محمد هادي معرفت - إعجاز القرآنی نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

إعجاز القرآنی - نسخه متنی

محمد هادی معرفت

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید




إعجاز القرآني


محمد هادي معرفت


السؤال الثاني: لو كانت الفصاحة هي الوجه في كون القرآن معجزا لَما كان فيه دلالة علي صدق الرسول صلي الله عليه و آله وسلم و قد تقرّر كونه داّلا علي صدقه، فيجب أن لايكون الوجه في اعجازه هي الفصاحة، بل الصّرفة كما تقول أصحابها، أو وجْهٌ آخر غير الفصاحة، و انّما قلنا: انّه لو كان الوجه في اعجازه الفصاحة لَمَا كان فيه دلالةٌ علي الصدق، الدلالة علي الصدق انّما تقع اذا كانت موجودةً من جهة اللّه تعالي الاّ أنّه تعالي ليس فاعلاً للفصاحة من جهة أنّ الفصاحة المَرْجعُ بها الي خُلوص الكلام من التعقيد، و البلاغةُ ترجعُ الي مطابقة الكلام و حسن تأليفه، و هذه كلّها مقدورةٌ لنا، و لهذا بطل أن يكون الاعجازُ حاصلاً بها، فاذن لابدّ من أن يكون وجه الاعجاز متعلّقا بقدرة اللّه تعالي، لانّه هو المتولّي لصدق أنبيائه، فكلُّ ما كان من المعجزات لايُقَدَّرُ كونه من جهته، فانّه لا يكون فيه دلالة علي


صدق مَنْ ظهر عليه، و انما قلنا: انّ فيه دلالةً علي الصدق، و هذا ظاهر لا يمكن انكاره، فانّ القرآن منْ أبْهَر علي صدق صاحب الشريعة (صلوات اللّه عليه)، فلو كان وجهُ اعجازهِ هو الفصاحة لم يكن فيه دلالةُ علي الصدق، لانّ الفصاحة و البلاغة المرجعُ بهما الي انتظام الكلام علي وجه مخصوص لا مزيد عليه، و ما من وجهٍ من وجوه النظم الا و هو مقدورٌ للعباد بكلّ حال، و هذا يُبطل كونَه دالاًّ علي صدقه، و قد تقرّر كونه دليلاً علي الصدق، فبطل كون اعجازه هو الفصاحة.


وجوابه أنّا قد قرّرنا أنّ الوجه في اعجازه هو الفصاحة و البلاغة مع النظم بما لا مَطْمَع في اعادتِه.


قولُه لوكانت الفصاحة وجها في اعجازه لما كان له دلالة علي الصدق، قلنا: هذا فاسدٌ فانّ النظْم و ان كان مقـدورا لنـا، لكنّه قـد يقع علـي وجهٍ لا يمكنُ كونه مقدورا لنا، و لهذا فانّ العْلمَ مقدورٌ لنا، و الفعلُ من جنس العلوم، و قد استحال كونها مقدورة للعباد، لِمَا كانت واقعة علي وجه يستحيل وقوعه في حق العباد، فانَّ جنس الحركة مقدورٌ لنا، و حركةٌ المرتعش و ان كانت من جنس الحركة، لكنّها لمّا وقعتْ علي وجهٍ يتعذّرُ علي العباد جاز الاستدالالُ بها علي اللّه تعالي، فهكذا، حال البلاغة، فانّها و ان كانت من قبيل النظم و التأليف. و هو مقدور لنا، لكنّه لمّا وقع علي وجهٍ يتعذّرُ تحصيلُه من جهتنا، كان دليلاً علي الصدق من هذه الجهة، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن القرآن دالٌ علي صدق مَنْ ظهر علي يده، و ما ذالك الاّ لكونه مختصا بالوقوع من جهة اللّه تعالي مع كون جنسه من مقدور العباد، و فيه دلالة علي صدْقه كما بقوله في سائر المعجزات الدالة علي صدقه، و ان لم يكن لها تعلقٌ بمقدور العباد، كاطعام الخلق الكثير، من الطعام اليسير، ونُبُوع الماء مِنْ أصابعه، الي غير ذالك من المعجزات الباهرة له(عليه الصلاة والسلام).


السؤال الثالث: هو أنّ الصحابة (رضي اللّه عنهم) لما اهتمّوا بجَمْع القرآن بعد الرسول صلي الله عليه و آله وسلم و كانوا يطلبون الآية، و الآيتين، ممّن كان يحفظها منهم، فان كان الرواي مشهورَ العدالة قَبلُوها منه، و انْ كان غير مشهور العدالة لم يقبلوها منه، و طلبوا علي ذلك بَيِّنَةً فلو كان الوجه في اعجازه هو الفصاحة كما زعمتم، لكان متميّزا عن سائر الكلام و كان لا وجه للسؤال، لِمَا يظهر من التمييز، و في هذا دلالة علي أنّ وجه اعجازه هو الصرفة، أو غيرها، دون الفصاحة.


وجوابه من وجهين:


أمّا أوّلا: فلانّا لا نسلّم أنّ الرسول صلي الله عليه و آله وسلم تَوَفَّاهُ اللّه تعالي ولم يكن القرآن مجموعا، بل مامات عليه السلام الا بعد أن جَمَعه جبْريلُ، و هذه الرواية موضوعة مختلقةٌ لا نسلّمها، و لهذا قال لما نَزَل صَدْرُ سورة بَرَاءَة: (أثبتوها في آخِرِ سُورَة الانفال) فما قالوه منكَرٌ ضعيفٌ.


و أمّا ثانيا: فلانّ الاختلافَ انّما وقع في كتب القرآن و جمْعه في الدّفاتر، فأمّا جَمْعُه فمها لم يقع فيه تردّد أنّه كان في أيام الرسول صلي الله عليه و آله وسلم ، و انّما كان مجموعا في صدُور الرجال، فأمّا كَتْبه فلعلّه انّما كان بعد الرسول صلي الله عليه و آله وسلم ، و لهذا فانّ فانّ المصاحف قد كانت كثُرت بعد الرسول صلي الله عليه و آله وسلم ، فلمّا وقع فيها الخلافُ، فَعَلَ (عُثمانُ) في خلافته ما فَعَلَ مِنْ مَحوِهَا كلّها، و كَتْبِه مصحَفَه الذي كَتَبه.


