اعجاز القرآنی (06) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

اعجاز القرآنی (06) - نسخه متنی

محمد هادی المعرفة

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

الاعجاز القرآنى(6)

آيت الله معرفت

كان البحث حول الوجه فى الاعجاز القرآنى و قد ذكر له خواص ثلاثة: الفصاحة فى الفاظه، البلاغة فى المعانى و جودة النظم و حسن السياق و توقف تمامه الكلام فى الخاصة الثالثة فى دفع اسئلة و قد مر السؤال الاول مع جوابه و اليكالسؤال الثانى و دفعه:

السؤال الثانى: لو كانت الفصاحة هى الوجه فى كون القرآن معجزا لَما كان فيه دلالة على صدق الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم و قد تقرّر كونه داّلا على صدقه، فيجب أن لايكون الوجه فى اعجازه هى الفصاحة، بل الصّرفة كما تقول أصحابها، أو وجْهٌ آخر غير الفصاحة، و انّما قلنا: انّه لو كان الوجه فى اعجازه الفصاحة لَمَا كان فيه دلالةٌ على الصدق، الدلالة على الصدق انّما تقع اذا كانت موجودةً من جهة اللّه‏ تعالى الاّ أنّه تعالى ليس فاعلاً للفصاحة من جهة أنّ الفصاحة المَرْجعُ بها الى خُلوص الكلام من التعقيد، و البلاغةُ ترجعُ الى مطابقة الكلام و حسن تأليفه، و هذه كلّها مقدورةٌ لنا، و لهذا بطل أن يكون الاعجازُ حاصلاً بها، فاذن لابدّ من أن يكون وجه الاعجاز متعلّقا بقدرة اللّه‏ تعالى، لانّه هو المتولّى لصدق أنبيائه، فكلُّ ما كان من المعجزات لايُقَدَّرُ كونه من جهته، فانّه لا يكون فيه دلالة على صدق مَنْ ظهر عليه، و انما قلنا: انّ فيه دلالةً على الصدق، و هذا ظاهر لا يمكن انكاره، فانّ القرآن منْ أبْهَر على صدق صاحب الشريعة (صلوات اللّه‏ عليه)، فلو كان وجهُ اعجازهِ هو الفصاحة لم يكن فيه دلالةُ على الصدق، لانّ الفصاحة و البلاغة المرجعُ بهما الى انتظام الكلام على وجه مخصوص لا مزيد عليه، و ما من وجهٍ من وجوه النظم الا و هو مقدورٌ للعباد بكلّ حال، و هذا يُبطل كونَه دالاًّ على صدقه، و قد تقرّر كونه دليلاً على الصدق، فبطل كون اعجازه هو الفصاحة.

وجوابه أنّا قد قرّرنا أنّ الوجه فى اعجازه هو الفصاحة و البلاغة مع النظم بما لا مَطْمَع فى اعادتِه.

قولُه لوكانت الفصاحة وجها فى اعجازه لما كان له دلالة على الصدق، قلنا: هذا فاسدٌ فانّ النظْم و ان كان مقدورا لنا، لكنّه قد يقع على وجهٍ لا يمكنُ كونه مقدورا لنا، و لهذا فانّ العْلمَ مقدورٌ لنا، و الفعلُ من جنس العلوم، و قد استحال كونها مقدورة للعباد، لِمَا كانت واقعة على وجه يستحيل وقوعه فى حق العباد، فانَّ جنس الحركة مقدورٌ لنا، و حركةٌ المرتعش و ان كانت من جنس الحركة، لكنّها لمّا وقعتْ على وجهٍ يتعذّرُ على العباد جاز الاستدالالُ بها على اللّه‏ تعالى، فهكذا، حال البلاغة، فانّها و ان كانت من قبيل النظم و التأليف. و هو مقدور لنا، لكنّه لمّا وقع على وجهٍ يتعذّرُ تحصيلُه من جهتنا، كان دليلاً على الصدق من هذه الجهة، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن القرآن دالٌ على صدق مَنْ ظهر على يده، و ما ذالك الاّ لكونه مختصا بالوقوع من جهة اللّه‏ تعالى مع كون جنسه من مقدور العباد، و فيه دلالة على صدْقه كما بقوله فى سائر المعجزات الدالة على صدقه، و ان لم يكن لها تعلقٌ بمقدور العباد، كاطعام الخلق الكثير، من الطعام اليسير، ونُبُوع الماء مِنْ أصابعه، الى غير ذالك من المعجزات الباهرة‏له(عليه الصلاة والسلام).

السؤال الثالث: هو أنّ الصحابة (رضى اللّه‏ عنهم) لما اهتمّوا بجَمْع القرآن بعد الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم و كانوا يطلبون الآية، و الآيتين، ممّن كان يحفظها منهم، فان كان الرواى مشهورَ العدالة قَبلُوها منه، و انْ كان غير مشهور العدالة لم يقبلوها منه، و طلبوا على ذلك بَيِّنَةً فلو كان الوجه فى اعجازه هو الفصاحة كما زعمتم، لكان متميّزا عن سائر الكلام و كان لا وجه للسؤال، لِمَا يظهر من التمييز، و فى هذا دلالة على أنّ وجه اعجازه هو الصرفة، أو غيرها، دون الفصاحة.

وجوابه من وجهين:

أمّا أوّلا: فلانّا لا نسلّم أنّ الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم تَوَفَّاهُ اللّه‏ تعالى ولم يكن القرآن مجموعا، بل مامات عليه‏السلام الا بعد أن جَمَعه جبْريلُ، و هذه الرواية موضوعة مختلقةٌ لا نسلّمها، و لهذا قال لما نَزَل صَدْرُ سورة بَرَاءَة: (أثبتوها فى آخِرِ سُورَة الانفال) فما قالوه منكَرٌ ضعيفٌ.

و أمّا ثانيا: فلانّ الاختلافَ انّما وقع فى كتب القرآن و جمْعه فى الدّفاتر، فأمّا جَمْعُه فمها لم يقع فيه تردّد أنّه كان فى أيام الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، و انّما كان مجموعا فى صدُور الرجال، فأمّا كَتْبه فلعلّه انّما كان بعد الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، و لهذا فانّ فانّ المصاحف قد كانت كثُرت بعد الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، فلمّا وقع فيها الخلافُ، فَعَلَ (عُثمانُ) فى خلافته ما فَعَلَ مِنْ مَحوِهَا كلّها، و كَتْبِه مصحَفَه الذى كَتَبه.

