إعجاز القرآنی (01) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

إعجاز القرآنی (01) - نسخه متنی

محمدهادی المعرفة

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید





إعجاز القرآني: في وجوه الإعجاز في مختلف الآراء

ولا يمكنك أن تعرف صحّة هذه الجملة إلاّ إذا عرفت وجود محمد صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم و أنه قد ادعي النبوّة، و ظهر عليه القرآن، و سمع منه و لم يسمع من غيره، و أنّه تحدّي العرب بمعارضته و قرعهم بالعجز عن الإتيان بمثله فلم يأتوا به، لالوجه سوي عجزهم و قصورهم عن الإتيان بمثله.

فمتي عرفت هذه الوجوه كلّها كنت عارفا بنبوّة محمد صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم .

أمّا وجوده، و ادعاء النبوّة، و انّ القرآن ظهر عليه، وسمع منه و لم يسمع من غيره، فمعلوم ضرورة، و لامانع يمنع من حصول العلم بهذه الأشياء و ما جانسها اضطرارا، فإنّ العلم بالملوك و البلدان و يكون المصنّفات منسوبة الي مصنّفها ضرورة.

وأمّا تحديه العرب بمعارضة القرآن، و تقريعه إيّاهم بالعجز عن ذلك، ففي أصحابنا من جعل العلم به ضروريّا، و من جعله مكتسبا. قال: ليس المرجع بالتحدّي إلاّ أن يعتقد أنّ له مزيّة علي غيره بسبب ما معه، و هذا كان حال النبي صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم مع القوم، فكان يعتقد أنّه خير الناس لمكان ما جاء به من القرآن، فكيف يمكن إنكار أنّه لم يتحدّاهم بمعارضته ولم يقرعهم بالعجز عن الإتيان بمثله؟

و أيضا فكتاب اللّه‏ تعالي مشحون بآيات التحدّي، و هي مسموعة الآن و التحدّي قائم علي وجه الدهر، و في الفصحاء كثرة في هذه الأزمان، فيجب أن يأتوا بمثله. و متي قالوا: أنّ الفصاحة تناقصت الآن كالشعر، قلنا: إن أمكن أن يقال ذلك في الشعر فلايمكن في الفصاحة، ففي خطباء هذه الأزمنة من لايداني كلامه كلام أفصح فصيح في ذلك الزمان. فهذا واصل‏بن عطاء ربّما تفي خطبة من خطبه بكثير من كلام فصحاء أُولئك العرب. و هذا أبوعثمان عمروبن عبيد، ففصل من كلامه ربّما يزيد علي كلام أبينهم كلاما و أجزلهم لفظا و أفصحهم لسانا، فكيف يصحّ ما ذكرتموه؟

و أمّا ترك العرب معارضة القرآن، وعدولهم عنه الي المقاتلة، فظاهر أيضاً، فإنّهم حين أحسّوا من أنفسهم العجز عن الإتيان بمثل القرآن، تركوه الي المقاتلة، و ذلك يؤذن بعجزهم عن ذلك، و إلاّ فالعاقل إذا أمكنه دفع خصومه بأيسر الأمرين لايعدل عنه الي أصعبهما.

فإن قيل: و من أين أنّهم تركوا المعارضة ولم يعارضوه البتة؟ قيل له: إنّهم لو عارضوه لكان يجب أن ينقل إلينا معارضتهم، فإنّه لايجوز في حادثتين عظيمتين تحدثان معا، و كان الداعي الي نقل احداهما كالداعي الي نقل الأُخري، أن تخصّ احداهما بالنقل، بل الواجب أن تنقلا جميعا أو لاتنقلا، فأمّا أن تنقل احداهما دون الأُخري فلا.

ولا يمكن إنكار ماقلناه من أنّ الداعي الي نقل أحد الحادثين كالداعي الي نقل الآخر، بل لوقيل: أنّ الداعي الي نقل المعارضة أقوي لكان أولي، إذ المعارضة ممّا ينقلها المخالف و الموافق، المخالف ينقله ليري الناس أنّ فيه ابطال حجّة محمد صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم و الموافق ينقله ليتكلّم عليه و يبيّن أن ذلك ليس من المعارضة في شيء.

و يزيد ما ذكرنا وضوحا، أنّهم نقلوا من المعارضات ماهي ركيكة كمعارضة مسيلمة و غيره، فلولا أنّ دواعيهم كانت متوفّرة الي ذلك، كان لاينقل إلينا هذه المعارضة علي ركّتها.

قال: و بعدُ، فإنّ المعارضة لو كانت لكانت هي الحجّة، و لكان القرآن هو الشبهة، و اللّه‏ تعالي لايجوز أن يسلّط علينا الشبهة علي وجه لاسبيل لنا الي حلّها، و يمكن من إخفاء الحجّة علي حدّ لايمكن الظفربها، بل كان يجب أن يقوي الدواعي الي نقل المعارضة أن لووقعت، فلمّا لم يفعل، دلّنا ذلك علي أنّها لم تقع البتة، و أنّ ذلك تمنّ.

فإن قيل: إنّ ما ذكرتموه يبني علي أنّ العرب كانوا حريصين علي ابطال أمره و توهين شأنه، و كان لم يمكنهم إلاّ بالمعارضة، و نحن لانسلّم ذلك.

قيل له: إنَّ ذلك معلوم بالاضطرار، فمعلوم أنّ النبيّ صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ادعي منزلة رفيعة عليهم، و هم كانوا في غاية الأنفة و الحميّة و الإباء، فكيف لم يحرصوا و الحال هذه علي ابطال أمره و رفع حجّته أن لوقدروا!

فإن قيل: لعلّ القوم لم يعلموا طريقة المعارضة و الحجاج، و لو علموا ذلك، فلعلّهم لم‏يعلموا أنّ أمره يبطل بالمعارضة!

قيل له: أمّا الأوّل فلايصحّ، لأنّ المعارضة كانت عادتهم، و لهذا لم يأت شاعر بقصيدة فيما بينهم إلاّ و شاعر آخر يعارضه أو رام معارضته، و هذا معلوم من حال شعرائهم، نحو امرئ القيس و علقمة و اشباههما.