السؤال الرابع: هو أنّ ابن مسعود(رضي اللّه عنه) اشتبه عليه الفاتحة والمعوّذتان، هل هنّ من القرآن اولا، فلو كان الوجه في الاعجاز هو الفصاحة لكان لايلتبس عليه شيءٌ من ذلك.


و جوابه من وجيهن:


أمّا أوّلا: فلاءن ابن مسعود لم يُنكر كونها نزلت من اللوح المحفوظ، و انّ جبريل أتي بها من السماء، فهنّ قرآنٌ بهذه المعاني، و انّما أنكَر كتبها في المصاحف و قال هنّ وارداتٌ علي جهة التبرّك و الاستعاذة، فلهذا كن قرآنا بما ذكرناه من المعاني، و لم يكنَّ قرآنا لورودها لهذا المقصد الخاصّ، و هذا في التحقيق يؤولُ الي العبادة.


والمقاصد المعنويه متفقٌ عليها كماتري.


و أمّا ثانيا: فلانّ هذا رَأيٌ لا بن مسعود فلان يكون مقبولا، و الحقُّ في المسألة واحدٌ، فخطؤُه فيها كخطأ غيره ممّن خالَفَ دلالةً قاطعةً، ولنقتصر علي هذا القدر من الاءسئلة ففيه كفاية لغرضنا، و استقصاءُ الكلام علي مثل هذا القاعدة، انما يليق بالمباحث الكلاميّة، و المقاصد الدينيّة، و انْ نَفَّس اللّه لنا في المُهْلَة، و تراخَتْ مُدَّةُ الامهال، ألَّفْنا كتابا نذكر فيه كيفيَّة دلالة المعجز علي صدق مَنْ ظهر علي يده، و نُجيبُ فيه عن شكوك المخالفين بمعونة اللّه تعالي، فالنيّة صادقة في ذلك ان شاءاللّه تعالي(1).


* * *


13 ـ كلام السيد شبّر:


ولخاتمة المحدّثين السيد عبداللّه شبّر (توفي سنة 1242) كلام مستوفٍ بوجوه اعجاز القرآن حسبما فصّله المحقّقون من علمائنا الاماميّه و ورد في المأثور عن الائمّة المعصومين عليهم السلام أورده في كتابه (حق اليقين في معرفة اُصول الدين). قال: قد وقع الخلاف بين العلماء في أنّ وجه اعجاز القرآن هل هو لأجل كونه في أعلي مراتب الفصاحة و منتهي مرتبة البلاغة، بحيث لايمكن الوصول اليه و لا يتصور الاتيان بمثله. أو من جهة صرف قلوب الخلائق عن الاتيان بمثله و ان كان ممكنا. و با لثاني قال السيد المرتضي رحمه الله والاكثر علي الاوّل. والحقّ أنّ اعجـاز القرآن لوجوه عديدة نذكر جملة منها:


1 ـ أنّه مع كونه مركّبا من الحروف الهجائية المفردة التي يقدر علي تأليفها كلُّ أحد، يعجز الخلق عن تركيب مثله بهذا التركيب العجيب و النمط الغريب.


2 ـ من حيث متيازه عن غيره مع اتحاد اللغة، فانّ كلّ كلام و ان كان في منتهي الفصاحة و غاية البلاغة اذا زيّن و رصّع بجواهر الآيات القرآنية وَجَدْتَ له امتيازا تاما و فرقا واضحا يشعربه كلّ ذي شعور.


3 ـ من جهة غرابة الاُسلوب واعجوبة النظم. فانّ من تتبّع كتب الفصحاء و أشعار البلغاء و كلمات الحكماء، لايجدها شبيهة بهذا النظم العجيب و الاسلوب الغريب و الملاحة و الفصاحة ويكفيك نسبة الكفار له الي السحر لاخذه بمجامع القلوب.


4 ـ من حيث عدم الاختلاف فيه، ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، فلاتجد فيه مع هذا الطول كلمة خالية من الفصاحة خارجة عن نظمه و اسلوبه. و أفصح الفصحاء اذا تكلّم بكلام طويل تجد في كلامه أو أشعاره غاية الاختلاف في الجودة و الرداءة. و أيضا لا اختلاف في معانيه و لا تناقض في مبانيه. ولو كان منتحلا و مفتري ـ كما زعمه الكفار ـ لكثر فيه التناقض و التضادّ، فـانّ الكاذب تخونـه ذاكرتـه و يبدو عُواره.


5 - من حيث اشتماله عن كمال معرفة اللّه و ذاته و صفاته و اسمائه ممّا تحيّر فيه عقول الحكماء و المتكلّمين.


6 - من حيث اشتماله علي الآداب الكريمة و الشرائع القويمة و الطريقة المستقيمة، في نظم البلاد و سياسية العباد في المعاش و المعاد.


7 - من حيث اشتماله علي اخباره بخفايا قصص الماضين ممّا لم يعلمه الخواصّ فيكف بالعوامّ. كما في الحديث عن أصحاب الكهف، و ما دار بين موسي و الخضر، و قصّة ذي القرنين و قصص ابراهيم و لوط و يوسف (عليهم السلام).


8 - من حيث اشتماله علي الاخبار عن الضمائر و ابداء ما في الصدور، ممّا لا يطلع عليه الاّ علاّم الغيوب و هي كثيرة في القرآن بشأن الكفار و المنافقين.


9 - من حيث اشتماله علي اخبار بمستقبل الايام في مواطن كثيرة:


10 - من حيث أنّه لا يخلق علي طول الزمان ولا يبلي علي كثرة التكرار. كلّما تلوته أو تلي عليك وجدته غضّا طريّا ممّا لا يوجد في غيره...(2) .


* * *


14 - العلاّمة هبة الدين:


و سار علي منها جه و زاد عليه علاّمة بغداد السيّد هبة الدين الشهرستاني (توفي سنة 1386) في أثره الباقي «المعجزة الخالده»(3) قال: انَّ أكبر ميزة في القرآن - و هي التي جعلته فوق المعجزات كها - هي أنّها مجموعة فصول ليست سوي صبابة أحرف عربيّة، من جنس كلمات العرب، بل و من أيسر اعمال البشر... و قد فاقت مع ذلك عبقريّة كلّ عبقريّ، و لم يخلق ربّ الانسان للانسان عملاً بعد الافتكار، أيسر لديه من الكلام... و كلّما كان العمل البشريّ أيسر صدورا و أكثر وجودا، قل النبوغ فيه، وصعب افتراض الاعجاز و الاعجاب منه. غير أنّ الفصول القرآنيه علي أنَّها صبابة أحرف العرب و من جنس أيسراعمالهم، تجد العبقريّة فيها ظاهرة بأجلي المظاهر السامية علي عبقريّة كلّ شاعر و ساحر... و تراها علي أعظم جانب من التأثير. مع أنّها كما أشاراليها القرآن عبارة عن (أ. ل. م. ك. ه. ي. ع. ص...الخ) هي الاحرف العربية المبذولة. ولكن تأليف أمثال آية منها فوق وسع العرب و العجم.