السؤال الرابع: هو أنّ ابن مسعود(رضى‏اللّه‏ عنه) اشتبه عليه الفاتحة والمعوّذتان، هل هنّ من القرآن اولا، فلو كان الوجه فى الاعجاز هو الفصاحة لكان لايلتبس عليه شىءٌ من ذلك.

و جوابه من وجيهن:

أمّا أوّلا: فلاءن ابن مسعود لم يُنكر كونها نزلت من اللوح المحفوظ، و انّ جبريل أتى بها من السماء، فهنّ قرآنٌ بهذه المعانى، و انّما أنكَر كتبها فى المصاحف و قال هنّ وارداتٌ على جهة التبرّك و الاستعاذة، فلهذا كن قرآنا بما ذكرناه من المعانى، و لم يكنَّ قرآنا لورودها لهذا المقصد الخاصّ، و هذا فى التحقيق يؤولُ الى العبادة.

والمقاصد المعنويه متفقٌ عليها كماترى.

و أمّا ثانيا: فلانّ هذا رَأىٌ لا بن مسعود فلان يكون مقبولا، و الحقُّ فى المسألة واحدٌ، فخطؤُه فيها كخطأ غيره ممّن خالَفَ دلالةً قاطعةً، ولنقتصر على هذا القدر من الاءسئلة ففيه كفاية لغرضنا، و استقصاءُ الكلام على مثل هذا القاعدة، انما يليق بالمباحث الكلاميّة، و المقاصد الدينيّة، و انْ نَفَّس اللّه‏ لنا فى المُهْلَة، و تراخَتْ مُدَّةُ الامهال، ألَّفْنا كتابا نذكر فيه كيفيَّة دلالة المعجز على صدق مَنْ ظهر على يده، و نُجيبُ فيه عن شكوك المخالفين بمعونة اللّه‏ تعالى، فالنيّة صادقة فى ذلك ان شاءاللّه‏ تعالى(1).

* * *

13 ـ كلام السيد شبّر:

ولخاتمة المحدّثين السيد عبداللّه‏ شبّر (توفى سنة 1242) كلام مستوفٍ بوجوه اعجاز القرآن حسبما فصّله المحقّقون من علمائنا الاماميّه و ورد فى المأثور عن الائمّة المعصومين عليهم السلام أورده فى كتابه (حق اليقين فى معرفة اُصول الدين). قال: قد وقع الخلاف بين العلماء فى أنّ وجه اعجاز القرآن هل هو لأجل كونه فى أعلى مراتب الفصاحة و منتهى مرتبة البلاغة، بحيث لايمكن الوصول اليه و لا يتصور الاتيان بمثله. أو من جهة صرف قلوب الخلائق عن الاتيان بمثله و ان كان ممكنا. و با لثانى قال السيد المرتضى رحمه‏الله والاكثر على الاوّل. والحقّ أنّ اعجـاز القرآن لوجوه عديدة نذكر جملة منها:

1 ـ أنّه مع كونه مركّبا من الحروف الهجائية المفردة التى يقدر على تأليفها كلُّ أحد، يعجز الخلق عن تركيب مثله بهذا التركيب العجيب و النمط الغريب.

2 ـ من حيث متيازه عن غيره مع اتحاد اللغة، فانّ كلّ كلام و ان كان فى منتهى الفصاحة و غاية البلاغة اذا زيّن و رصّع بجواهر الآيات القرآنية وَجَدْتَ له امتيازا تاما و فرقا واضحا يشعربه كلّ ذى شعور.

3 ـ من جهة غرابة الاُسلوب واعجوبة النظم. فانّ من تتبّع كتب الفصحاء و أشعار البلغاء و كلمات الحكماء، لايجدها شبيهة بهذا النظم العجيب و الاسلوب الغريب و الملاحة و الفصاحة ويكفيك نسبة الكفار له الى السحر لاخذه بمجامع القلوب.

4 ـ من حيث عدم الاختلاف فيه، ولو كان من عند غير اللّه‏ لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، فلاتجد فيه مع هذا الطول كلمة خالية من الفصاحة خارجة عن نظمه و اسلوبه. و أفصح الفصحاء اذا تكلّم بكلام طويل تجد فى كلامه أو أشعاره غاية الاختلاف فى الجودة و الرداءة. و أيضا لا اختلاف فى معانيه و لا تناقض فى مبانيه. ولو كان منتحلا و مفترى ـ كما زعمه الكفار ـ لكثر فيه التناقض و التضادّ، فـانّ الكاذب تخونـه ذاكرتـه و يبدو عُواره.

5 - من حيث اشتماله عن كمال معرفة اللّه‏ و ذاته و صفاته و اسمائه ممّا تحيّر فيه عقول الحكماء و المتكلّمين.

6 - من حيث اشتماله على الآداب الكريمة و الشرائع القويمة و الطريقة المستقيمة، فى نظم البلاد و سياسية العباد فى المعاش و المعاد.

7 - من حيث اشتماله على اخباره بخفايا قصص الماضين ممّا لم يعلمه الخواصّ فيكف بالعوامّ. كما فى الحديث عن أصحاب الكهف، و ما دار بين موسى و الخضر، و قصّة ذى القرنين و قصص ابراهيم و لوط و يوسف (عليهم السلام).

8 - من حيث اشتماله على الاخبار عن الضمائر و ابداء ما فى الصدور، ممّا لا يطلع عليه الاّ علاّم الغيوب و هى كثيرة فى القرآن بشأن الكفار و المنافقين.

9 - من حيث اشتماله على اخبار بمستقبل الايام فى مواطن كثيرة:

10 - من حيث أنّه لا يخلق على طول الزمان ولا يبلى على كثرة التكرار. كلّما تلوته أو تلى عليك وجدته غضّا طريّا ممّا لا يوجد فى غيره...(2) .