و أمّا الثاني، فباطل أيضا، لأنّ كل أحد يعلم أنّ خصمه إذا أتاه بأمر، وادعي لمكانه منزلة عظيمة عليه، و تحدّاه بمعارضته، فإنّه متي عارضه فقد أبطل دعواه، و هذا ممّا لايخفي علي الصبيان في مباراتهم بأمثال الطفرة‏واشالة الحجر و نحوهما، فكيف علي دهاة‏العرب!

فإن قيل: إنّهم أرادوا استئصاله بالمقاتلة. قلنا: لولا عجزهم عن المعارضة لما أرادوا استئصاله، لأنّهم لوقدروا علي المعارضة كانت أسهل عليهم في استئصاله و إسقاطه من مكانه في العرب المكان الذي كان. ولايليق بالعاقل العدول عن الأمر السهل الي الأمر الصعب، و قد كانت المعارضة التي كانت عندهم ـ بزعمهم ـ بمنزلة الأكل و الشرب و القيام والقعود.

فإن قيل: لعلّهم إنّما قاموا بالمقاتلة دون المعارضة، لإبطال دعواه و حسم مادّته، إذ ربّما لاتنقطع مادّته بالمعارضة، و أنّ الخلاف يبقي، و يكون الناس بين رجلين: رجل له و رجل عليه، فتطول المنازعة و لاتنقطع.

قيل لهم: إنَّ هذا لو كان صارفا عن معارضة القرآن، فليكن صارفا عن سائر المعارضات الشعريّة التي كانت متداولة عندهم، إذ يكون الناس بين متعصّب لهذا و متعصّب لذاك، فليمسكوا عن المعارضة رأسا!

فإن قيل: لعلّهم أخطؤوا في العدول الي المحاربة، كما أخطؤوا في عبادة الأصنام عن عبادة اللّه‏ تعالي.

قيل له: إنّما أخطأتم أنتم في القياس، لأنّ ذلك أمر نظري يستدرك بطريقة الاستدلال و الاستنباط، ممّا يمكن فيه الخطأ. و ليس حال المعارضة كذلك، فإنّه ضروري لايتصوّر فيه الخطأ فإن قيل: إنّما تركوا المعارضة، لاشتمال القرآن علي قصص كانوا يجهلون أمثالها.

قيل له: القرآن مشتمل علي كثير من أنواع الكلام، فلو كانت المعارضة ممكنة لهم لأتوا بسائر أنواع الكلام وجعلوها معارضة للقرآن. علي أنّه كان بامكانهم أن يصنعوا من عندهم قصصا و يكسونها من العبارات الجيّدة العظيمة الجزلة ما يقارب القرآن في الفصاحة و يدانيه فيلتبس الحال فيه.

و أيضا فإنّ القرآن قد تحدّي اليهود أيضا، و فيهم العلماء بالأخبار و العارفون بالأقاصيص كما أنّ العرب كانوا قد بعثوا الي الفرس يطلبون منهم القصص، نحو قصة رستم و اسفنديار، و جمعوا من ذلك شيئا كثيرا لكنّهم عجزوا في النهاية أن يجعلوه معارضة للقرآن.

فإن قيل: عجز العرب عن معارضته، لعلّه كان من جهة أن القرآن كان من كلام محمد صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم و كان متقدّما في الفصاحة علي جميع العرب، و لهذا قال: «أنا أفصح العرب».

قيل له: ليس الأمر علي ما ظننت، فإنّه يستحيل فيمن نشأبين جماعة يتعاطون البلاغة ويتباهون بالفصاحة، أن يتعلّمها و يأخذها منهم، ثم يبلغ فيها حدّا لايوجد في كلام واحد منهم، بل في كلام جماعتهم، فصل يساوي كلامه في الفصاحة أويدانية أو يقرب منه أو يشتبه الحال فيه!

فإن قيل: هب أنّ القرآن معجزة، و أنّ العرب علموا إعجازه، لعلمهم بإنّه قد تناهي في الفصاحة حدّا. و أنتم فبأيّ طريق علمتم معنا فيه، يا معشر العجم!

قلنا: إنّ العلم بذلك علي وجهين: أحدهما علم تفصيل، و الآخر علم جملة، والعرب علموا ذلك علي سبيل التفصيل، و نحن فقد علمناه علي سبيل الجملة. و طريقته: هو أنّ محمدا صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم تحدّي العرب بمعارضته، فلم يمكنهم الإتيان بمثله فلولا كونه معجزا دالاًّ علي نبوّته، و إلاّ لما كان ذلك كذلك.(1)

8. كلام الشيخ الطوسي:

و للشيخ أبي جعفر محمدبن الحسن الطوسي، شيخ الطائفة، (توفي سنة 460) تحقيق مستوفٍ بشأن إعجاز القرآن، أورده في كتابه (الاقتصاد) الذي وضعه علي اسس علم الكلام و حقّق فيه اصول العقيدة علي مباني الإسلام، نذكر منه ما ملخّصه:

قال: الاستدلال علي صدق النبوّة بالقرآن يتمّ بعد بيان خمسة امور:

1 ـ إنّه ظهر بمكة وادعي النبوّة.

2 ـ إنّه تحدّي العرب بهذا القرآن.

3 ـ إنّه لم يعارضوه في وقت من الأوقات.

4 ـ و كان ذلك لعجزهم عن المعارضة.

5 ـ و إنّ هذا كان لتعذّر خرق العادة. فإذا ثبت ذلك أجمع دلّ علي أنّ القرآن معجز، سواء كان لفصاحته البالغة أم لانّ اللّه‏ صرفهم عن ذلك. و أيّ الأمرين ثبت ثبتت نبوّته صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم .

أمّا ظهوره بمكة و ادعاؤه النبوّة فضروري. و كذا ظهور القرآن علي يده و تحدّيه للعرب أن يأتوا بمثله، لأنّه صريح القرآن في مواضع عديدة.

و أمّا أنّه لم يعارض فلأنّه لو كان عُورض لوجب أن يُنقل، و لو نُقِلَ لَعُلِمَ، لأنّ الدواعي متوفّرة الي نقله، و لأنّ المعارض لو كان لكان هو الحجّة دون القرآن، و نقل الحجّة أولي من نقل الشبهة.

و الذي يدعو الي المعارضة ـ لو امكنت ـ و نَقْلِها هو طلب التخليص ممّا ألزموا به من ترك أديانهم و مفارقة عاداتهم و بطلان ما ألفوه من الرئاسات، و لذلك نقلوا كلام مسيلمة و الأسود العَنَسي و طليحة مع ركاكته و سخافته و بعده عن دخول الشبهة فيه.

