبة و القهر، و إنّما ادعى معارضة مثل القرآن، و لم يكن احتمال حرب إذ ذاك. ثمّ مع قيام الحرب كانوا في الأغلب مغلوبين مقهورين، فكان يجب أن يقوموا بالمعارضة، فإن انجعت و الاّ عدلوا الى الحرب.

فإن قالوا: خافوا أن يلتبس الأمر فيظنّ قوم أنّه ليس مثله. قيل: قد حصل المطلوب، لأنّ الاختلاف حينذاك يوجب الشبهة، فكان أولى من الترك الذي يقوى معه شبهة العجز.

و ليس لهم أن يقولوا: لم تتوفر دواعيهم الى ذلك. لأنّهم تحمّلوا المشاق، و العاقل لايتكلّف ذلك إذا لم تتوفّر دواعيه الى إبطال دعوى خصمه.

فإن قالوا: إنّما لم يعارضوه، لأنّ في كلامهم ما هو مثله أو مقاربه. قلنا: هذا غير مسلّم. و على فرض التسليم فان التحدّي وقع لعجزهم فيما يأتي، فلوكان في كلامهم مثله فهو أبلغ لعجزهم في تحقّق التحدّي بالعجز عن الإتيان بمثله في المستقبل.

فإن قيل: و اطأه قوم من الفصحاء. قيل: هذا باطل، لأنّه كان ينبغي أن يعارضه من لم يواطئه، فإنّهم و إن كانوا أدون منهم في الفصاحة، كانوا يقدرون على مايقاربه ـ على الفرض ـ لأنّ التفاوت بين الفصحاء لاينتهي الى حدّ يخرق العادة. على أنّ الفصحاء المعروفين و البلغاء المشهورين في وقته، كلّهم كانوا منحرفين عنه، كالأعشى الكبير الذي في الطبقة الأُولى و من أشبه مات على كفره، و كعب‏بن زهير، أسلم في آخر الأمر، و هو في الطبقة الثانية، و كان من أعدى الناس له عليه‏السلام و لبيدبن ربيعة، و النابغة الجعدي من الطبقة الثالثة، أسلما بعد زمان طويل، و مع ذلك لم يحظيا في الإسلام بطائل. على أنّه لو كان لكان ينبغي أن يوافقوه على ذلك و يقولون له: الفصحاء المبرزون و اطؤوك و وافقوك، فإنّ الفصحاء في كلّ زمان لايخفون على أهل الصناعة.

فان قيل: لم لايكون النبيّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم و هو أفصح العرب، قد تأتّى منه القرآن، و تعذّر على غيره، أو تعمله في زمان طويل فلم يتمكّنوا من معارضته في زمان قصير؟

قيل: هذا لايتوجّه على من يقول بالصرفة، لأنّه يجعل صرف هممهم عن ذلك دليلاً على الإعجاز، ولو فرض تمكّنهم من المعارضة.

و أمّا من قال: إنّ جهة الإعجاز في الفصاحة و البيان، فإن كون النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم أفصح، لايمنع من أن يقارنوه أو يدانوه، كما هو المتعارف بينهم في المعارضة و مقارضة الشعر. على أنّ العرب لم يتفوّهوا بذلك و لم يقولوا له: أنت أفصحنا، فلذلك يتعذّر علينا ما يتأتّى منك. و أمّا احتمال التعمّل فباطل، لأنّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم عارضهم في مدة طويلة أكثر من عشرين عاما يتحدّ اهم طول المدّة.

قال: و إذ قد ثبت أنّ القرآن معجز، لم‏يضرّنا أن لانعلم من أيّ جهة كان إعجازه. غير أنّا نومئ الى جملة من الكلام فيه.

كان المرتضى عليبن الحسين الموسوى رحمه‏الله يختار أنّ جهة إعجازه الصّرفة و هي: أن اللّه‏ تعالى سلب العرب العلوم التي كانت تتأتى منهم بها الفصاحة التي هي مثل القرآن متى راموا المعارضة، و لولم يسلبهم ذلك لكان يتأتّى منهم. و بذلك قال النظّام و أبو إسحاق النصيبي أخيرا.

و قال قوم: جهة الإعجاز الفصاحة المفرطة التي خرقت العادة من غير اعتبار النظم، و منهم من اعتبر النظم و الأُسلوب مع الفصاحة، و هو الأقوى.

و قال قوم: هو معجز لاختصاصه باُسلوب مخصوص ليس في شيء من كلام العرب.