* * *

14 - العلاّمة هبة الدين:

و سار على منها جه و زاد عليه علاّمة بغداد السيّد هبة الدين الشهرستانى (توفى سنة 1386) فى أثره الباقى «المعجزة الخالده»(3) قال: انَّ أكبر ميزة فى القرآن - و هى التى جعلته فوق المعجزات كها - هى أنّها مجموعة فصول ليست سوى صبابة أحرف عربيّة، من جنس كلمات العرب، بل و من أيسر اعمال البشر... و قد فاقت مع ذلك عبقريّة كلّ عبقرىّ، و لم يخلق ربّ الانسان للانسان عملاً بعد الافتكار، أيسر لديه من الكلام... و كلّما كان العمل البشرىّ أيسر صدورا و أكثر وجودا، قل النبوغ فيه، وصعب افتراض الاعجاز و الاعجاب منه. غير أنّ الفصول القرآنيه على أنَّها صبابة أحرف العرب و من جنس أيسراعمالهم، تجد العبقريّة فيها ظاهرة بأجلى المظاهر السامية على عبقريّة كلّ شاعر و ساحر... و تراها على أعظم جانب من التأثير. مع أنّها كما أشاراليها القرآن عبارة عن (أ. ل. م. ك. ه. ى. ع. ص...الخ) هى الاحرف العربية المبذولة. ولكن تأليف أمثال آية منها فوق وسع العرب و العجم.

و قد قيل ـ و هو الصحيح ـ الناس كالناس و الايام واحدة... فأصدق محكّ لمعرفة أحوال الاوّلين... هو مطالعة أحوال الآخرين، و قياس الماضى على الحال.

و نرى الناس فى عهدنا مطبوعين على استحباب الشهرة و الاثرة و طلب التفاضل و التفاخر... و الشعب العربى المعاصر لنزول القرآن كان و لا شك منطويا على هذا الشعور تماما... فلما لم يندفع الى مباراته، و لم يعارضوه ان كانوا يرونه من كلام محمد(صل اللّه‏ عليه وآله) و هو فرد منهم و تربّى مثلهم على تربة الحجاز الخصبة منبت الفصاحة و البلاغة؟!

ليت شعرى، ممّ و بم أعجزت عبقريّةُ ذلك الفرد الوفهم المعتزّة بألوف، و كيف عجزتهم اسطر و كلمات و حروف؟!

قال: للقرآن مزايا جمّة هى ذات شأن كبير نذكر منها مايلى كرؤوس أقلام:

1 - فصاحة ألفاظه، الجامعة لكلّ شرائطها.

2 - بلاغته: رعايته التامّة مقتضى الحلال و المقام.

3 - سمّوا المعنى و علوّ المرمى و استهدافه الكمال الاسمى و الجمال الارقى.

4 - أنباؤه الغيبيّة و أسراره العلميّة.

5 ـ قوانينه الحكيمة و تشريعه القويم.

6 ـ سلامته عن التعارض و التناقض و الاختلاف.

7 ـ طراوته مع كلّ زمان كلّما تلى و أينما تلى.

8 ـ قوة حججه و سلطان برهانه.

9 ـ اشتماله على رموز مدهشة للفكر و مذهلة للعقول.

10 ـ جذبته الروحيّة و جذوته القدسيّة اللمكوتيّة، ذات خلابة للالباب و سحر العقول وافتنان النفوس.

قال: هذه بعض مزايا القرآن ممّا هو من وجوه التفوّق و الاعجاز... .

أمّا أنا فقد وقع اختيارى ـ بعد طول اختبارى ـ على الوجه الاخير فيما عدّدناه، مع البلاغة الجامعة، فهما وجه الاعجاز المقصود من آيات التحدّى.

أجل انّ جذابته الروحيّة، الناشئة عن كونه كلام خالقنا الربّ الحكيم، محسوسة للشرقىّ و الغربىّ، و العجمىّ و العربىّ، لا ينازعنا فيه أحد.

أمّا سائر وجوه الحسن و الامتياز، فهى من آثار كونه كلام اللّه‏، و مؤثّرات معدّه فى تكوين اعجازه، و جذباته الروحية... و حتى اَنّ جمهورالعلماء، الذين عبّروا عن اعجاز القرآن ببلاغته، لعلهم اراد وا ما أردنا: من جاذبيتّه الروحيّة فوق جمال اُسلوبه وحسن نظمه و غريب سبكه و عجيب نضده... .(4)

* * *

قال الاستاذ الفكيكى: و ممّن لا حظ هذه المزيّة العجيبة (الجذبة الروحيّة) أيضا عّلامة الزمان الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء فى كتابه «الدين و الاسلام». و العلاّمة الاستاذ السيد رشيد رضا صاحب المنار فى كتابه «الوحى المحمدى» و نابغة الادب و البيان مصطفى صادق الرافعى فى كتابه «اعجاز القرآن»(5).

سنعرض نماذ ج من كلماتهم الرشيقة بهذا الشأن تباعا ان شاءاللّه‏.

* * *

ثانيا: الاعجاز فى دارسات اللاحقين من علماء و كتّاب معاصرين:

قد يقال: كم ترك الاوّل للآخر! و اخرى يقال: ما ترك الاوّل اللآخر. فان كان فى المثل الاوّل جزاف، فانَّ فى المثل الثانى مبالغة ظاهرة. نعم كان الاوائل قد مهّدوا السبل لدراسات الآخرين و أسّسوا و أبدعوا و حازوا قصب السبق. و جاء اللاحقون ليستمروا على أثرهم على الطريقة المعّبدة من ذى قبل، لكنّهم زادوا و نقّحوا و هذّبوا، و بذلك نضجت الافكار و توسّعت العقول و اكتملت الآراء و الانظار.

أمّا الذى زاده الخلف على السلف فى مسألة اعجاز القرآن، فهو الذى لمسوه من تناسق نظمه البديع و تناسب نغمه الرفيع، كانت لاجراس صوته الرصيف رنّة، و لالحان موسيقاه اللطيف نسمة و تفحة قدسيّة ملكوتيّة ذات جذوة و جذبة، لايوجدلها مثيل فى أىّ توقيع من تواقيع الموسيقى المعهودة ذات الاشكال و الالوان المعروفة.

انّه منتظم على أوزان لا كأوزان الشعر، و على قوا فى السجع و ليس بسجع، ففيه خاصّيّة النظم و هونثر، فهو كلام منظوم و منثور فى نفس الوقت، كما هو مسجّع و مقفّى أيضا فى عين الحال. و مع ذلك فهو ليس بأحدها، و انّما هو كلام فريد فى نوعه و فذّ فى اسلوبه، انّه كلام اللّه‏ فوق كلام المخلوقين.

هذا هو الذى أحسّته أرباب الفنون و أصحاب الاذواق الظريفة بشأن القرآن الكريم، اذا تليت آياته على نهجها الاصيل، ذات روعة و خلابة، كما قال قائلهم: انّ له لحلاوة و انَّ عليه لطلاوة.