و لايمكن دعوي الخوف من أنصاره و أتباعه، إذ لاموجب للخوف مع ضعف المسلمين بمكة و علي فرضه فلايمنع نقله استسرارا، أو في سائر البلاد النائية كالروم و الحبشة و غيرهما، كما نقل هجاؤهم و سبّهم و كان أفحش و كان أدعي للخوف إن كان.

و إذا ثبت أنّهم لم يعارضوه، فإنّما لم يعارضوه للعجز، لأنّ كلّ فعل لم يقع مع توفّر الدواعي لفاعله و شدّة تداعيه عليه، قطعنا علي أنّه لم يفعل للتعذّر. و قد توفّرت دواعي العرب الي معارضته فلم يفعلوها، و قد تكلّفوا المشاقّ من أجله، فقد بذلوا النفوس و الأموال و ركبوا الحروب العظام و دخلوا الفتن، طلبا لإبطال أمره، فلو كانت المعارضة ممكنة لهم لما أختاروا الصعب علي السهل، لأنّ العاقل لايترك الطريق السهل، و يسلك الطريق الوعر الذي لايبلغ معه الغرض، إلاّ أن يختلّ عقله أو يسفه رأيه، و القوم لم يكونوا بهذه الصفة.

و ليس لأحد أن يقول: إنّهم اعتقدوا أنّ الحرب أنجح من المعارضة فلذلك عدلوا إليها. و ذلك أنّ النبي صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم لم يدّع النبوّة فيهم بالغلبة و القهر، و إنّما ادعي معارضة مثل القرآن، و لم يكن احتمال حرب إذ ذاك. ثمّ مع قيام الحرب كانوا في الأغلب مغلوبين مقهورين، فكان يجب أن يقوموا بالمعارضة، فإن انجعت و الاّ عدلوا الي الحرب.

فإن قالوا: خافوا أن يلتبس الأمر فيظنّ قوم أنّه ليس مثله. قيل: قد حصل المطلوب، لأنّ الاختلاف حينذاك يوجب الشبهة، فكان أولي من الترك الذي يقوي معه شبهة العجز.

و ليس لهم أن يقولوا: لم تتوفر دواعيهم الي ذلك. لأنّهم تحمّلوا المشاق، و العاقل لايتكلّف ذلك إذا لم تتوفّر دواعيه الي إبطال دعوي خصمه.

فإن قالوا: إنّما لم يعارضوه، لأنّ في كلامهم ما هو مثله أو مقاربه. قلنا: هذا غير مسلّم. و علي فرض التسليم فان التحدّي وقع لعجزهم فيما يأتي، فلوكان في كلامهم مثله فهو أبلغ لعجزهم في تحقّق التحدّي بالعجز عن الإتيان بمثله في المستقبل.

فإن قيل: و اطأه قوم من الفصحاء. قيل: هذا باطل، لأنّه كان ينبغي أن يعارضه من لم يواطئه، فإنّهم و إن كانوا أدون منهم في الفصاحة، كانوا يقدرون علي مايقاربه ـ علي الفرض ـ لأنّ التفاوت بين الفصحاء لاينتهي الي حدّ يخرق العادة. علي أنّ الفصحاء المعروفين و البلغاء المشهورين في وقته، كلّهم كانوا منحرفين عنه، كالأعشي الكبير الذي في الطبقة الأُولي و من أشبه مات علي كفره، و كعب‏بن زهير، أسلم في آخر الأمر، و هو في الطبقة الثانية، و كان من أعدي الناس له عليه‏السلام و لبيدبن ربيعة، و النابغة الجعدي من الطبقة الثالثة، أسلما بعد زمان طويل، و مع ذلك لم يحظيا في الإسلام بطائل. علي أنّه لو كان لكان ينبغي أن يوافقوه علي ذلك و يقولون له: الفصحاء المبرزون و اطؤوك و وافقوك، فإنّ الفصحاء في كلّ زمان لايخفون علي أهل الصناعة.

فان قيل: لم لايكون النبيّ صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم و هو أفصح العرب، قد تأتّي منه القرآن، و تعذّر علي غيره، أو تعمله في زمان طويل فلم يتمكّنوا من معارضته في زمان قصير؟

قيل: هذا لايتوجّه علي من يقول بالصرفة، لأنّه يجعل صرف هممهم عن ذلك دليلاً علي الإعجاز، ولو فرض تمكّنهم من المعارضة.

و أمّا من قال: إنّ جهة الإعجاز في الفصاحة و البيان، فإن كون النبي صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم أفصح، لايمنع من أن يقارنوه أو يدانوه، كما هو المتعارف بينهم في المعارضة و مقارضة الشعر. علي أنّ العرب لم يتفوّهوا بذلك و لم يقولوا له: أنت أفصحنا، فلذلك يتعذّر علينا ما يتأتّي منك. و أمّا احتمال التعمّل فباطل، لأنّه صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم عارضهم في مدة طويلة أكثر من عشرين عاما يتحدّ اهم طول المدّة.

قال: و إذ قد ثبت أنّ القرآن معجز، لم‏يضرّنا أن لانعلم من أيّ جهة كان إعجازه. غير أنّا نومئ الي جملة من الكلام فيه.

كان المرتضي عليبن الحسين الموسوي رحمه‏الله يختار أنّ جهة إعجازه الصّرفة و هي: أن اللّه‏ تعالي سلب العرب العلوم التي كانت تتأتي منهم بها الفصاحة التي هي مثل القرآن متي راموا المعارضة، و لولم يسلبهم ذلك لكان يتأتّي منهم. و بذلك قال النظّام و أبو إسحاق النصيبي أخيرا.

و قال قوم: جهة الإعجاز الفصاحة المفرطة التي خرقت العادة من غير اعتبار النظم، و منهم من اعتبر النظم و الأُسلوب مع الفصاحة، و هو الأقوي.

و قال قوم: هو معجز لاختصاصه باُسلوب مخصوص ليس في شيء من كلام العرب.

و قال قوم: تأليف القرآن و نظمه متسحيل من العباد، كاستحالة الجواهر و الألوان.

و قال قوم: كان معجزا لما فيه من العلم بالغائبات.