و قال قوم: تأليف القرآن و نظمه متسحيل من العباد، كاستحالة الجواهر و الألوان.

و قال قوم: كان معجزا لما فيه من العلم بالغائبات.

و قال آخرون: كان معجزا لارتفاع الخلاف و التناقض فيه، مع جريان العادة بأنّه لايخلو كلام طويل من ذلك.

و أقوى الأقوال عندي قول من قال: إنّما كان معجزا خارقا للعادة لاختصاصه بالفصاحة المفرطة في هذا النظم المخصوص، دون الفصاحة بانفرادها، و دون النظم بانفراده، و دون الصرفة.

و إن كنت نصرت في شرح الجمل(2) القول بالصرفة، على ما كان يذهب إليه المرتضى رحمه‏الله من حيث شرحت كتابه، فلم يحسن خلاف مذهبه.

قال: و الذي يدلّ على ما قلناه و اخترناه: أنّ التحدّي معروف بين العرب بعضهم بعضا، و يعتبرون في التحدّي معارضة الكلام بمثله في نظمه و وصفه، لأنّهم لايعارضون الخطب بالشعر و لاالشعر بالخطب، و الشعر لايعارضه أيضا أِلّا بما كان يوافقه في الوزن و الرويّ و القافية، فلايعارضون الطويل بالرجز، و لاالرجز بالكامل، و لاالسريع بالمتقارب، و إنّما يعارضون جميع أوصافه.

فإذا كان كذلك، فقد ثبت أنَّ القرآن جمع الفصاحة المفرطة و النظم الذي ليس في كلام العرب مثله، فإذا عجزوا عن معارضته، فيجب أن يكون الاعتباربهما.

فأمّا الذي يدلّ على اختصاصها بالفصاحة المفرطة، فهو أنّ كل عاقل عرف شيئا من الفصاحة يعلم ذلك، و إنّما في القرآن من الفصاحة مايزيد على كلّ فصيح، و كيف لايكون كذلك و قد وجدنا الطبقة الأوّلة قد شهدوا بذلك و طربوا له، كالوليدبن المغيرة و الأعشى الكبير و كعب‏بن زهير ولبيدبن ربيعة و النابغة الجعدي، و دخل كثير منهم في الإسلام ككعب و النابغة ولبيد، وهمّ الأعشى بالدخول في الإسلام فمنعه من ذلك أبوجهل و فزّعه، و قال: إنّه يحرّم عليك الأطيبين الزنا و الخمر. فقال له: أمّا الزنا فلاحاجة لي فيه، لأنّي كبرت، و أمّا الخمر فلا صبرلي عنه، وانظر فأتته المنيّة واخترم دون الإسلام.

والوليدبن المغيرة تحيّر حين سمعه، فقال: سمعت الشعر و ليس بشعر، والرجز و ليس برجز، والخطب وليس بخطب، وليس له اختلاج الكهنة. فقالوا له: أنت شيخنا، فإذا قلت هذا ضعف قلوبنا، ففكّر و قال، قولوا: هو سحر، معاندةً و حسداً للنبىّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم فأنزل اللّه‏ تعالى هذه الآية «إنَّهُ فكَّرَ و قَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّر ـ الى قوله ـ إنْ هَذا الاَّ سِحْرٌ يُؤثَرُ»(3). فمن دفع فصاحة القرآن لم يكن في حيّز من‏يُكَلَّم!

و أمّا اختصاصه بالنظم فمعلوم ضرورة، لأنّه مدرك مسموع، و ليس في شيء من كلام العرب ما يشبه نظمه، من خطبة أو شعر على اختلاف أنواعه و صفاته. فاجتماع الأمرين منه لايمكن دفعهما...(4).

9. كلام‏القطب الراوندي:

وللمولى قطب الدين أبي الحسن سعيد بن هبة‏اللّه‏ الراوندي (توفي سنة 573) بحث مستوفًى عن إعجاز القرآن، أتى على جوانبه ببيان كافٍ شافٍ على أسلوب الكلام القديم، أورده فيالباب الثامن عشر من كتابه (الخرائج) الذي خصّصه بذكر المعجزات، و خصّ هذا الباب باُمّ المعجزات القرآن العظيم. و قد أورده العلّامة المجلسي بطوله في موسوعته الكبرى (بحارالأنوار ـ كتاب القرآن)(5) حيث الوفاء و الاستيفاء. و فيمايلى قبسات منه:

قال: اعلم أنّ كتاب‏اللّه‏ المجيد ليس مصدقا لنبيّ الرحمة خاتم النّبيين فقط، بل هو مصدّق لسائر الأنبياء و الأوصياء قبله، و سائر الأوصياء بعده، جملة و تفصيلاً. و ليس جملة الكتاب معجزة واحدة، بل هي معجزات لاتحصى، لأنّ أقصر سورة فيه إنّما هي الكوثر(6)، و فيها إعجاز من جهتين: أحد هما: أنّه قد تضمّن خبرا عن الغيب قطعا قبل وقوعه، فوقع كما أخبر عنه من غير خلف فيه، و هو قوله: «إنَّ شَانِئَكَ هُوَالأبْتَرُ»(7)لما قال قائلهم: أنّ محمدا رجل صنبور(8) فإذا مات انقطع ذكره، و لاخلف له يبقى به ذكره، فعكس ذلك على قائله، و كان كذلك.

والثاني من طريق نظمه، لأنّه على قلّة عدد حروفه، و قصر آيه، يجمع نظما بديعا، و أمرا عجيبا: و بشارة للرسول، و تعبّدا للعبادات، بأقرب لفظ و أوجز بيان.

ثم أن السور الطوال متضمّنه للإعجاز من وجوه كثيرة نظما و جزالة و خبرا عن الغيوب، فلذلك لا يجوز أن يقال: انّ القرآن معجز واحد و لا ألف معجز، و لا اضعافه، فلذلك خطّأنا قول من قال: أنّ للمصطفى صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ألف معجز أو ألفي معجز، بل يزيد ذلك عند الإحصاء على الأُلوف.

ثمّ الاستدلال في أنّ القرآن معجز، لا يتمّ إلاّ بعد بيان خمسة أشياء:

أحدها: ظهور محمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم و ادعاؤه أنّه مبعوث الى الخلق و رسول إليهم.

وثانيها: تحدّيه العرب بهذا القرآن الذي ظهر على يديه، وادعاؤه أنّ اللّه‏ أنزله عليه و خصّه به.

وثالثها: أنّ العرب مع طول المدّة لم يعارضوه.

ورابعها: أنّه لم يعارضوه للتعذّر و العجز.

وخامسها: أنّ هذا التعذّر خارق‏للعادة.

فإذا ثبت ذلك، فإمّا أن يكون القرآن نفسه، معجزا خارقا للعادة بفصاحته، و لذلك لم يعارضوه، أولأنّ اللّه‏ صرفهم عن معارضته و لولا الصرف لعارضوه، و أيّ الأمرين ثبت صحّت نبوّته صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم لأنّ اللّه‏ تعالى لايصدّق كاذبا، لا يخرق العادة لمبطل.

و أمّا ظهوره صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم بمكة و دعاؤه الى نفسه، فلا شبهة فيه، بل هو معلوم ضرورة لاينكره عاقل و ظهور هذا القرآن على يده أيضا معلوم ضرورة، و الشك في أحدهما كالشك في الآخر.

و أمّا الذي يدلّ على أنّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم تحدّى بالقرآن، فهو أنّ معنى قولنا أنّه تحدّى، أنّه كان يدّعي أنّ‏اللّه‏ تعالى خصّه بهذا القرآن و أنبأه به، و أنّ جبرئيل عليه‏السلام أتاه به، و ذلك معلوم ضرورة، لايمكن لأحد دفعه. و هذا غاية التحدّي،فيالمعنى.

و أمّا الكلام في أنّه لم يعارض، فلأنّه لو عورض لوجب أن ينقل، و لو نقل لعُلِم، كما علم نفس القرآن. فلما لم يعلم، دلّ على أنّه لم‏يكن.

و إنّما قلنا: أنّ المعارضة لو كانت لوجب نقلها، لأنّ الدواعي متوفّرة على نقلها، و لأنّها ـ حينذاك ـ تكون الحجّة و القرآن شبهة، لو كانت، و نقل الحجّة أولى من نقل الشبهة.

و أمّا الذي نعلم به أنّ جهة انتفاء المعارضة التعذّر لاغير، فهو أنّ كلّ فعل ارتفع عن فاعله مع توفّر دواعيه إليه، علم أنّه ارتفع للتعذّر. و لهذا قلنا أنّ هذه الجواهر و الأكوان ليست بمقدورنا. و خاصّة إذا علمنا أنّ الموانع المعقولة مرتفعة كلّها. فيجب أن نقطع على أنّ ذلك من جهة التعذّر لاغيره.