1 - كتب سيد قطب فى كتابه «التصوير الفنى» فصلاً عن الايقاع الموسيقى فى القرآن، و ذكر أنّ الموسيقىّ المبدع الاستاذ «محمد حسن الشجاعى» تفضّل بمراجعته و ضبط بعض المصطلاحات الفنّية الموسيقيّة عليه.. جاء فيه:

ان هذا الايقاع متعّدد الانواع، و يتناسق مع الجوّ، و يؤدى وظيفه أساسيّة فى البيان.

قال: و لما كانت هذه الموسيقى القرانيه اشعاعا للنظم الخاصّ فى كل موضع، و تابعة لقصر الفواصل و طولها، كما هى تابعة لانسجام الحروف فى الكلمة المفردة، و لانسجام الالفاظ فى الفاصلة الواحدة... فاننا نؤثر أن نتحدّت عن هذا الظواهر كلّها مجتمعة.

جاء فى القرآن الكريم «و ما علّمناه الشِّعر و ما ينبغى لَهُ ان هو الاّ ذكْرُ و قرآن مبينٌ»(6).

و جـاء فيه حكايـة عـن كفار العـرب: «بَلِ افْتَراهُ بَلْ هو شَاعِرٌ.»(7).

و صدق القرآن الكريم، فليس هذا النسق شعرا. ولكن العرب كذلك لم يكونوا مجانين ولا جاهلين بخصائص الشعر، يوم قالوا عن هذا النسق العالى: انّه شعر!

لقد راع خيالهم بما فيه من تصوير بارع؛ و سحر وجدانهم بما فيه من منطق ساحر، و أخذ أسماعهم بما فيه من ايقاع جميل. و تلك خصائص الشعر الاساسية، اذا نحن أغفلنا القافية و التفاعيل.

على أنّ النسق القرآنى قد جمع بين مزايا النثر و الشعر جميعا. فقد أعفى التعبير من قيود القانية الموحدة و التفعيلات التمامة؛ فنال بذلك حريّة التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامّة. و أخذ فى الوقت ذاته من خصائص الشعر، الموسيقى الداخلية، و الفواصل المتقاربة فى الوزن التى تغنى عن التفاعيل؛ و التقفية التى تغنى عن القوافى؛ و ضمّ ذلك الى الخصائص التى ذكرنا، فشأن النثر و النظم جميعا(8).

و حيثما تلا الانسان القرآن أحسّ بذلك الايقاع الداخلى فى سياقه؛ يبرز بروزا واضحا فى السور القصار، و الفواصل السريعة، و مواضع التصوير و التشخيص بصفة عامة؛ و يتوارى قليلاً أو كثيرا فى السور الطوال، ولكنه ـ على كلّ حال ـ ملحوظ دائما فى بناء النظم القرآنى(9).

و سنأتى على أمثلة ضربها لذلك فى فصل قادم(10) ان شاءاللّه‏.

* * *

2 ـ و قال الاستاذ مصطفى محمود قد اكتشفت منذ الطفولة دون أن أدرى، حكاية الموسيقى الداخلية الباطنة فى العبارة القرانيه. و هذا سرّ من أعمق فى التركيب القرآنى... انّه ليس بالشعر و با لنثر و لا بالكلام المسجوع... و انّما هو معمار خاصّ من الالفاظ صفّت بطريقة تكشف عن الموسيقى الباطنة فيها. و فرق كبير بين الموسيقى الباطنة و الموسيقى الظاهرة.

و كمثل نأخذ بيتا لشاعر مثل عمربن أبى ربيعة، اشتهر بالموسيقى فى شعره... البيت الذى ينشد فيه:

قال لى صاحبى ليعلم مابى

أتحب القتول اخت الرباب؟

أنت تسمع و تطرب و تهتزّ على الموسيقى... ولكن الموسيقى هنا خارجية صنعها الشاعر بتشطير الكلام فى أشطار متساوية ثمّ تقفيل كلّ عبارة تقفيلاً واحدا على الباء الممدودة.

الموسيقى تصل الى اذنك من خارج العبارة و ليس من داخلها، من التقفيلات (القافية) و من البحر و الوزن.

أمّا حينما تتلو: «والضُّحَى و الليل اذا سَجَى..»(11) فأنت أمام شطرة واحدة... و هى بالتالى تخلو من التقفية و الوزن و التشطير، و مع ذلك فالموسيقى تقطر من كلّ حرف فيها، من أين، و كيف؟

هذه هى الموسيقى الداخليّة، و الموسيقى الباطنة، سرّ من أسرار المعمار القرآنى، لايشاركه فيه أىّ تركيب أدبى.

و كذلك حينما تقول: «الرَّحمانُ عَلى الْعَرشِ اسْتَوَى» (12). حينما تتلو كلمات زكريا لربه: «قَالَ رَبِّ انّى وهن الْعَظْمُ مِنّى وَ اشْتَعَلَ الرَّأسُ شَيْبا و لمْ أَكُنْ بِدُعَائِك رَبَّ شَقِيّا»(13) أو كلمة اللّه‏ لموسى: «انَّ السّاعَةَ آتيةٌ أكَادُ اخفِيَها لِتُجَْزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعى»(14). أو كلمته تعالى ـ و هو يتوعّد المجرمين ـ «انَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِما فَانَّ لَهُ جَهَنَّم لايَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيى»(15).

كلّ عبارة بنيان موسيقى قائم بذاته ينبع فيه الموسيقى من داخل الكلمات و من ورائها و من بينها، بطريقة محيّرة لاتدرى كيف تتم؟!

و حينما يروى القرآن حكاية موسى بذلك الاسلوب السيمفونى المذهل:

«وَلَقَدْ أَوْحَيْنا الَى مُوسى أَنْ أَسْربِعِبادِى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَريقا فِى الْبَحْرِ يَبَسا لا تخافُ دَرَكا و لا تَخْشَى، فَأَتَْبَعهُمْ فِرْعَوْنُ بجُنودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيِهُمْ. و أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى»(ره)

كلمات فى غاية الرقّة مثل «يبسا» أولا تخاف «دركا» بمعنى لا تخاف ادركا. انَّ الكلمات لتذوب فى يد خالقها و تصطفّ و تتراص فى معمار و رصف موسيقىّ فريد، هو نيسج وحده بين كلّ ما كتب بالعربيّة سابقا و لا حقا لا شبه بينه و بين الشعر الجاهلى، و لا بينه و بين الشعر و النثر المتأخّر، ولا محاولة واحدة للتقليد حفظها لنا التأريخ، برغم كثرة الاعداء الذين أرادوا الكيد للقرآن.