و قال آخرون: كان معجزا لارتفاع الخلاف و التناقض فيه، مع جريان العادة بأنّه لايخلو كلام طويل من ذلك.

و أقوي الأقوال عندي قول من قال: إنّما كان معجزا خارقا للعادة لاختصاصه بالفصاحة المفرطة في هذا النظم المخصوص، دون الفصاحة بانفرادها، و دون النظم بانفراده، و دون الصرفة.

و إن كنت نصرت في شرح الجمل(2) القول بالصرفة، علي ما كان يذهب إليه المرتضي رحمه‏الله من حيث شرحت كتابه، فلم يحسن خلاف مذهبه.

قال: و الذي يدلّ علي ما قلناه و اخترناه: أنّ التحدّي معروف بين العرب بعضهم بعضا، و يعتبرون في التحدّي معارضة الكلام بمثله في نظمه و وصفه، لأنّهم لايعارضون الخطب بالشعر و لاالشعر بالخطب، و الشعر لايعارضه أيضا أِلّا بما كان يوافقه في الوزن و الرويّ و القافية، فلايعارضون الطويل بالرجز، و لاالرجز بالكامل، و لاالسريع بالمتقارب، و إنّما يعارضون جميع أوصافه.

فإذا كان كذلك، فقد ثبت أنَّ القرآن جمع الفصاحة المفرطة و النظم الذي ليس في كلام العرب مثله، فإذا عجزوا عن معارضته، فيجب أن يكون الاعتباربهما.

فأمّا الذي يدلّ علي اختصاصها بالفصاحة المفرطة، فهو أنّ كل عاقل عرف شيئا من الفصاحة يعلم ذلك، و إنّما في القرآن من الفصاحة مايزيد علي كلّ فصيح، و كيف لايكون كذلك و قد وجدنا الطبقة الأوّلة قد شهدوا بذلك و طربوا له، كالوليدبن المغيرة و الأعشي الكبير و كعب‏بن زهير ولبيدبن ربيعة و النابغة الجعدي، و دخل كثير منهم في الإسلام ككعب و النابغة ولبيد، وهمّ الأعشي بالدخول في الإسلام فمنعه من ذلك أبوجهل و فزّعه، و قال: إنّه يحرّم عليك الأطيبين الزنا و الخمر. فقال له: أمّا الزنا فلاحاجة لي فيه، لأنّي كبرت، و أمّا الخمر فلا صبرلي عنه، وانظر فأتته المنيّة واخترم دون الإسلام.

والوليدبن المغيرة تحيّر حين سمعه، فقال: سمعت الشعر و ليس بشعر، والرجز و ليس برجز، والخطب وليس بخطب، وليس له اختلاج الكهنة. فقالوا له: أنت شيخنا، فإذا قلت هذا ضعف قلوبنا، ففكّر و قال، قولوا: هو سحر، معاندةً و حسداً للنبيّ صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم فأنزل اللّه‏ تعالي هذه الآية «إنَّهُ فكَّرَ و قَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّر ـ الي قوله ـ إنْ هَذا الاَّ سِحْرٌ يُؤثَرُ»(3). فمن دفع فصاحة القرآن لم يكن في حيّز من‏يُكَلَّم!

و أمّا اختصاصه بالنظم فمعلوم ضرورة، لأنّه مدرك مسموع، و ليس في شيء من كلام العرب ما يشبه نظمه، من خطبة أو شعر علي اختلاف أنواعه و صفاته. فاجتماع الأمرين منه لايمكن دفعهما...(4).

9. كلام‏القطب الراوندي:

وللمولي قطب الدين أبي الحسن سعيد بن هبة‏اللّه‏ الراوندي (توفي سنة 573) بحث مستوفًي عن إعجاز القرآن، أتي علي جوانبه ببيان كافٍ شافٍ علي أسلوب الكلام القديم، أورده فيالباب الثامن عشر من كتابه (الخرائج) الذي خصّصه بذكر المعجزات، و خصّ هذا الباب باُمّ المعجزات القرآن العظيم. و قد أورده العلّامة المجلسي بطوله في موسوعته الكبري (بحارالأنوار ـ كتاب القرآن)(5) حيث الوفاء و الاستيفاء. و فيمايلي قبسات منه:

قال: اعلم أنّ كتاب‏اللّه‏ المجيد ليس مصدقا لنبيّ الرحمة خاتم النّبيين فقط، بل هو مصدّق لسائر الأنبياء و الأوصياء قبله، و سائر الأوصياء بعده، جملة و تفصيلاً. و ليس جملة الكتاب معجزة واحدة، بل هي معجزات لاتحصي، لأنّ أقصر سورة فيه إنّما هي الكوثر(6)، و فيها إعجاز من جهتين: أحد هما: أنّه قد تضمّن خبرا عن الغيب قطعا قبل وقوعه، فوقع كما أخبر عنه من غير خلف فيه، و هو قوله: «إنَّ شَانِئَكَ هُوَالأبْتَرُ»(7)لما قال قائلهم: أنّ محمدا رجل صنبور(8) فإذا مات انقطع ذكره، و لاخلف له يبقي به ذكره، فعكس ذلك علي قائله، و كان كذلك.

والثاني من طريق نظمه، لأنّه علي قلّة عدد حروفه، و قصر آيه، يجمع نظما بديعا، و أمرا عجيبا: و بشارة للرسول، و تعبّدا للعبادات، بأقرب لفظ و أوجز بيان.

ثم أن السور الطوال متضمّنه للإعجاز من وجوه كثيرة نظما و جزالة و خبرا عن الغيوب، فلذلك لا يجوز أن يقال: انّ القرآن معجز واحد و لا ألف معجز، و لا اضعافه، فلذلك خطّأنا قول من قال: أنّ للمصطفي صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ألف معجز أو ألفي معجز، بل يزيد ذلك عند الإحصاء علي الأُلوف.

ثمّ الاستدلال في أنّ القرآن معجز، لا يتمّ إلاّ بعد بيان خمسة أشياء:

أحدها: ظهور محمّد صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم و ادعاؤه أنّه مبعوث الي الخلق و رسول إليهم.

وثانيها: تحدّيه العرب بهذا القرآن الذي ظهر علي يديه، وادعاؤه أنّ اللّه‏ أنزله عليه و خصّه به.