و إذا علمنا أنّ العرب تُحُدّوا بالقرآن فلم يعارضوة مع شدّة حاجتهم الى المعارضة، علمنا أنهم لم يعارضوه للتعذّر لاغير. و إذا ثبت كون القرآن معجزا و أنّ معارضته تعذّرت لكونه خارقا للعادة، ثبت بذلك نبوّته المطلوبة.

ثمّ إنّ القرآن معجز، لأنّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم تحدّى العرب بمثله، و هم النهاية في البلاغة، و توفّرت دواعيهم الى الإتيان بما تحدّاهم به، ولم يكن لهم صارف عنه ولا مانع منه، ولم يأتوا به. فعلمنا أنّهم عجزوا عن الإتيان بمثله.

و إنّما قلنا: أنّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم تحدّاهم به؛ لأنّ القرآن نفسه يتضمّن التحدّي كقوله تعالى: «فأتوا بِسورَةِ مِنْ مِثْلِه»، معلوم أنّ العرب في زمانه و بعده كانوا يتبارون بالبلاغة و يفخرون بالفصاحة، و كانت لهم مجامع يعرضون فيها شعرهم، و حضر زمانه من يعدّ في الطبقة الأُولى كالاعشى و لبيد و طرفة، و زمانه أوسط الأزمنة في استعمال المستأنس من كلام العرب، دون الغريب الوحشي الثقيل على اللسان، فصحّ أنّهم كانوا الغاية في الفصاحة.

و إنّما قلنا: اشتدّت دواعيهم الى الإتيان بمثله، فإنّه تحدّاهم ثمّ قرّعهم بالعجز عنه بقوله تعالى: «قُلْ لَئِن اجتمَعَت الإنس و الجنّ على أَنْ يأتوا بِمثلِ هذا القرآن لايأتون بمثلِهِ ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً» و قوله تعالى: «فإنْ لمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلوا».

فإن قيل: لعلّ صارفهم هو قلّة احتفالهم به أو بالقرآن، لانحطاطه في البلاغة! قلنا لاشبهة أنّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم كان من أوسطهم في النسب، و في الخصال المحمودة حتى سمّوه الأمين الصدوق، و كيف لايحتفلون به وهم كانوا يستعظمون القرآن حتى شهروه بالسحر و منعوا الناس من استماعه، لئلّا يأخذ بمجامع قلوب السامعين، فكيف يرغبون عن معارضته!(9)

و أمّا وجه إعجاز القرآن فقد اختلف المتكلّمون في جهة إعجازه على سبعة أوجه فأوّل ما ذكر من تلك الوجوه: ما اختاره المرتضى، و هو أنّ وجه الإعجاز في القرآن أنّ اللّه‏ صرف العرب عن معارضته، وسلبهم العلم بكيفيّة نظمه و فصاحته، و قد كانوا لولا هذا الصرف قادرين على المعارضة متمكّنين منها.

والثاني: ما ذهب إليه الشيخ المفيد(10) و هو أنّه إنّما كان معجزاً من حيث اختصّ برتبة في الفصاحة خارقة للعادة. قال: لأنّ مراتب الفصاحة إنّما تتفاوت بحسب العلوم التي يفعلها اللّه‏ في العباد، فلايمتنع أن يجري اللّه‏ العادة بقدر من العلوم فيقع التمكين بها من مراتب في الفصاحة محصورة متناهية، و يكون مازاد على ذلك زيادة غيرمعتادة، معجزاً خارقاً للعادة.

و الثالث: و هو ما قال قوم: إنّ إعجازه من حيث كانت معانيه صحيحة مستمرّة على النظر و موافقة للعقل.

و الرابع: أنّ جماعة جعلوه معجزاً من حيث زال عنه الإختلال و التناقض على وجه لم تجر العادة بمثله.

و الخامس: أنّه يتضمّن الاخبار عن الغيوب.

و السادس: إختصاصه بنظم مخصوص مخالف للمعهود.

و السابع: ما ذكره أكثرالمعتزلة: أنّ تأليف القرآن و نظمه معجزان، لا لأنّه تعالى أعجز عنهما بمنع خلقه في العباد، و قد كان يجوز أن يرتفع فيقدر عليه، لكن محال وقوعه منهم كاستحالة إحداث الأجسام و الألوان، و إبراء الأكمه و الأبرص من غير دواء.

قال: و لو قلنا: إنّ هذا الوجوه السبعة كلّها وجوه إعجاز القرآن على وجه دون وجه، لكان حسنا.