فى كلّ هذا الزحام تبرز العبارة القرآنية منفردة بخصائصها تماما و كأنّها ظاهرة بلا تبرير و لا تفسير، سوى أنّ لها مصدرا آخر غير ما نعرف.

اسمع هذا الايقاع المنغّم الجميل:

«رفيعُ الدَّرجاتَ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ليُنْذِرَ يَوْمَ التّلاَق»(16). «فَالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوىَ يُخْرِجُ الَحَيّ مِنَ الْمَيِّتِ و مُخْرِجُ الميّتِ مِن الحيَّ... فَالِقُ اْلاِصْبَاحِ وَ جَعَلَ الليلَ سَكَنا و الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْبانا».(17) «يَعْلَمُ خائِنَةَ الاعْيُنِ وَ مَا تُخْفِي الصُّدُورُ»(18) «لاَ تُدْرِكُهُ الابصار وَ هُوَ يُدْرِكُ الابصار(19)». وَسِعَ رَبّنا كُلَّ شى عِلْما»(20).

ثمّ هذه العبارة الجديدة في تكوينها و صياغتها... العميقة في معناها و دلالتها على العجز عن ادراك كنه الخالق:

«عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَة الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ»(21). «يجادلونَ فِى اللّه‏ِ وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحَال»(22).

ثم هذا الاستطراد في وصف القدرة الالهيّة:

«وَ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَيعْلَمُهَا الاَّ هَوَ وَ يَعْلَمُ مَا في الْبرِ وَ الْبَحْرِ وَ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرقَةٍ الاَّ يَعْلَمُهَا و لاحَبَّةٍ فِي ظُلماتِ الأَرْضِ وَ لارَطْبٍ وَ لايَابِسٍ الاَّ فِي كتابٍ مبينٍ»(23).

ولكن الموسيقى الباطنية ليست هي كلّ ما انفردت به العبارة القرآنيّة، و انّما مع الموسيقي صفة اُخرى هي الجلال!

و في العبارة البسيطة المقتضبة التي روى بها اللّه‏ نهاية قصة الطوفان، تستطيع أن تلمس ذلك الشيء «الهائل» «الجليل» في الالفاظ:

«وَ قِيلَ يا أرضُ ابْلَعِى ماءَكِ و يَا سمَاءُ أَقْلِعِى وَ غِيضَ الماءُ وَ قُضِىَ الأَمْرُ»(24).

تلك اللمسات الهائلة... كلّ لفظ له ثقل الجبال و وقع الرعود... تنزل فاذا كلّ شيء صمت... سكون، هدوء، و قد كفّت الطبيعة عن الغضب و وصلت القصة الى ختامها: «و قيل يا أرضُ ابْلَعِى مَاءك و يا سماءُ أَقْلِعِى وَ غِيضَ الْمَاء وَ قُضِىَ لأَمْرُ».

انّك لتشعر بشيء غير بشريّ تماما في هذه الالفاظ الهائلة الجليلة المنحوتة من صخر صوان، و كأن كلّ فيها جبل الالب. لايمكنك أن تغيّر حرفا أو تستبدل كلمة باخرى، أو تؤلّف جملة مكان جملة، تعطي نفس الايقاع و النغم و الحركة و الثقل و الدلالة... و حاول و جرّب لنفسك في هذه العبارة البسيطة ذات الكلمات العشر، أن تغيّر حرفا أو تستبدل كلمة بكلمة!

و لهذا وقعت العبارة القرآنية على آذان عرب الجاهلية الذين عشقوا الفصاحة و البلاغة وقع الصاعقة!

ولم يكن مستغربا من جاهلي مثل الوليدبن المغيرة، عاش و مات على كفره، أن يذهل، و أن لايستطيع أن يكتم اعجابـه بالقرآن، برغم كفره فيقول، و قد اعتبره من كلام محمد:

«واللّه‏ انّ لقوله لحلاوة، و انّ عليه لطلاوة، و انّ أعلاه لمثمر، و انّ أسفله لمغدق، و انّه يعلو و لايعلى عليه».

و لمّا طلبوا منه أن يسبّه قال: «قولوا ساحر جاء بقول يفرق بين المرء و أبيه، و بين المرء و أخيه، و بين المرء و زوجته، و بين المرء و عشيرته».

انّه‏السحر حتى على لسان‏العدوّالذي يبحث عن كلمة يسبّه بها.

و اذا كانت العبارة القرآنية لاتقع على آذاننا اليوم موقع السحر و العجب و الذهول، فالسبب هوالتعوّد و الالفة و المعايشة منذ الطفولة و البلادة و الاغراق في عاميّة مبتذلة أبعدتنا عن اُصول لغتنا. ثم اسلوب الاداء الرتيب المملّ الذي نسمعه من مرتّلين محترفين يكرّرون السور من أوّلها الى آخرها بنبرة واحدة لايختلف فيها موقف الحزن من موقف الفرح من موقف الوعيد من موقف البشرى من موقف العبرة. نبرة واحدة رتيبة تموت فيها المعاني و تتسطح العبارات.

و بالمثل بعض المشايخ ممّن يقرأ القرآن على سبيل اللعلعة دون أن ينبض شيء في قلبه... ثم المناسبات الكثيرة التي يقرأ القرآن فيها روتينيّا... ثم الحياة العصرية التي تعدّدت فيها المشاغل و توزّع الانتباه و تحجّر القلب و تعقدت النفوس و صدئت الارواح.

و برغم هذا كلّه فانّ لحظة صفاء ينزع الواحد فيها نفسه من هذه البيئة اللزجة، و يرتدّ فيها طفلاً بكرا و ترتدّ له نفسه على شفّافيّتها، كفيلة بأن تعيد اليه ذلك الطعم الفريد و النكهة المذهلة و الايقاع المطرب الجميل في القرآن... و كفيلة بأن توقفه مذهولاً من جديد بعد قرابة ألف و أربعمائة سنة من نزول هذه الآيات و كأنّها تنزل عليه لساعتها و توّها.