وثالثها: أنّ العرب مع طول المدّة لم يعارضوه.

ورابعها: أنّه لم يعارضوه للتعذّر و العجز.

وخامسها: أنّ هذا التعذّر خارق‏للعادة.

فإذا ثبت ذلك، فإمّا أن يكون القرآن نفسه، معجزا خارقا للعادة بفصاحته، و لذلك لم يعارضوه، أولأنّ اللّه‏ صرفهم عن معارضته و لولا الصرف لعارضوه، و أيّ الأمرين ثبت صحّت نبوّته صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم لأنّ اللّه‏ تعالي لايصدّق كاذبا، لا يخرق العادة لمبطل.

و أمّا ظهوره صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم بمكة و دعاؤه الي نفسه، فلا شبهة فيه، بل هو معلوم ضرورة لاينكره عاقل و ظهور هذا القرآن علي يده أيضا معلوم ضرورة، و الشك في أحدهما كالشك في الآخر.

و أمّا الذي يدلّ علي أنّه صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم تحدّي بالقرآن، فهو أنّ معني قولنا أنّه تحدّي، أنّه كان يدّعي أنّ‏اللّه‏ تعالي خصّه بهذا القرآن و أنبأه به، و أنّ جبرئيل عليه‏السلام أتاه به، و ذلك معلوم ضرورة، لايمكن لأحد دفعه. و هذا غاية التحدّي،فيالمعني.

و أمّا الكلام في أنّه لم يعارض، فلأنّه لو عورض لوجب أن ينقل، و لو نقل لعُلِم، كما علم نفس القرآن. فلما لم يعلم، دلّ علي أنّه لم‏يكن.

و إنّما قلنا: أنّ المعارضة لو كانت لوجب نقلها، لأنّ الدواعي متوفّرة علي نقلها، و لأنّها ـ حينذاك ـ تكون الحجّة و القرآن شبهة، لو كانت، و نقل الحجّة أولي من نقل الشبهة.

و أمّا الذي نعلم به أنّ جهة انتفاء المعارضة التعذّر لاغير، فهو أنّ كلّ فعل ارتفع عن فاعله مع توفّر دواعيه إليه، علم أنّه ارتفع للتعذّر. و لهذا قلنا أنّ هذه الجواهر و الأكوان ليست بمقدورنا. و خاصّة إذا علمنا أنّ الموانع المعقولة مرتفعة كلّها. فيجب أن نقطع علي أنّ ذلك من جهة التعذّر لاغيره.

و إذا علمنا أنّ العرب تُحُدّوا بالقرآن فلم يعارضوة مع شدّة حاجتهم الي المعارضة، علمنا أنهم لم يعارضوه للتعذّر لاغير. و إذا ثبت كون القرآن معجزا و أنّ معارضته تعذّرت لكونه خارقا للعادة، ثبت بذلك نبوّته المطلوبة.

ثمّ إنّ القرآن معجز، لأنّه صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم تحدّي العرب بمثله، و هم النهاية في البلاغة، و توفّرت دواعيهم الي الإتيان بما تحدّاهم به، ولم يكن لهم صارف عنه ولا مانع منه، ولم يأتوا به. فعلمنا أنّهم عجزوا عن الإتيان بمثله.

و إنّما قلنا: أنّه صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم تحدّاهم به؛ لأنّ القرآن نفسه يتضمّن التحدّي كقوله تعالي: «فأتوا بِسورَةِ مِنْ مِثْلِه»، معلوم أنّ العرب في زمانه و بعده كانوا يتبارون بالبلاغة و يفخرون بالفصاحة، و كانت لهم مجامع يعرضون فيها شعرهم، و حضر زمانه من يعدّ في الطبقة الأُولي كالاعشي و لبيد و طرفة، و زمانه أوسط الأزمنة في استعمال المستأنس من كلام العرب، دون الغريب الوحشي الثقيل علي اللسان، فصحّ أنّهم كانوا الغاية في الفصاحة.

و إنّما قلنا: اشتدّت دواعيهم الي الإتيان بمثله، فإنّه تحدّاهم ثمّ قرّعهم بالعجز عنه بقوله تعالي: «قُلْ لَئِن اجتمَعَت الإنس و الجنّ علي أَنْ يأتوا بِمثلِ هذا القرآن لايأتون بمثلِهِ ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً» و قوله تعالي: «فإنْ لمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلوا».

فإن قيل: لعلّ صارفهم هو قلّة احتفالهم به أو بالقرآن، لانحطاطه في البلاغة! قلنا لاشبهة أنّه صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم كان من أوسطهم في النسب، و في الخصال المحمودة حتي سمّوه الأمين الصدوق، و كيف لايحتفلون به وهم كانوا يستعظمون القرآن حتي شهروه بالسحر و منعوا الناس من استماعه، لئلّا يأخذ بمجامع قلوب السامعين، فكيف يرغبون عن معارضته!(9)

و أمّا وجه إعجاز القرآن فقد اختلف المتكلّمون في جهة إعجازه علي سبعة أوجه فأوّل ما ذكر من تلك الوجوه: ما اختاره المرتضي، و هو أنّ وجه الإعجاز في القرآن أنّ اللّه‏ صرف العرب عن معارضته، وسلبهم العلم بكيفيّة نظمه و فصاحته، و قد كانوا لولا هذا الصرف قادرين علي المعارضة متمكّنين منها.

والثاني: ما ذهب إليه الشيخ المفيد(10) و هو أنّه إنّما كان معجزاً من حيث اختصّ برتبة في الفصاحة خارقة للعادة. قال: لأنّ مراتب الفصاحة إنّما تتفاوت بحسب العلوم التي يفعلها اللّه‏ في العباد، فلايمتنع أن يجري اللّه‏ العادة بقدر من العلوم فيقع التمكين بها من مراتب في الفصاحة محصورة متناهية، و يكون مازاد علي ذلك زيادة غيرمعتادة، معجزاً خارقاً للعادة.

و الثالث: و هو ما قال قوم: إنّ إعجازه من حيث كانت معانيه صحيحة مستمرّة علي النظر و موافقة للعقل.

و الرابع: أنّ جماعة جعلوه معجزاً من حيث زال عنه الإختلال و التناقض علي وجه لم تجر العادة بمثله.