و قد قيل ـ و هو الصحيح ـ الناس كالناس و الايام واحدة... فأصدق محكّ لمعرفة أحوال الاوّلين... هو مطالعة أحوال الآخرين، و قياس الماضي علي الحال.


و نري الناس في عهدنا مطبوعين علي استحباب الشهرة و الاثرة و طلب التفاضل و التفاخر... و الشعب العربي المعاصر لنزول القرآن كان و لا شك منطويا علي هذا الشعور تماما... فلما لم يندفع الي مباراته، و لم يعارضوه ان كانوا يرونه من كلام محمد(صل اللّه عليه وآله) و هو فرد منهم و تربّي مثلهم علي تربة الحجاز الخصبة منبت الفصاحة و البلاغة؟!


ليت شعري، ممّ و بم أعجزت عبقريّةُ ذلك الفرد الوفهم المعتزّة بألوف، و كيف عجزتهم اسطر و كلمات و حروف؟!


قال: للقرآن مزايا جمّة هي ذات شأن كبير نذكر منها مايلي كرؤوس أقلام:


1 - فصاحة ألفاظه، الجامعة لكلّ شرائطها.


2 - بلاغته: رعايته التامّة مقتضي الحلال و المقام.


3 - سمّوا المعني و علوّ المرمي و استهدافه الكمال الاسمي و الجمال الارقي.


4 - أنباؤه الغيبيّة و أسراره العلميّة.


5 ـ قوانينه الحكيمة و تشريعه القويم.


6 ـ سلامته عن التعارض و التناقض و الاختلاف.


7 ـ طراوته مع كلّ زمان كلّما تلي و أينما تلي.


8 ـ قوة حججه و سلطان برهانه.


9 ـ اشتماله علي رموز مدهشة للفكر و مذهلة للعقول.


10 ـ جذبته الروحيّة و جذوته القدسيّة اللمكوتيّة، ذات خلابة للالباب و سحر العقول وافتنان النفوس.


قال: هذه بعض مزايا القرآن ممّا هو من وجوه التفوّق و الاعجاز... .


أمّا أنا فقد وقع اختياري ـ بعد طول اختباري ـ علي الوجه الاخير فيما عدّدناه، مع البلاغة الجامعة، فهما وجه الاعجاز المقصود من آيات التحدّي.


أجل انّ جذابته الروحيّة، الناشئة عن كونه كلام خالقنا الربّ الحكيم، محسوسة للشرقيّ و الغربيّ، و العجميّ و العربيّ، لا ينازعنا فيه أحد.


أمّا سائر وجوه الحسن و الامتياز، فهي من آثار كونه كلام اللّه ، و مؤثّرات معدّه في تكوين اعجازه، و جذباته الروحية... و حتي اَنّ جمهورالعلماء، الذين عبّروا عن اعجاز القرآن ببلاغته، لعلهم اراد وا ما أردنا: من جاذبيتّه الروحيّة فوق جمال اُسلوبه وحسن نظمه و غريب سبكه و عجيب نضده... .(4)


* * *


قال الاستاذ الفكيكي: و ممّن لا حظ هذه المزيّة العجيبة (الجذبة الروحيّة) أيضا عّلامة الزمان الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء في كتابه «الدين و الاسلام». و العلاّمة الاستاذ السيد رشيد رضا صاحب المنار في كتابه «الوحي المحمدي» و نابغة الادب و البيان مصطفي صادق الرافعي في كتابه «اعجاز القرآن»(5).


سنعرض نماذ ج من كلماتهم الرشيقة بهذا الشأن تباعا ان شاءاللّه .


* * *


ثانيا: الاعجاز في دارسات اللاحقين من علماء و كتّاب معاصرين:


قد يقال: كم ترك الاوّل للآخر! و اخري يقال: ما ترك الاوّل اللآخر. فان كان في المثل الاوّل جزاف، فانَّ في المثل الثاني مبالغة ظاهرة. نعم كان الاوائل قد مهّدوا السبل لدراسات الآخرين و أسّسوا و أبدعوا و حازوا قصب السبق. و جاء اللاحقون ليستمروا علي أثرهم علي الطريقة المعّبدة من ذي قبل، لكنّهم زادوا و نقّحوا و هذّبوا، و بذلك نضجت الافكار و توسّعت العقول و اكتملت الآراء و الانظار.


أمّا الذي زاده الخلف علي السلف في مسألة اعجاز القرآن، فهو الذي لمسوه من تناسق نظمه البديع و تناسب نغمه الرفيع، كانت لاجراس صوته الرصيف رنّة، و لالحان موسيقاه اللطيف نسمة و تفحة قدسيّة ملكوتيّة ذات جذوة و جذبة، لايوجدلها مثيل في أيّ توقيع من تواقيع الموسيقي المعهودة ذات الاشكال و الالوان المعروفة.


انّه منتظم علي أوزان لا كأوزان الشعر، و علي قوا في السجع و ليس بسجع، ففيه خاصّيّة النظم و هونثر، فهو كلام منظوم و منثور في نفس الوقت، كما هو مسجّع و مقفّي أيضا في عين الحال. و مع ذلك فهو ليس بأحدها، و انّما هو كلام فريد في نوعه و فذّ في اسلوبه، انّه كلام اللّه فوق كلام المخلوقين.


هذا هو الذي أحسّته أرباب الفنون و أصحاب الاذواق الظريفة بشأن القرآن الكريم، اذا تليت آياته علي نهجها الاصيل، ذات روعة و خلابة، كما قال قائلهم: انّ له لحلاوة و انَّ عليه لطلاوة.