اسمع القرآن يصف العلاقة الجنسية بين رجل و امرأة باُسلوب رفيع و بكلمة رقيقة مهذّبة فريدة لاتجدلها مثيلاً و لابديلاً في أيّة لغة: «فَلمّا تَغشاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفا»(25). هذه الكلمة «تغشّاها»... تغشاها رجلها... ان يمتزج الذكر و الأُنثى كما يمتزج ظلاّن و كما يغشى الليل النهار و كما تذوب الالوان بعضها في بعض، هذا اللفظ العجيب الذي يعبّربه القرآن عن التداخل الكامل بين اثنين، هو ذروةٌ في التعبير.

و ألفاظ اُخرى تقرؤها في القرآن فتترك في السمع رنينا و أصداءً و صورا حينما يقسم اللّه‏ بالليل و النهار فيقول: «و اللّيلِ اذَا عَسْعَسَ. وَ الصُّبْحِ اذَا تَنَفَّسَ»(26)... هذه الحروف الاربعة «عسعس» هي الليل مصوّرا بكل ما فيه. «و الصبح اذا تنفس» أنّ ضوء الفجر هنا مرئي و مسموع... انّك تكاد تسمع زقزقة العصفور و صيحة الديك.

فاذا كانت الآيات نذير الغضب و اعلان العقاب فانك تسمع الالفاظ تتفجّر... وترى المعمار القرآني كلّه له جلجلة. اسمع ما يقول اللّه‏ عن قوم عاد:

«وَ أَمّا عَادٌ فاهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ. سَخَّرَهَا عَلَيْهمْ سَبْعَ لَيالٍ و ثمانيةَ أَيَّامٍ حُسُوما فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاويَةٍ»(27). انَّ الآيات كلّها تصرّ فيها الرياح و تسمع فيها اصطفاق الخيام و أعجاز النخل الخاوي و صورة الارض الخراب.

و الصور القرآنية كلّها تجدها مرسومة بهذه اللمسات السريعة و الظلال المحكمة و الالفاظ التي لها جرس و صوت و صورة.

و لهذه الاسباب مجتمعة كان القرآن كتابا لايترجم. انّه قرآن في لغته، أمّا في اللغات الأُخرى فهو شيء آخر غير القرآن... «انّا أَنْزَلْنَاهُ قرآناً عَرَبيّاً»(28) و في هذا تحديد فاصل.

و كيف يمكن أن تترجم آية مثل: «الرحمانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى»(29). انّنا لسنا أمام معنى فقط، و انّما نحن بالدرجة الأُولى أمام معمار... أمام تكوين و بناء تنبع فيه الموسيقي من داخل الكلمات، من قلبها لامن حواشيها، من خصائص اللغة العربية و أسرارها و ظلالها و خوافيها...

و لهذا انفردت الآية القرآنية بخاصّيّة عجيبة... انّها تحدث الخشوع في النفس بمجرّد أن تلامس الأُذن و قبل أن يتأمل العقل معانيها... لانّها تركيب موسيقى يؤثّر في الوجدان و القلب لتوّه و من قبل أن يبدأ العقل في العمل، فاذا بدأ العقل يحلّل و يتأمّل فانّه سوف يكتشف أشياء جديدة و سوف يزداد خشوعا... و لكنّها مرحلة ثانية... قد تحدث و قد لاتحدث و قد تكشف لك الآية عن سرّها و قد لاتكشفه... و قد تؤتى البصيرة التي تفسّر بها معاني القرآن و قد لاتؤتى هذه البصيرة... و لكنك دائما خاشع، لانّ القرآن يخاطبك اوّلاً كمعمار فريد من الكلام... بنيان... فورم... طراز من الرصف يبهر القلب... ألقاه عليك الذي خلق اللغة و يعرف سرّها...»(30).

* * *

3 ـ وللد كتور محمد عبداللّه‏ دَراز، نظرة مشابهة، يجعل من اعجاز القرآن في قشرته السطحيّة، في جانبي جماله التوقيعي و جماله التنسيقي، الى جنب محتواه من جلائل أسرار. فانّه جلّت قدرته أجرى سنّته في نظام هذا الكون أن يغشى جلائل أسراره بأستار زاهية بمتعةٍ و جمالٍ.

قال: انَّك اذا استمعت الى القارى المُجوّد يقرأ القرآن يرتّله حقّ ترتيله، نازلاً بنفسه على هوى القرآن، و ليس نازلاً بالقرآن على هوى نفسه... ستجد اتساقاً و ائتلافا يسترعي من سمعك ما تسترعيه الموسيقي و الشعر، على أنّه ليس بأنغام الموسيقى و لابأوزان الشعر. و ستجد شيئا آخر لاتجده في الموسيقي و لافي الشعر. ذلك أنك تسمع القصيدة من الشعر فاذا هي تتشابه أهواؤها و تذهب مذهبا متقاربا. فلايلبث سمعك أن يمجّها، و طبعك أن يملّها، اذا اعيدت و كرّرت عليك بتوقيع واحد، بينما أنت من القرآن أبدا في لحن متنوّع متجدّد، تنقل فيه بين أسباب و أوتاد و فواصل (31) على أوضاع مختلفة يأخذ منها كلّ و ترمن أوتار قلبك بنصيب سواء، فلا يعروك منه على كثرة ترداده ملالة و لاسأم. بل لاتفتأتطلب منه المزيد.

هذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن لايخفى على أحد ممّن يسمع القرآن، حتى الذين لايعرفون لغة العرب، فكيف يخفى على العرب أنفسهم؟

انّ أوّل شيء أحسّته تلك الآذان العربيّة في نظام القرآن هو ذلك النظام الصوتي البديع الذي قسمت فيه الحركة و السكون تقسيما منوّعا يجدّد نشاط السامع لسماعه، و وزّعت في تضاعيفه حروف المدّ و الغنّة توزيعا بالقسط يساعد على ترجيع الصوت به و تهادى النفس فيه آنا بعد آن، الى أن يصل الى الفاصلة الأُخرى فيجد عندها راحته العظمى. و هذا النحو من التنظيم الصوتي ان كانت العرب قد عمدت الى شى‏ء منه في أشعارها فذهبت فيها الى حدّ الاسراف في الاستهواء ثمّ الى حدّ الاملال فى التكرير، فانها ما كانت تعهده قط و لاكان يتهيّألها بتلك السهوله في منثور كلامها سواء المرسل و المسجوع، بل كان يقع لها في أجود نثرها عيوب تغضّ من سلاسة تركيبه و لايمكن معها اجادة ترتيلة الاّ بادخال شيء عليه أو حذف شيء منه.