ثمّ أخذ في بيان الاستدلال على هذه الأوجه، حسبما ذكره القائلون بها:

قال: واستدل المرتضى رحمه‏الله على أنّه تعالى صرفهم عن المعارضة، و أنّ العدول عنها كان لهذا، لالأنّ فصاحة القرآن خرقت عادتهم، بأنّ الفضل بين الشيئين إذا كثر، لم تقف المعرفة بحالها على ذوي القرائح الذكيّة، بل يغني ظهور أمريهما عن الرؤية بينهما، و هذا كما لايحتاج الى الفرق بين الخزّ و الصوف الى أحذق البزّازين، و إنّما يحتاج الى التأمّل، الشديد التقارب الذي يشكل مثله.

و نحن نعلم إنّا على مبلغ علمنا بالفصاحة، نفرّق بين شعر امرى القيس و شعر غيره من المحدثين، ولانحتاج في هذا الفرق الى الرجوع الى من هو الغاية في علم الفصاحة، بل نستغني معه عن الفكرة، و ليس بين الفاضل و المفضول من اشعار هؤلاء و كلام هؤلاء قدر ما بين الممكن و المعجز، و المعتاد و الخارج عن العادة. و إذا استقر هذا، و كان الفرق بين سورالمفصل و بين أفصح قصائد العرب غير ظاهر لنا الظّهور الذي ذكرناه، و لعلّه إن كان ثمّ فرق فهو ممّا يقف عليه غيرنا ولا يبلغه علمنا، فقد دلّ على أنّ القوم صرفوا عن المعارضة و أخذوا عن طريقها.

قال: والأشبه بالحقّ و الأقرب الى الحجّة ـ بعد ذلك القول ـ قول من جعل وجه إعجاز القرآن خروجه عن العادة في الفصاحة، فيكون مازاد على المعتاد معجزاً، كما أنّه لمّا أجرى اللّه‏ العادة في القدرة التي يمكن بها من ضروب افعال الجوارح، كالطفو بالبحر و حمل الجبل، فإنها إذا زادت على ماتأتي العادة، كانت لاحقة بالمعجزات، كذلك القول هاهنا.

ثمّ إِن هؤلاء الذين قالوا: إِن جهة إعجاز القرآن الفصاحة المفرطة التي خرقت العادة صاروا صنفين:

منهم من اقتصر على ذلك ولم يعتبر النظم، و منهم من اعتبر مع الفصاحة النظم المخصوص، و قال الفريقان: إذا ثبت أنّه خارق للعادة بفصاحته، دل على نبوّته...

و أمّا القول الثالث و الرابع فكلاهما مأخوذ من قوله تعالى: «وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِاللّه‏ لَوَجَدُوا فِيهِ اختلافاً كَثِيراً»(11) فحمل الأوّلون ذلك، على المعنى، و الآخرون على اللفظ. و الآية مشتملة عليهما عامّة، و يجوز أن يكون كلا القولين معجزا على بعض الوجوه، لارتفاع التناقض فيه، والاختلاف فيه، على وجه مخالف للعادة.

و أمّا من جعل جهة إعجازه ماتضمّنه من الإخبار عن الغيوب، فذلك لاشك أنّه معجز، لكن ليس هوالذي قصد به التحدّي، لأنّ كثيراً من القرآن خال من الإخبار بالغيب، و التحدّي وقع بسورة غير معيّنة.

و أمّا الذين قالوا: إنّما كان معجزاً لاختصاصه باسلوب مخصوص، ليس بمعهود، فإنّ النظم دون الفصاحة، لايجوز أن يكون جهة إعجاز القرآن على الإطلاق، لأنّ ذلك لايقع فيه التفاضل، و في ذلك كفاية، لأنّ السابق الى ذلك لابدّ أن يقع فيه مشاركة لمجرى العادة كما تبيّن.

و أمّا من قال: إنّ القرآن نظمه و تأليفه مستحيلان من العباد، كخلق الجواهر و الألوان فقولهم به على الإطلاق باطل، لأنّ الحروف كلّها من مقدورنا، و الكلام كلّه يتركب من الحروف التي يقدر عليها كلّ متكلّم، و امّا التأليف فإطلاقه مجاز في القرآن، لأنّ حقيقته في الأجسام، و إنّما يراد من القرآن حدوث بعضه في أثر بعض، فإن أُريد ذلك فهو إنّما يتعذّر لفقد العلم بالفصاحة و كيفيّة إيقاع الحروف، لا أنّ ذلك مستحيل، كما أنّ الشعر يتعذّر على العجم لعدم علمه بذلك، لا أنّه مستحيل منه من حيث القدرة، و متى أُريد استحالة ذلك بما يرجع الى فقد العلم فذلك خطأ في العبارة دون المعنى.(12)