1 - كتب سيد قطب في كتابه «التصوير الفني» فصلاً عن الايقاع الموسيقي في القرآن، و ذكر أنّ الموسيقيّ المبدع الاستاذ «محمد حسن الشجاعي» تفضّل بمراجعته و ضبط بعض المصطلاحات الفنّية الموسيقيّة عليه.. جاء فيه:


ان هذا الايقاع متعّدد الانواع، و يتناسق مع الجوّ، و يؤدي وظيفه أساسيّة في البيان.


قال: و لما كانت هذه الموسيقي القرانيه اشعاعا للنظم الخاصّ في كل موضع، و تابعة لقصر الفواصل و طولها، كما هي تابعة لانسجام الحروف في الكلمة المفردة، و لانسجام الالفاظ في الفاصلة الواحدة... فاننا نؤثر أن نتحدّت عن هذا الظواهر كلّها مجتمعة.


جاء في القرآن الكريم «و ما علّمناه الشِّعر و ما ينبغي لَهُ ان هو الاّ ذكْرُ و قرآن مبينٌ»(6).


و جـاء فيه حكايـة عـن كفار العـرب: «بَلِ افْتَراهُ بَلْ هو شَاعِرٌ.»(7).


و صدق القرآن الكريم، فليس هذا النسق شعرا. ولكن العرب كذلك لم يكونوا مجانين ولا جاهلين بخصائص الشعر، يوم قالوا عن هذا النسق العالي: انّه شعر!


لقد راع خيالهم بما فيه من تصوير بارع؛ و سحر وجدانهم بما فيه من منطق ساحر، و أخذ أسماعهم بما فيه من ايقاع جميل. و تلك خصائص الشعر الاساسية، اذا نحن أغفلنا القافية و التفاعيل.


علي أنّ النسق القرآني قد جمع بين مزايا النثر و الشعر جميعا. فقد أعفي التعبير من قيود القانية الموحدة و التفعيلات التمامة؛ فنال بذلك حريّة التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامّة. و أخذ في الوقت ذاته من خصائص الشعر، الموسيقي الداخلية، و الفواصل المتقاربة في الوزن التي تغني عن التفاعيل؛ و التقفية التي تغني عن القوافي؛ و ضمّ ذلك الي الخصائص التي ذكرنا، فشأن النثر و النظم جميعا(8).


و حيثما تلا الانسان القرآن أحسّ بذلك الايقاع الداخلي في سياقه؛ يبرز بروزا واضحا في السور القصار، و الفواصل السريعة، و مواضع التصوير و التشخيص بصفة عامة؛ و يتواري قليلاً أو كثيرا في السور الطوال، ولكنه ـ علي كلّ حال ـ ملحوظ دائما في بناء النظم القرآني(9).


و سنأتي علي أمثلة ضربها لذلك في فصل قادم(10) ان شاءاللّه .


* * *


2 ـ و قال الاستاذ مصطفي محمود قد اكتشفت منذ الطفولة دون أن أدري، حكاية الموسيقي الداخلية الباطنة في العبارة القرانيه. و هذا سرّ من أعمق في التركيب القرآني... انّه ليس بالشعر و با لنثر و لا بالكلام المسجوع... و انّما هو معمار خاصّ من الالفاظ صفّت بطريقة تكشف عن الموسيقي الباطنة فيها. و فرق كبير بين الموسيقي الباطنة و الموسيقي الظاهرة.


و كمثل نأخذ بيتا لشاعر مثل عمربن أبي ربيعة، اشتهر بالموسيقي في شعره... البيت الذي ينشد فيه:


أتحب القتول اخت الرباب؟ قال لي صاحبي ليعلم مابي


أنت تسمع و تطرب و تهتزّ علي الموسيقي... ولكن الموسيقي هنا خارجية صنعها الشاعر بتشطير الكلام في أشطار متساوية ثمّ تقفيل كلّ عبارة تقفيلاً واحدا علي الباء الممدودة.


الموسيقي تصل الي اذنك من خارج العبارة و ليس من داخلها، من التقفيلات (القافية) و من البحر و الوزن.


أمّا حينما تتلو: «والضُّحَي و الليل اذا سَجَي..»(11) فأنت أمام شطرة واحدة... و هي بالتالي تخلو من التقفية و الوزن و التشطير، و مع ذلك فالموسيقي تقطر من كلّ حرف فيها، من أين، و كيف؟


هذه هي الموسيقي الداخليّة، و الموسيقي الباطنة، سرّ من أسرار المعمار القرآني، لايشاركه فيه أيّ تركيب أدبي.


و كذلك حينما تقول: «الرَّحمانُ عَلي الْعَرشِ اسْتَوَي» (12). حينما تتلو كلمات زكريا لربه: «قَالَ رَبِّ انّي وهن الْعَظْمُ مِنّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأسُ شَيْبا و لمْ أَكُنْ بِدُعَائِك رَبَّ شَقِيّا»(13) أو كلمة اللّه لموسي: «انَّ السّاعَةَ آتيةٌ أكَادُ اخفِيَها لِتُجَْزي كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعي»(14). أو كلمته تعالي ـ و هو يتوعّد المجرمين ـ «انَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِما فَانَّ لَهُ جَهَنَّم لايَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيي»(15).


كلّ عبارة بنيان موسيقي قائم بذاته ينبع فيه الموسيقي من داخل الكلمات و من ورائها و من بينها، بطريقة محيّرة لاتدري كيف تتم؟!


و حينما يروي القرآن حكاية موسي بذلك الاسلوب السيمفوني المذهل:


«وَلَقَدْ أَوْحَيْنا الَي مُوسي أَنْ أَسْربِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَريقا فِي الْبَحْرِ يَبَسا لا تخافُ دَرَكا و لا تَخْشَي، فَأَتَْبَعهُمْ فِرْعَوْنُ بجُنودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيِهُمْ. و أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَي»(ره)


كلمات في غاية الرقّة مثل «يبسا» أولا تخاف «دركا» بمعني لا تخاف ادركا. انَّ الكلمات لتذوب في يد خالقها و تصطفّ و تتراص في معمار و رصف موسيقيّ فريد، هو نيسج وحده بين كلّ ما كتب بالعربيّة سابقا و لا حقا لا شبه بينه و بين الشعر الجاهلي، و لا بينه و بين الشعر و النثر المتأخّر، ولا محاولة واحدة للتقليد حفظها لنا التأريخ، برغم كثرة الاعداء الذين أرادوا الكيد للقرآن.