و الخامس: أنّه يتضمّن الاخبار عن الغيوب.

و السادس: إختصاصه بنظم مخصوص مخالف للمعهود.

و السابع: ما ذكره أكثرالمعتزلة: أنّ تأليف القرآن و نظمه معجزان، لا لأنّه تعالي أعجز عنهما بمنع خلقه في العباد، و قد كان يجوز أن يرتفع فيقدر عليه، لكن محال وقوعه منهم كاستحالة إحداث الأجسام و الألوان، و إبراء الأكمه و الأبرص من غير دواء.

قال: و لو قلنا: إنّ هذا الوجوه السبعة كلّها وجوه إعجاز القرآن علي وجه دون وجه، لكان حسنا.

ثمّ أخذ في بيان الاستدلال علي هذه الأوجه، حسبما ذكره القائلون بها:

قال: واستدل المرتضي رحمه‏الله علي أنّه تعالي صرفهم عن المعارضة، و أنّ العدول عنها كان لهذا، لالأنّ فصاحة القرآن خرقت عادتهم، بأنّ الفضل بين الشيئين إذا كثر، لم تقف المعرفة بحالها علي ذوي القرائح الذكيّة، بل يغني ظهور أمريهما عن الرؤية بينهما، و هذا كما لايحتاج الي الفرق بين الخزّ و الصوف الي أحذق البزّازين، و إنّما يحتاج الي التأمّل، الشديد التقارب الذي يشكل مثله.

و نحن نعلم إنّا علي مبلغ علمنا بالفصاحة، نفرّق بين شعر امري القيس و شعر غيره من المحدثين، ولانحتاج في هذا الفرق الي الرجوع الي من هو الغاية في علم الفصاحة، بل نستغني معه عن الفكرة، و ليس بين الفاضل و المفضول من اشعار هؤلاء و كلام هؤلاء قدر ما بين الممكن و المعجز، و المعتاد و الخارج عن العادة. و إذا استقر هذا، و كان الفرق بين سورالمفصل و بين أفصح قصائد العرب غير ظاهر لنا الظّهور الذي ذكرناه، و لعلّه إن كان ثمّ فرق فهو ممّا يقف عليه غيرنا ولا يبلغه علمنا، فقد دلّ علي أنّ القوم صرفوا عن المعارضة و أخذوا عن طريقها.

قال: والأشبه بالحقّ و الأقرب الي الحجّة ـ بعد ذلك القول ـ قول من جعل وجه إعجاز القرآن خروجه عن العادة في الفصاحة، فيكون مازاد علي المعتاد معجزاً، كما أنّه لمّا أجري اللّه‏ العادة في القدرة التي يمكن بها من ضروب افعال الجوارح، كالطفو بالبحر و حمل الجبل، فإنها إذا زادت علي ماتأتي العادة، كانت لاحقة بالمعجزات، كذلك القول هاهنا.

ثمّ إِن هؤلاء الذين قالوا: إِن جهة إعجاز القرآن الفصاحة المفرطة التي خرقت العادة صاروا صنفين:

منهم من اقتصر علي ذلك ولم يعتبر النظم، و منهم من اعتبر مع الفصاحة النظم المخصوص، و قال الفريقان: إذا ثبت أنّه خارق للعادة بفصاحته، دل علي نبوّته...

و أمّا القول الثالث و الرابع فكلاهما مأخوذ من قوله تعالي: «وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِاللّه‏ لَوَجَدُوا فِيهِ اختلافاً كَثِيراً»(11) فحمل الأوّلون ذلك، علي المعني، و الآخرون علي اللفظ. و الآية مشتملة عليهما عامّة، و يجوز أن يكون كلا القولين معجزا علي بعض الوجوه، لارتفاع التناقض فيه، والاختلاف فيه، علي وجه مخالف للعادة.

و أمّا من جعل جهة إعجازه ماتضمّنه من الإخبار عن الغيوب، فذلك لاشك أنّه معجز، لكن ليس هوالذي قصد به التحدّي، لأنّ كثيراً من القرآن خال من الإخبار بالغيب، و التحدّي وقع بسورة غير معيّنة.

و أمّا الذين قالوا: إنّما كان معجزاً لاختصاصه باسلوب مخصوص، ليس بمعهود، فإنّ النظم دون الفصاحة، لايجوز أن يكون جهة إعجاز القرآن علي الإطلاق، لأنّ ذلك لايقع فيه التفاضل، و في ذلك كفاية، لأنّ السابق الي ذلك لابدّ أن يقع فيه مشاركة لمجري العادة كما تبيّن.

و أمّا من قال: إنّ القرآن نظمه و تأليفه مستحيلان من العباد، كخلق الجواهر و الألوان فقولهم به علي الإطلاق باطل، لأنّ الحروف كلّها من مقدورنا، و الكلام كلّه يتركب من الحروف التي يقدر عليها كلّ متكلّم، و امّا التأليف فإطلاقه مجاز في القرآن، لأنّ حقيقته في الأجسام، و إنّما يراد من القرآن حدوث بعضه في أثر بعض، فإن أُريد ذلك فهو إنّما يتعذّر لفقد العلم بالفصاحة و كيفيّة إيقاع الحروف، لا أنّ ذلك مستحيل، كما أنّ الشعر يتعذّر علي العجم لعدم علمه بذلك، لا أنّه مستحيل منه من حيث القدرة، و متي أُريد استحالة ذلك بما يرجع الي فقد العلم فذلك خطأ في العبارة دون المعني.(12)

و أمّا القائلون بأنّ إعجازه الفصاحة، قالوا: إنّ اللّه‏ جعل معجزة كلّ نبيّ من جنس ما يتعاطاه قومه، فقد كان الغالب علي قوم موسي عليه‏السلام السحر، فكانت معجزته العصا واليد البيضاء، فعرفوا، أنّه فوق متعاطاهم فآمنوا. و كذلك كان الغالب في زمن عيسي عليه‏السلام الطبّ، فأظهراللّه‏ علي يده إحياء الموتي و إبراء الأكمه و الأبرص، ممّا لايناله الطبّ فآمنوا به. فهكذا لمّا كان زمن محمد صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم الغالب علي قومه الفصاحة و البلاغة حتي كانوا لايتفاخرون بشيء كتفاخرهم بها، جعل‏اللّه‏ معجزته من ذلك القبيل، فأظهر علي يديه هذا القرآن، و علم الفصحاء منهم أنّ ذلك ليس من كلام البشر، فآمنوا به. و لهذا جاء المخصوصون فآمنوا برسول اللّه‏ صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم كالاعشي مدح رسول‏اللّه‏ صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم بقصيدة و أراد أن يؤمن، فدافعه قريش وجعلوا يحدّثونه بأسوأ مايقدرون عليه، فلم يزالوا بالسعي حتي صدّوه. و جاء لبيد و آمن برسول اللّه‏ صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم و ترك قيل الشعر تعظيماً لأمر القرآن...