لاعجب اذاً أن يكون أدنى الالقاب الى القرآن ـ في خيال العرب ـ أنّه شعر، لانّها وجدت في توقيعه هزّة لاتجد شيئاً منها الاّ في الشعر. و عجب أن ترجع الى نفسها فتقول ما هو بشعر؛ لانّه ـ كما قال الوليد ـ ليس على أعاريض الشعر في رجزه ولا في قصيده. ثم لاعجب أن تجعل مردّ هذه الحيرة أخيرا الى أنّه ضرب من السحر، لانّه جمع بين طزفي الاطلاق و التقييد في حدّ وسط، فكان له من النثر جلاله و روعته، و من الشعر جماله و متعته.

أنت اذا ما اقتربت بأذنك قليلاً، فطرقت سمعك جواهر حروفه، خارجة من مخارجها الشحيحة، فاجائك منه لذّة اخرى في نظم تلك الحروف و رصفها و ترتيب أوضاعها فيما بينها: هذا ينقر و ذاك يصفر، و ثالث يهمس، و رابع يجهر، و آخر ينزلق عليه النفس، و آخر يحتبس عنده النفس، و هلّم جرا. فترى الجمال اللغوي ماثلاً أمامك في مجموعة مختلفة مؤتلفة(32) لاكركرة و لاثرثرة، و لا رخاوة و لا معاظلة، و لا تناكرو لاتنافر. و هكذاترى كلاما ليس بالحضري الفاتر، و لا بالبدوي الخشن، بل تراه و قد امتزجت فيه جزالة البادية و فخامتها برقّة الحاضرة و سلاستها، و قدّر فيه الامران تقديرا لايبغي بعضهما على بعض، فاذا مزيجٌ منهما، كأنّما هو عصارة اللغتين و سلالتهما، أوكانّما هو نقطة الاتّصال بين القبائل عندها تلتقي أذواقهم، و عليها تأتلف قلوبهم.

من هذه الخصوصيّة و التي قبلها تتألّف القشرة السطحيّة للجمال القرآني، و ليس الشأن في هذا الغلاف الاّ كشأن الاصداف ممّا تحويه من اللآلى النفيسة، فانّه ـ جلّت قدرته ـ أجرى سنّته في نظام هذا العالم أن يغشّي جلائل أسراره بأستار لاتخلو من متعة و جمال، ليكون ذلك من عوامل حفظها و بقائها، بتنافس المتنافسين فيها و حرصهم عليها... فقد سبقت كلمته أن يصون علينا نفائس العلوم التي أودعها هذا الكتاب الكريم، و من ثمّ قضت حكمته أن يختارلها صوانا يحبّبها الى الناس بعذوبته، و يغريهم عليها بطلاوته، و يكون بمنزلة «الحدّاء» يستحثّ النفوس على السير اليها، و يهوّن عليها و عثاء السفر في طلب كمالها، لاجرم اصطفى لها من هذا اللسان العربي المبين ذلك القالب العذب الجميل. و من أجل ذلك سيبقى صوت القرآن أبداً في أفواه الناس و آذانهم مادامت فيهم حاسّة تذوّق و حاسّة تسمّع، و ان لم يكن لاكثرهم قلوب يفقهون بها حقيقة سرّه، و ينفدون بها الى بعيد غوره «انّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَوَ انَّا لَهُ لَحافِظُون»(33).

هل عرفت أنّ نظم القرآن الكريم يجمع الى الجمال عزّة و غرابة؟ و هل عرفت أنّ هذا الجمال كان قوّة الهّية حُفظ بها القرآن من الفقد و الضياع؟

فاعرف الآن أنّ هذه الغرابة كانت قوّة اخرى قامت بها حجّة القرآن في التحدّي و الاعجاز و اعتصم بها من أيدي المعارضين و المبدّلين، و أنّ ذلك الجمال ما كان ليكفي وحده في كف أيديهم عنه، بل كان أجدر أن يغريهم به، ذلك أنّ الناس ـ كما يقول الباقلاّني ـ اذا استحسنوا شيئاً اتبعوه، و تنافسوا في محاكاته بباعث الجبلّة. و كذلك رأينا أصحاب هذه الصناعة يتبع بعضهم بعضا فيما يستجيدونه من الاساليب، و ربّما أدرك اللاحق فيهم شأو السابق أو أربى عليه، كما صنع ابن العميد باُسلوب الجاحظ، و كما يصنع الكتّاب و الخطباء اليوم في اقتداء بعضهم ببعض. و ما أساليب الناس على اختلاف طرائقها في النثر و الشعر الاّ مناهل مورودة و مسالك معبّدة، تؤخذ بالتعلّم، و تراضّ الالسنة و الاقلام عليها بالمرانة، كسائر الصناعات.

فما الذي منع الناس أن يخضعوا اُسلوب القرآن لالسنتهم و أقلامهم و هم شرع في استحسان طريقته، و أنّ أكثرهم الطالبون لابطال حجته.

ما ذاك الاّ أنّ فيه منعة طبيعيّة كفّت و لا تزال تكفّ أيديهم عنه، و لا ريب أنّ أوّل ما تلاقيك هذه المناعة فيما صوّرناه لك من غريب تأليفه في بنيته، و ما اتخذه في رصف حروفه و كلماته و جمله و آياته، من نظام له سمت وحده و طابع خاصّ به، خرج فيه عن هيئة كلّ نظم تعاطاه الناس أو يتعاطونه، فلاجرم لم يجدوا له مثالاً يحاذونه به، و لا سبيلاً يسلكونه الى تذليل منهجه.

و آية ذلك أنّ أحدا لوحاول أن يدخل عليه شيئاً من كلام الناس، من السابقين منهم أو اللاحقين، من الحكماء أو البلغاء أو النبيّين و المرسلين، لافسد بذلك مزاجه في فم كلّ قارى و لجعل نظامه يضطرب في اُذن كلّ سامع، و اذاً لنادى الداخلُ على نفسه بأنّه واغل دخيل، و لنفاه القرآن عن نفسه كما ينفي الكير خبث الحديد. «وَ انَّهُ لَكِتابٌ عَزيزٌ. لاَيَأْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»(34).

و أنت اذ لم يلهك جمال الغطاء عمّا تحته من الكنز الدفين، و لم تحجبك بهجة الاستار عمّا ورائها من السّر المصون، بل فليت القشرة عن لبّها و كشفت الصدفة عن درّها، فنفذت من هذا النظام اللفظي الى ذلك النظام المعنوي، تجلّى لك ما هو أبهى و أبهر، و لقيت منه ما هو أروع و أبدع.