في كلّ هذا الزحام تبرز العبارة القرآنية منفردة بخصائصها تماما و كأنّها ظاهرة بلا تبرير و لا تفسير، سوي أنّ لها مصدرا آخر غير ما نعرف.


اسمع هذا الايقاع المنغّم الجميل:


«رفيعُ الدَّرجاتَ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلي مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ليُنْذِرَ يَوْمَ التّلاَق»(16). «فَالِقُ الْحَبِّ وَ النَّويَ يُخْرِجُ الَحَيّ مِنَ الْمَيِّتِ و مُخْرِجُ الميّتِ مِن الحيَّ... فَالِقُ اْلاِصْبَاحِ وَ جَعَلَ الليلَ سَكَنا و الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْبانا».(17) «يَعْلَمُ خائِنَةَ الاعْيُنِ وَ مَا تُخْفِي الصُّدُورُ»(18) «لاَ تُدْرِكُهُ الابصار وَ هُوَ يُدْرِكُ الابصار(19)». وَسِعَ رَبّنا كُلَّ شي عِلْما»(20).


ثمّ هذه العبارة الجديدة في تكوينها و صياغتها... العميقة في معناها و دلالتها علي العجز عن ادراك كنه الخالق:


«عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَة الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ»(21). «يجادلونَ فِي اللّه ِ وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحَال»(22).


ثم هذا الاستطراد في وصف القدرة الالهيّة:


«وَ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَيعْلَمُهَا الاَّ هَوَ وَ يَعْلَمُ مَا في الْبرِ وَ الْبَحْرِ وَ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرقَةٍ الاَّ يَعْلَمُهَا و لاحَبَّةٍ فِي ظُلماتِ الأَرْضِ وَ لارَطْبٍ وَ لايَابِسٍ الاَّ فِي كتابٍ مبينٍ»(23).


ولكن الموسيقي الباطنية ليست هي كلّ ما انفردت به العبارة القرآنيّة، و انّما مع الموسيقي صفة اُخري هي الجلال!


و في العبارة البسيطة المقتضبة التي روي بها اللّه نهاية قصة الطوفان، تستطيع أن تلمس ذلك الشيء «الهائل» «الجليل» في الالفاظ:


«وَ قِيلَ يا أرضُ ابْلَعِي ماءَكِ و يَا سمَاءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الماءُ وَ قُضِيَ الأَمْرُ»(24).


تلك اللمسات الهائلة... كلّ لفظ له ثقل الجبال و وقع الرعود... تنزل فاذا كلّ شيء صمت... سكون، هدوء، و قد كفّت الطبيعة عن الغضب و وصلت القصة الي ختامها: «و قيل يا أرضُ ابْلَعِي مَاءك و يا سماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْمَاء وَ قُضِيَ لأَمْرُ».


انّك لتشعر بشيء غير بشريّ تماما في هذه الالفاظ الهائلة الجليلة المنحوتة من صخر صوان، و كأن كلّ فيها جبل الالب. لايمكنك أن تغيّر حرفا أو تستبدل كلمة باخري، أو تؤلّف جملة مكان جملة، تعطي نفس الايقاع و النغم و الحركة و الثقل و الدلالة... و حاول و جرّب لنفسك في هذه العبارة البسيطة ذات الكلمات العشر، أن تغيّر حرفا أو تستبدل كلمة بكلمة!


و لهذا وقعت العبارة القرآنية علي آذان عرب الجاهلية الذين عشقوا الفصاحة و البلاغة وقع الصاعقة!


ولم يكن مستغربا من جاهلي مثل الوليدبن المغيرة، عاش و مات علي كفره، أن يذهل، و أن لايستطيع أن يكتم اعجابـه بالقرآن، برغم كفره فيقول، و قد اعتبره من كلام محمد:


«واللّه انّ لقوله لحلاوة، و انّ عليه لطلاوة، و انّ أعلاه لمثمر، و انّ أسفله لمغدق، و انّه يعلو و لايعلي عليه».


و لمّا طلبوا منه أن يسبّه قال: «قولوا ساحر جاء بقول يفرق بين المرء و أبيه، و بين المرء و أخيه، و بين المرء و زوجته، و بين المرء و عشيرته».


انّه السحر حتي علي لسان العدوّالذي يبحث عن كلمة يسبّه بها.


و اذا كانت العبارة القرآنية لاتقع علي آذاننا اليوم موقع السحر و العجب و الذهول، فالسبب هوالتعوّد و الالفة و المعايشة منذ الطفولة و البلادة و الاغراق في عاميّة مبتذلة أبعدتنا عن اُصول لغتنا. ثم اسلوب الاداء الرتيب المملّ الذي نسمعه من مرتّلين محترفين يكرّرون السور من أوّلها الي آخرها بنبرة واحدة لايختلف فيها موقف الحزن من موقف الفرح من موقف الوعيد من موقف البشري من موقف العبرة. نبرة واحدة رتيبة تموت فيها المعاني و تتسطح العبارات.


و بالمثل بعض المشايخ ممّن يقرأ القرآن علي سبيل اللعلعة دون أن ينبض شيء في قلبه... ثم المناسبات الكثيرة التي يقرأ القرآن فيها روتينيّا... ثم الحياة العصرية التي تعدّدت فيها المشاغل و توزّع الانتباه و تحجّر القلب و تعقدت النفوس و صدئت الارواح.


و برغم هذا كلّه فانّ لحظة صفاء ينزع الواحد فيها نفسه من هذه البيئة اللزجة، و يرتدّ فيها طفلاً بكرا و ترتدّ له نفسه علي شفّافيّتها، كفيلة بأن تعيد اليه ذلك الطعم الفريد و النكهة المذهلة و الايقاع المطرب الجميل في القرآن... و كفيلة بأن توقفه مذهولاً من جديد بعد قرابة ألف و أربعمائة سنة من نزول هذه الآيات و كأنّها تنزل عليه لساعتها و توّها.


اسمع القرآن يصف العلاقة الجنسية بين رجل و امرأة باُسلوب رفيع و بكلمة رقيقة مهذّبة فريدة لاتجدلها مثيلاً و لابديلاً في أيّة لغة: «فَلمّا تَغشاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفا»(25). هذه الكلمة «تغشّاها»... تغشاها رجلها... ان يمتزج الذكر و الأُنثي كما يمتزج ظلاّن و كما يغشي الليل النهار و كما تذوب الالوان بعضها في بعض، هذا اللفظ العجيب الذي يعبّربه القرآن عن التداخل الكامل بين اثنين، هو ذروةٌ في التعبير.