قالوا: و من خالفنا في هذا الباب يقول: إنّ المعجز قد يلتبس بالحيلة لكنّه إذا لم يكن طريق الي الفصل بينهما، و هاهنا وجوه من الفصل، منها:

إنّ المعجز إنّما يظهر عند من يكون من أهل هذا الباب و يروّج عليهم، و الحيلة إنّما تظهر عند العوام و تروّج علي الجهّال.

فإن قيل: النبيّ صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم مبعوث الي العرب و العجم، فإذا كان إعجاز القرآن من حيث الفصاحة، فإنّ العجم لايمكنهم ذلك.

قلنا: الفصاحة ليست بمقصورة علي لغة دون اخري. علي أنّه يمكنهم أن يعرفوا ذلك علي سبيل الجملة، إذا علموا أنّه تحدّي فصحاء العرب فأعجزهم، و في ذلك كفاية.

و أمّا القائلون بأنّ إعجازه بالفصاحة و النظم معا، قالوا: إنّا رأينا النبي صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم أرسل التحدّي إرسالاً و أطلقه إطلاقاً، و المتفاهم من الإطلاق هو التحدّي بهما معاً، لأنّ العادة عند العرب جارية في التحدّي باعتبار طريقة النظم مع الفصاحة، كما في تحدّي شعراء العرب و خطبائهم في الشعر و الخطابة، ليس في الفصاحة فقط و إنّما هي مع نظمه العروضي واُسلوبه الإيقاعي أيضا. هذا هوالمتبادر الي الذهن حينذاك من التحدّي.

علي أنّ التحدّي لوكان بمجرد الفصاحة لوقعت المعارضة ببعض فصيح شعرهم أو بليغ كلامهم، إذ قد يخفي الفرق بين قصار السور و فصيح كلام العرب. فكان يجب أن يعارضوه، فإذ لم يفعلوا، فلأنّهم فهموا من التحدّي مجموع الفصاحة و طريقة النظم معا، إذ لم يجتمعا لهم، واختصاص القرآن بنظم يخالف سائر ضروب الكلام المعروفة عندالعرب.

وقد قال المرتضي: إنّ التحدّي وقع بالإتيان بمثله في فصاحته و طريقته في النظم، ولم يكن بأحذ الأمرين، فلو وقعت المعارضة بشعر منظوم أو برجز منظوم أو بمنثور من الكلام ليس له طريقة القرآن في النظم، لم تكن واقعة موقعها، والصرفة علي هذا إنّما كانت بأن يسلب اللّه‏ كل من رام المعارضة، للعلوم التي يتأتي معها مثل فصاحة القرآن و طريقته في النظم. و لهذا لايصاب في كلام العرب مايقارب القرآن في فصاحته و نظمه.

و أمّا القائلون بأنّ إعجاز القرآن بالنظم المخصوص، قالوا: وجدنا الكلام منظوما و منثورا و المنظوم هوالشعر، و أكثر الناس لايقدرون عليه، فجعل اللّه‏ معجز نبيّه النمط الذي يقدر عليه كلّ أحد و لا يتعذّر نوعه في كلّهم، و هو الذي ليس بمنظوم، فيلزم حجّته الجميع.

قال: والذي يجب أن يعلم ـ في العلم بإعجاز القرآن ـ هو أن يعلم مباني الكلام و أسباب الفصاحة في ألفاظها، و كيفيّة ترتيبها، و تباين ألفاظها، و كيفية الفرق بين الفصيح و الأفصح، و البليغ و الأبلغ، و تعرف مقادير النظم والأوزان، و ما به يبين المنظوم من المنثور و فواصل الكلام، و مقاطعه، و مبادئه، و انواع مؤلّفه و منظومه.

ثمّ ينظر فيما أتي به حتي يعلم أنّه من أيّ نوع هو، و كيف فضّل علي ما فضّل عليه من أنواع الكلام، حتي يعلم أنّه من نظم مباين لسائر المنظوم، و نمط خارج من جملة ما كانوا اعتادوه فيما بينهم، من انواع الخطب و الرسائل و الشعر و المنظوم و المنثور و الرجز و المخمّس و المزدوج و العريض و القصير.

فإذا تأمّلت ذلك و تدبّرت مقاطعه و مفاتحه، و سهولة ألفاظه، و استجماع معانيه، و أنّ كلّ واحد منها لوغيّرت لم يمكن أن يؤتي بدلها بلفظة هي أوفق من تلك اللفظة، و أدلّ علي المعني منها، و أجمع للفوائد و الزوائد منها.

و إذا كان كذلك، فعند تامّل جميع ذلك، يتحقّق ما فيه من النظم اللائق، و المعاني الصحيحة التي لا يكاد يوجد مثلها علي نظم تلك العبارة، و إن اجتهد البليغ و الخطيب.

قال: و في خواص نظم القرآن وجوه:

أوّلها: خروج نظمه عن صورة جميع أسباب المنظومات، ولولا نزول القرآن لم يقع في خلد فصيح سواها، و كذلك قال عتبة ابن ربيعة لمّا اختاره قريش للمصير الي النبي صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، قرأ عليه حم السجدة، فلمّا انصرف قال: سمعت انواع الكلام من العرب، فما شبّهته بشي منها، إنّه ورد عليّ ماراعني. و نحوه ما حكي اللّه‏عن الجنّ. فلمّا عَدُمَ وجود شبيه القرآن من انواع المنظوم، انقطعت اطماعهم عن معارضته.

و الخاصّة الثانية: في الروعة التي له في قلوب السامعين، فمن كان مؤمناً يجد شوقاً إليه و انجذابا نحوه، و حكي أنّ نصرانيّاً مرّ برجل يقرأ القرآن فبكي فقيل له: ما أبكاك؟ قال: النظم.