و أمّا القائلون بأنّ إعجازه الفصاحة، قالوا: إنّ اللّه‏ جعل معجزة كلّ نبيّ من جنس ما يتعاطاه قومه، فقد كان الغالب على قوم موسى عليه‏السلام السحر، فكانت معجزته العصا واليد البيضاء، فعرفوا، أنّه فوق متعاطاهم فآمنوا. و كذلك كان الغالب في زمن عيسى عليه‏السلام الطبّ، فأظهراللّه‏ على يده إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص، ممّا لايناله الطبّ فآمنوا به. فهكذا لمّا كان زمن محمد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم الغالب على قومه الفصاحة و البلاغة حتى كانوا لايتفاخرون بشيء كتفاخرهم بها، جعل‏اللّه‏ معجزته من ذلك القبيل، فأظهر على يديه هذا القرآن، و علم الفصحاء منهم أنّ ذلك ليس من كلام البشر، فآمنوا به. و لهذا جاء المخصوصون فآمنوا برسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم كالاعشى مدح رسول‏اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم بقصيدة و أراد أن يؤمن، فدافعه قريش وجعلوا يحدّثونه بأسوأ مايقدرون عليه، فلم يزالوا بالسعي حتى صدّوه. و جاء لبيد و آمن برسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم و ترك قيل الشعر تعظيماً لأمر القرآن...

قالوا: و من خالفنا في هذا الباب يقول: إنّ المعجز قد يلتبس بالحيلة لكنّه إذا لم يكن طريق الى الفصل بينهما، و هاهنا وجوه من الفصل، منها:

إنّ المعجز إنّما يظهر عند من يكون من أهل هذا الباب و يروّج عليهم، و الحيلة إنّما تظهر عند العوام و تروّج على الجهّال.

فإن قيل: النبيّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم مبعوث الى العرب و العجم، فإذا كان إعجاز القرآن من حيث الفصاحة، فإنّ العجم لايمكنهم ذلك.

قلنا: الفصاحة ليست بمقصورة على لغة دون اخرى. على أنّه يمكنهم أن يعرفوا ذلك على سبيل الجملة، إذا علموا أنّه تحدّى فصحاء العرب فأعجزهم، و في ذلك كفاية.

و أمّا القائلون بأنّ إعجازه بالفصاحة و النظم معا، قالوا: إنّا رأينا النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم أرسل التحدّي إرسالاً و أطلقه إطلاقاً، و المتفاهم من الإطلاق هو التحدّي بهما معاً، لأنّ العادة عند العرب جارية في التحدّي باعتبار طريقة النظم مع الفصاحة، كما في تحدّي شعراء العرب و خطبائهم في الشعر و الخطابة، ليس في الفصاحة فقط و إنّما هي مع نظمه العروضي واُسلوبه الإيقاعي أيضا. هذا هوالمتبادر الى الذهن حينذاك من التحدّي.

على أنّ التحدّي لوكان بمجرد الفصاحة لوقعت المعارضة ببعض فصيح شعرهم أو بليغ كلامهم، إذ قد يخفى الفرق بين قصار السور و فصيح كلام العرب. فكان يجب أن يعارضوه، فإذ لم يفعلوا، فلأنّهم فهموا من التحدّي مجموع الفصاحة و طريقة النظم معا، إذ لم يجتمعا لهم، واختصاص القرآن بنظم يخالف سائر ضروب الكلام المعروفة عندالعرب.

وقد قال المرتضى: إنّ التحدّي وقع بالإتيان بمثله في فصاحته و طريقته في النظم، ولم يكن بأحذ الأمرين، فلو وقعت المعارضة بشعر منظوم أو برجز منظوم أو بمنثور من الكلام ليس له طريقة القرآن في النظم، لم تكن واقعة موقعها، والصرفة على هذا إنّما كانت بأن يسلب اللّه‏ كل من رام المعارضة، للعلوم التي يتأتى معها مثل فصاحة القرآن و طريقته في النظم. و لهذا لايصاب في كلام العرب مايقارب القرآن في فصاحته و نظمه.

و أمّا القائلون بأنّ إعجاز القرآن بالنظم المخصوص، قالوا: وجدنا الكلام منظوما و منثورا و المنظوم هوالشعر، و أكثر الناس لايقدرون عليه، فجعل اللّه‏ معجز نبيّه النمط الذي يقدر عليه كلّ أحد و لا يتعذّر نوعه في كلّهم، و هو الذي ليس بمنظوم، فيلزم حجّته الجميع.