و ألفاظ اُخري تقرؤها في القرآن فتترك في السمع رنينا و أصداءً و صورا حينما يقسم اللّه بالليل و النهار فيقول: «و اللّيلِ اذَا عَسْعَسَ. وَ الصُّبْحِ اذَا تَنَفَّسَ»(26)... هذه الحروف الاربعة «عسعس» هي الليل مصوّرا بكل ما فيه. «و الصبح اذا تنفس» أنّ ضوء الفجر هنا مرئي و مسموع... انّك تكاد تسمع زقزقة العصفور و صيحة الديك.


فاذا كانت الآيات نذير الغضب و اعلان العقاب فانك تسمع الالفاظ تتفجّر... وتري المعمار القرآني كلّه له جلجلة. اسمع ما يقول اللّه عن قوم عاد:


«وَ أَمّا عَادٌ فاهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ. سَخَّرَهَا عَلَيْهمْ سَبْعَ لَيالٍ و ثمانيةَ أَيَّامٍ حُسُوما فَتَرَي الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَي كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاويَةٍ»(27). انَّ الآيات كلّها تصرّ فيها الرياح و تسمع فيها اصطفاق الخيام و أعجاز النخل الخاوي و صورة الارض الخراب.


و الصور القرآنية كلّها تجدها مرسومة بهذه اللمسات السريعة و الظلال المحكمة و الالفاظ التي لها جرس و صوت و صورة.


و لهذه الاسباب مجتمعة كان القرآن كتابا لايترجم. انّه قرآن في لغته، أمّا في اللغات الأُخري فهو شيء آخر غير القرآن... «انّا أَنْزَلْنَاهُ قرآناً عَرَبيّاً»(28) و في هذا تحديد فاصل.


و كيف يمكن أن تترجم آية مثل: «الرحمانُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوي»(29). انّنا لسنا أمام معني فقط، و انّما نحن بالدرجة الأُولي أمام معمار... أمام تكوين و بناء تنبع فيه الموسيقي من داخل الكلمات، من قلبها لامن حواشيها، من خصائص اللغة العربية و أسرارها و ظلالها و خوافيها...


و لهذا انفردت الآية القرآنية بخاصّيّة عجيبة... انّها تحدث الخشوع في النفس بمجرّد أن تلامس الأُذن و قبل أن يتأمل العقل معانيها... لانّها تركيب موسيقي يؤثّر في الوجدان و القلب لتوّه و من قبل أن يبدأ العقل في العمل، فاذا بدأ العقل يحلّل و يتأمّل فانّه سوف يكتشف أشياء جديدة و سوف يزداد خشوعا... و لكنّها مرحلة ثانية... قد تحدث و قد لاتحدث و قد تكشف لك الآية عن سرّها و قد لاتكشفه... و قد تؤتي البصيرة التي تفسّر بها معاني القرآن و قد لاتؤتي هذه البصيرة... و لكنك دائما خاشع، لانّ القرآن يخاطبك اوّلاً كمعمار فريد من الكلام... بنيان... فورم... طراز من الرصف يبهر القلب... ألقاه عليك الذي خلق اللغة و يعرف سرّها...»(30).


* * *


3 ـ وللد كتور محمد عبداللّه دَراز، نظرة مشابهة، يجعل من اعجاز القرآن في قشرته السطحيّة، في جانبي جماله التوقيعي و جماله التنسيقي، الي جنب محتواه من جلائل أسرار. فانّه جلّت قدرته أجري سنّته في نظام هذا الكون أن يغشي جلائل أسراره بأستار زاهية بمتعةٍ و جمالٍ.


قال: انَّك اذا استمعت الي القاري المُجوّد يقرأ القرآن يرتّله حقّ ترتيله، نازلاً بنفسه علي هوي القرآن، و ليس نازلاً بالقرآن علي هوي نفسه... ستجد اتساقاً و ائتلافا يسترعي من سمعك ما تسترعيه الموسيقي و الشعر، علي أنّه ليس بأنغام الموسيقي و لابأوزان الشعر. و ستجد شيئا آخر لاتجده في الموسيقي و لافي الشعر. ذلك أنك تسمع القصيدة من الشعر فاذا هي تتشابه أهواؤها و تذهب مذهبا متقاربا. فلايلبث سمعك أن يمجّها، و طبعك أن يملّها، اذا اعيدت و كرّرت عليك بتوقيع واحد، بينما أنت من القرآن أبدا في لحن متنوّع متجدّد، تنقل فيه بين أسباب و أوتاد و فواصل (31) علي أوضاع مختلفة يأخذ منها كلّ و ترمن أوتار قلبك بنصيب سواء، فلا يعروك منه علي كثرة ترداده ملالة و لاسأم. بل لاتفتأتطلب منه المزيد.


هذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن لايخفي علي أحد ممّن يسمع القرآن، حتي الذين لايعرفون لغة العرب، فكيف يخفي علي العرب أنفسهم؟


انّ أوّل شيء أحسّته تلك الآذان العربيّة في نظام القرآن هو ذلك النظام الصوتي البديع الذي قسمت فيه الحركة و السكون تقسيما منوّعا يجدّد نشاط السامع لسماعه، و وزّعت في تضاعيفه حروف المدّ و الغنّة توزيعا بالقسط يساعد علي ترجيع الصوت به و تهادي النفس فيه آنا بعد آن، الي أن يصل الي الفاصلة الأُخري فيجد عندها راحته العظمي. و هذا النحو من التنظيم الصوتي ان كانت العرب قد عمدت الي شي ء منه في أشعارها فذهبت فيها الي حدّ الاسراف في الاستهواء ثمّ الي حدّ الاملال في التكرير، فانها ما كانت تعهده قط و لاكان يتهيّألها بتلك السهوله في منثور كلامها سواء المرسل و المسجوع، بل كان يقع لها في أجود نثرها عيوب تغضّ من سلاسة تركيبه و لايمكن معها اجادة ترتيلة الاّ بادخال شيء عليه أو حذف شيء منه.