لا نريد أن نحدّثك هاهنا عن معاني القرآن و ما حوته من العلوم الخارجة عن متناول البشر، فانّ لهذا الحديث موضعا آخر يجي ـ ان شاء اللّه‏ تعالى ـ في بحث الاعجاز العلمي و حديثنا الآن كماترى في شأن الاعجاز اللغوي، و انّما اللغة الالفاظ.

بيد أنّ هذه الالفاظ ينظر فيها تارة من حيث هي أبنية صوتيّة مادّتها الحروف و صورتها الحركات و السكنات من غير نظر الى دلالتها... و تارة من حيث هي أداة لتصوير المعاني و نقلها من نفس المتكلّم الى نفس المخاطب بها، و هذه الناحية لاشك أنّها هي أعظم الناحيتين أثرا في الاعجاز اللغوي، اذ اللغات تتفاضل من حيث هي بيان، أكثر من تفاضلها من حيث هي أجراس و أنغام. و الفضيلة البيانية انّما تعتمد دقّة التصوير و اجادة التعبير عن المعنى كما هو، سواء كان ذلك المعنى حقيقة أو خيالاً، و أن يكون هدى أو ظلالاً، فقد كانت حكايات القرآن لاقوال المبطلبين لاتقصر في بلاغتها عن سائر كلامه، لانّها تصف ما في أنفسهم على أتمّ وجه.

انظر حيث شئت من القرآن الكريم، تجد بيانا قد قدّر على حاجة النفس أحسن تقدير، فلاتحسّ فيه بتخمة الاسراف و لابمخمصة التقتير، يؤدّي لك من كلّ معنى صورة نقيّة وافية، نقيّة لايشوبها شيء ممّا هو غريب عنها، وافية لايشذّ عنها شيء من عناصرها الاصلية و لواحقها الكماليّة. كلّ ذلك في أوجز لفظ و أنقاه. ففي كلّ جملة منه جهاز من أجهزة المعنى، و في كلّ كلمة منه عضو من اعضائه، و في كلّ حرف منه جزء بقدره، و في أوضاع كلماته من جملة، و أوضاع جمله من آياته سرّ الحياة الذي ينظم المعنى بأداته. و بالجملة‏ترى ـ كما يقول الباقلاّني ـ محاسن متوالية و بدائع تترى.

ضع يدك حيث شئت من المصحف، و عُدّ ما أحصته كفُّك من الكلمات عدّا، ثم أحص عدّتها من أبلغ كلام تختاره خارجا عن الدفّتين، و انظر نسبته ما حواه هذا الكلام من المعاني الى ذاك، ثم انظر كم كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدّلها من هذا الكلام دون اخلال بغرض قائله؟ و أيّ كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدّلها هناك؟ فكتاب اللّه‏ تعالى ـ كما يقول ابن عطية ـ: «لو نزعت منه لفظه ثم اُدير لسان العرب على لفظة في أن يوجدأ حسن منها لم توجد».

بل هو كما وصفه تعالى «كِتابٌ احْكمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ»(35).

پى‏نوشت‏ها:

1 ـ الطراز: ج 3 ص 367 ـ 413.

2 ـ حقّ اليقين: ج 1 ص 113 - 114.

3 ـ كان السبب فى تقديم نظرة علاّمتنا الشهرستانى الى حقل آراء القدماء، هو اقتفاؤه مذهب السلف أوّلا، و امتداد نظرته لاختيار السيد شبّر و تكميلاً له فى استقصاء وجوه الاعجاز ثانيا، فكان من المناسب اردافه معه فى هذا المجال.

4ـ نقلا عن رسالته (المعجزة الخالدة): 8 ـ 34 مع تصرّف و اختصار.

5 ـ مجلّة رسالة الاسلام الصادرة عن دارالتقريب با لقاهرة لسنتها الثالثة، رمضان 1370 ه يوليو 1951 م: العدد الثالث ص299.

6 ـ يس: 69.

7 ـ الانبياء 5.

8 ـ يقول الكد كتور طه حسين: انَّ القرآن ليس شعرا و ليس نثرا. انّما هو قرآن! ولسنا فى حاجة الى هذا اللعب بالعبارات، فالقرآن نثر متى احتكمنا للاصطلاحات العربيّة كما ينبغى. ولكنّه نوع ممتاز مبدع من النثر الفنى الجميل المتفرّد.

9 ـ التصوير الفنى فى القرآن: ص 80.

10 ـ عند التعرّض لمزايا النظم القائم فى القرآن و خصائصه العجيبة.

11 ـ الضحى: 1 ـ 2.

12 ـ طه: 5.

13 ـ مريم: 4.

14 ـ طه: 15.

15 ـ طه: 74.

16 ـ طه: 77 ـ 79.

17 ـ غافر: 15.

18 ـ الانعام: 95 ـ 96.

19 ـ غافر: 19.

20 ـ الانعام: 103.

21 ـ الاعراف: 89.

22 ـ الرعد: 9.

23 ـ الرعد: 13.

24 ـ الانعام: 59.

25 ـ هود: 44.

26 ـ الاعراف: 189.

27 ـ التكوير: 17 ـ 18.

28 ـ الحاقة: 6 ـ 7.

29 ـ يوسف: 2.

30 ـ طه: 5.

31 ـ القرآن، محاولة لفهم عصري، مصطفى محمود ـ دارالمعارف بمصر ـ سنة 1976. فصل (المعمار القرآني): ص12 ـ 19.

32 ـ مصطلحات موسيقية: الحرف المتحرك يتلوه حرف ساكن يقال لها «سبب خفيف» و الحرفان المتحركان يتلو هما ساكن «وتد مجموع». والحرفان المتحركان لايتلوهما ساكن «سبب ثقيل». و الحرفان المتحركان يتوسّطهما ساكن «وتد مفروق». و ثلاثة أحرف متحرّكة «فاصلة صغيرة»، و أربعة أحرف متحرّكة يعقبها ساكن «فاصلة كبيرة».

33 ـ من وقف على صفات الحروف و مخارجها ازداد بهذا المعنى علما. و سيأتي تفصيل أكثر في كلام الرافعي، كما أشار اليه الزملكاني من ذي قبل فيما مرّمن كلامه الآنف. و هذا جانب دقيق من سرّ اعجاز القرآن التأليفي فتنبّه.

34 ـ الحجر: 9.

35 ـ فصّلت: 41 ـ 42.

36 ـ هود: 1.

/ 1