قال: والذي يجب أن يعلم ـ في العلم بإعجاز القرآن ـ هو أن يعلم مباني الكلام و أسباب الفصاحة في ألفاظها، و كيفيّة ترتيبها، و تباين ألفاظها، و كيفية الفرق بين الفصيح و الأفصح، و البليغ و الأبلغ، و تعرف مقادير النظم والأوزان، و ما به يبين المنظوم من المنثور و فواصل الكلام، و مقاطعه، و مبادئه، و انواع مؤلّفه و منظومه.

ثمّ ينظر فيما أتى به حتى يعلم أنّه من أيّ نوع هو، و كيف فضّل على ما فضّل عليه من أنواع الكلام، حتى يعلم أنّه من نظم مباين لسائر المنظوم، و نمط خارج من جملة ما كانوا اعتادوه فيما بينهم، من انواع الخطب و الرسائل و الشعر و المنظوم و المنثور و الرجز و المخمّس و المزدوج و العريض و القصير.

فإذا تأمّلت ذلك و تدبّرت مقاطعه و مفاتحه، و سهولة ألفاظه، و استجماع معانيه، و أنّ كلّ واحد منها لوغيّرت لم يمكن أن يؤتى بدلها بلفظة هي أوفق من تلك اللفظة، و أدلّ على المعنى منها، و أجمع للفوائد و الزوائد منها.

و إذا كان كذلك، فعند تامّل جميع ذلك، يتحقّق ما فيه من النظم اللائق، و المعاني الصحيحة التي لا يكاد يوجد مثلها على نظم تلك العبارة، و إن اجتهد البليغ و الخطيب.

قال: و في خواص نظم القرآن وجوه:

أوّلها: خروج نظمه عن صورة جميع أسباب المنظومات، ولولا نزول القرآن لم يقع في خلد فصيح سواها، و كذلك قال عتبة ابن ربيعة لمّا اختاره قريش للمصير الى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، قرأ عليه حم السجدة، فلمّا انصرف قال: سمعت انواع الكلام من العرب، فما شبّهته بشي منها، إنّه ورد عليّ ماراعني. و نحوه ما حكى اللّه‏عن الجنّ. فلمّا عَدُمَ وجود شبيه القرآن من انواع المنظوم، انقطعت اطماعهم عن معارضته.

و الخاصّة الثانية: في الروعة التي له في قلوب السامعين، فمن كان مؤمناً يجد شوقاً إليه و انجذابا نحوه، و حكي أنّ نصرانيّاً مرّ برجل يقرأ القرآن فبكى فقيل له: ما أبكاك؟ قال: النظم.

و الثالثة: أنّه لم يزل غضّاً طريّاً لايخلق ولايملّ تاليه. و الكتب المتقدّمة عارية عن رتبة النظم، و أهل الكتاب لايدّعون ذلك إليها.

و الرابعة: أنّه في صورة كلام هو خطاب لرسوله تارة و لخلقة اخرى.

و الخامسة: مايوجد من جمعه بين الأضداد، فإنّ له صفتي الجزالة و العذوبة و هما كالمتضادّين.

و السادسة: ما وقع في أجزائه من امتزاج بعض انواع الكلام ببعض، و عادة ناطقي البشر تقسيم معاني الكلام.

و السابعة: أنّ كلّ فضيلة من تأسيس اللغة في اللسان العربي هي موجودة في القرآن.

و الثامنة: عدم وجود التفاضل بين بعض أجزائه من السور، كما في التوراة كلمات عشر تشتمل على الوصايا، يستحلفون بها لجلالة قدرها. وكذا في الإنجيل أربع صحف، و محاميد و مسابيح يقرأونها في صلواتهم.

و التاسعة: وجود مايحتاج العباد الى علمه من اصول دينهم و فروعه، من التنبيه على طرق العقليّات، و إقامة الحجج على الملاحدة و البراهمة و الثنويّة، و المنكرة للبعث القائلين بالطبائع بأوجز كلام و أبلغه. ففيه من أنواع الإعراب و العربيّة، و المحكم و المتشابه، و الحقيقة و المجاز، و الناسخ و المنسوخ. و هو مهيمن على جميع الكتب المتقدّمة.