لاعجب اذاً أن يكون أدني الالقاب الي القرآن ـ في خيال العرب ـ أنّه شعر، لانّها وجدت في توقيعه هزّة لاتجد شيئاً منها الاّ في الشعر. و عجب أن ترجع الي نفسها فتقول ما هو بشعر؛ لانّه ـ كما قال الوليد ـ ليس علي أعاريض الشعر في رجزه ولا في قصيده. ثم لاعجب أن تجعل مردّ هذه الحيرة أخيرا الي أنّه ضرب من السحر، لانّه جمع بين طزفي الاطلاق و التقييد في حدّ وسط، فكان له من النثر جلاله و روعته، و من الشعر جماله و متعته.


أنت اذا ما اقتربت بأذنك قليلاً، فطرقت سمعك جواهر حروفه، خارجة من مخارجها الشحيحة، فاجائك منه لذّة اخري في نظم تلك الحروف و رصفها و ترتيب أوضاعها فيما بينها: هذا ينقر و ذاك يصفر، و ثالث يهمس، و رابع يجهر، و آخر ينزلق عليه النفس، و آخر يحتبس عنده النفس، و هلّم جرا. فتري الجمال اللغوي ماثلاً أمامك في مجموعة مختلفة مؤتلفة(32) لاكركرة و لاثرثرة، و لا رخاوة و لا معاظلة، و لا تناكرو لاتنافر. و هكذاتري كلاما ليس بالحضري الفاتر، و لا بالبدوي الخشن، بل تراه و قد امتزجت فيه جزالة البادية و فخامتها برقّة الحاضرة و سلاستها، و قدّر فيه الامران تقديرا لايبغي بعضهما علي بعض، فاذا مزيجٌ منهما، كأنّما هو عصارة اللغتين و سلالتهما، أوكانّما هو نقطة الاتّصال بين القبائل عندها تلتقي أذواقهم، و عليها تأتلف قلوبهم.


من هذه الخصوصيّة و التي قبلها تتألّف القشرة السطحيّة للجمال القرآني، و ليس الشأن في هذا الغلاف الاّ كشأن الاصداف ممّا تحويه من اللآلي النفيسة، فانّه ـ جلّت قدرته ـ أجري سنّته في نظام هذا العالم أن يغشّي جلائل أسراره بأستار لاتخلو من متعة و جمال، ليكون ذلك من عوامل حفظها و بقائها، بتنافس المتنافسين فيها و حرصهم عليها... فقد سبقت كلمته أن يصون علينا نفائس العلوم التي أودعها هذا الكتاب الكريم، و من ثمّ قضت حكمته أن يختارلها صوانا يحبّبها الي الناس بعذوبته، و يغريهم عليها بطلاوته، و يكون بمنزلة «الحدّاء» يستحثّ النفوس علي السير اليها، و يهوّن عليها و عثاء السفر في طلب كمالها، لاجرم اصطفي لها من هذا اللسان العربي المبين ذلك القالب العذب الجميل. و من أجل ذلك سيبقي صوت القرآن أبداً في أفواه الناس و آذانهم مادامت فيهم حاسّة تذوّق و حاسّة تسمّع، و ان لم يكن لاكثرهم قلوب يفقهون بها حقيقة سرّه، و ينفدون بها الي بعيد غوره «انّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَوَ انَّا لَهُ لَحافِظُون»(33).


هل عرفت أنّ نظم القرآن الكريم يجمع الي الجمال عزّة و غرابة؟ و هل عرفت أنّ هذا الجمال كان قوّة الهّية حُفظ بها القرآن من الفقد و الضياع؟


فاعرف الآن أنّ هذه الغرابة كانت قوّة اخري قامت بها حجّة القرآن في التحدّي و الاعجاز و اعتصم بها من أيدي المعارضين و المبدّلين، و أنّ ذلك الجمال ما كان ليكفي وحده في كف أيديهم عنه، بل كان أجدر أن يغريهم به، ذلك أنّ الناس ـ كما يقول الباقلاّني ـ اذا استحسنوا شيئاً اتبعوه، و تنافسوا في محاكاته بباعث الجبلّة. و كذلك رأينا أصحاب هذه الصناعة يتبع بعضهم بعضا فيما يستجيدونه من الاساليب، و ربّما أدرك اللاحق فيهم شأو السابق أو أربي عليه، كما صنع ابن العميد باُسلوب الجاحظ، و كما يصنع الكتّاب و الخطباء اليوم في اقتداء بعضهم ببعض. و ما أساليب الناس علي اختلاف طرائقها في النثر و الشعر الاّ مناهل مورودة و مسالك معبّدة، تؤخذ بالتعلّم، و تراضّ الالسنة و الاقلام عليها بالمرانة، كسائر الصناعات.


فما الذي منع الناس أن يخضعوا اُسلوب القرآن لالسنتهم و أقلامهم و هم شرع في استحسان طريقته، و أنّ أكثرهم الطالبون لابطال حجته.


ما ذاك الاّ أنّ فيه منعة طبيعيّة كفّت و لا تزال تكفّ أيديهم عنه، و لا ريب أنّ أوّل ما تلاقيك هذه المناعة فيما صوّرناه لك من غريب تأليفه في بنيته، و ما اتخذه في رصف حروفه و كلماته و جمله و آياته، من نظام له سمت وحده و طابع خاصّ به، خرج فيه عن هيئة كلّ نظم تعاطاه الناس أو يتعاطونه، فلاجرم لم يجدوا له مثالاً يحاذونه به، و لا سبيلاً يسلكونه الي تذليل منهجه.


و آية ذلك أنّ أحدا لوحاول أن يدخل عليه شيئاً من كلام الناس، من السابقين منهم أو اللاحقين، من الحكماء أو البلغاء أو النبيّين و المرسلين، لافسد بذلك مزاجه في فم كلّ قاري و لجعل نظامه يضطرب في اُذن كلّ سامع، و اذاً لنادي الداخلُ علي نفسه بأنّه واغل دخيل، و لنفاه القرآن عن نفسه كما ينفي الكير خبث الحديد. «وَ انَّهُ لَكِتابٌ عَزيزٌ. لاَيَأْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»(34).


و أنت اذ لم يلهك جمال الغطاء عمّا تحته من الكنز الدفين، و لم تحجبك بهجة الاستار عمّا ورائها من السّر المصون، بل فليت القشرة عن لبّها و كشفت الصدفة عن درّها، فنفذت من هذا النظام اللفظي الي ذلك النظام المعنوي، تجلّي لك ما هو أبهي و أبهر، و لقيت منه ما هو أروع و أبدع.