و الثالثة: أنّه لم يزل غضّاً طريّاً لايخلق ولايملّ تاليه. و الكتب المتقدّمة عارية عن رتبة النظم، و أهل الكتاب لايدّعون ذلك إليها.

و الرابعة: أنّه في صورة كلام هو خطاب لرسوله تارة و لخلقة اخري.

و الخامسة: مايوجد من جمعه بين الأضداد، فإنّ له صفتي الجزالة و العذوبة و هما كالمتضادّين.

و السادسة: ما وقع في أجزائه من امتزاج بعض انواع الكلام ببعض، و عادة ناطقي البشر تقسيم معاني الكلام.

و السابعة: أنّ كلّ فضيلة من تأسيس اللغة في اللسان العربي هي موجودة في القرآن.

و الثامنة: عدم وجود التفاضل بين بعض أجزائه من السور، كما في التوراة كلمات عشر تشتمل علي الوصايا، يستحلفون بها لجلالة قدرها. وكذا في الإنجيل أربع صحف، و محاميد و مسابيح يقرأونها في صلواتهم.

و التاسعة: وجود مايحتاج العباد الي علمه من اصول دينهم و فروعه، من التنبيه علي طرق العقليّات، و إقامة الحجج علي الملاحدة و البراهمة و الثنويّة، و المنكرة للبعث القائلين بالطبائع بأوجز كلام و أبلغه. ففيه من أنواع الإعراب و العربيّة، و المحكم و المتشابه، و الحقيقة و المجاز، و الناسخ و المنسوخ. و هو مهيمن علي جميع الكتب المتقدّمة.

و العاشرة: وجود قوام النظم في أجزائه كلّها، حتي لايظهر في شيء من ذلك تناقض ولااختلاف، و له خواصّ سواها كثيرة.(13)

قال: واعلم إِنّه قد تضمّن القرآن ـ و الأحاديث الصحيحة ـ الإخبار عن الغيوب الماضية و المستقبلة، فأمّا الماضية فكالإخبار عن أقاصيص الأوّلين و الآخرين. من غير تعلّم من الكتب المتقدّمة، علي ما ذكرنا.

و أمّا المستقبلة فكالإخبار عمّا يكون من الكائنات، و كان كما أخبر عنها علي الوجه الذي أخبر عنها علي التفصيل، من غير تعلّق بما يستعان به علي ذلك، من تلقين ملقّن و إرشاد مرشد، أو حكم بتقويم أو رجوع الي حساب. كالكسوف و الخسوف، و من غير اعتماد علي اصطرلاب و طالع، و ذلك قوله تعالي: «لِيُظْهِرهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ»(14).

و كقوله: «مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُون * فِي بضْعِ سِنينَ»(15).

و كقوله: «سَيُهزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبر»(16).

و كقوله: «لاَ يَأْتُونَ بِمثْلِهِ وَ لَو كان بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً»(17).

و كقوله: «فَإن لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعلُوا»(18).

و كقوله: «وَعَدَكُمْ اللّه‏ُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأَخُذُونها ـ الي قوله ـ قَدْ أَحَاطَ اللّه‏ُ بهَا»(19).

و نحو ذلك من الآيات، و كان كلّها كما قال.

و وجه آخر، و هو ما في القرآن ـ و الأحاديث ـ من الإخبار عن الضمائر:

كقوله: «إذْ هَمَّت طَائفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا»(20)، من غير أن ظهر منهم قول أو فعل بخلاف ذلك.

و كقوله: «و إذا جَاءُوك حَيَّوكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللّه‏ُ وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ»(21).

و كقوله: «و اذ يعدكم اللّه‏ إحْدَي الطَّائفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تكونُ لَكُمْ»(22) يخبرهم بما يريدون في أنفسهم و ما يهمّون به.

و كعرضه تمنّي الموت علي اليهود في قوله: «فتَمَنَّوا المَوْتَ إن كُنْتُم صادقين ـ الي قوله ـ وَلايَتَمَنَّونَهُ أَبَدا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهم»(23) فعرفوا صدقه، فلم يجسر أحدهم أن يتمنّي الموت، لانّه صلي‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم قال لهم: إن تمنّيتم الموت متّم. فدلّ جميع ذلك علي صدقه بإخباره عن الضمائر(24).


1. شرح الأُصول الخمسة، للقاضي عبدالجبار: ص586ـ594.

2. في كتابه (تمهيد الأُصول) شرحاً علي القسم النظريّ من جمل العلم و العمل، و قد طبع أخيراً (1362 ه·· ش) في جامعة طهران، وسننقل كلامه عند التعرض للقول بالصرفة.

3. المدّثر: 18 ـ 24.

4. الاقتصاد في أُصول الاعتقاد: ص 166 ـ 174.

5. بحارالأنوار: ج 89 ص 121 ـ 154 ط·· بيروت.

6. ستوافيك رسالة الزمخشري في إعجاز سورة الكوثر بحثاً مستوفٍ كلياً عن إعجاز القرآن أوّلاً، و عن خصوص هذه السورة المباركة ثانياً...

7. الكوثر: 3.

8. الصنبور ـ كعصفور ـ : النخلة المنفردة من النخيل، و التي دقّت من أسفلها و انجرد كَرَبُها و قلّ حملها، ثم كنّي عن الرجل الضعيف الذليل، بلا أهل و لاعقب و لا ناصر.

9. بحارالأنوار: ج 89 ص 121 ـ 125.

10. لعلّه في غير كتابه (أوائل المقالات) فقد ذهب فيه مذهب النظّام كما يأتي.

11. النساء: 82.

12. بحارالأنوار: ج 89 ص 127 ـ 130.

13. بحارالأنوار: ج 89 ص 131 ـ 139. و الخرائج و الجرائح متقطّعاً: ج 3 ص 971 ـ 1106.

14. التوبة: 33.

15. الروم: 3 ـ 4.

16. القمر: 45.

17. الإسراء: 88.

18. البقرة: 24.

19. الفتح: 20 ـ 21.

20. آل عمران: 122.

21. المجادلة: 8.

22. إنفال: 7.

23. الجمعة: 6 ـ 7.

24. الخرائج و الجرائح: ج 3 ص 1027 ـ 1029 و راجع مختصره: ص 267.

/ 1