و العاشرة: وجود قوام النظم في أجزائه كلّها، حتى لايظهر في شيء من ذلك تناقض ولااختلاف، و له خواصّ سواها كثيرة.(13)

قال: واعلم إِنّه قد تضمّن القرآن ـ و الأحاديث الصحيحة ـ الإخبار عن الغيوب الماضية و المستقبلة، فأمّا الماضية فكالإخبار عن أقاصيص الأوّلين و الآخرين. من غير تعلّم من الكتب المتقدّمة، على ما ذكرنا.

و أمّا المستقبلة فكالإخبار عمّا يكون من الكائنات، و كان كما أخبر عنها على الوجه الذي أخبر عنها على التفصيل، من غير تعلّق بما يستعان به على ذلك، من تلقين ملقّن و إرشاد مرشد، أو حكم بتقويم أو رجوع الى حساب. كالكسوف و الخسوف، و من غير اعتماد على اصطرلاب و طالع، و ذلك قوله تعالى: «لِيُظْهِرهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ»(14).

و كقوله: «مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُون * فِي بضْعِ سِنينَ»(15).

و كقوله: «سَيُهزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبر»(16).

و كقوله: «لاَ يَأْتُونَ بِمثْلِهِ وَ لَو كان بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً»(17).

و كقوله: «فَإن لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعلُوا»(18).

و كقوله: «وَعَدَكُمْ اللّه‏ُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأَخُذُونها ـ الى قوله ـ قَدْ أَحَاطَ اللّه‏ُ بهَا»(19).

و نحو ذلك من الآيات، و كان كلّها كما قال.

و وجه آخر، و هو ما في القرآن ـ و الأحاديث ـ من الإخبار عن الضمائر:

كقوله: «إذْ هَمَّت طَائفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا»(20)، من غير أن ظهر منهم قول أو فعل بخلاف ذلك.

و كقوله: «و إذا جَاءُوك حَيَّوكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللّه‏ُ وَ يَقُولُونَ فِى أَنْفُسِهِمْ»(21).

و كقوله: «و اذ يعدكم اللّه‏ إحْدَى الطَّائفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تكونُ لَكُمْ»(22) يخبرهم بما يريدون في أنفسهم و ما يهمّون به.

و كعرضه تمنّي الموت على اليهود في قوله: «فتَمَنَّوا المَوْتَ إن كُنْتُم صادقين ـ الى قوله ـ وَلايَتَمَنَّونَهُ أَبَدا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهم»(23) فعرفوا صدقه، فلم يجسر أحدهم أن يتمنّى الموت، لانّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم قال لهم: إن تمنّيتم الموت متّم. فدلّ جميع ذلك على صدقه بإخباره عن الضمائر(24).

1. شرح الأُصول الخمسة، للقاضي عبدالجبار: ص586ـ594.

2. في كتابه (تمهيد الأُصول) شرحاً على القسم النظريّ من جمل العلم و العمل، و قد طبع أخيراً (1362 ه ش) في جامعة طهران، وسننقل كلامه عند التعرض للقول بالصرفة.

3. المدّثر: 18 ـ 24.

4. الاقتصاد في أُصول الاعتقاد: ص 166 ـ 174.

5. بحارالأنوار: ج 89 ص 121 ـ 154 ط بيروت.

6. ستوافيك رسالة الزمخشري في إعجاز سورة الكوثر بحثاً مستوفٍ كلياً عن إعجاز القرآن أوّلاً، و عن خصوص هذه السورة المباركة ثانياً...

7. الكوثر: 3.

8. الصنبور ـ كعصفور ـ : النخلة المنفردة من النخيل، و التي دقّت من أسفلها و انجرد كَرَبُها و قلّ حملها، ثم كنّي عن الرجل الضعيف الذليل، بلا أهل و لاعقب و لا ناصر.

9. بحارالأنوار: ج 89 ص 121 ـ 125.

10. لعلّه في غير كتابه (أوائل المقالات) فقد ذهب فيه مذهب النظّام كما يأتي.

11. النساء: 82.

12. بحارالأنوار: ج 89 ص 127 ـ 130.

13. بحارالأنوار: ج 89 ص 131 ـ 139. و الخرائج و الجرائح متقطّعاً: ج 3 ص 971 ـ 1106.

14. التوبة: 33.

15. الروم: 3 ـ 4.

16. القمر: 45.

17. الإسراء: 88.

18. البقرة: 24.

19. الفتح: 20 ـ 21.

20. آل عمران: 122.

21. المجادلة: 8.

22. إنفال: 7.

23. الجمعة: 6 ـ 7.

24. الخرائج و الجرائح: ج 3 ص 1027 ـ 1029 و راجع مختصره: ص 267.

/ 1