لا نريد أن نحدّثك هاهنا عن معاني القرآن و ما حوته من العلوم الخارجة عن متناول البشر، فانّ لهذا الحديث موضعا آخر يجي ـ ان شاء اللّه تعالي ـ في بحث الاعجاز العلمي و حديثنا الآن كماتري في شأن الاعجاز اللغوي، و انّما اللغة الالفاظ.


بيد أنّ هذه الالفاظ ينظر فيها تارة من حيث هي أبنية صوتيّة مادّتها الحروف و صورتها الحركات و السكنات من غير نظر الي دلالتها... و تارة من حيث هي أداة لتصوير المعاني و نقلها من نفس المتكلّم الي نفس المخاطب بها، و هذه الناحية لاشك أنّها هي أعظم الناحيتين أثرا في الاعجاز اللغوي، اذ اللغات تتفاضل من حيث هي بيان، أكثر من تفاضلها من حيث هي أجراس و أنغام. و الفضيلة البيانية انّما تعتمد دقّة التصوير و اجادة التعبير عن المعني كما هو، سواء كان ذلك المعني حقيقة أو خيالاً، و أن يكون هدي أو ظلالاً، فقد كانت حكايات القرآن لاقوال المبطلبين لاتقصر في بلاغتها عن سائر كلامه، لانّها تصف ما في أنفسهم علي أتمّ وجه.


انظر حيث شئت من القرآن الكريم، تجد بيانا قد قدّر علي حاجة النفس أحسن تقدير، فلاتحسّ فيه بتخمة الاسراف و لابمخمصة التقتير، يؤدّي لك من كلّ معني صورة نقيّة وافية، نقيّة لايشوبها شيء ممّا هو غريب عنها، وافية لايشذّ عنها شيء من عناصرها الاصلية و لواحقها الكماليّة. كلّ ذلك في أوجز لفظ و أنقاه. ففي كلّ جملة منه جهاز من أجهزة المعني، و في كلّ كلمة منه عضو من اعضائه، و في كلّ حرف منه جزء بقدره، و في أوضاع كلماته من جملة، و أوضاع جمله من آياته سرّ الحياة الذي ينظم المعني بأداته. و بالجملة تري ـ كما يقول الباقلاّني ـ محاسن متوالية و بدائع تتري.


ضع يدك حيث شئت من المصحف، و عُدّ ما أحصته كفُّك من الكلمات عدّا، ثم أحص عدّتها من أبلغ كلام تختاره خارجا عن الدفّتين، و انظر نسبته ما حواه هذا الكلام من المعاني الي ذاك، ثم انظر كم كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدّلها من هذا الكلام دون اخلال بغرض قائله؟ و أيّ كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدّلها هناك؟ فكتاب اللّه تعالي ـ كما يقول ابن عطية ـ: «لو نزعت منه لفظه ثم اُدير لسان العرب علي لفظة في أن يوجدأ حسن منها لم توجد».


بل هو كما وصفه تعالي «كِتابٌ احْكمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ»(35).


پاورقيها:


16 ـ طه: 77 ـ 79.


18 ـ الانعام: 95 ـ 96.


10 ـ عند التعرّض لمزايا النظم القائم في القرآن و خصائصه العجيبة.


1 ـ الطراز: ج 3 ص 367 ـ 413.


19 ـ غافر: 19.


15 ـ طه: 74.


13 ـ مريم: 4.


11 ـ الضحي: 1 ـ 2.


12 ـ طه: 5.


17 ـ غافر: 15.


14 ـ طه: 15.


22 ـ الرعد: 9.


24 ـ الانعام: 59.


29 ـ يوسف: 2.


25 ـ هود: 44.


26 ـ الاعراف: 189.


20 ـ الانعام: 103.


27 ـ التكوير: 17 ـ 18.


28 ـ الحاقة: 6 ـ 7.


2 ـ حقّ اليقين: ج 1 ص 113 - 114.


23 ـ الرعد: 13.


21 ـ الاعراف: 89.


34 ـ الحجر: 9.


3 ـ كان السبب في تقديم نظرة علاّمتنا الشهرستاني الي حقل آراء القدماء، هو اقتفاؤه مذهب السلف أوّلا، و امتداد نظرته لاختيار السيد شبّر و تكميلاً له في استقصاء وجوه الاعجاز ثانيا، فكان من المناسب اردافه معه في هذا المجال.


30 ـ طه: 5.


35 ـ فصّلت: 41 ـ 42.


31 ـ القرآن، محاولة لفهم عصري، مصطفي محمود ـ دارالمعارف بمصر ـ سنة 1976. فصل (المعمار القرآني): ص12 ـ 19.


32 ـ مصطلحات موسيقية: الحرف المتحرك يتلوه حرف ساكن يقال لها «سبب خفيف» و الحرفان المتحركان يتلو هما ساكن «وتد مجموع». والحرفان المتحركان لايتلوهما ساكن «سبب ثقيل». و الحرفان المتحركان يتوسّطهما ساكن «وتد مفروق». و ثلاثة أحرف متحرّكة «فاصلة صغيرة»، و أربعة أحرف متحرّكة يعقبها ساكن «فاصلة كبيرة».


33 ـ من وقف علي صفات الحروف و مخارجها ازداد بهذا المعني علما. و سيأتي تفصيل أكثر في كلام الرافعي، كما أشار اليه الزملكاني من ذي قبل فيما مرّمن كلامه الآنف. و هذا جانب دقيق من سرّ اعجاز القرآن التأليفي فتنبّه.


36 ـ هود: 1.


4 ـ نقلا عن رسالته (المعجزة الخالدة): 8 ـ 34 مع تصرّف و اختصار.


5 ـ مجلّة رسالة الاسلام الصادرة عن دارالتقريب با لقاهرة لسنتها الثالثة، رمضان 1370 ه يوليو 1951 م: العدد الثالث ص299.


6 ـ يس: 69.


7 ـ الانبياء 5.


8 ـ يقول الكد كتور طه حسين: انَّ القرآن ليس شعرا و ليس نثرا. انّما هو قرآن! ولسنا في حاجة الي هذا اللعب بالعبارات، فالقرآن نثر متي احتكمنا للاصطلاحات العربيّة كما ينبغي. ولكنّه نوع ممتاز مبدع من النثر الفني الجميل المتفرّد.


9 ـ التصوير الفني في القرآن: ص 80.



/ 1